الفصل والوصل

اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها، والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد أخرى من أسرار البلاغة ومما لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص، وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا فناً من المعرفة في فوق الكلام، هم بها أفراد. وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: معرفة الفصل من الوصل. ذاك لغموضه ودقة مسلكه، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة. واعلم أن سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد، ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها، ونتعرف حالها. ومعلوم أن فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول. وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله، والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له، شريك له في ذلك. وإذا كان هذا أصله في المفرد فإن الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين: أحدهما أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب. وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد؟ إذ لا يكون للجملة موضغ من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد. وإذا كانت الجملة الأولى واقعة موقع المفرد كان عطف الثانية عليها جارياً مجرى عطف المفرد، وكانت وجه الحاجة إلى الواو ظاهراً، والإشراك بها في الحكم موجوداً. فإذا قلت: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح. كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى، وذلك الحكم كونها في موضع جر بأنها صفة للنكرة. ونظائر ذلك تكثر، والأمر في يسهل.

والذي يشكل أمره، هو الضرب الثاني وذلك أن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى كقولك: زيد قائم وعمرو قاعد، والعلم حسن والجهل قبيح. سبيل لنا إلى أن ندعي أن الواو أشركت الثانية في إعراب قد وجب للأولى بوجه من الوجوه وإذا كان كذلك فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف، والمغزى منه. ولم لم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف فتقول: زيد قائم عمرو قاعد؟ بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه.

واعلم أنه إنما يعرض الإشكال في الواو دون غيرها من حروف العطف، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني مثل أن الفاء توجب الترتيب من غير تراخ، وثم توجبه مع تراخ، و أو تردد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه، فإذا عطفت بواحد منها الجملة على الجملة ظهرت الفائدة. فإذا قلت: أعطاني فشكرت، ظهر بالفاء أن الشكر كان معقباً على العطاء ومسبباً عنه. وإذا قلت: خرجت ثم خرج زيد. أفادت ثم أن خروجه كان بعد خروجك، وأن مهلة وقعت بينهما. وإذا قلت: يعطيك أو يكسوك. دلت أو على أنه يفعل واحداً منهما لا بعينه. وليس للواو معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأول. فإذا قلت: جاءني زيد وعمرو. لم تفد بالواو شيئاً أكثر من إشراك عمرو في المجيء الذي أثبته لزيد، والجمع بينه وبينه، ولا يتصور إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن معنا في قولنا: زيد قائم وعمرو قاعد، معنى تزعم أن الواو أشركت بين هاتين الجملتين في ثبت إشكال المسألة.

ثم إن الذي يوجبه النظر والتأمل أن يقال في ذلك: إنا وإن كنا إذا قلنا: زيد قائم وعمرو قاعد، فإنا لا نرى هاهنا حكماً نزعم أن الواو جاءت للجمع بين الجملتين فيه، فإنا نرى أمراً آخر نحصل معه على معنى الجمع، وذلك أنا لا نقول: زيد قائم وعمرو قاعد حتى يكون عمرو بسبب من زيد، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حال الأول عناه أن يعرف حال الثاني. يدلك على ذلك أنك إن جئت فعطفت على الأول شيئاً ليس منه بسبب ولا هو مما يذكر بذكره ويتصل حديثه بحديثه لم يستقم. فلو قلت: خرجت اليوم من داري. ثم قلت: وأحسن الذي يقول بيت كذا. قلت ما يضحك منه. ومن هاهنا عابوا أبا تمام في قوله، من الكامل:

لا والذي هو عالم أن النوى

 

صبر وأن أبا الحسين كريم

وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر، وليس يقتضي الحديث بهذا الحديث بذاك.

واعلم أنه كما يجب أن يكون المحدث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر في الأول. فلو قلت: زيد طويل القامة وعمرو شاعر. كان خلفاً، لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشعر، وإنما الواجب أن يقال: زيد كاتب، وعمرو شاعر، وزيد طويل القامة، وعمرو قصير. وجملة الأمر أنها لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لفقاً للمعنى في الأخرى ومضافاً له، مثل أن زيداً وعمراً إذا كانا أخوين، أو نظيرين، أو مشتبكي الأحوال على الجملة كانت الحال التي يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الأخر من غير شك. وكذا السبيل أبداً، والمعاني في ذلك كالأشخاص. فإنما قلت مثلاً: العلم حسن، والجهل قبيح. لأن كون العلم حسناً مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحاً.

واعلم أنه إذا كان المخبر عنه في الجملتين واحداً كقولنا: هو يقول ويفعل، ويضر وينفع، ويسيء ويحسن، ويأمر وينهى، ويحل ويعقد، ويأخذ ويعطي، ويبيع ويشتري، ويأكل ويشرب، وأشباه ذلك ازداد معنى الجمع في الواو قوة وظهوراً، وكان الأمر حينئذ صريحاً. وذلك أنك إذا قلت: هو يضر وينفع. كنت قد أفدت بالواو أنك أوجبت له الفعلين جميعاً، وجعلته يفعلهما معاً. ولو قلت: يضر ينفع، من غير واو لم يجب ذلك، بل قد يجوز أن يكون قولك: ينفع رجوعاً عن قولك يضر وإبطالاً له. وإذا وقع الفعلان في مثل هذا في الصلة ازداد الاشتباك والاقتران حتى لا يتصور تقدير إفراد في أحدهما عن الآخر، وذلك في مثل قولك: العجب من أني أحسنت وأسأت، ويكفيك ما قلت وسمعت، وأيحسن تنهى عن شيء وتأتي مثله؟ وذلك أنه لا يشبه على عاقل أن المعنى على جعل الفعلين حكم فعل واحد. ومن البين في ذلك قوله:

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

 

وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا

المعنى: لا تطمعوا أن تروا إكرامنا، وقد وجد مع إهانتكم وجامعها في الحصول ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام، من الطويل:

لهان علينا أن نقـول وتـفـعـلا

 

ونذكر بعض الفصل منك وتفضلا

وأعلم أنه كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغني بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد كذلك يكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها، وهي كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها، ومبينة لها. وكانت إذا حصلت لم تكن شيئاً سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف والتأكيد غير المؤكد. فإذا قلت: جاءني زيد الظريف وجاءني القوم كلهم لم يكن الظريف وكلهم غير زيد وغير القوم. ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: "آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه" قوله "لا ريب فيه"، بيان وتوكيد وتحقيق لقوله: "ذلك الكتاب" وزيادة تثبيت له، وبمنزلة أن تقول: هو ذلك الكتاب هو ذلك الكتاب، فتعيده مرة ثانية لتثبته. وليس تثبيت الخبر غير الخبر، ولا شيء يتميز به عنه فيحتاج إلى ضام يضمه إليه، وعاطف يعطفه عليه. ومثل ذلك قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" قوله تعالى: "لا يؤمنون" تأكيذ لقوله "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم" وقوله: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" تأكيد ثان أبلغ من الأول، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر كان في غاية الجهل، وكان مطبوعاً على قلبه لا محالة. وكذلك قوله عز وجل "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله" إنما قال: "يخادعون" ولم يقل: ويخادعون لأن هذه المخادعة ليست شيئاً غير قولهم: آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين. فهو إذاً كلام أكد به كلام آخر هو في معناه، وليس شيئاً سواه، وهكذا قوله عز وجل "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون". وذلك لأن معنى قولهم: "إنا معكم لم أنا لم نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم نترك اليهودية، وقولهم: "إنما نحن مستهزئون"، خبر بهذا المعنى بعينه، لأنه لا فرق بين أن يقولوا: إنا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلا استهزاء. وبين أن يقولوا: إنا لم نخرج من دينكم، وإنا معكم. بل هما في حكم الشيء الواحد. فصار كأنهم قالوا: إنا معكم لم نفارقكم. فكما لا يكون إنا لم نفارقكم أنا شيئاً غير أنا معكم كذلك لا يكون إنما نحن مستهزئون غيره فاعرفه.

ومن الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى: "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً" لم يأت معطوفاً، نحو وكأن في أذنيه وقراً لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي اريد. وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعاً أن ينفي أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معه، ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل. ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك، من حيث كان من لا يصح منه السمع وإن أراد ذلك أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة من الذي يصح منه السمع، إلا أنه لا يسمع إما اتفاقاً وإما قصداً إلى أن لا يسمع فاعرفه، وأحسن تدبره.

ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى: "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم" وذلك أن قوله: "إن هذا إلا ملك كريم" مشابك لقوله: "ما هذا بشراً" ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه: وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد، ووجه هو فيه شبيه بالصفة. فأحد وجهي كونه شبيهاً بالتأكيد هو أنه إذا كان ملكاً لم يكن بشراً، وإذا كان كذلك كان إثبات كونه ملكاً تحقيقاً لا محالة، وتأكيداً لنفي أن يكون بشراً. والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل: ما هذا بشراً، وما هذا بآدمي والحال حال تعظيم وتعجب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك وأن يكنى به ذلك، حتى إنه يكون مفهوم اللفظ. وإذا كان مفهوماً من اللفظ قبل أن يذكر كان ذكره إذا ذكر تأكيداً لا محالة، لأن حد التأكيد أن تحقق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أفلا ترى أنه إنما كان كلهم في قولك: جاءني القوم كلهم تأكيداً من حيث كان الذي فهم منه وهو الشمول قد فهم بديئاً من ظاهر لفظ القوم. ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ القوم، ولا كان هو من موجبه لم يكن كل تأكيداً، ولكان الشمول مستفاداً من كل ابتداء. وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة فهو أنه إذا نفي أن يكون بشراً فقد أثبت جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر، وإذا كان الأمر كذلك كان إثباته ملكاً تبييناً وتعييناً لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول: فإن لم يكن بشراً، فما هو؟ وما جنسه؟ كما أنك إذا قلت: مررت بزيد الظريف كان الظريف تبييناً وتعييناً للذي أردت من بين من له هذا الاسم، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول: أي الزيدين أردت؟ ومما جاء فيه الإثبات بإن وإلا على هذا الحد قوله عز وجل: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين" وقوله: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى". فلا ترى أن الإثبات في الآيتين جميعاً تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي. فإثبات ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي إليه ذكراً وقرآناً تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علم الشعر. وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحياً من الله تعالى تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.

وأعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول إنه فيه خفي غامض ودقيق صعب وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا، إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: إن الكلام قد استؤنف، وقطع عما قبله، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة.

ومما هو أصل في هذا الباب أنك ترى الجملة، وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف، ويقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف لأمر عرض فيها، صارت به أجنبية مما قبلها، مثال ذلك قوله تعالى: "الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون" الظاهر كما لا لايخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله: "إنما نحن مستهزئون" وذلك أنه ليس بأجنبي منه، بل هو نظير ما جاء معطوفاً من قوله تعالى: "يخادعون الله وهو خادعهم" وقوله "ومكروا ومكر الله". وما أشبه ذلك مما يرد فيه العجز على الصدر. ثم إنك تجده قد جاء غيرمعطوف، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف، وهو أن قوله: "إنما نحن مستهزئون" حكاية عنهم أنهم قالوا وليس بخبر من الله تعالى. وقوله تعالى: "الله يستهزىء بهم" خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك كان العطف ممتنعاً لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى معطوفاً على ما هو حكاية عنهم. ولا يجاب ذلك أن يخرج من كونه خبراً من الله تعالى إلى كونه حكاية عنهم، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، وأن الله تعالى يعاقبهم عليه. وليس كذلك الحال في قوله تعالى: "يخادعون الله وهو خادعهم". "ومكروا ومكر الله" لأن الأول من الكلامين فيهما كالثاني في أنه خبر من الله تعالى، وليس بحكاية. وهذا هو العلة في قوله تعالى: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون". إنما جاء "إنهم هم المفسدون" مستأنفاً مفتتحاً بألا لأنه خبر من الله تعالى بأنهم كذلك. والذي قبله من قوله "إنما نحن مصلحون" حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدمت ذكره من الدخول في الحكاية ولصار خبراً من اليهود، ووصفاً منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون. ولصار كأنه قيل: قالوا إنما نحن مصلحون، وقالوا إنهم هم المفسدون. وذلك ما لا يشك في فساده. وكذلك قوله تعالى: "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون". ولو عطف "إنهم هم السفهاء" على ما قبله لكان يكون قد أدخل في الحكاية، ولصار حديثاً منهم عن أنفسهم بأنهم هم السفهاء من بعد أن زعموا أنهم إنما تركوا أن يؤمنوا لئلا يكونوا من السفهاء على أن في هذا أمراً آخر، وهو أن قوله: "أنؤمن" استفهام، ولا يعطف الخبر على الاستفهام فإن قلت: هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى: "الله يستهزىء بهم" على "قالوا" من قوله: "قالوا إنا معكم"، لا على ما بعده؟ وكذلك كان يفعل في "إنهم هم المفسدون" "وإنهم هم السفهاء". وكان يكون نظير قوله تعالى: "وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر". وذلك أن قوله: "ولو أنزلنا ملكاً" معطوف من غير شك على "قالوا" دون ما بعده؟ قيل إن حكم المعطوف على "قالوا" فيما نحن فيه مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت وذلك أن "قالوا" هاهنا جواب شرط. فلو عطف قوله: "الله يستهزىء بهم" عليه للزم إدخاله في حكمه من كونه جواباً، وذلك لا يصح. وذاك أنه متى عطف على جواب الشرط شيء بالواو كان ذلك على ضربين: أحدهما: أن يكونا شيئين يتصور وجود كل واحد منهما دون الآخر، ومثاله قولك: إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك.

والثاني: أن يكون المعطوف شيئاً لا يكون حتى يكون المعطوف عليه. ويكون الشرط لذلك سبباً فيه بوساطة كونه سبباً للأول، ومثاله قولك: إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنتة وخرجت فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، وقد صار الرجوع سبباً في الخروج من أجل كونه سبباً في الاستئذان. فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين نحو: إذا رجع الأمير استأذنت وإذا استأذنت خرجت.

وإذ قد عرفت ذلك فإنه لو عطف قوله تعالى: "الله يستهزىء بهم" على "قالوا" كما زعمت كان الذي يتصور فيه أن يكون من هذا الضرب الثاني، وأن يكون المعنى "وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون". فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم، ومدهم في طغيانهم يعمهون. وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم فليس هو بمستقيم، وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له، وإرادتهم إياه في قولهم إنا آمنا، لا على أنهم حدثوا عن أنفسهم بأنهم مستهزئون والعطف على "قالوا" يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء لا عليه نفسه. ويبين ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء، وفعلهم له لا على حديثهم عن أنفسهم بإنا مستهزئون أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم: "إنما نحن مستهزئون": وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، وأن يسلموا من شرهم، وأن يوهموهم أنهم منهم، وإن لم يكونوا كذلك لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان لا في القول: إنا استهزأنا، من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونية.

هذا، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو أن الحكاية عنهم  بأنهم قالوا: كيت وكيت تحرك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم، وما يصنع بهم، وأتنزل بهم النقمة عاجلاً أم لا تنزل ويمهلون، وتوقع في أنفسهم التمني لأن يتبيين لهم ذلك. وإذا كان كذلك كان هذا الكلام الذي هو قوله: "الله يستهزىء بهم" في معنى ما صدر جواباً عن هذا المقدر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك كان حقه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ليكون في صورته إذا قيل: فإن سألتم قيل لكم: "الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالاً منزلته إذا صرح بذلك السؤال كثيراً. فمن لطيف ذلك قوله، من الكامل:

زعم العواذل أنني في غمـرة

 

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي

لما حكى عن العواذل أنهم قالوا: هو في غمرة. وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول: فما قولك في ذلك؟ وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، وصار كأنه قال: أقول صدقوا أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي. ولو قال: زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا لكان يكون لم يصح في نفسه أنه مسؤول، وأن كلامه كلام مجيب.

ومثله قول الآخر في الحماسة، من الكامل:

زعم العواذل أن ناقة جندب

 

بجنوب خبت عريت وأجمت

كذب العواذل لو رأين مناخنا

 

بالقادسية قلن: لـج وذلـت

وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب تأكيداً بأن وضع الظاهر موضع المضمر فقال: كذب العواذل، ولم يقل: كذبن. وذلك أنه لما أعاد ذكر العواذل ظاهراً كا ذلك أبين وأقوى لكونه كلاماً مستأنفاً من حيث وضعه وضعاً لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى فيه مأتى ما ليس قبله كلام. ومما هو على ذلك قول الآخر، من الوافر:

زعمتم أن إخوتكم قريش

 

لهم إلف وليس لكم إلاف

وذلك أن قوله: لهم إلف، تكذيب لدعواهم أنهم من قريش. فهو إذاً بمنزلة أن يقول: كذبتم لهم إلف وليس لكم ذلك. ولو قال: زعمتم أن إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف، لصار بمنزلة أن يقول: زعمتم أن إخوتكم قريش وكذبتم في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعاً على أنه جواب سائل يقول له: فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟ فاعرفه.

واعلم أنه لو أظهر كذبتم لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله: لهم إلف، عليه بالفاء فيقول: كذبتم فلهم إلف وليس لكم ذلك. أما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتة لأنه يصير حينئذ معطوفاً بالفاء على قوله: زعمتم أن إخوتكم قريش، وذلك يخرج إلى المحال من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله: لهم إلف. على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت: كذبتم فلهم إلف، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا فاعرف ذلك. ومن اللطيف في الاستئناف على معنى جعل الكلام جواباً في التقدير قول اليزيدي، من السريع:

ملكته حبلـي ولـكـنـه

 

ألقاه من زهد على غاربي

وقال: إني في الهوى كاذب

 

انتقم الله مـن الـكـاذب

استأنف قوله: انتقم الله من الكاذب، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلاً قال له: فما تقول فيما اتهمك به من أنك كاذب؟ فقال: أقول: انتقم الله من الكاذب. ومن النادر أيضاً في ذلك قول الآخر، من الخفيف:

قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل

 

سهـر دائم وحـزن طـويل

لما كان في العادة إذا قيل للرجل: كيف أنت؟ فقال: عليل، أن يسأل ثانياً فيقال: ما بك؟ وما علتك؟ قدر كأنه قد قيل له ذلك فأتى بقوله: سهر دائم، جواباً عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال فاعرفه.

ومن الحسن البين في ذلك قول المتنبي، من الوافر:

وماعفت الرياح له محلا

 

عفاه من حدا بهم وساقا

لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح، وأن تكون التي فعلت ذلك وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل: لم يفعله فلان أن يقال فمن فعله؟ قدر كأن قائلاً قال: قد زعصت أن الرياح لم تعف له محلاً فما عفاه إذاً؟ فقال مجيباً له: عفاه من حدا بهم وساقا.
ومثله قول الوليد بن يزيد، من الهزج:

عرفت المنزل الخالي

 

عفا من بعد أحـوال

عفاه كـل حـنـان

 

عسوف الوبل هطال

لما قال: عفا من بعد أحوال، قدر كأنه قيل له: فما عفاه؟ فقال: عفاه كل حنان.

واعلم أن السؤال إذا كان ظاهراً مذكوراً في مثل هذا كان الأكثر أن لا يذكر الفعل في الجواب، ويقتصر على الاسم وحده. فأما مع الإضمار فلا يجوز إلا أن يذكر الفعل. تفسير هذا أنه يجوز لك إذا قيل: إن كانت الرياح لم تعفه فما عفاه؟ أن تقول: من حدا بهم وساقا، ولا تقول: عفاه من حدا. كما تقول، في جواب من يقول: من فعل هذا؟ زيد. ولا يجب أن تقول: فعله زيد. وأما إذا لم يكن السؤال مذكوراً كالذي عليه البيت فإنه لا يجوز أن يترك ذكر الفعل. فلو قلت مثلا: وما عفت الرياح له محلاً من حدا بهم وساقا؟ تزعم أنك أردت عفاه من حدا بهم، ثم تركت ذكر الفعل أحلت، لأنه إنما يجوز تركه حيث يكون السؤال مذكوراً، لأن ذكره فيه يدل على إرادته في الجواب، فإذا لم يؤت بالسؤال لم يكن إلى العلم به سبيل، فاعرف ذلك.

واعلم أن الذى تراه في التنزيل من لفظ قال مفصولاً غير معطوف هذا هو التقدير فيه، والله أعلم. أعني مثل قوله تعالى: "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون. فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون. فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف" جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال. فلما كان في العرف والعادة فيما بين المخلوقين إذا قيل لهم: دخل قوم على فلان فقالوا كذا، أن يقولوا: فما قال هو؟ ويقول المجيب: قال كذا، أخرج الكلام ذلك المخرج لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه. وكذلك قوله: "قال ألا تأكلون"، وذلك أن قوله: "فجاء بعجل سمين فقربه إليهم" يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول فكأنه قيل، والله أعلم: فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟ فأتى قوله: "قال ألا تأكلون" جواباً عن ذلك. وكذا "قالوا لا تخف" لأن قوله: "فأوجس منهم خيفة" يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره. فكأنه قيل: فما قالوا حين رأوه وقد تغير ودخلته الخيفة؟ فقيل: "قالوا لا تخف"، وذلك والله أعلم المعنى في جميع ما يجيء منه على كثرته كالذي يجيء في قصة فرعون عليه اللعنة وفي رد موسى عليه السلام كقوله: "قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله ألا تستمعون. قال ربكم ورب أبائكم الأولين. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون. قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين. قال أو لو جئتك بشيء مبين. قال فأت به إن كنت من الصادقين" جاء ذلك كله والله أعلم على تقدير السؤال والجواب كالذي جرت به العادة فيما بين المخلوقين، فلما كان السامع إذا سمع الخبر عن فرعون بأنه قال: "وما رب العالمين"؟ وقع في نفسه أن يقول: فما قال موسى له؟ أتى قوله: "قال رب السماوات والأرض"، مأتى الجواب مبتدأ مفصولاً غير معطوف. وهكذا التقدير والتفسير أبداً في كل ما جاء فيه لفظ قال هذا المجيء. وقد يكون الأمر في بعض ذلك أشد وضوحاً.

فمما هو في غاية الوضوح قوله تعالى: "قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه جاء على معنى الجواب وعلى أن ينزل السامعون كأنهم قالوا: فما قال له الملائكة؟ فقيل: "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين". وكذلك قوله عز وجل في سورة يس: "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم. قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون. وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون" التقدير الذي قدرناه من معنى السؤال والجواب بين في ذلك كله، ونسأل الله التوفيق للصواب والعصمة من الزلل.

الأصول العامة لوصل الجمل وفصلها

وإذ قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها، فاعلم أنا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب.

جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف، والتأكيد مع المؤكد. فلا يكون فيها العطف البتة لشبه العطف فيها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه.

وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أنه يشاركه في حكم، ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه فيكون حقها العطف.

وجملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم، لا يكون منه في شيء، فلا يكون إياه ولا مشاركاً له في معنى، بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به. ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأساً. وحق هذا ترك العطف البتة، فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال الى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حالين، فاعرفه.