أهمية السياق للمعنى

ما أظن بك أيها القارىء لكتابنا، إن كنت وفيته حقه من النظر، وتدبرته حق التدبر، إلا أنك قد علمت علماً أبى أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب، أن ليس النظم شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلم. وأنك قد تبينت أنه إذا رفع معاني النحو وأحكامه مما بين الكلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل خرجت الكلم المنطوق ببعضها في أثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وضعت فيها موجب ومقتض، وعن أن يتصور أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها، وكائنة بسبب منها، وأن حسن تصورك لذلك قد ثبت فيه قدمك، وملأ من الثقة نفسك، وباعدك من أن تحن إلى الذي كنت عليه، وأن يجرك الإلف والاعتياد إليه، وأنك جعلت ما قلناه نقشاً في صدرك، وأثبته في سويداء قلبك، وصادقت بينه وبين نفسك. فإن كان الأمر، كما ظنناه رجونا أن يصادف الذي نريد أن نستأنفه بعون الله تعالى منك نية حسنة تقيك الملل، ورغبة صادقة تدفع عنك السأم، وأريحية يخف معها عليك تعب الفكر وكد النظر. والله تعالى ولي توفيقك وتوفيقنا بمنه وفضله. ونبدأ فنقول: فإذا ثبت الآن أن لا شك ولا مرية في أن ليس النظئم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم، ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه وموضعه ومكانه، وأنه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها، غار نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه، ولزمه أن يثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به، وأن يلحق بأصحاب الصرفة، فيدفع الإعجاز من أصله. وهذا تقرير لا يدفعه إلا معاند يعد الرجوع عن باطل قد اعتقد عجزاً، والثبات عليه من بعد لزوم الحجة جلداً، ومن وضع نفسه في هذه المنزلة كان قد باعدها من الإنسانية. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وهذه أصول يحتاج إلى معرفتها قبل الذي عمدنا به.


اعلم أن معاني الكلام كلها، معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين. والأصل والأول هو الخبر. وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع. ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى إثبات ونفي. والإثبات يقتضي مثبتاً ومثبتاً له. والنفي يقتضبي منفياً ومنفياً عنه. فلو حاولت أن يتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه حاولت ما لا يصح في عقل، ولا يقع في وهم. ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى شيء مظهر أو مقدر مضمر. وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء.


وإن أردت أن تستحكم معرفة ذلك في نفسك فانظر إليك، إذا قيل لك: ما فعل زيد؟ فقلت: خرج. هل يتصور أن يقع في خلدك من خرج معنى من دون أن تنوي فيه ضمير زيد. وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلا مخرجاً نفسك إلى الهذيان، وكذلك فانظر إذا قيل لك: كيف زيد؟ فقلت: صالح، هل يكون لقولك: صالح أثر في نفسك من دون أن تريد هو صالح؟ أم هل يعقل السامع منه شيئاً إن هو لم يعتقد ذلك. فإنه مما لا يبقى معه لعاقل شك أن الخبر معنى لا يتصور إلا بين شيئين يكون أحدهما مثبتاً والآخر مثبتاً له، أو يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه، وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له، ومنفي من دون منفي عنه. ولما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل. واسم كقولنا:

 

خرج زيد، أو اسم واسم كقولنا: زيد منطلق. فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، وبغير هذا الدليل. وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمة، و حكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة.
وإذ قد عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين: مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن  يعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه. كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له مخبر يصدر عنه، ويحصل من جهته، ويكون له نسبة إليه، وتعود التبعة فيه عليه. فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صدقاً، وبالكذب إن كان كذباً. أفلا ترى أن من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته، ويكون هو المزجي لهما، والمبرم والناقض فيهما، ويكون بهما موافقاً ومخالفاً، ومصيباً ومخطئاً، ومحسناً ومسيئاً.
وجملة الأمر أن الخبر وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض، وأعظمها شأناً الخبر، فهو الذي يتصور بالصور الكثيرة، وتقع فيه الصناعات العجيبة. وفيه يكون في الأمر الأعم المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة كما شرحنا فيما تقدم، ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى.


واعلم أنك إذا فتشت أصحاب اللفظ عما في نفوسهم وجدتهم قد توهموا في الخبر أنه صفة للفظ، وأن المعنى في كونه إثباتاً أنه لفظ يدل على وجود المعنى من الشيء أو فيه، وفي كونه نفياً أنه لفظ يدل على عدمه وانتفائه عن الشيء. وهو شيء قد لزمهم، وسرى في عروقهم، وامتزج بطباعهم، حتى صار الظن بأكثرهم أن القول لا ينجع فيهم. والدليل على بطلان ما اعتقدوه أنه محال أن يكون اللفظ قد نصب دليلاً على شيء، ثم لا يحصل منه لعلم بذلك الشيء، إذ لا معنى لكون الشيء دليلاً إلا إفادته إياك العلم بما هو دليل عليه. وإذا كان هذا كذلك علم منه أن ليس الأمر على ما قالوه من أن المعنى في وصفنا اللفظ بأنه خبر أنه قد وضع لأن يدل على وجود المعنى أو عدمه، لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن لا يقع من سامع شك في خبر يسمعه، وأن لا تسمع الرجل يثبت وينفي إلا علمت وجود ما أثبت وانتفاء ما نفى. وذلك مما لا يشك في بطلانه. وإذا لم يكن ذلك مما يشك في بطلانه وجب أن يعلم أن مدلول اللفظ ليس هو وجود المعنى أو عدمه، ولكن الحكم بوجود المعنى أو عدمه، وأن ذلك أي الحكم بوجود المعنى أو عدمه حقيقة الخبر. إلا أنه إذا كان بوجود المعنى من الشيء أو فيه يسمى إثباتاً. وإذا كان بعدم المعنى وانتفائه عن الشيء يسمى نفياً ومن الدليل على فساد ما زعموه أنه لو كان معنى الإثبات الدلالة على وجود المعنى، وإعلامه السامع أيضاً لكان ينبغي إذا قال واحد: زيد عالم، وقال أخر: زيد ليس بعالم، أن يكون قد دل هذا على وجود العلم، وهذا على عدمه. وإذا قال الموحد: العالم محدث، وقال الملحد: هو قديم، أن يكون قد دل الموحد على حدوثه، والملحد على قدمه، وذلك ما لا يقوله عاقل.


تقرير لذلك بعبارة أخرى: لا يتصور أن تفتقر المعاني المدلول عليها بالجمل المؤلفة إلى دليل، يدل عليها، زائد على اللفظ. كيف وقد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد الناس في محاوراتهم علم ضرورة. ومن ذهب مذهباً يقتضي أن لا يكون الخبر معنى في نفس المتكلم، ولكن يكون وصفاً للفظ من أجل دلالته على وجود المعنى من الشيء أو فيه أو انتفاء وجوده عنه، كان قد نقض منه الأصل الذي قدمناه من حيث يكون قد جعل المعنى المدلول عليه باللفظ لا يعرف إلا بدليل سوى اللفظ، ذاك لأنا لا نعرف وجود المعنى المثبت، وانتفاء المنفي باللفظ. ولكنا نعلمه بدليل يقوم لنا زائد على اللفظ. وما من عاقل إلا وهو يعلم ببديهة النظر أن المعلوم بغير اللفظ لا يكون مدلول اللفظ. طريقة أخرى: الدلالة على الشيء هي لا محالة إعلامك السامع إياه، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولاً عليه. وإذا كان كذلك وكان مما يعلم ببدائه المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره وما هو؟ أهو أن يعلم السامع وجود المخبر به من المخبر عنه. أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه، فإن قيل: إن المقصود إعلامه السامع وجود المعنى من المخبر عنه. فإذا قال: ضرب زيد، كان مقصوده أن يعلم السامع وجود الضرب من زيد وليس الإثبات إلا إعلامه السامع وجود المعنى، قيل له: فالكافر إذا أثبت مع الله تعالى عما يقول الظالمون إلهاً آخر يكون قاصداً أن يعلم نعوذ بالله تعالى أن مع الله تعالى إلهاً آخر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وكفى بهذا فضيحة.
وجملة الأمر أنه ينبغي أن يقال لهم: أتشكون في أنه لا بد من أن يكون لخبر المخبر معنى يعلمه السامع علماً لا يكون معه شك، ويكون ذلك معنى اللفظ وحقيقته. فإذا قالوا لا نشك. قيل لهم: فما ذلك المعنى، فإن قالوا: هو وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه، أو فيه إذا كان الخبر إثباتاً وانتفاؤه عنه إذا كان نفياً، لم يمكنهم أن يقولوا ذلك إلا من بعد أن يكابروا فيدعوا أنهم إذا سمعوا الرجل يقول: خرج زيد، علموا علماً لا شك معه وجود الخروج من زيد. وكيف يدعون ذلك وهو يقتضي أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبداً، وأن لا يجوز فيه أن يقع على خلاف المخبر عنه. وأن يكون العقلاء قد غلطوا حين جعلوا من خاص وصفه أنه يحتمل الصدق والكذب، وأن يكون الذي قالوه في أخبار الآحاد وأخبار التواتر من أن العلم يقع بالتواتر دون الآحاد سهواً منهم. ويقتضي الغنى عن معجزة، لأنه إنما احتيج إليها ليحصل العلم بكون الخبر على وفق المخبر عنه. فإذا كان لا يكون إلا على وفق المخبر عنه لم تقع الحاجة إلى دليل يدل على كونه كذلك، فاعرفه. واعلم أنه إنما لزمهم ما قلناه من أن يكون الخبر على وفق المخبر عنه أبداً من حيث إذا كان معنى الخبر عندهم إذا كان إثباتاً أنه لفظ موضوع ليدل على وجود المعنى المخبر من المخبر عنه أو فيه، وجب أن يكون كذلك أبداً، وأن لا يصح أن يقال: ضرب زيد، إذا كان الضرب قد وجد من زيد. وكذلك يجب في النفي أن لا يصح أن يقال: ما ضرب زيد، إلا إذا كان الضرب لم يوجد منه، لأن تجويز أن يقال: ضرب زيد، من في أن يكون قد كان منه ضرب، وأن يقال: ما ضرب زيد. وقد كان منه ضرب يوجب على أصلهم إخلاء اللفظ من معناه الذي وضع ليدل عليه، وذلك ما لا يشك في فساده، ولا يلزمنا على حلنا لأن معنى اللفظ عندنا هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتاً، والحكم بعدمه إذا كان نفياً. واللفظ عندنا لا ينفك من ذلك ولا يخلو منه. وذلك لأن قولنا: ضرب وما ضرب يدل من قول الكاذب على نفس ما يدل عليه من قول الصادق. لأنا إن لم نقل ذلك لم يخل من أن يزعم أن الكاذب يخلي اللفظ من المعنى، أو يزعم أنه يجعل للفظ معنى غيرما وضع له، وكلاهما باطل.
ومعلوم أنه لا يزال يدور في كلام العقلاء في وصف الكاذب أنه يثبت ما ليس بثابت، نفي ما ليس بمنتف. والقول بما قالوه يؤدي إلى أن يكون العقلاء قد قالوا المحال من حيث يجب على أصلهم أن يكونوا قد قالوا: إن الكاذب يدل على وجود ما ليس بموجود، وعلى عدم ما ليس بعلوم، وكفى بهذا تهافتاً، وخطلاً، ودخولاً في اللغو من القول. وإذا اعتبرنا أصلنا كان تفسيره أن الكاذب يحكم بالوجود فيما ليس بموجود، وبالعدم فيما ليس بمعدوم. وهو أسد كلام وأحسنه.


والدليل على أن اللفظ من قول الكاذب يدل على نفس ما يدل عليه من قول الصادق جعلوا خاص وصف الخبر أنه يحتمل الصدق والكذب. فلولا أن حقيقته فيهما حقيقة واحدة لما كان لحدهم هذا معنى. ولا يجوز أن يقال: إن الكاذب يأتي بالعبارة على خلاف المعبر عنه، لأن ذلك إنما يقال فيمن أراد شيئاً، ثم أتى بلفظ لا يصلح للذي أراد. ولا يمكننا أن نزعم في الكاذب أنه أراد أمراً، ثم أتى بعبارة لا تصلح لما أراد. ومما ينبغي أن يحصل في هذا الباب أنهم قد أصلوا في المفعول وكل ما زاد على جزءي الجملة أن يكون زيادة في الفائدة. وقد يخيل إلى من ينظر إلى ظاهر هذا من كلامهم أنهم أرادوا بذلك أنك تضم بما تزيده على جزءي الجملة فائدة أخرى، وينبني عليه أن ينقطع عن الجملة حتى يتصور أن يكون فائدة على حدة، وهو ما لا يعقل، إذ لا يتصور في زيد من قولك: ضربت زيداً، أن يكون شيئاً برأسه حتى يكون بتعديتك ضربت إليه قد ضممت فائدة إلى أخرى. وإذا كان ذلك وجب أن يعلم أن الحقيقة في هذا أن الكلام يخرج بذكر المفعول إلى معنى غير الذي كان، وأن وزان الفعل قد عدي إلى مفعول معه، وقد أطلق فلم يقصد به إلى مفعول دون مفعول وزان الاسم المخصص بالصفة مع الاسم المتروك على شياعه، كقولك: جاءني رجل ظريف لا مع قولك: جاءني رجل في أنك لست في ذلك كمن يضم معنى إلى معنى وفائدة إلى فائدة، ولكن كمن يريد هاهنا شيئاً وهناك شيئاً آخر. فإذا قلت: ضربت زيداً، كان المعنى غيره إذا قلت: ضربت، ولم تزد زيداً. وهكذا يكون الأمر أبداً كلما زدت شيئاً وجدت المعنى قد صار غير الذي كان. ومن أجل ذلك صلح المجازاة بالفعل الواحد إذا أتى به مطلقاً في الشرط ومعدى إلى شيء في الجزاء كقوله تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم" وقوله عز وجل: "وإذا بطشتم بطشتم جبارين" مع العلم بأن الشرط ينبغي أن يكون غير الجزاء من حيث كان الشرط سبباً والجزاء مسبباً، وأنه محال أن يكون الشيء سبباً لنفسه. فلولا أن المعنى في أحسنتم، الثانية غير المعنى في الأولى، وأنها في حكم فعل ثان لما ساغ ذلك. كما لا يسوغ أن تقول: إن قمت قمت، وإن خرجت خرجت. ومثله من الكلام قوله: المرء بأصغريه إن قال قال ببيان، وإن صال صال بجنان، ويجري ذلك في الفعلين قد عديا جميعاً، إلا أن الثاني منهما قد تعدى إلى شيء زائد على ما تعدى إليه الأول. ومثاله قولك: إن أتاك زيد أتاك لحاجة. وهو أصل كبير، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن أولاها بأن يحفظ أنك ترى البيت قد استحسنه الناس، وقضوا لقائله بالفضل فيه، وبأنه الذي غاص على معناه بفكره، وأنه أبو عذره، ثم لا ترى الحسن وتلك الغرابة كانا إلا لما بناه على الجملة دون نفس الجملة. ومثال ذلك قول الفرزق، من الطويل:

وما حملت أم امريء في ضلوعها

 

أعق من الجاني عليها هـجـائيا

 

فلولا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئاً غير الذي كان، ويتغير في ذاته لكان محالاً أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزية. وأن يكون معناه خاصاً بالفرزدق، وأن يقضي له بالسبق إليه، إذ ليس في الجملة التي بني عليها ما يوجب شيئاً من ذلك، فاعرفه.


والنكتة التي يجب أن تراعى في هذا أنه لا تتبين لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق إلا عند آخر حرف من البيت. حتى إن قطعت عنه قوله: هجائيا بل الياء التي هي ضمير الفرزدق لم يكن الذي تعقله منه مما أراده الفرزدق بسبيل، لأن غرضه تهويل أمر هجائه، والتحذير منه. وأن من عرض أمه له كان قد عرضها لأعظم ما يكون من الشر. وكذلك حكم نظائره من الشعر. فإذا نظرت إلى قول القطامي، من البسيط:

فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه

 

مواقع الماء من ذي الغلة الضادي

وجدتك لا تحصل على معنى يصح أن يقال إنه غرض الشاعر ومعناه إلا عند قوله: ذي الغلة. ويزيدك استبصاراً فيما قلناه أن تنظر فيما كان من الشعر جملاً قد عطف بعضها على بعض بالواو كقوله، من الكامل:

النشر مسك، والوجوه دنـا

 

نير، وأطراف الاكف عنم

وذلك أنك ترى الذي تعقله من قوله: النشر مسك لا يصير بانضمام قوله: والوجوه دنانير إليه شيئاً غير الذي كان بل تراه باقياً على حاله. كذلك ترى ما تعقل من قوله والوجوه نانير لا يلحقه تغير بانضمام قوله: وأطراف الاكف عنم إليه.
وإذ قد عرفت ما قررناه من أن من شأن الجملة أن يصير معناها بالبناء عليها شيئاً غير الذي كان، وأنه يتغير في ذاته، فاعلم أن ما كان من الشعر مثل بيت بشار من الطويل:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

 

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وقول امرىء القيس الطويل:

كأن قلوب الطير رطبـاً ويابـسـاً

 

لدى وكرها العناب والحشف البالي

وقول زياد من الطويل:  

وإنا وماتلقي لنـا إن هـجـوتـنـا

 

لكالبحر، مهما يلق في البحر يغرق

كان له مزية على قول الفرزدق فيما ذكرنا، لأنك تجد في صدر بيت الفرزدق جملة تؤدي معنى، وإن لم يكن معنى يصح أن يقال: إنه معنى فلان. ولا تجد في صدر الأبيات ما يصح أن يعد جملة تؤدي معنى، فضلاً عن أن تؤدي معنى يقال إنه معنى فلان.


ذاك لأن قوله: كأن مثار النقع.. إلى: وأسيافنا ا جزء واحد، وليل تهاوى كواكبه بجملته الجزء الذي ما لم تأت به لم تكن قد أتيت بكلام وهكذا سبيل البيتين الأخيرين. فقوله كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها، جزء، وقوله:، العناب والحشف البالي الجزء الثاني. وقوله:

وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا

جزء، وقوله: لكالبحر الجزء الثاني. وقوله: مهما تلق في البحر يغرق، وإن كان جملة مستأنفة، ليس لها في الظاهر تعلق بقوله: لكالبحر، فإنها لما كانت مبينة لحال هذا التشبيه صارت كأنها متعفقة بهذا التشبيه، وجرى مجرى أن تقول: لكالبحر في أنه لا يلقى فيه شيء إلا غرق .

الألفاظ المفردة والوضع والنظم

وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص، فإن ذلك يقتضي لا محالة أن يكون الخبر في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه. ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر، فليس يشك عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله:

وما حملت أم امرىء في ضلوعها

نسبة إلى الفرزدق وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه، وأن يكون معناه الذي قيل إنه استنبطه واستخرجه وغاص عليه. وهكذا السبيل أبداً، لا يتصور أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصاً به، فاعرفه.


ومن الدليل القاطع فيه ما بيناه في الكناية والاستعارة والتمثيل، وشرحناه من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية، وأن المعاني تتصور من أجلها بالصور المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول، ومركوز في غرائز النفوس، وبينا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها حادثة في المعنى المخبر به، المثبت أو المنفي لعلمنا باستحالة أن تكون المزية التي تجدها لقولنا: هو طويل النجاد، على قولنا: طويل القامة في الطول، والتي تجدها لقولنا: هو كثير رماد القدر على قولنا: هو كثير القرى والضيافة لما في كثرة القرى. وإذا كان ذلك محالاً ثبت أن المزية والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن يوصف به المذكور والإخبار به عنه. وإذا ثبت ذلك ثبت أن الاثبات معنى، لأن حصول المزية والحسن فيما ليس بمعنى محال.


بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي اعلم أن هاهنا أصلاً أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف، وأصل عظيم والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها، حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: رجل وفرس ودار، لما كان يكون لنا علم بمعانيها. وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعل ويفعل، لما كنا نم الخبر في نفسه ومن أصله. ولو لم يكونوا قد قالوا: افعل، لما كنا نعرف الأمر من أصله، نجده في نفوسنا. وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفياً ولا نهياً ولا استفهاماً ولا استثناء. وكيف والمواضعة لا تكون، ولا تتصور إلا على معلم فمحال أن توضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها، لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد، أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته، أو ذكر لك بصفة. وإذا قلنا في العلم واللغات من مبتدأ الأمر إنه كان إلهاماً، فإن الإلهام في ذلك يكون بين شيئين يكون أحدهما مثبتاً والآخر مثبتاً له، أو يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه، وأنه لا يتصور مثبث من غير مثبت له، ومنفي من غير منفي عنه. فلما كان الأمر كذلك وجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا: خرج زيد، أو اسم واسم كقولنا: زيد خارج. فما عقلناه منه وهو نسبة الخروج إلى زيد لا يرجع إلى معاني اللغات، يكن إلى كون ألفاظ اللغات سمات لذلك المعنى، وكونها مرادة بها. أفلا ترى إلى قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين" أفترى أنه قيل لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟.


ثم إنا إذا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة، ولطائف ستخرجة، ويجعلون لها اختصاصاً بقائل دون قائل، كمثل قولهم في معان من الشعر: إنه معنى لم يسبق إليه فلان، وإنه الذي فطن له واستخرجه، وإنه الذي غاص عليه بفكره، وإنه أبو عذره، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعم شيئاً غير الخبر الذي هو إثبات المعنى لشيء ونفيه عنه. يدلك على ذلك أنا لا ننظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختص قائل دون قائل إلا وجدت الأصل فيه والأساس والإثبات والنفي. وإن أردت في ذلك مثالاً إنظر إلى بيت الفرزدق من الطويل:

ماحملت أم امرىء في ضلوعها

 

أعق من الجاني عليها هجـائيا

فإنك إذا نظرت لم تشك في الأصل والأساس هو قوله: وما حملت أم امرىء، وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت مستند إليه ومبني عليه، وأنك إن رفعته لم تجد شيء منها بياناً، ولا رأيت لذكرها معنى، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذياناً. والسبب الذي من أجله كان كذلك أن من حكم كل ما عدا جزءي الجملة الفعل والفاعل، والمبتدأ. الخبر أن يكون تحقيقاً للمعنى المثبت والمنفي. فقوله: في ضلوعها، يفيد أولاً أنه لم يرد في الحمل على الإطلاق، ولكن الحمل في الضلوع. وقوله: أعق، يفيد أنه لم يرد هذا أحمل الذي هو حمل في الضلوع أيضاً على الإطلاق، ولكن حملاً في الضلوع محموله أعق من الجاني عليها هجاءه. وإذا كان ذلك كله تخصيصاً للحمل لم يتصور أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل، لأنه لا يتصور تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به والنهى عنه والاستخبار عنه.


وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها لبة، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشىء لها، صادرة عن القاصد إليها، وإذا قلت في الفعل إنه موضوع للخبر لم يكن المعنى فيه أنه موضوع، لأن يعلم به الخبر في نفسه وجنسه ومن أصله وما هو. ولكن المعنى أنه موضوع حتى إذا ضممته إلى اسم عقل منه، ومن الاسم أن الحكم بالمعنى الذي اشتق ذلك الفعل منه على مسمى ذلك الاسم واقع منك أيها المتكلم.
بسم الله الرحمن الرحيم

نماذج تحليلية لأهمية النظم

أعلم أنك لن ترى عجباً أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم، وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن هاهنا نظماً أحسن من نظم. ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم ذلك تسدر أعينهم، وتضل عنهم أفهامهم. وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضاً مزمناً. وداء متمكتاً. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم، حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع، وفي كلام دون كلام، وفي الأقل دون الأكثر، وفي الواحد من الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة، وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولاً. ومن أين يتصور أن يكون للشيء في كلام مزية عليه في كلام آخر بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة. فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع، ثم لا يقتضي فضلاً، ولا يوجب مزية اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة" من أن له حسناً ومزية، وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهماً منا وتخيلاً. ولسنا نستطيع في كشف الشبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحق عندهم، ما استطعناه في نفس النظم، لأنا ملكنا في ذلك أن نضطرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول، وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً، والسعي منجحاً لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها، أمور خفية، ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علماً بها، حتى يكون مهيأ لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، وممن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء، وممن إذا أنشدته قوله، من السريع:

لي منك ماللناس كلـهـم

 

نظر وتسليم على الطرق

وقول البحتري، من الكامل:

وسأستقل لك الدموع صبـابة

 

ولو أن دجلة لي عليك دموع

وقوله، من الطويل:

رأت مكنات الشيب فابتسمت لها

 

وقالت نجوم لو طلعن بأسعـد

وقول أبي نواس، من البسيط:

ركب تساقوا على الأكوار بـينـهـم

 

كأس الكرى فانتشى المسقي والساقي

كأن أعناقهم والـنـوم واضـعـهـا

 

على المناكب لم تعمـد بـأعـنـاق

وقوله، من الكامل:

ياصاحبي عصيت مصطبحا

 

وغدوت لللذات مطـرحـا

فتزودا مـنـي مـحـادثة

 

حذرالعصا لم يبق لي مرحا

وقول إسماعيل بن يسار، من السريع:

وحتى إذا الصبح بدا ضوؤه

 

وغابت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفي كما

 

ينساب من مكمنه الأرقـم

أنق لها، وأخذته أريحية عندها، وعرف لطف موقع الحذف والتنكير في قوله:

نظر وتسليم على الطرق

وما في قول البحتري: لي عليك دموع، من شبه السحر، وان ذلك من أجل تقديم لي، على عليك، ثم تنكير الدموع. وعرف كذلك شرف قوله:

وقالت نجوم لوطلعن بأسعد

وعلو طبقته، ودقة صنيعته. والبلاء، والداء العياء أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله، أو رسالة يكتبها الموقع الحسن، ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه. فلست تملك إذاً من أمرك شيئاً حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى، وقلب إذا أريته رأى. فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام معه في غير مرمى، ومعن نفسك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا فوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآية التي بها يفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم، ويصح منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم لاستحيا منه. فأما الذين يحس بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلف ما ليس بأهل به.

وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة، وقوانين مضبوطة، قد اشترك الناس في العلم بها، واتفقوا على أن البناء عليها، إذا أخطأ فيه المخطىء ثم أعجب برأيه لم يستطع رده عن هواه، وصرفه عن الرأي الذي رآه، إلا بعد الجهد، وإلا بعد أن يكون حصيفاً عاقلاً ثبتاً إذا نبه انتبه، وإذا قيل: إن عليك بقية من النظر وقف وأصغى، وخشي أن يكون غر فاحتاط باستماع ما يقال له، وأنف من أن يلج من غير بينة، ويتطيل بغير حجة. وكان هذا وصفه يعز ويقل، فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن، وأصلك الذي تردهم إليه، وتعول في محاجتهم عليه استشهاد القرائح، وسبر النفوس وفليها، وما يعرض من الأريحية عندما تسمع. وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم، ويكشف الغطاء عن أعين ويصرف إليك أوجههم. وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي، ويفتي ويقضي وعندهم أنهم ممن صفت قريحته وصح فوقه، وتمت أداته.

فإذا قلت لهم: إنكم قد أتيتم من أنفسكم، ردوا عليك مثله، وقالوا: لا بل قرائحنا أصح، ونظرنا أصدق، وحسنا أذكى. وإنما الآفة فيكم، لأنكم خيلتم إلى نفسكم أموراً حاصل لها، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين، فضلاً على من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً. فتبقى في أيديهم حسيراً، لا تملك غير التعجب فليس الكلام إذا بمغن عنك، ولا القول بنافع، ولا الحجة مسموعة، حتى تجد من فيه لك على نفسه. ومن أتى عليك، أبى ذاك طبعه فرده إليك، وفتح سمعه لك، ورفع الحجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت.

فاستبدل بالنفار أنساً، وأراك من بعد الإباء قبولاً. ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية، والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقاً في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك، وتكد فيه فكرك، وتجهد فيه كل جهدك. حتى إذا قلت: قد قتلته علماً، وأحكمته فهماً، كنت الذي لا يزال يتراءى لك فيه شبهة، ويعرض فيه شك، كما قال أبو نواس من الطويل:

ألا لا أرى مثل امترائي في رسم

 

تغص به عيني، ويلفظه وهمي

أتت صور الأشياء بيني وبـينـه

 

فظني كلا ظن وعلمي كلاعلم

وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً، وتفسره ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه. ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته، مثال ذلك بيت المتنبي، من الكامل:

عجباً له حفظ العنان بأنمـل

 

ماحفظها الأشياء من عاداتها

مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه، فلا ننكر منه شيئاً، ولا يقع لنا أن فيه خطأ، ثم بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها فيضيف المصدر إلى المفعول، فلا يذكر الفاعل، ذاك لأن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، وأنه يزعم أنه لا يكون منها أصلاً، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله: ما حفظها الأشياء، يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظاً.

ونظير هذا أنك تقول: ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي، ولا تقول: ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: ليس ذم الناس من شأني، ولا تقول: ليس ذمي الناس من شأني. لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوده منك.

ولا يصح قياس المصدر في هذا على الفعل، أعني لا ينبغي أن يظن أنه كما يجوز أن يقال: ما من عادتها أن تحفظ الأشياء، كذلك ينبغي أن يجوز: ما من عادتها حفظها الأشياء. ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي وجوده، وأنه قد كان منه. يبين ذلك أنك تقول: أمرت زيداً بأن يخرج غداً ولا تقول: أمرته بخروجه غداً.
ومما فيه خطأ هو في الخفاء قوله، من البسيط:

ولا تشك إلى خلق فـتـشـمـتـه

 

شكوى الجريح إلى الغربان والرخم

وذلك أنك إذا قلت: لا تضجر ضجر زيداً، كنت قد جعلت زيداً يضجر ضرباً من الضجر مثل أن تجعله يفرط فيه أو يسرع إليه. هذا هو موجب العرف. ثم إن لم تعتب خصوص وصف فلا أقل من أن تجعل الضجر على الجملة من عادته، وأن تجعله قد كان منه. وإذا كان كذلك اقتضى قوله:

شكوى الجريح إلى الغربان والرخم

أن يكون هاهنا جريح قد عرف من حاله أن يكون له شكوى إلى الغربان والرخم، وذلك محال. وإنما العبارة الصحيحة في هذا أن يقال: لا تشك إلى خلق فإنك إن فعلت كان مثل ذلك مثل أن تصور في وهمك أن بعيراً دبراً كشف عن جرحه، ثم شكاه إلى الغربان والرخم.

ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأول في الشيء تأويلاً، وقضى فيه بأمر، فتعتقده اتباعاً، ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأؤل. وتبقى على ذلك الاعتقاد الزمان الطويل: ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمرعلى خلاف ما قدر.

ومثال ذلك أن أبا القاسم الآمدي ذكر بيت البحتري، من البسيط:

فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق

 

وحاك ما حاك من وشي وديبـاج

ثم قال: صوغ الغيث وحوكه للنبات ليس باستعارة بل هو حقيقة. ولذلك لا يقال: هو صائغ، ولا كأنه صائغ. وكذلك لا يقال: هو حائك، وكأنه حائك. قال: على أن لفظ حائك في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه أبو تمام في قوله، من الطويل:

إذا الغيث غادى نسجه خلت أنـه

 

خلت حقب حرس له وهو حائك

قال: وهذا قبيح جداً. والذي قاله البحتري: فحاك ما حاك، حسن مستعمل. والسبب في هذا الذي قاله إنه ذهب إلى أن غرض أبي تمام أن يقصد بخلت إلى الحوك، وأنه أراد أن يقول: خلت الغيث حائكاً، وذلك سهو منه، لأنه لم يقصد بخلت إلى ذلك. وإنما قصد أن يقول: إنه يظهر في غداة يوم من حوك الغيث ونسجه بالذي ترى العيون من بدائع الأنوار، وغرائب الأزهار، ما يتوهم منه أن الغيث كان في فعل ذلك وفي نسجه وحوكه حقباً من الدهر. فالحيلولة واقعة على كون زمان الحوك حقباً، لا على كون ما فعله الغيث حوكاً فاعرفه.

ومما يدخل في ذلك ما حكي عن الصاحب من أنه قال: كان الاستاذ أبو الفضل يختار من شعر ابن الرومي وينقط عليه، قال: فدفع إلي القصيدة التي أولها، من الطويل:

أتحت ضلوعي جمرة تتوقد

وقال: تأملها. فتأملتها، فكان قد ترك خير بيت فيها، وهو:

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى

 

وحلم كحلم السيف والسيف مغمـد

فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت، فقال: لعل القلم تجاوزه. قال: ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شراً من تركه، قال: إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات. قال الصاحب: لو لم يعد أربع مرات فقال:

بجهل كجهل السيف وهو منتضى

 

وحلم كحلم السيف وهو مغمـد

لفسدالبيت.
والأمر كما قال الصاحب. والسبب في ذلك أنك إذا حدثت عن اسم مضاف، ثم أردت أن تذكر المضاف إليه، فإن البلاغة تقتضي أن تذكره باسمه الظاهر، ولا تضمره. وتفسير هذا أن الذي هو الحسن الجميل أن تقول: جاءني غلام زيد وزيد، ويقبح أن تقول: جاءني غلام زيد وهو. ومن الشاهد في ذلك قول دعبل، من البسيط:

أضياف عمران في خصب وفي سعة

 

وفـي حـبـاء غـير مـمـنـوع

وضيف عمرو وعمرو يسهران معـاً

 

عمرو لبطنته، والضيف لـلـجـوع

وقول الآخر، من الطويل:

وإن طرة راقتك فانظر فربمـا

 

أمر مذاق العود والعود أخضر

وقول المتنبي، من الطويل:

بمن نضرب الأمثال أم من نقيسه

 

إليك؟ وأهل الدهر دونك والدهر

 ليس بخفي على من له فوق أنه لو أتى موضع الظاهر في ذلك كله بالضمير فقيل: وضيف عمرو وهو يسهران معاً، وربما أمر مذاق العود وهو أخضر، وأهل الدهر دونك وهو، لعدم حسن ومزية لا خفاء بأمرهما. ليس لأن الشعر ينكسر، ولكن تنكره النفس. وقد يرى في بادىء الرأي أن ذلك من أجل اللبس، وأنك إذا قلت: جاءني غلام زيد وهو، كان الذي يقع في نفس السامع أن الضمير للغلام، وأنك على أن تجيء له بخبر، إلا أنه لا يستمر من حيث إنا نقول: جاءني غلمان زيد وهو، فتجد الاستنكار ونبو النفس، مع أن لا لبس مثل الذى وجدناه. وإذا كان كذلك وجب أن يكون السبب غير ذلك. والذي يوجبه التأمل أن يرد إلى الأصل الذي ذكره الجاحظ من أن سائلاً سأل عن قول قيس بن خارجة، عندي قرى كل نازل، ورضى كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وانهى فيها عن التقاطع. فقال: أليس الأمر بالضلة هو النهي عن التقاطع، قال: فقال أبو يعقوب: أما علمت أن الكناية والتعريض، لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف، وذكرت هناك أن لهذا الذي ذكر من أن للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"، وقوله: "قل هو الله أحد الله الصمد" عمل لولاها لم يكن. وإذا كان هذا ثابتاً معلوماً فهو حكم مسألتنا. ومن البين الجلي في هذا المعنى وهو كبيت ابن الرومي سواء، لأنه تشبيه مثله بيت الحماسة، من الهزج:

شددنا شدة الـلـيث

 

غدا، والليث غضبان

ومن الباب قول النابغة من الرجز:

نفس عصام سودت عصاماً

 

وعلمته الكر والإقـدامـا

لا يخفى على من له ذوق حسن هذا الإظهار، وأن له موقعاً في النفس وباعثاً للأريحية لا يكون إذا قيل: نفس عصام سودته، شيء منه البتة.

تم الكتاب في أواسط شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وخمس مئة، غفر الله لكاتبه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات برحمته، إنه أرحم الراحمين وخير الغافرين.