القسم الأول: تاريخ العرب المبلبلة البائدة

القسم الأول

تاريخ العرب المبلبلة البائدة

هؤلاء هم الذين خرجوا من أرض بابل حين تبلبلت الألسن، وتفرقت على الأرض بنو نوح، فتناسلوا في جزيرة العرب، وخرج منهم إلى الشام ومصر وغيرهما من اشتهر في العالم ذكره .-

 

مملكته مثلها، فجلب العمد من أقطار الأرض، وخاطب الملوك في شأنها، فتاحفته بها، وبنى بها الإسكندرية بأرض مصر. وكان له من هنالك إلى البحر المحيط، والبربر رعيته، وكان القفط يدارونه على مصر، وملوكها تخضع له. ولما مات، وبعدت ملوك بني عاد في إفريقية، هدمت الفراعنة الإسكندرية، ثم بناها الإسكندر بما وجده من آلات البينان في مكانها، فنسبت له.


ومن الكمائم: أن هوداً عليه السلام لما أهلك الله عاداً بالأحقاف على يده، وخرج من أرض العرب، ونزل بالشام في مكان جامع دمشق، وبنى له هناك متعبداً هو معلوك إلى اليوم. ولم يزل يعبد الله فيه إلى أن مات به. وعظمته الأمم بعده، فتعبدت به كل فرقة إلى أن جعله المسلمون جامعاً.


قال: "وآوى إليه من بقي من قوم عاد الذين أخرجتهم العمالقة وجرهم من مكة، وكثر نسلهم بالشام، وتوالت ملوكهم، فبنوا في مكان دمشق إرم ذات العماد على حكاية ما بلغهم عن المدينة التي كانت بالأحقاف.


وقد حكى ابن خرداذبة في تاريخه أن دمشق بناها جيرون بن سعد بن عاد وسماها جيرون. قال: "وهي إرم ذات العماد". قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: "كان جيرون وبريد أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وهما اللذان يعرف حصن جيرون وباب البريد بهما". وقيل غير ما مر مما هو مذكور في تاريخ بني إسرائيل المتعلق بذكر الشام.

تاريخ ثمود بن حاثر بن إرم بن سام

من الكمائم: أنهم كانوا فيمن خرجوا من أرض بابل من العرب، فساروا حتى انتهوا إلى ديارهم المشهورة بهم في الحجاز بجهة الحجر ووادي القرى حيث كانوا ينحتون "من الجبال بيوتا فارهين".


وبعث الله صالحاً، فكفروا به، وعقروا الناقة، فأهلكهم ولم يبق منهم باقية. ودليل على ذلك قوله تعالى "أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى". وتزعم ثقيف بالطائف أنها من بقية ثمود، وكان الحجاج يأبى ذلك ويتلو هذه الآية

 
وفي تواريخ الأمم: أن الله بعث لهم صالحاً عليه السلام حيث بعث هوداً إلى عاد.قال المسعودي: "كان لثمود بالحجر ملك عظيم"، "وأول ملوكهم به عابر بن إرم بن ثمود، ثم جندع بن عمرو، وفي مدته كان صالح عليه السلام".

قصص صالح النبي عليه السلام مع ثمود حتى أهلكهم الله

من مروج الذهب: "إن الله بعثه إلى ثمود، وهو منهم في حال أنه غلام، وعلى فترة بينه وبين هود المبعوث إلى عاد، وتلك الفترة نحو مائة سنة. فقال له زعيمهم: إن كنت صادقاً فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة (على صفة كذا). فاستغاث بربه فتحركت الصخرة وبدأ منها أنين وحنين، ثم تمخضت وانصدعت عن ناقة وتلاها فصيل، فأمعنا في رعي الكلأ وطلب الماء". وكانوا يحلبون منها ما يشربون بأجمعهم إلا أنها كانت تقاسمهم في الكلأ والماء، وكان لها يوم ولهم يوم، إلى أن قتلها قدار مع تسعة رهط، وهم الذين ذكرهم الله. فحل بهم العذاب، وخرج صالح عنهم إلى البيت الحرام. وقيل: إنه خرج مع من آمن معه "فنزلوا الرملة من فلسطين، وأتاهم العذاب يوم الأحد". وكان الملك جندع قد آمن به حين أخرج الناقة من الصخرة

قال البيهقي: وضربت العرب المثل بقدار في الشؤم، فقالوا: "أشأم من قدار"، وقالوا: "أشأم من عاقر الناقة"، وكان أشقر أزرق. وقد قيل: إن صالحاً أقام بمكة حتى مات بها، وفيها قبره.


ومن تاريخ الطبري: كان في القرية ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. فلما ولد قدار الأشقر الأزرق كان تاسعهم، وكان عقر الناقة على يديه. وصعد فصيلها ربوة ورغا إلى السماء فنزلبهم العذاب بعد ثلاثة أيام وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم حين أتى على قرية ثمود: "لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم"، وأراهم مرتقى الفصيل".
قال الطبري: "وأما أهل التوراة فيزعمون أن لا ذكر لعاد أو لثمود ولا لهود ولا لصالح في التوراة. وأمرهم مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام" قال الطبري: "لما عقروا الناقة أتاهم العذاب في يوم الرابع، وقد أصبحت وجوههم سوداً، وكان ذلك علامة لهم عليه كما أنذرهم صالح، فاستعدوا للبلاء، وتحنطوا بالصبر والمقر، وتكفنوا بالجلود والأنطاع إلى أن أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، وأصبحوا في ديارهم جاثمين" وذكر الجوزي أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم رسول غير هود وصالح وهما من العرب. وليس لثمود تجول في أقطار الأرض كما كان لعاد والعمالقة؛ غير أن السهيلي قد ذكر في كتاب الأعلام "أنه كان بعدن من أرض اليمن أمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك حسن السيرة، فلما مات شق ذلك عليهم، وكان قد اطلى بدهن لما جاءه الموت على عادتهم؛ لتبقى صورته ولا تتغير، فاغتنمها الشيطان منهم، وخاطبهم أنهم لم يمت ولكنه تماوى ليرى صنيعهم بعده، وأمرهم أن يضربوا حجابا بينهم وبينه ويكلمهم من ورائه، فنصبوه صنماً لا يأكل ولا يشرب، وجعلوه إلهاً لهم، والشيطان في أثناء ذلك يتكلم على لسانه، فأصفقوا على عبادته، فبعث الله لهم نبياً كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة وهو حنظلة بن صفوان، فأعلمهم كيد الشيطان ونصحهم، وأمرهم بعبادة ربهم، فقتلوه وطرحوه في بئر، ورسوه بالحجارة. فعند ذلك حلت بهم النقمة: فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطل رشاؤها، فصاحوا، وضجع النساء والولدان والبهائم بالعطش حتى عمهم الموت. وهم أصاب البئر المعطلة والقصر المشيد، قصر شداد بن عاد ابن عوص بن إرم، وكان لم ير في الأرض مثله، فأقفر، وصارت الجن تسكنه". وهما المذكوران في القرآن، وهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، والرسن: البئر وكان مبعث هذا النبي وقتله بعد سليمان النبي عليه السلام.

تاريخ طسم وجديس ابني حام الأصغر بن سام

من الكمائم أنهما نزلا أرض اليمامة من جزيرة العرب، وكان لهم بها حروب مع بني هزان من بني حمير، إلى أن غلب عليها طسم وجديس. وكان الملك في طسم. ومن واجب الأدب والبيهقي: لم تزل جديس تحت ذل وانقياد لأختها طسم باليمامة، إلى أن انتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم قد جعل سنته ألا تهدى بكر من جديس إلى بعلها حتى تدخل على الملك فيقترعهومر على ذلك زمان إلى أن أنف من هذه السنة رجل من جديس يقال له: الأسود. واتفق مع باطنة له أن يصنع للملك وأصحابه طعاماً، ويدفنوا سيوفهم في الرمل، فإذا جلسوا للأكل ثاروا بهم ووضعوا فيهم السيوف، فتم لهم ذلك.فهرب رياح بن مرة الطسمي إلى تبع حسان بن أسعد ملك اليمن، واستنصر به، وقال: إنما كان ملوك طسم عمالكم، وقد فتكت فيهم جديس، والانتصار واجب على همتك.
فانتصر لهم، وخرج في جيش. فلما كان من اليمامة على ثلاث مراحل، قال له رياح: إن لي أختا مزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، فليقطع كل رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه؛ ففعلوا لك. وأبصرتهم وقالت لجديس: الله أكبر! لقد سارت حمير! فكذبوها، قالت: إني أرى رجلا في شجرة ومعه كتف يتعرقها أو نعل يخصفها. فقالوا: خرفت! ولم يلتفتوا إليها.فصحبهم حسن فأبادهم، وفقأ عين زرقاء اليمامة المذكورة، فوجد فيها الاثمد، وهو الذي كان يعينهاعلى حدة النظر مع ما ركب الله فيها من قوة البصر. وصار الملك إلى [طسم]، ثم غلبت عليها بنحنيفة من العرب المستعربة، ولم يبق منهم باقية.وقد ذكر ابن فارس في أمثاله أن زرقاء اليمامة من جديس، وأنها ملكت اليمامة.وقال البيهقي: ذكر في بعض الروايات أنها ملكت اليمامة بعد طسم، وهي أول من ملك من جديس، اختاروها لحكمتها وفضلها، وفيها يقول النابغة الذبياني:

احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

 

إلى حمام شراع وارد الثمـد

 قال: وجرى المثل فيما أشار إليه: فقالوا: "أحكم من اليمامة"، وكانت قد نظرت إلى حمام يروم الورد وهو في مضيق، فقالت:

ليت الحمام ليه

 

إلى حمامتيه

ونصفه قـديه

 

تم الحمام ميه

 

قال: كان الحمام ستا وستين، ونصفه ثلاث وثلاثون، فذاك تسع وتسعون، ولها حمامة، فتكمل بذلك مائه.


قال صاحب الكمائم: ويقال إنها أول من أخرج السحق وعشق النساء.

ما وقع في أمثال أبي عبيدة مما له تعلق بطسم

ذكر أن امرأة من طسم يقال لها: عنز، أخذت سبية فحملوها في هودج، وألطفوها بالقول والفعل، فقالت عند ذلك: "شر يوميها وأغواه لها". قال: معنى ذلك شر أيامي حين صرت أكرم للسباء؛ وفيه بيت سائر:

 

شر يوميها وأغواه لها

 

ركبت عنز بحد جملا

 

قال: ومثل العامة في هذا "ليس من كرامة الدجاجة تغسل رجلاها".


قال: وكان لرجل من طسم كلب يسقيه اللبن ويطعمه اللحم، وكان يأمل أن يصيد به ويحرس له، فضري الكلب على ذلك. فجاع يوما، وفقد اللحم، فجاء إلى ربه، فوثب عليه وأكل من لحمه. وقيل في ذلك:

 

هم سمنوا كلباً ليأكل بعـضـهـم

 

ولو أخذوا بالحزم ما سمن الكلب

تاريخ العمالقة

وهم ولد عمليق بن لاوذ بن سام. قال البيهقي: يضرب بهم المثل في القهر والتغلب وتدويخ الأرض، وهم كالعادية في ذلك وقد ذكر ابن عبد البر أنهم نزلوا عندما خرجوا من أرض بابل بصنعاء في اليمن، ثم تحولوا إلى الحرمين، وأهلكوا من قاتلهم من الأمم وأخرجوهم من بلادهم.


وكان من بقاياهم الملوك العادية بالشام والجزيرة، وكان منهم الجبارون الذين قاتلهم موسى عليه السلام، وأفناهم يوشه بن نون، وكان من فراعنة مصر. وقد اختلف في فرعون موسى عليه السلام: هل هو منهم أو من القبط؟ وتقدم ذكر ذلك في تاريخ القبط، وكيف تغلب العمالقة على مصر.

من له ذكر بالحجاز

عمليق

ابن لاود الذي ينتسبون إليه. ذكر صاحب التيجان "أنه أول من خرج من العرب المبلبلة، وشخص إلى أرض تهامة من الحجاز، وقال:

 

لما رأيت الناس في تبلبـل

وقد دهانا جهل من لم يعدل

 

قلت بقومي قول من لم يجهل:

سيروا لبيت الله في توكل

في حرم الله بذات الحومل

 

قال: "ومضى عمليق حتى نزل مكة، وبها بقايا هزان ابن يعفر، وهم من حمير"، فغلبهم في البلاد، وتوارث ملكها إلى أن ملكها منهم:

السميدع بن لاوذ بن عمليق

وقد ذكر صاحب الكمائم أن السميدع كان يحارب بني هود باليمن. فلما رأى غلبتهم على تلك البلاد، كان سلطان قومه، قال لهم: الحزم عندي أن تبعدوا عن هؤلاء القوم، وتتركوا لهم هذه الأرض، ولا تجاورهم فيها؛ فقد عصفت لهم رياح النصر، وامتدت في تأييدهم يد القدرة، ومن يغالب الله مغلوب. فقالوا: الرأي ما رأيت ونحن طوعك. فساروا إلى أن حازوا بالحرم وبه جرهم الأولى المبلبلة، فطمعوا فيما بأيديهم، فقال لهم السميدع: إن هؤلاء سبقوكم إلى الحرم، وقد توطنوا واستقروا في بيوتهم، وإنكم إن أخرجتموهم الآن من ديارهم بوشك أن يسلط الله عليكم غدا من يخرجكم من دياركم. فهاجت حفائظهم، وقالوا: إنما أنت دليل لا تصلح للملك، وإن لم تنزل بنا عليهم ونخرجهم وإلا ولينا أمرنا غيرك. فقال العزل مع العدل خير من الولاية مع الجور، شأنكم وولايتكم! فداوروه وسايسوه، ووسوسوا إلى نسائه، وقالوا: نحن أخرجنا غيرنا من بلادنا، فكذلك نخرج هؤلاء من ديارهم. والأرض لله، وإنما هي لمن غلب عليها بسيفه، ولم يجعل الله لأحد قدرة على أرض إلا وقد أراد أن يسكنهم إياها. فخلبوه بهذا الكلام وأشباهه إلى أن أطاعهم. واتصلت الحروب بينهم وبين جرهم إلى أن كانت الدائرة على جرهم، وأخرجوهم من الحرم وملكوه، وكادوا يفنون جرهم ولم يبق إلا من لاذ بالجبال والشعاب. فقال لهم قومه كيف رأيتهم؟ لو كان هؤلاء جيران الله لم يخذلهم. قال: ما تسمعون مني كلمة في هذا، ومن عاش أبصر واعتبر! ثم مات السميدع، وولى بعده أولاده، وصار السميدع لقبا لملوكهم.  قال البيهقي: ثم دخلت عليهم جرهم الثانية القحطانية، ولاة التبايعة، فأخرجتهم من أوطانهم كما قال السميدع الأكبر: فمضت منهم فرقة إلى أطرار الشام فملكوا أيلة ومشارق الفرات، ومضت منهم فرقة إلى مصر كان منهم فراعنتها، وبقيت منهم فرقة إلى جوار جرهم الثانية.

قال: ونزل بالمدينة النبوية من العمالقة بنو عبيل بن مهلائيل بن عوص بن عمليق، وملكهم يثرب بن عبيل. قال: وهو أول من نزلها وبناها من العمالقة، فعرفت به، توالت بها ملوكهم.

ونزل بخيبر خيبر بن قانية بن مهلائيل بن عوص بن عمليق، فعرفت به، وتوالى ملكها في ولده إلى أن أخذتها اليهود منهم. قال صاحب الأغاني: "كان السبب في كون اليهود بالمدينة، وهي في وسط بلاد العرب، مع أن اليهود أرضهم بالشام، أن العمالقة كانت تغير عليهم من أرض الحجاز، وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة. فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام، فوجه إليهم جيشاً وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحداً، ففعلوا، وتركوا منهم ابن ملكهم الهرم بن الأرقم، فرقوا له، ثم رجعوا إلى الشام وقد مات موسى عليه السلام. فقالت بنو إسرائيل المقيمون: قد عصيتم وخالفتم فلا نؤويكم، فقالوا: نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها، فرجعوا إلى يثرب وغيرها، فتناسلوا بها إلى أن نزل عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم.وذكر الطبري "أن نزولهم ببلاد الحجاز إنما كان حين وطئ بختنصر بلادهم بالشام وخرب بيت المقدس". ومن الكمائم أن أول من نزل مدينة أيلة من طرف الشام من العمالقة أيلة بن هوبر العمليقي، فبناها وتوالى ملكها في ولده، وصار السميدع سمة لكل ملك منهم.

ونزل أخوه فاران بن هوبر بالمدينة التي في جهتها المعروفة بفاران. ولما نزل بنو إسرائيل بالتيه الذي أقاموا فيه أربعين سنة، وهو على مرحلتين من أيلة، كان العمالقة يغيرون عليهم، فأذن لهم موسى عليه السلام في غزوهم، ثم غزاهم يوشع بن نون فأفناهم، وامتد بنو إسرائيل بعد ذلك إلى أرض العرب، فسكنوا أيلة وغيرها.

من له ذكر من العمالقة بأرياف العراق

أباغ بن قطورا بن هوبر العمليقي ذكر البيهقي أنه أول العمالقة الذين دخلوا من أرض العرب إلى أرياف العراق، وإليه تنسب عين أباغ المشهورة التي كانت إياد تنزلها بعد ذلك؛ وكذلك ذكر الطبري أنها تنسب له.

من اشتهر من العمالقة بمشارق الشام

عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العمليقي، ذكر البيهقي أنه من ولد السميدع الذي قتله يوشع وأخذ منه أيلة، وكان يملك مشارق الشام على الفرات ومغارب الجزيرة الفراتية، وله حصن زانوبيا المشهور على الفرات. وذكر الطبري "أنه كان يحارب جذيمة الوضاح ملك عرب العراق. ثم أن جذيمة جمع جموعه فسار إليه، وأقبل عمرو بجموعه من الشام فالتقوا واقتتلوا، فقتل عمرو بن الظرب وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة غائما سالما".

[الزباء]

"فملكت بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة". قال: "وكان جنودها بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وسليح وتزيد ابني حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة".

"وكان للزباء أخت يقال لها زينة، فبنت قصراً حصيناً على الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها ثم تصير إلى تدمر". قال: "فلما اجتمع للزباء ملكها أخذت في غزو جذيمة مطالبة بثأر أبيها، فقالت لها أختها زينة وكانت ذات رأي ودهاء: يا زباء، إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده؛ إن ظفرت أصبت ثأرك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب سجال وعثراتها لا تقال. وإن كعبك لم غيرا. وما تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تدور الدائرة. فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت. فانصرفت عما كانت قد أجمعت عليه من غزو جذيمة، وأتت أمرها من وجوه الحيل والخدع والمكر؛ فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن تصل ببلادها ببلاده. وكان فيما كتبت به: أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع، وضعف السلطان، وقلة ضبط الملكة، وأنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤاً؛ فأقبل إلي، واجمع ملكي إلى ملكك، وقومي إلى قومك".  فلما وقف على كتابها استخفه ما دعته إليه، وجمع أهل رأيه وهو ببقة على الفرات، فأجمعوا رأيهم على أن يسير إليها ويضم ملكها إلى ملكه. وكان فيهم قصير بن سعد اللخمي، فخالفهم وقال: "رأي فاتر وغدر حاضر"، فذهبت مثلا. وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها وأنت واتر لها في أبيها. فقال له جذيمة: أنت امرؤ "رأيك في الكن لا في الضح"، فذهبت مثلا ودعا جذيمة ابن اخته عمرو بن عدي اللخمي فاستشاره، فشجعه على السير، وقال: إنما قومي مع الزباء، ولو قد رأوك لصاروا معك، فأطاعه. فقال قصير: "لا يطاع لقصير رأي"، فذهبت مثلا". "واستخلف جذيمة ابن اخته على ملكه، وسار إلى أن قارب حصن الزباء وهو بالجانب الغربي من الفرات، فدعا قصيرا وقال: ما الرأي؟ فقال: "ببقة تركت الرأي"، فذهبت مثلا". "واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: "خطر يسير في خطب كبير"، فذهبت مثلا. ثم قال له: وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون، فاركب العصا - وكانت فرساً لا تجارى. وفي رواية: واركب العصا فإنه "لا يشق غباره" فذهبت مثلاً. وركب قصير العصا وسايره، فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا، فنجا عليها قصير. ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: "ويل أمه حزماً على ظهره العصا"، فذهبت مثلا. وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا. وقالت العرب: "خبر ما جاءت به العصا".

"وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء. فلما رأته تكشفت فإذا هي مضمورة العانة، فقالت: يا جذيمة، "أدأب عروس ترى؟" فذهبت مثلا. فقال: "بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى" فذهبت مثلا. ثم قالت: أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأسقته الخمر حتى إذا تملأ منها أمرت براهشيه فقطعا، وقدم إليه الطست - وكانت قد قيل لها: إن قطرت من دمه قطرة في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال تكرمة - فلما ضعفت يداه سقطتا، فتقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: "دعوا دماً ضيعه أهله"، فذهبت مثلا".
"فهلك جذيمة، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال قصير: أدائر أم ثائر؟ قال: "لا بل ثائر سائر"، فذهبت مثلا. ثم حرضه على المسير إليها، فقال: فكيف لي بها وهي "أمنع من عقاب الجو"؟ فذهبت مثلا".
"وكانت الزباء قد سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين، وهو عمرو بن عدي. ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله يكون ذلك. فحذرت عمراً، واتخذت نفقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلا حاذقا بالتصوير، وأمرته أن يسير إلى بلد عمرو، ويخالط حشمه ويتقرب إليهم حتى يصور عمراً على جميع هيئاته فلما أتقن ذلك رجع إليها به".

ثم إن قصير قال لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، ولا أنت لذلك مستحق. فقال قصير: "افعل ذاك وخلاك ذم"، فذهبت مثلا. وقالت العرب لما فعل به ذلك: "لأمر ما جدع قصير أنفه" ثم خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك وقد ظن أنه مكر بخاله جذيمة ومكن الزباء منه. وسار إلى الزباء، فلما رأته على تلك الحال سألته فأخبرها، وقال: فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك! فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده من الرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك ما قرب منزلته منها إلى أن وثقت به. فقال لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزها وطرائفها ما ندخر وما نصيب فيه أرباحاً عظيمة. وزين لها الكلام حتى أمال سمعها، فأعطته الأموال، وسرحته لذلك. فسار حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكراً، فدخل على عمرو وأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء. فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء. ولما عرضه عليها ملأ عينها، وأعجبها ما رأت منه، وسرها ما أتاها به، فزادت به ثقة وله محبة. ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، ولم يترك جهداً فيما حمله" ثم عاد الثالثة إلى العراق، وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح. ثم حمل رجلين في غرارتين، وجعل مقعد رؤوس الغرائر من بواطنها، واتفق معهم على ما فعلوه". "ولما شارفوا مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها بكثرة ما حمل إليها في هذه المرة، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطار تلك الإبل وما عليها، وقال لها: فاني قد "جئت بماء صاء وصمت"، فذهبت مثلا. قال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل، وهو أول من فعل ذلك". قال الطبري: "فخرجت الزباء، وأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من الثقل، فقالت: يا قصير،

ما للجمال مشيها وئيدا!

أجندلا يحملن أم حـديدا

أم صرفاناً بارداً شـديدا

أم الرجال فوقها قعودا؟

 

قال البيهقي: والصرفان الرصاص قال: "فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيراً على بواب المدينة، وهو نبطي بيده منخسة، فنخس الغرارة فأصاب [خاصرة الرجل الذي فيها]، فضرط. فقال النبطي: "في الجواليق شر"، فذهبت مثلا. "فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت. ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح. وقال عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء مبادرة النفق لتدخله، فأبصرت عمراً واقفاً، فعرفته بالصورة التي كان مصورها قد أتقنها، فمصت خاتمها وكان فيه سم، وقالت: "بيدي لا بيدك يا عمرو". فذهبت مثلاً. وجللها عمرو بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعاً إلى العراق".
قال البيهقي: وتفرق جند الزباء، وليس بعدها للعمالقة هنالك خبر مذكور.

تاريخ أميم بن لاود بن سام

قال البيهقي: ليس لها من النباهة من العرب البائدة ما لأخوتها، ومع ذلك فإنها مذكورة في أشعار العرب وأخبارها. وكانت قد نزلت أبان من ديار نجد [الذي] سكنته بعد هذا فزاره. ولحقها ما لحق العرب البائدة، وتغلب عليها بنو إسماعيل فأهلكوها. وقيل: إن أميم كان له ولدان: فارس، وهو أبو الفرس نزل بأرضهم المنسوبة إليهم، وتوارث بنوه الملك هنالك، وانفصلوا عن العرب، والولد الآخر وبار، وهي أمة مشهورة، في القدم نزلت رمل عالج ما بين اليمامة والشحر، فطغت وكفرت، فأهلكها الله وخرب بلادها، فسكنتها الجن فلا يألفها بعدها إنسي. وضربت العرب بها الأمثال، وخوفت من سلوك أقطارها.                     

وذكر الطبري أن جذيمة الوضاح ملك العرب بريف العراق من وبار بن أميم. قال: "وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً، وغزا بالجيوش. وكان به برص فكانت العرب تكني عن ذلك فتقول: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش. وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمير وخفية وتجبى إليه الأموال، وتفد عليه الوفود. وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسان بن تبع قد غزاها، فانكفأ راجعا لجذيمة. وأتت سرية لتبع على خيل لجذيمة فاجتاحها، فبلغه خبرهم، فقال شعراً منه البيت المشهور الذي يستشهد به النحاة:

ربما أوفيت في علـم

 

ترفعن ثوبي شمالات

ومنه:

ثم أبنا غانمي نعـم

 

وأناس بعدنا ماتوا"

 

قال الطبري: "في مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر:

أضحى جذيمة في يبرين موطنـه

 

قد حاز ما جمعت في دهرها عاد

 

قال: "وكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين يقال لهما: الضيزنان، ومكانهما بالحيرة معروف، وكان يستسقى بهما، ويستنصر بهما على العدو. وكانت إياد بعين أباغ، وكان يغزوها جذيمة. فأرسلت إياد من سقى سدنة الصنمين خمراً وسرق الصنمين، فأصبحا في إياد. فبعثت إلى جذيمة: إن صنميك أصبحا فنيا زهدا فيك ورغبة فينا، فإن واثقتنا ألا تغزونا رددناهما إليك. قال: ويكون معهما عدي بن نصر اللخمي، فأعطوه ذلك، وعاهدهم، واستخلص عدياً لشرابه" فجرى له الحكاية التي تذكر في تاريخ لخم مع ما يتعلق بها من ملك آل نصر أصحاب الحيرة. وعمرو بن عدي هو الذي ورث ملك خاله جذيمة، واتصل الملك بتلك الجهة في ولده إلى كان منهم النعمان بن منذر. وقد تقدم خبر جذيمة وعمرو مع الزباء.                      


وذكر صاحب الكمائم أن جذيمة من كبره لا يناده أحداً، وكان يشر على الفرقدين، وهما ندماناه اللذان ذكرا في الأشعار.               

       
وقيل: هما مالك وعقيس اللذان جاءا إليه بابن أخته بعدما استهوته الجن، فخيرهما فاختارا منادمته حتى فرق بينهم الموت.

تاريخ جرهم الأولى

ذكر البيهقي أنهم بنو جرهم بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام، وأنهم نزلوا في الحرم قبل جميع من نزله بعد الطوفان، ثم نزلت عليهم العمالقة وأخرجتهم كما تقدم في تاريخ العمالقة. ولم يكن لهم في الأرض أخبار مذكورة، وخمدت آثارهم، وإنما اشتهرت بعدهم بالحرم جرعم الثانية وهي قحطانية، وسيأتي ذكرها.             


ويقال: إن من جرهم الأولى.

الأسعد بن سعد الجرهمي

قال: ويقال إنه من بقايا العمالقة. كان قد أتت عليه الثانية وكان جواداً:

 

أيا لائم الوجناء في جهد سيرهـا

 

وقد قرحت ما بين خف ومنسيم

إلى عبد يا ليل المعظم جـرهـم

 

ثناها الندى فاقعد لذلك أو قـم

مجيب بني الأوجال مما عراهـم

 

ومنتجع الآمال في كل موسـم

 

وأما قطورا فقد ذكر البيهقي أنهم ينتسبون إلى قطورا ابن يقطن، وهم إخوة جرهم الأولى، وكانوا معهم في ملكهم وحروبهم بالحرم. وقد قيل: إن قطورا المشهورين بالحرم من جرهم الثانية.


ووقع في الروض الأنف للسهيلي أنهم ينتسبون إلى قطورا بن كركر بن عمليق، وأنهم ملكوا مكة في وقت وكن ملكهم السميدع. ومن ولده الزباء ملكة العرب بالشام. ولبنى كركر من العمالقة ذكر في الأشعار والأخبار.

مقدمة في العرب الباقية

قبل ذكر القسمين المشتملين عليهما ونسق تاريخهما قد تقدم ذكر العرب البائدة الذين لم يبق لهم نسل مذكور. وكانوا صائبة يعبدون الأصنام، ومنهم من يرتفع عن ذلك إلى عبادة الكواكب.

ونحن الآن ذاكرون أحوال العرب العاربة والمستعربة، وهم القحطانية والعدنانية، ولهم في الإسلام ذكر آخر يتعلق بالتاريخ الإسلامي.                    

من طبقات الأمم لصاعد: "الأمة العربية فرقتان: بائدة وباقية، فأما البائدة فكانت أمما ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة وجرهم، أبادهم الزمان، وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض ملك جليل، وخبر مشهور. لا ينكر لهم ذلك أحد من أهل العلم بالأمم الماضية. ولتقادم انقراضهم ذهبت عنا حقائق أخبارهم. "وأما الفرقة الباقية فهي متفرعة من جذعين: قحطان وعدنان، ويضمها حالان: حال الجاهلية، وحال الإسلام".  فأما حال العرب في الجاهلية فحال مشهورة عند الأمم من العز والمنعة. وكان ملكهم في قحطان، ومنهم التبابعة الذين ضعضعوا الممالك، وتركوا الآثار العظيمة، والأخبار [الشريفة] في أقطار الأرض. قال: "إلا أنهم لم يكن لهم اعتناء بشيء من أمور الفلسفة، ولا أرصاد الكواكب كما كان لغيرهم".                           

"وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك منهم فكانوا طبقتين: أهل مدر، وأهل وبر. فأهل الدر هم أهل الحواضر وسكان القرى، وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة، وغير ذلك من ضروب الاكتساب. ولم يكن منهم عالم مذكور، ولا حكيم معروف".

"وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري وعمار الفلوات، وكانوا يعيشون على ألبان الإبل ولحومها. وكانوا زمان النجعة ووقت التبدي يراعون جهات إيماض البروق ومنشأ السحاب، فيؤمونها منتجعين لمنابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يقوضون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال كما قال المثقب العبدي عن ناقته:

تقول إذا درأت لها وضيني:

 

أهذا دأبـه أبـداً ودينـي

أكل الدهر حل وارتحـال

 

أما تبقي علي ولا تقيني؟

 

فكان ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع والخريف، فإذا جاء الشتاء واقشعرت الأرض انكمشوا إلى أرياف العراق وأطراف الشام، وركنوا إلى القرب من الحواضر والقرى، فشتوا هنالك مقاسين لكبد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش. وهم خلال ذلك يتواسون بقوتهم، ويتشاركون في بلغتهم، ولا ينامون عن إباء الضيم، ونصرة الجار، والذي عن الحريم".                        

  
"وكانت أديانهم مع ذلك مختلفة: فكانت حمير تعبد الشمس إلى أن تغلب سليمان على بلقيس، فتهود أهل اليمن. وكانت كنانة تعبد القمر، ولخم وجذام المشتري، وطيء سهيلا، وقيس الشعري العبور، وأسد عطارداً. وكانت ثقيف وإياد تعبد بيتا بأعلى نخلة يقال له: اللات. ثم عبدت إياد وبكر بن وائل كعبة سنداد وكان لحنيفة صنم من حسيس - وذلك أخلاط من تمر وأقط وسمن - فلحقتهم المجاعة فأكلوه، فقال في ذلك أحد الشعراء:

 

أكلت حـنـيفة ربـهـا

 

عام التقحم والمجـاعة

لم يحذروا مـن ربـهـم

 

سوء العواقب والشناعة"

 

"وقال ابن قتيبة: كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهودية في حمير وكنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة بن عدس وابنه حاجب والأقرع بن حابس، وكانت الزندقة في قريش وأخذوها من أهل الحيرة"."وكانت عبادة الأوثان فاشية في العرب حتى جاء الإسلام".                 

  
ومن الملل والنحل للشهرستاني: "العرب أصناف شتى منهم معطلة ومنهم محصلة. فالمعطلة الذين أشار إليهم تعالى بقوله: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين"، وقوله: "وما يهلكنا إلا الدهر". وصنف آخر أقر بالخلق وأنكر البعث، وهم المذكورون في قوله تعالي: "وضرب لهم مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم". وصنف آخر أقروا بالخالق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنها شفعاؤهم عند الله في الآخرة، وحجوا إليها، ونحروا وقربوا القرابين؛ وهم الدهماء من العرب. وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق".              


قال: "وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداها إنكار البعث بعث الأجساد، والثانية جحد بعث الرسل. وقالوا في أشعارهم:

حياة ثم بعـث ثـم مـوت

 

حديث خرافة يا أم عمرو

 

وقالوا في مرثية أهل بدر:

يخبرنا الرسول بأن سنحـيا

 

وكيف حياة أصداء وهام؟

"ومن العرب من يعتقد التناسخ، فيقول: إذا مات الإنسان أن قتل اجتمع دم الدماغ أو جزء منه، فاجتمع طيراً هامة تندبه على قبره. وقال الله تعالى لمن كان منهم يعترف بالملائكة ويجحد الرسل من البشر: "وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا".

وفرقة قالت: "الشفيع والوسيلة منا إلى الله الأصنام، فعبدت وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسرا".

قال: "كان ود لكلب وهذيل بدومة الجندل. وسواع لهذيل، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان. وأما اللات فكان لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وجميع كنانة وقوم من بني سليم، ومناة للأوس والخزرج وغسان. وهبل أعظم أصنامها عندها، وكان على ظهر الكعبة. وإساف ونائلة على الصفا والمروة وضعهما عمرو بن لحي، وقيل: إنهما رجلان فجرا في الكعبة فمسخا حجرين". قال: "وكانت العرب إذا لبت وهللت قالت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك "هو لك، تملكه وما ملك". 

قال: "ومن العرب من مال إلى النصرانية واليهودية، ومنهم من مال إلى الصابئة واعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوء كذا". قال: "ومنهم من يصبو إلى الملائكة فيعبدهم، ويعتقدون أنهم بنات الله.

قال: "والمحصلة من العرب أثبتت المبدأ والمعاد، ومنهم عبد المطلب، وهو القائل:

يا رب أنت الملك المحمود

 

وأنت ربي المبدئ المعيد

 

واستسقى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو رضيع فسقي، ولذلك قال عنه أبو طالب في مدحه:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

 

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال: "ومنهم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتظر النور النبوي. وكانت لهم شرائع منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصل، وقس بن ساعدة، وعامر بن الظرب العدواني وحرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وممن حرمها في الجاهلية قسيس بن عاصم، وصفوان بن أمية الكناني".

قال: "ومن الموحدين المقرين بالبعث زهير بن أبي سلمى الشاعر". قال: "وكان دين الجاهلية في النساء على أقسام: امرأة تخطب فتتزوج، وامرأة يكون لها خليل فيختلف إليها، فإن ولدت قيل: هو لفلان فيتزوج بها بعد هذا، وامرأة ذات راية يختلف إليها النفر، وكلهم يواقعونها في طهر واحد. وإذا ولدت ألزمت الولد أحدهم". قال: "وكانوا يحجون ويطوفون سبعاً، ويهدون، ويرمون الجمار، ويمسحون الحجر، ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها إلا وطيء وخثعم وبعض بني الحارث بن كعب، فإنهم لم يكونوا يحجون ولا يحرمون الأشهر الحرم". وكانوا يكفنون موتاهم، ويصلون عليهم. "وكانت صلاتهم، إذ مات الرجل غسل وحمل على سريره، أن يقوم وليه فيثنى عليه ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله". "وكانوا يداومون على طهارة الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام". وقد ذكرت [ذلك] في تاريخ العبرانيين. "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانوا يؤمنون بالعقود، ويكرمون الجار والضيف".                         

 
قال الشهرستاني: "وعلوم العرب في الجاهلية ثلاثة: الأول، علم الأنساب والتواريخ والأديان".

"والثاني: علم الرؤيا، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعبرها في الجاهلية".

"والثالث: علم الأنواء، وقد جاء في الحديث: "أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن، فمن قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بن مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب".

قال صاعد: "وأما علم العرب الذي كانت تتفاخر به فعلم لسانها، ونظم الأشعار، وتأليف الخطب".

"قال أبو محمد الهمداني: وليس يوصل إلى خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب"، إذ كانوا أعنى الناس بأخبارهم، وإذا سافروا في التجارات إلى بلاد العجم استعادوا أخبارهم، ونقلها أصحاب السير عنهم.

قال صاحب الطبقات: "والعرب أهل حفظ ورواية، لخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم لأنهم تحت نطاق فك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء".

"وكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوا بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم لمعرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طول تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلوم". "وأما جزيرة العرب فإن بحر الهند الكبير يصادرها من جنوبها، ويعانقها من غربها بخليج جدة الواصل إلى القلزم، ومن شرقها بخليج فارس الواصل إلى البصرة، ولا تبقى لها طريق متصل إلى البر إلا ما هو من جهة الشمال حيث بلاد الشام".

قال البيهقي: ودون هذه الجزيرة العربية على السواحل والحد المتصل بالبر خمسة آلاف وأربعمائة ميل، فلا يستوفي الراكب ذرع نطاقها إلا في مقدار نصف سنة؛ وفي نحو ذلك يقطع النصف من المعمور من الأرض. فاعلم مقدار ما أخذته هذه الجزيرة العربية من مساحة الأرض، وما حازته هذه الأمة منها. ثم إنها لم تقتنع بها في الجاهلية بل خرجت منها إلى العراق والجزيرة والشام، وكان لها بها ديار معلومة. وأما في الإسلام فلم تكد أمة تسلم من الاستيلاء على أرضها إن شاركتها فيها.

وللناس كلام كثير في تفضيل العرب، وكلام أيضاً في تفضيل العجم عليهم. ويعرف الذين يفضلون العجم بالشعوبية. وما تقف عليه من أخبارهم وآثارهم وكلامهم في جاهليتهم وإسلامهم يغنيك عن الإطناب.

وأكثر ما تعيبهم به الشعوبية قلة اهتمامهم بالمباني والمعاقل، وأن معظمهم أهل خيام وإبل مجبولين على الغارات وسفك الدماء وطلب الثأر. والسهم المصيب في جواب من استهدف للغض منهم بالاهمال في البوادي أنهم جبلوا على إطعام الطعام، وإعداد القرى لمن يجتاز بهم من المرتادين والسالكين من أخلاط الفرق الذين يشيعون بالذكر بذلك في كل مكان يحلونه ويمرون به. وذلك لا يتمكن في الحاضرة كما يتمكن في البادية. وقد ملأوا أشعارهم برفع النيران للضيفان، واستدلالهم بنباح الكلاب، وما أشبه ذلك من خواص البادية. ويكفي من التمثل في ذلك قول إمامهم في هذا الشأن:

الليل فيه ظلمة وقر

فشعشع النيران يا شمر

عل يرى نارك من يمر

إن جلبت ضيفاً فأنت حر

 

وأيضاً فإن سكان البادية عذرهم أبسط في تقديم ما يتيسر للضيف كألبان الغنم، وصيد الغلاة، وغير ذلك لا يلزمهم التقيد بالتجمل الذي يلزم أهل الحاضرة، ويؤدي إلى الامتناع من إظهار القليل إذا أعوز الكثير.


قال البيهقي: وديار العرب جمهورها كما قال شاعرهم:

 

بأودية أسافلـهـن روض

 

وأعلاها إذا خفنا حصون

 

وأخبرني النجم الريحاني، وزير أبي عزيز صاحب مكة، أنه أشير على أبي عزيز أن يشيد له قصراً تظهر عليه أبهة الملك، ويكون منه اعتناء في تشييد سوق مكة، فقال: نحن أمة أسوارنا سيوفنا، ومعاقلنا خيولنا، وقد قال شاعرنا:

 

ونحن أناس لا حصون بأرضنا

 

نلوذ بها إلا السيوف القواضب

 

ثم أطرق ساعة وقال:

إذا افتخر الأعاجم بابتناء

 

تميل به إذا بلي الدعائم

فان بناءنـا أبـداً جـديد

 

دعامه مشيدات المكارم

 

ويحكي أن أنوشروان ملك الفرس عاب على بعض العرب تجولهم في أقطار الأرض، وقلة سكناهم في المباني، فقال: ذلك لأنا ملكنا الأرض ولم تملكنا. وهذه من البلاغة العجيبة.