دولة التبابعة
وهم اليمانية الخالصة من بني يعرب
ذكر البيهقي: أن يعرب لما قسم الممالك بين إخوته أعطى المملكة العظمى وهي اليمن لابنه يمن، وهو يشجب ابن يعرب. قال: ويمن اسمه، وإنما لقب يشجب لسقم طال به. قال: واختص اليمن بسرير السلطنة؛ لأنه أعظم بلاد جزيرة العرب به الأنهار والمعادن وخيرات البر والبحر والجبال لتي تبنى فيها المعاقل، وصار من يملك اليمن له عمود الملك، وهو تبع الذي تتبعه الممالك والملوك.
قال: وقد قيل: إن يعرب سمى ابنه يمن بتبع لهذه العلة، وبقيت تلك سمة لكل ملك منهم تكون له المملكة الكبرى. وقد قيل: إن سمة تبع كانت لمن يملك اليمن وتتبعه حضرموت، وهذا هذيان، إنما وضعت لمن يملك اليمن وتتبعه ممالك أرض العرب.
قال: وكان لهم الأقيال، وهم مثل المرازبة عند الفرس، يولونهم على الولايات العظيمة، ولا يكلم الملك غيرهم.
وقد قيل: إن الأذواء فوقهم، وإن الملوك الذين كانوا يلون الجهات، فتنسب إليهم، فيقال: ذو رعين، وذو أصبح. والأقيال بعدهم، وهم بمنزلة الأمراء والقواد. ولهم أوضاع مستحسنة في ترتيب مراتبهم. "ومن كتاب الأكليل لأبي محمد الهمداني المؤلف في أخبار حمير أن ملوكها لم يكونوا يستعملون من قوادهم، ولا يصرفون من كفاتهم إلا من عرفوا مولده، ووجدوا أدلته من البروج والكواكب موافقة لأدلتهم ومشاكلة لها. وأنهم كانوا إذا أرادوا غزو أمة من الأمم تخيروا لذلك الأوقات السعيدة، والطوالع المشاكلة لمواليدهم، والملائمة لنصب دولتهم، ومكثوا في ارتيادها الأزمان الطويلة حتى تمكنهم على اختيارهم فكانوا يبلغون بها حيث شاءوا من المراتب العلية والمنازل الرفيعة من الظفر بالأعداء وبعد الصيت في البلاد. وأما ما توصف به بلادهم فأخبرني كمال الدين بن فارس - وكان في خدمة الملك المسعود بن أيوب: أن اليمن تشتمل على ثلاثة آلاف حصن، وأن أوديتها تحدق بها جبال معظمها لا يدخل إليه إلا من جهة واحدة، وعلى فمه حصنان من الجانبين يمنع الداخل إليه. والسكر فيها كثير، وأنواع الفواكه والخيرات.
يمن بن يعرب
ذكر البيهقي أنه أول ملوك اليمانية التبابعة، وقد قيل: إن أول المتوجة، وأن يعرب وقحطان لم يتتوجا.
ولما ولي بعد أبيه أطاعه أعمامه وأهل بلاده، ثم إنه لزمه سقم طويل عرف من أجله بيشجب. ولما كثر احتجاجه صارت أعمامه مستقلة بما في أيديها، واضطربت المملكة، فلم يطل عمره، ومات والبلاد مضطربة.
عبد شمس بن يشجب
ذكر صاحب التيجان: "انه ولي الملك بعد أبيه، وكان أمر بني قحطان قد خرج، فقام فيهم، وتكلم بخطبة بليغة، قال فيها: يا بني قحطان إنكم إن لم تقاتلوا الناس قاتلوكم، وإن لم تغزوهم غزوكم، ولم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا".
"ثم نهض إلى أرض بابل حتى بلغ أرمينية، وبنى قنطرة سنجة على نهر الساجور الخارج في أرض الشام من الفرات، وهي من آثار الدنيا العجيبة، وجاز عليها إلى ما أراده من بلاد الشام. وسار إلى مصر، وبنى بها مدينة عين شمس الجليلة الآثار".
"وكان يعبد الشمس، ودان بذلك بنوه من بعده، فكان يبني الهياكل لها حيث اختار. وولي على مصر ابنه بابليون، وبه سميت أرض مصر: بابليون، وإلى اليوم تعرفها الروم بذلك".
قال ابن هشام: "ولما بنى مدينة عين شمس قال لابنه: إني بنيتها لتكون صلة بين المشرق والمغرب. وأوصى ابنه وخاطبه بهذا الشعر:
ألا قل لبابليون والعـقـل حـكـمة |
|
ملكت زمام الشرق والغرب فاعدل |
وخذ لبني حام من الأمـر وسـطـه |
|
وإن صدفوا يوماً عن الحق أقبـل |
ولا تأخذن المال من غير وجـهـه |
|
فانك إن تأخذه بالرفـق يسـهـل |
قال: "ورجع إلى اليمن وقد سبى خلقا كثيراً فسمى: سبأ، وبني السد الذي ذكره الله في كتابه، وفجر إليه سبعين نهراً، وساق إليه السيول من أمد بعيد".
"ولما بلغ خمسمائة عام أشرف على الموت، وكان له من الولد عدد عظيم غير أن الملك صار لحمير".
ومن واجب الأدب أن آباءه كانوا قد حلوا العالية وبنوا هنالك، فارتاد سبأ موضع مدينة مأرب، وبناها ونزل بها، وعرفت بمدينة سبأ.
قال السهيلي في الروض الأنف: "ويقال: إن مأرب كان لقبا للملك الذي يلي اليمن، أن تبعا للملك الذي يلي اليمن وتتبعه حضرموت والشحر".
قال ابن قتيبة: "وإنما لقب سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان".
قال البيهقي: وقد قيل: إن مأرب قصر الملك، والملك والمدينة سميا باسم الملك. وكان لسبأ عدد كثير من الولد والعقب؛ والذكر والملك لولدين: حمير وكهلان ابني سبأ.
حمير بن سبأ
ذكر صاحب التيجان أنه لم يكن لسبأ على كثره ولده من يستقبل بملكه إلا حمير، ثم نسق التبابعة والمتوجين من بنيه.
قال البيهقي: ملك بعد أبيه، ونزل مدينة مأرب، واحتذى حذو أبيه في تدويخ الأرض، وأخذ الملك بالغلبة.
قال صاحب التيجان: "ورثى حمير أباه بهذا الشعر، وهو أول رثاء قيل في الدنيا من شعر العرب:
عجبت ليومك ماذا فـعـل |
|
وسلطان ذكرك كيف انتقل |
جريت مع الدهر إطلاقـه |
|
ونلت من الملك ما لم ينل |
وحملك العزم ثقل الأمـور |
|
فقام بها ناهضاً واستقـل |
قال: "وغزا شرقاً وغرباً، وأخرج ثمود من أرض اليمن إلى آخر الحجاز".
قال: "وحمير أول من كتب بالقلم المسند، وتسمى بذلك لأنه مسند عن جبريل. وبلغ عامة الأرض، وبلغ عمره أربعمائة عام وخمسة وأربعين عاماً. ولما احتضر قال شعراً منه:
غدر الزمان بعهد ملكك فانقضى |
|
وبعبد شمس قبل ذاك وسـام" |
واثل بن حمير
ذكر صاحب التيجان: "أنه ملك بعد أبيه، وكان أول من نزل قصر غمدان بظاهر صنعاء وبناه، ثم نزلته الملوك بعده". وقد قيل: إن الدهاء بني غمدان هيكلا على اسم الزهرة، وخربه في الإسلام عثمان بن عفان.
قال البيهقي: وبنى مدينة صنعاء للصناع فسميت بصنعاء، وعليها كلام كثير: فقد قيل: إن أول من بناها عاد ابن عوص من المبلبلة، وإنها أول حائط صنع باليمن.
وذكر الهروي في المزارات: "أن بصنعاء مسجد سام بن نوح".
قال ابن هشام: "وكان لواثل بن حمير حزم ومحاربات مع أخيه مالك بن حمير الظاهر عليه في عمان. ثم مات مالك، وولي بعده ابنه مصاعد بن مالك، وحاربه واثل إلى أن مات واثل بحسرة محاربته.
قال البيهقي: ذكر أصحاب السير اليمانية أن واثلا لما مات أخوه مالك قال: قد دفع الله عنا من كان يشاركنا في مرتبتنا فلا نقدر أن ندفعه، وليس يقوم بعده من نبالي به. وقال في ذلك شعراً على جهة الشماتة منه:
تولى مالك فالأرض أرضـي |
|
وما لي في المعالي من مسام |
وقد كنـا بـمـنـزلة سـواء |
|
ورثنا المجد عن أبنـاء سـام |
فمن يطلب سواه مقـام عـز |
|
تزل خطاه عن ذاك المقـام |
ثم إن قضاعة نهض بما كان ينهض به أبوه، وحارب واثلا عمه، وظهر له منه ما لم يكن يقدره، فيقال: إنه مات أسفاً من ذلك.
السكسك بن واثل
ولي بعد أبيه وتتوج. قال ابن هشام: "وكان حازماً، وسمي: مقعقع العمد؛ لأنه كان إذا غلب على من ناوأه هدم بناءه، وغير آثاره. وأول ما ولي زاحف قضاعة الخارج على أبيه بعمان، فغلب على قضاعة، وأخرجه من اليمن". فلذلك سكن بنوه في أطراف الحجاز، وعدهم بعض النسابين من المعدية.
قال: "ولما اجتمع له ملك، وعلا أمره، خرج من جزيرة العرب، وغلب على الشام. ولقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن سبأ صاحب مصر بالهدايا، ومت إليه بالقرابة، فتركه واليا عليها وعلى غيرها من بلاد الغرب. وأقر له بالطاعة بنو عبد ياليل الجرهميون ملوك الحرم، وكذلك طسم ملوك اليمامة. وعاد إلى قتال بابل، فمات في طريقه، فافترق ملك اليمن على ملوك شتى".
يعفر بن السكسك
ولي التبعية بعد أبيه، وتتوج وكان حديث السن، واشتغل بمزاحفة الخوارج عليه. ولم يطل عمره، ولا قرت بالملك عينه، ومرج أبو حمير بعد موته، وطالت كل يد إلى الملك.
ذو رياش
عامر بن باران بن عوف بن حمير
ذكر صاحب التيجان: "أنه كان بالبحرين من ملوك الأطراف، فزحف إلى غمدان مقر السلطنة، واستولى عليه ونزله، ولم يكن ينزله إلا من استحق اسم تبع. ومكن له الملك بأن يعفر لما مات لم يترك ولداً ظاهراً فيستحق الملك، بل ترك النعمان بن يعفر في بطن أمه، ووضع التاج على بطنها. وترقب الناس ذلك المولود، فغصب ذو رياش التبعية، وأخرج الملك عن بني واثل بعدما تأثل فيهم. وحمل النعمان لما ولد في يد ذي رياش، فحبسه في قصر غمدان. واشتغل ذو رياش بمحاربة ملوك الطوائف باليمن على التبعية، فمنهم من انقاد له، ومنهم من اشتغل بحربة. فبينا هو في محاربة مالك بن إلحاب بن قضاعة، ملك عمان، إذ وصله الخبر بأن النعمان بن يعفر قد استمال الحرس فنقبوا السجن وخرجوا به، وجمع بني حمير ودعاهم إلى نصرته على طلب ملك أبيه، فقاموا معه، واستوسق له الملك.
النعمان بن يعفر
ابن السكسك بن واثل بن حمير. كان يقول الأشعار في حبسه، ويتعلل باليمن إلى أن تخلص على ما تقدم.
ولما سمع بقيام ذو رياش سقط في يده، وندم على تركه في الحياة، وجد في قتال مالك بن إلحاف حتى هزمه وطرده من عمان. ثم أقبل إلى غمدان، فاستقبله النعمان بن يعفر بالمشلل وأمره في جدته وإقباله، فهزمه النعمان، وأخذه أسيراً، وحبسه في الموضع الذي كان قد حبسه فيه، وقال: حبس بحبس والبادئ أظلم، وقال شعراً منه:
إذا أنت عافرت الأمور بقـدرة |
|
بلغت معالي الأقدمين المقاول |
فلقب بالمعافر.
"وسار إلى بابل فغلب عليها، ثم سار إلى خرسان، ودوخ البلاد وقتل الملوك وتغلب، ثم نزل مكة فتلقاه بقيلة بن مضاض الجرهمي من بيت الله المتوارث فأقره، ثم رجع إلى غمدان".
"وكان ذو رياش قد خرجت عليه حية في الحبس فمارسها، فلدغته فمات".
"ثم مات المعافر بقصر غمدان، وقال لقومه: إذا مت فلا تضجعوني فيتضجع ملككم، ولكن اقبروني قائماً، فلا يزال ملككم قائماً مادمت كذلك".
قال صاحب التيجان: "ووجد في مدة سليمان بن عبد الملك في مغارة باليمن وهو قائم، ولديه مال جسيم من الجوهر والذهب والسلاح، وعلى رأسه سارية فيها مكتوب بالحميرية: أنا المعافر بن يعفر، عشت ثلاثمائة عام، وملكت البلاد، فلم يغن ذلك عني شيئاً".
قال البيهقي: وللمعافر أشعار كثيرة قالها في حبسه، منها:
إذا أبصرت نجمي في السماء |
|
رجعت إلى الأماني والرجاء |
لعل الله يأتـينـي بـمـلـك |
|
يسرحني إلى رحب الفضاء |
فأقتنص المعالي مـن أنـاس |
|
أقاموا والبهائم بـالـسـواء |
وأبني كل ما قـد هـدمـوه |
|
وأنهض عازماً تحت اللواء |
أسمح بن المعافر
ولي بعد أبيه فلم تكن له نجدة، وكان يقال له: لواء الرمل؛ لأنه لم يقم منه مقام ما، فتفرقت كلمة بني قحطان على ملوك لم ينته إلى عددهم. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: والذي نفسي بيده، ما حمير في الدنيا إلا كالأنف بين العينين؛ لقد ملكت على الدنيا منهم عشرون ملكاً، وكان منهم سبعون ملكاً غير الأقيال والأذواء والمقاول والعباهلة والمباهلة.
شداد بن عاد
ابن الملطاط بن عبد شمس بن واثل بن حمير. ذكر صاحب التيجان: "أن الملك استقام في بني قحطان، واجتمع بعد أسمح لشداد بن عاد هذا، ولقي الأمر بالحزم، وداس الأرض إلى أن بلغ أقصى المغرب وأهلك ملوكه. ثم سار إلى التبت، وبنى المدائن والمصانع، وأبقى الآثار العظيمة. وأقام بالمغرب مائتي عام، ثم رجع إلى الشرق. وأنف أن يدخل غمدان، فمضى إلى مأرب، وبنى القصر العتيق الذي قيل: إنه إرم ذات العماد، وجمع من أقطار الأرض جميع جوهر الدنيا وذخائرها ومعادنا وجعل ذلك فيها، ورصعها بطرائفه، وجعل أرضها زجاجاً أبيض وأحمر وغير ذلك من الألوان البديعة، وجعل أسرابا أفاض إليها الماء من السد الذي صنعه، فكان قصراً لم ير في الدنيا مثله".
ولما مات فتحت له مغارة في جبل شمام باليمن ودفن فيها، وجعل هنالك جميع ذخائره.
وفي شأن هذه المغارة خبر طويل مختصره: أنه كان باليمن في الجاهلية رجل من عاد بن قحطان، يقال له: الهميسع، وكان صعلوكاً فاتكأ، فاهتدى إلى هذه المغارة مع رفيقين له، فرأوا وحشة عظيمة، ونظروا مكتوباً على باب الكهف الأول بالحميرية:
لا يدخل الكهف إلا ذو مخاطـرة |
|
أو جاهل بدخول الكهف مغرور |
إن الذي عنده الآجال حاضرة |
|
موكل بالذي يغشاه مأمور |
قال: ففر أحدهم جزءاً، ثم دخل الاثنان، فآل الأمر بهما إلى أن نظرا إلى حيات تصفر، وباب أعظم من الباب الأول وخلفه دوي عظيم وحنش هائل، وعلى ذلك الباب بالحميرية:
انظر لرجلك لا تزل فإنـمـا |
|
حتم الحمام إلى الغرير يساق |
يا ساكني جبلي شمام لعـلـه |
|
يوفي بما عاهدتم المـيثـاق |
قوموا إلى الإنسي قومة ثـائر |
|
فلعله قد حان منـه فـراق |
فولى الآخر هارباً، وتجاسر [الهميسع] حتى دخل الباب الثالث، فبرز تنني عظيم أحمر العينين فاتح فاه، فولى الهميسع هارباً فسكن حس التنين، فعلم أنه طلسم إذ لو كان حيواناً لتبعه، فرجع إليه، وصبر قلبه عليه، فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان لا قيمة لهما. ودخل البيت فإذا في وسطه سرير من ذهب، وعليه شيخ على رأسه تاج من ذهب معلق بسقف البيت مرصع بأصناف اليواقيت، وعلى رأسه لوح من ذهب فيه مكتوب: أنا شداد بن عاد، عشت خمسمائة عام، وافتضضت ألف بكر، وقتلت ألف مبارز، وركبت ألف جواد، [وهأنذا] حيث أنا. وتحت مكتوب:
يا ويح شداد بن عاد أصبحـت |
|
آماله مـهـزومة الأقـدام |
يامن رآني إنني لك عـبـرة |
|
من بعد ملك الدهر والأعوام |
فكأنني ضيف ترحل مسرعـاً |
|
وكأنني حلم مـن الأحـلام |
ثم وجد لوحاً آخر فيه مكتوب: أنا حبة، وهذه أختي لبة بنتا شداد بن عاد، أتت علينا أزمات طلبنا فيها صاعاً من بر بصاع من در فلم نجده.
فأخذ الهميسع ما وجده، وفاز به.
أخوه لقمان بن عاد
من التيجان: "ولي بعد أخيه، وهو تبع متوج، وأعطاه الله قوة مائة رجل، وبصر مائة رجل، وكان طوالا لا يقاربه أحد من أهل زمانه".
ويقال: "إنه كان نبياً غير مرسل. قال وهب بن منبه: "لقيت عامة من العلماء يقولون إن ذا القرنين ولقمان ودانيال أنبياء غير مرسلين، وعامة يقولون: عباد صالحون".
قال وهب: وتسمية حمير الرائش؛ لأنه راشهم وأحسن إليهم، وكان متواضعاً لله، ولم يتتوج على عادة من كان قبله من الملوك. وكان يدعو قبل كل صلاة وفي عقبها، فيقول:
اللهم يا رب البحار الخضر |
والأرض ذات النبت بعد القطر |
سألك عمراً فوق كل عمر |
فنودي: قد أجيبت دعوتك، وأعطيت سؤلك ولكن لا سبيل إلى الخلد. وخير في أشياء فاختار بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر أعقب من بعده نسر. فيذكر أنه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة، وكان يأخذ الفرخ من النسور من وكره، فيربيه، وهو يطير مع النسور ويرجع إليه".
وفي أثناء ذلك دانت له الأرض، وعز ملكه. ثم إن بني كركر بن عاد بن قحطان عتوا في أطراف اليمن وكفروا، فحاربتهم القبائل وأجلتهم، فسار بهم رئيسهم السميدع إلى لقمان برجز أوله:
سيروا بني كركر في البلاد |
|
لنهتدي فالخير في الرشاد |
ثم وصلوا إلى لقمان وآمنوا على يده، وأقاموا في جواره إلى أن عشق السميدع سيدهم سوداء بنت مامة زوج لقمان، وشاور خواصه في أمرها، فعزموا على أن يجمعوا بينها وبينه، فقال عمرو الكركري أحد شعرائهم شعراً منه:
أفي كل عام سبة تحد ثونـهـا |
|
ورأي على غير الطريقة يعبر |
فضربه السميدع، ففر منه هارباً.
وجاءوا إلى لقمان وقالوا له: إننا نتوقع الحرب فيما بيننا، وقد أردنا أن نخبئ سلاحنا عندك في كهفك - وكان يتعبد فيه هو وزوجته. قالوا: فإن نحن سارعنا إلى الحرب لم يكن لنا سلاح حاضر. فأنعم لهم بذلك، فجاءوا بسلاحهم وفي طيها السميدع، فجعل في الكهف.
فلما خرج لقمان خرج إليها، فقالت له سوداء: من أنت؟ فأخبرها بشأنه، فأمكنته من نفسها، ثم أطعمته وسقته وردته إلى مكانه.
ولم يزل على ذلك إلى أن كان في بعض الأيام، فرقد على سرير لقمان، ثم تنخم نخامة، فألقاها في سقف البيت، فالتصقت هنالك. ثم إن لقمان أتى وألقى نفسه على سريره، ورفع بصره ونظر إلى النخامة، فقال للمرأة: من بصق هذه البصقة؟ قالت: أنا! قال: فابصقي، فبصقت فلم تدرك السقف. فقال: من السلاح أتيت! ثم بادر إليه فأخرجه.
(قال البيهقي: فقالت له: لا تقتله فإنه أخي، فقال: "رب أخ لك لم تلده أمه"، فسارت مثلا).
وأخرجهما وقرنهما، ورمى بهما من أعل الجبل، ثم أمر الناس أن يرجموهما بالحجارة، فكان أول من رجم في الزناء وأخرج بني كركر من جواره.
قال: ويقال: أن النسر الآخر من السبعة الأنسر التي سأل أن يعيش على قدر عمرها عاش ألف سنة، واسمه لبد، فعندما مات مات لقمان.
وقالت العرب: "أختي أبد على لبد". وضربت العرب بذلك الأمثال في أشعارها. ولعظم موقع لقمان بن عاد في النفوس قال الشاعر:
تراه يطوف الآفاق حرصاً |
|
ليأكل رأس لقمان بن عاد |
وكان مسكنه بمأرب، "ودفن بالأحقاب بجوار قبر هود عليه السلام".
ذو شدد بن عاد
ذكر صاحب التيجان أنه ولي التبعية بعد أخيه لقمان، وتتوج، وأخذ الملك أخذاً شديداً، واستمرت سيرته على الشدة والقهر إلى أن مات.
ابنه الرائش الحارث بن ذي شدد
يقال له: الرائش الأصغر، ويعرف أيضاً بذي مراثد. وهنا اختلاف كثير بين المصنفين. ومن الرائش الحارث ابتدأ ابن قتيبة في المعارف بعد حمير بن سبأ، وكلك الأصفهاني في طبقات تواريخ الأمم.
وقال ابن قتيبة: "إن الملك لم يزل في ولد حمير بعده، لكن ملكهم لا يعدو اليمن، ولا يغزو أحد منهم حتى مضت قرون، وصار الملك إلى الرائش الحارث، فكان أول من غزا منهم وأصاب الغنائم، وأدخلها اليمن، فسمي: الرائش، لأنه راش الناس بتلك النعم.
وقال الأصفهاني: "هو تبع الأول، وكان الملك قبله مقسماً بين صاحب سبأ وصاحب حضرموت وغيرهما، فاجتمع له ذلك، وتبعه الجميع، فقيل له: تبع". وذكر انه كان بينه وبين حمير خمسة عشر أباً، وذكر نسبه على هذه الصورة: الحارث [بن قيس] بن صيفي بن سبأ الأصغر.
والاعتماد على ما ذكره ابن هشام في التيجان عن علماء اليمن، وهو عمود الترتيب الذي بنينا عليه.
وكان لقب الملك قبله من ملوك اليمن: مأرب، باسم المدينة التي كانوا ينزلونها، إلى أن تبع أهل اليمن وحضرموت الرائش الحارث، فعرف بتبع، فجرى عليهم هذا الاسم.
قال صاحب التيجان: "كان قد غزا الهند قبل الرائش من ملوكهم أربعة: سبأ، وحمير، وواثل، والسكسك. وأبقوا عليهم خراجاً يحملونه إلى اليمن. فلما ولي الرائش، وجاءته هدايا الهند، رأى فيها من العجائب واللطائف ما حمله على غزو الهند، فوصل إليها، وبنى فيها مدينة سماها: الرائش". قال: "وهي مدينة الهند العظمى التي تسميها الهند: الرائد، وبها ملكهم إلى اليوم".
"وأوقع بالسند، ودوخ أذربيجان وأرمينية، وقابلته ملوك الأرض بما يقابل به الملوك العظماء، وكتب على صخور في الأقطار ما سنح لخاطره، فكان من ذلك:
يا جازعاً أرض خراسان |
|
ملججاً في أرض تركان |
ومنه: إن الرائش ذا مراثد، سيد الأوابد، بلغ من الدنيا أمله، وبقي ينتظر أجله.
ثم نزل غمدان، ومات عن مائة عام وخمسة وأربعين عاماً".
ابنه ذو القرنين الصعب بن الرائش
حكى صاحب التيجان عن وهب بن منبه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثوا عن حمير فإن في أحاديثها عجائب، ومن أعجبها حديث ذي القرنين.
وقد اختلف فيه اختلافاً كثيراً: فقيل: كان نبياً، وقيل كان ملكاً إلا أنه كان صالحاً مصدعا له بلطف الله، وقيل: كان من العرب، وقيل: كان من العجم. ثم اختلف في أي العجم كان، فتجاذبته الأمم لعلو ذكره كل أمة تدعي أنه منها.
والاعتماد في شأنه على ما ذكره صاحب التيجان، قال: "سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذي القرنين من هو؟ فقال: من حمير، وهو الصعب بن ذي مراثد الذي مكنه الله في الأرض، وأتاه من كل شيء سببا، فبلغ قرني الشمس، وداس الأرض، وبني السد على يأجوج ومأجوج. قيل له: فالإسكندر؟ قال: كان رجلاً رومياً صالحاً حكيماً بنى على البحر مناراً، ودوخ المغرب، وبنى فيه المدن والمصانع". وقد فخرت التبابعة بأن جدهما ذو القرنين، وذكرت ذلك في أشعارها.
قال: وكان ذو القرنين قد رأى في منامه ما أوجب موعظته ورجوعه عما كان عليه من التجبر الذي لم يسبقه إليه أحد من الملوك، فتواضع لله، وعدل ورجع عما كان عليه.
ثم رأى في منامه أنه أخذ الشمس بيمينه، والقمر بشماله، والدراري تتبعه. ثم رأى أنه يأكل الأرضين وقد اشتد عطشه، فشرب البحار بحراً بحراً حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على البحر المحيط فشربه، فلما أمعن فيه بلغ إلى طين وحمأة سوداء، فلم يسغ له فتركه.
ثم أفاق، ثم رأى أن جميع الحيوان قد حشرت له، فذكر ذلك لأصحابه، فقال له شيخ منهم: لا يفسر لك ما رأيت إلا نبي من ولد إسحق بن إبراهيم بالبيت المقدس. فسار ذو القرنين بجنوده إليه بعدما أمر بعمود من رخام عند مدينة مأرب، فنقش فيه.
إذا كـان الإمـام يحـيف جــوراً |
|
وقاضي الأرض يدهن في القضاء |
فويل ثـــم ويل ثـــــم ويل |
|
لقاضي الأرض من قاضي السماء |
ثم دخل بجنوده إلى الحرم، فمشى فيه حافياً".
ثم ذكر الجوزي وغيره من المؤرخين أنه اجتمع بالحرم مع إبراهيم الخليل عليه السلام.
واجتمع بالخضر ببيت المقدس، فقال للخضر: أيوحى إليك؟ قال: نعم يا ذا القرنين! قال: ما هذا الاسم الذي دعوتني به؟ فقال له: أنت صاحب قرني الشمس. ثم ذكر له الرؤيا. ففسرها عليه بما تقضي له بملك الدنيا، والبلوغ إلى العين الحمئة، والانتهاء إلى الظلمة. وكان الخضر يوحي إليه في أمر ذي القرنين فيبلغه، فقال له الخضر: أمرت أن تسير إلى المغرب، وتبلغ وداي الياقوت.
فسارا وداسا الأمم وذو القرنين يقتل ويسبي. ومر على سودان زرق العيون، وعلى أخر آذانهم كآذان الجمال، ثم على أخر آذن الرجل منهم من أعلى رأسه إلى [ذقنه]، وغلب على أرض السودان، وجلب منهم مما بين يدي عسكره.
ثم جاز إلى الأندلس، فغلب على أقطارها. ثم رام ركوب البحر المحيط، فرأى الرياح تعلو بموجه كالجبال، فبنى هنالك منارة نحاس عقد بها عاصفات الرياح. ثم سكن البحر، ولان ركوبه حتى انتهى إلى عين الشمس "فوجدها تغرب في عين حمئة"، ووجد دونها جزائر فيها أمم لا يفقهون ما يقال لهم، فأراد قتلهم، فقال له الخضر: "إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً.. (الآية) ثم أتبع سبباً"، وهو المنام يراه فيفسره له الخضر. فسار حتى بلغ أرض الرمل، فأقبلت الشمس حتى وقعت في العين الحمئة، فكاد يهلك هو ومن معه من وجبة الشمس. ووجد وادي الرمل يسيل بالرمال كالجبال، فرام أن يعبره فلم يطق، فأقام عليه أربعة أيام حتى دخل عليه السبت فسبت، وقدم بين يديه آلافا ليعبروه، فهلكوا ولم يرجع منهم أحد.
ثم أتبع سببا، وسار مع وادي الرمل حتى بلغ الظلمة، فسار ليله ونهاره سواء، وعين الشمس تسقط خلفه حتى شق واديا تزلق فيه الخيل وجميع ما معهم من الدواب، فقال له أصحابه: يا ذا القرنين، ما هذا؟ قال: هذا شيء من أخذ منه ندم، ومن تركه ندم! فساروا فيه أياماً إلى أن أشرق عليهم مكانهم، وفاض نور الصخرة، ونظروا لما حملوا معهم من ذلك الوادي فإذا هو ياقوت، فندم من حمل منه على كونه لم يستكثر منه، ومن لم يحمل ندم على كونه ضيع ما تركه خلفه.
ثم دنا ليرقى على الصخرة فاضطربت، فرجع عنها فسكنت. ثم رقي عليها الخضر فسكنت، ولم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه إلى أن غاب. وناداه مناد: امض أمامك، واشرب وتطهر فإنها عين الحياة! وإنك تعمر إلى يوم النفخ في الصور، ويموت أهل السموات والأرض، وتذوق أنت الموت حقاً! فشرب وتطهر ورجع فأعلم بذلك ذا القرنين، وقال له: ليس بعد هذا مزيد لا لإنس ولا جان.
ثم أتبع سببا، ونودي بالمسير إلى مطلع الشمس، فسار ونزل على قصر المجدل وهو قصر عابر بن شالخ، فرأى من عجائبه أن يرى من داخل القصر من هو خارجه، فقال فيه. ثم أمر أن يكتب عليه شعراً فيه:
نزلنا من قرى الصخر |
|
على القصر فقلنـاه |
فمن سال عن القصر |
|
فمبنـي وجـدنـاه |
ثم سار حتى بلغ نهاوند، فاعترضته جبال شاهقة وشعاب عظيمة، فقيل له: إن هذه الشعاب تنقل إلى جابلقا وجابرصا، وشعب إلى بلخا وحابلجا وأرض يأجوج ومأجوج، وشعب إلى خرسان، فأخذ على شعب جابرصا وغلب على من كان بها، وعطف على باب الأبواب، وهو سماه بذلك وقال:
جزعنا الشرق والغرب |
|
وجزنا باب أبـواب |
وأيدنا مـن الـغـيب |
|
بآيات وأسـبــاب |
وفي الأمر تصـاريف |
|
وآيات لألـبـــاب |
وعلـم فـوق عـلام |
|
وغـلاب لـغـلاب |
وكان قد أعطاه الله كل لسان يكلم به جميع من يمر عليه، فبلغ يأجوج ومأجوج فقاتلهم فغلبهم، وأتى منه بأمة يقال لهم: بنو علجان بن يافث، فتركهم في ناحية منقطعة، ومضى إلى الشمال فسموا الترك، وبلغ في الشمال الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا رابية - ثم بلغ جزائر البحر الزوراء التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الوجوه مشعرين كأنهم قرود، لا يظهرون إلا بالليل، ثم وجد قوماً من يأجوج سوداً وجوههم كوجوه الخنازير، وهم في مطلع الشمس لا يظهرون إلا بالليل من شدة الحر، كما قال تعال: "[ثم أتبع) سببا. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا".
ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولا كاملا حتى ترك الشمس عن يمينه. ولجج الظلمات، فوصل إلى أرض بيضاء كالثلج لا ينبت فيها شيء، وعليها ضوء كضوء الشمس يخطف الأبصار، وهي أرض الفضة البيضاء. فلم تستطع الدواب [أن] تمشي عليها، فسار وحده أياماً حتى بلغ إلى دار بيضاء وعليها رجل أبيض واقف، فقال له: أين تريد يا ذا القرنين؟ لم تكفك أرض الجن والأنس حتى انتهيت إلى أرض الملائكة؟ وكان على سطح الدار رجل قد أخذ في فمه شيئاً كقرن، أراد الله بذلك أن يري ذا القرنين كيف ينفخ إسرافيل في الصور، وأعلمه بذلك الملك، وقال له: ارجع فليس لك من مدخل. وأعطاه عنقوداً من عنب أكل منه جميع عسكره ولم ينقص منه شيء، فكان ذلك مما زاد أصحابه فيه يقينا. ثم وزن الحجر بجميع جواهر الأرض من حديد وغيره والحجر يرجح. وكان الخضر في ذلك كله معه، فقال له الخضر: هذا الحجر مثل لعينك لا يملأها شيء من جميع ما في الأرض، ولكن يملأها هذا - وغرف قبضة من تراب فحملها في كفة والحجر في كفة، فرجح التراب.
وبنى ذو القرنين السد على ما هو مذكور. ويقال: إنه مسيرة سبعة أشهر، قال: ثم دوخ الأرض، وداس الهند والسند وانثنى راجعاً إلى بابل، فتغلب على من بها. ورأى بها في الأسباب أنه يموت، وأعلمه الخضر بذلك، فقال في ذلك شعراً طويلاً، يصف فيه ما لقي من الأمم، وما جال من الأقطار، ثم مات بالعراق.
وغاب الخضر، فلم يظهر لأحد بعده إلا لموسى بن عمران عليهما السلام. وقد تقدمت ترجمة الخضر.
ودفن ذو القرنين عند قراقر في طريق الحجاز. وذكر صاحب التيجان أنه ينسب إلى ذي القرنين الشعر المشهور:
منع البقاء تقلب الـشـمـس |
|
وطلوعها من حيث لا تمسي |
ومنه في وصف عسكره:
وبألف ألف كالنـجـوم لـهـم |
|
[زجل] كأسراب القطا الهمس |
والصعب ذو القرنين يقدمـهـا |
|
لصلاح أرض الترك والفرس |
وأنشد لها شعراً منه:
جررت كماة الشرق والغرب ظاهراً |
|
على موج يم مزبـد مـتـلاطـم |
عقدت بعنق الريح عقـداً يكـنـهـا |
|
فأمسك عن مجرى المدى المتلاطم |
ابنه ذو المنار أبرهة بن ذي القرنين
ذكر صاحب التيجان "أنه ولي بعد أبيه، واسمه بالحبشية أبرهة، ومعناه: وجه أبيض. وكان وسيماً جميلاً من التبابعة المتوجين، وتولع بتدويخ الأرض والضرب في البلاد، فظهرت له الزمردة، وهي حية ذات رأسين عظيمة السم لا يشبهها شيء من الحيوان المسموم، وهي تظهر بالنهار وتسكن بالليل. فجل يسري في الليل ويعرس بالنهار خوفاً منها، فكثر ضلال عساكره، فأمرهم باشعال النيران على رؤوس الجبال وهو أول من فعل ذلك، فاهتدت بذلك عساكره، وعرف بذي المتار".
وذكر صاحب التيجان "أنه عشقته امرأة جنية من الجن الذين كانوا يسكنون بوادي الجن عند المشلل من أرض اليمامة، وكان من نزل بذلك الوادي أحرقته الجن، فخطبها من أبيها فزوجها منه، فولدت له العبد ذا الأشعار وعمراً ذا الأذعار". وقد أنكر هذا جماعة من العلماء، وقالوا: إن الجن لا تناسل من الأنس، وإنما هذا حديث ينقل على ما تداولته الألسن.
وقد اختلف في ذي المنار واسمه واسم أبيه: فذكر ابن قتيبة أنه "ذو المنار أبرهة بن الحرث بن الرائش"، وقال: "إنما عرف بذلك لأنه ضرب المنار على طريقه في مغازية ليهتدي بها إذا رجع. وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة". وقال صاحب تواريخ الأمم: "هو ذو المنار أبرهة بن الحرث الرائش". وقال السهيلي في الروض الأنف: "إن المنار هو شمر بن الأملوك".
وكان من حمير، وهو الذي بنى مدينة ظفار، ولا يقال ذمار، وقيل: المدينة ظفار وأرضها ذمار.
وذكر صاحب تواريخ الأمم "أن شمر بن الأملاك كان في زمان موسى عليه السلام، وكان يدين لمنوجهر ملك الفرس، وهو الذي بنى ظفار باليمن، وأخرج من كان بها من العماليق". وكذلك ذكر الجوزي في المنتظم.
وأنشد صاحب الكمائم من شعر ذي المنار في الجنية التي عشقها:
ألا من لعين لا تنام عن الـتـي |
|
وهبت لها قلبي ولم أعط نائلا |
من الجن إلا أن سيماء وجههـا |
|
من الملأ العلوي يسبي المقاولا |
أخوه ذو الأشعار العبد بن ذي المنار
هكذا ذكر صاحب التيجان: ملك من بعد أبيه، ولم يطل ملكه، وإنما سمي ذا الأشعار لأنه كان عليه شعر كثير قد ملأ جسده. ولم يطل ملكه، ولا ورخ له خبر.
أخوه ذو الأذعار عمرو بن ذي المنار
قال صاحب التيجان: "لما ولي عمرو قهر الناس وجار عليهم وذعرهم، فسموه بذي الأذعار".
وقال صاحب المعارف: سمي بذلك أنه "غزا بلاد النسناس، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم في صورهم، فذعر الناس منهم، فسمي ذا الأذعار؛ وكان هذا في زمان أبيه. فلما ملك أصابه الفالج فذهب شقة، فقل غزوه. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة".
قال ابن هشام: "ولما أفرط ذو الأذعار في الجور، وشرد الناس عن أوطانهم، وجعل يسم كل من يسخط عليه من أبناء الملوك بالنار، كرهت حمير دولته، وجهدت في تغييرها".
قال صاحب الكمائم: ذو الأذعار هو الذي ظهر في غمدان، وقاتل بلقيس حتى ضعفت عنه، ثم تحيلت عليه بأن تزوجته، فقتلته وملكت.
ومن شعره قوله وهو في النزاع:
حسبت بأني أخدع الناس كلـهـم |
|
فمال بعقلي أضعف الناس جانبا |
وأمسيت ملقى ضاع ملكي بعدما |
|
تركت حديد الهند منـي ذائبـا |
شر حبيل بن عمرو بن غالب
ابن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير. ذكر صاحب التيجان "أن ذا الأذعار لما كرهته حمير خلعت طاعته، وقلدت الملك شر حبيل المذكور، فقام خطيباً بمأرب، وتوجوه، وزحفوا إلى حرب ذي الأذعار، فمات بينهم خلق كثير".
وليس في أخباره فائدة.
ابنه الهدهاد بن شر حبيل
هكذا ذكر صاحب التيجان. وقال صاحبا تواريخ الأمم والمعارف أنه "هداد" بن شراحيل بن عمرو بن الرائش".
وقال ابن هشام: ويقال له: ذو مرصد، وكان شجاعاً حازماً، وكان ملكاً بمأرب وذو الأذعار في الحياة بقصر غمدان. وتزوج الهدهاد جنية ولدت له بلقيس، فغلبها على أهل بيته، واستخلفها على ملكه، ومات بعدما أقام في الملك عشرين سنة، وقال: خمساً وسبعين سنة.
بنته بلقيس بنت الهدهاد
قال صاحب التيجان: لما وليت بلقيس بعد أبيها لم تثبت لعمرو ذي الأذعار، وفرت أمامه، فاستجارت بملك اليمامة جعفر بن قرط الهزاني، وكان بنو هزان قد استولوا عليها، وأخرجوا عنها طسما وجديساً إلى ضواحيها.
ولما سارت بلقيس إلى جعفر وجدته بحصنه المشهور بنهر الحفيف، فأقامت عنده. فاتفق أن حضر شرابه عمرو بن عباد الأودي الفاتك، فاغتاله وقتل الملك. وكان عمرو قد عشق بنته جدجاد بنت جعفر، فكرهت أن تكون عند قاتل أبيها، وأخذت في ذلك مع بلقيس. فقالت لها: دعيني أسر إليه عوضك؛ فقالت: شأنك وإياه! فأخذت معها مدية وأخفتها في قرون شعرها، فلما عزم على مباشرتها قتلته بتلك المدية، وردت الملك إلى أهله.
فشكروا لها ذلك، وسعوا في الإصلاح بينها وبين ذي الأذعار، وبنوا الأمر معها في الحقيقة على الحيلة: فأخذوا معه أن يتزوجها، ويرجع الملك كله إليه، فاغتر بذلك، وصنعت معه مثل صنيعها مع عمرو الأودي. ولما قتلته استولت على جميع الملك، واستبشر بها أهل اليمن؛ لأن ذا الأذعار كان ظلوماً جباراً، وكانت مدته قد طالت مائة وخمساً وعشرين سنة.
قال: "ثم غلبت بلقيس على بابل وغيرها، وطار ذكرها، وعلا أمرها. وكانت لا أرب لها في الرجال، ووجدها سليمان عذراء".
وكان أهل اليمن قد طغوا وتجبروا وكفروا واشتغلوا بعبادة الشمس، فأرسل الله إليهم سليمان عليه السلام، فسار والريح تنقل بساطه "غدوها شهر ورواحها شهر"، والطير تظلله، والأنسر عن يمينه وشماله، والجن من ورائه. فمر بالمدينة، وذكر أنها مهجر نبي كريم يخرج في أخر الزمان من العرب، ثم سار إلى مكة فطاف بالبيت، وملكها حينئذ البشر بن الأغلب الجرهمي قد ورث الملك عن آبائه، وهو تحت طاعة بلقيس على عادة آبائه. ثم سار إلى نجران، وبها أفعى نجران، وهو القلمس بن عمرو الحميري، قد ورث ملكها عن آبائه إلا أنهم تحت سلاطين اليمن، وكان أحكم العرب في وقته.
فلما رأى طوالع عسكر سليمان قد طلعت بتواضع وتذلل قال: تواضع وذلة وعز وقدرة، إن الأمر سماوي. ثم جمع أهل نجران وهي حينئذ دار علم، فاجتمع الرأي أن يلبس عباءة ويسير إليهم بثلاثة: كهانة وطب وحكمة، فإن كان فيهم نبي لم يحتاجوا إلى شيء من ذلك.
فلما سار إليهم رأي الجبال تسبح بين يدي سليمان والطير تظلله، فقال: قد بطلت حكمتي. ثم نظر إلى البقل بين يديه، وكل بقلة تقول: يا نبي الله، اسمي كذا وأنفع بين كذا وأضر في كذل، فقال: بطلت كهانتي وطبي! فآمن به.
ورجع إلى قومه، فقالوا له: ما رأيت؟ قال: "الرائد لا يكذب أهله"، وأرسلها مثلا. وكتب إلى بلقيس: إني رأيت قوماً لبسوا الذل تحت العز، والفاقة تحت الغنى، والصبر تحت القدرة، ينصرون [بلا حرب]، ويقدرون بلا استطالة. فكتبت إليه: إن الملوك تفعل ذلك حتى تستميل هذا العالم، فإذا قدروا عزوا. وكتبت إليه: إن تختبرهم بأشياء تفرق بين أهل الملك وأهل النبوة. فكتب لها: إنه تحقق أنهم أهل نبوة، وأمرها بالسلم وألا تغالبه، فإن أمر الله لا يغالب.
ولما أراد سليمان النزول وكان لا ينزل إلا على ماء، والهدهد دليله يبصر الماء تحت الأرض وكثافة التراب بينه وبينه لما أعطاه الله من قوة بصره في ذلك، تفقده فقال: "مالي لا أرى الهدهد" (الآية) إلى أن تاه الهدهد، وأخبره أنه لقي هدهداً آخر من أرض بلقيس، وكان ما قصه الله تعالى في القرآن من كلام الهدهد وكلام بلقيس وكلام سليمان. وكان في الهدية التي بعثت بها بلقيس إلى سليمان خيل بحرية من نسل الخيل التي جلبها إلى اليمن ذو القرنين، وحق فيه ياقوت من الذي جلبه من وادي الياقوت؛ وأوصت الرسل أن يختبروا سليمان بأن يسألوا عن نسب الخيل وعما في الحق، فأخبرهم عليه السلام بحقيقة ذلك. وكان من سليمان ما ذكره الله تعالى في كتابه عن قصة عرش بلقيس، وكان من ذهب عامته مرصع بأنواع الدر والياقوت، طوله عشرون ذراعاً في عرض عشر أذرع، وتاجها معلق فيه بسلاسل ذهب. فقال العفريت: "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك"، فقال آصف كاتب سليمان وهو "الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك". فلم يكن إلا ما ذكر وإذا بالعرش بين يدي سليمان. وكانت بلقيس قد صارت على انفراد من عساكرها إلى سليمان لتختبر أنبي هو أم ملك؟ فأمر سليمان الجن فصنعوا عن يمينه وشماله حائطين من الذهب، وبنوا خلف ذلك داراً ومجلساً، وجعلوا لبن الدار كلها ذهباً. ثم أذن لبلقيس في الدخول، فلما رأت ذلك وكانت قد جاءت معها بلبنة ذهب تجلس عليها إن أمرت بالجلوس، فكرهت حين أبصرت ذلك أن تدخل بها في يدها، فطرحتها خارج الدار وسليمان ينظر إليها. فحيته بتحية الملوك، وتواضعت له، فقال لها سليمان: أهذا عرشك؟ قالت: "كأنه هو". وقامت بين يديه، فلم يأمرها بالجلوس ولا نهاها عن القيام حتى طال عليها، فرفع سليمان رأسه، وقال لها: الأرض أرض الله، فمن شاء أن يجلس ومن شاء أن يقوم! فقالت: الآن علمت أنك نبي؛ لأن الملوك لا يجلس عندهم إلا بأذن، ولكنك قلت مقال أهل العلم بالله. وأنا أريد أن أسالك عن ثلاث، فإن أخبرتني بها دخلت في طاعتك. قال: قولي، ولا قوة إلا بالله، قالت: أخبرني عن ماء ليس من الأرض ولا من السماء، وأخبرني عن شبه الولد أباه من أي ناحية، وأخبرني عن لون الرب تبارك وتعالى. فقال سليمان للجن: اركبوا هذه الخيول وأجروها، فإذا رأيتم جلودها قد تصببت بالعرق، فخذوه وجيئوني به؛ ففعلوا، فقال: هذا ماء ليس من الأرض ولا من السماء. وأما شبه الولد أباه فإن النطفة إذا سبقت من الرجل كان الشبه له. قالت: صدقت؛ فما الثالثة؟ وبقي سليمان متفكراً، فأوحى الله إليه: إني قد أنسيتها ذلك، فسألها عن ذلك فقالت: لا أدري عما سألتك! ولما أراد سليمان تزوجها توقعت الجن شر ذلك، وقالت: إذا تزوجها حطنا بين فطنة الجن وحيلة الإنس وكيد النساء، ولم نصب راحة. فأعلموا سليمان أن حافرها مثل حافر الحمار، وأن رجلها [شعراء]؛ وأراد أن يطلع إلى ذلك، فاحتالوا بأن صنعوا له مجلساً أرضه لجة ماء وسرح فيه السمك، ثم جعل فوقه صرحا ممرداً من قوارير؛ ثم قالوا له: أرسل إليها لتدخل عليك، فأرسل إليها وليس في البيت غيره، فلما رأت الماء والسمك يجول فيه "حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" لتخوض إليه، فنظر على ساقيها شعراً كثيراً أسود، فقال لها: لا تكشفي فإنه "صرح ممرد من قوارير"، فقالت: يا نبي الله، جاء الحق وزهق الباطل، ثم قالت: "رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين". وصرف سليمان وجهه عن ساقيها، فشعرت بذلك، فقالت: يا نبي الله، إن الرمانة لا تعلم ما هي حتى تذاق؛ فتلوم في أمرها.
ولما عزم على تزويجها صنع له الجن النورة والحمام وهو أول من عمل ذلك. وتزوجها فولدت له إرخيعم، وكانت بلقيس بمأرب، وسليمان يتردد إليها على الريح.
وقد قيل: إنه حملها إلى تدمر وقبرها هنالك، وجعل له نائباً على اليمن.
إرخيعم بن بلقيس
وأبوه سليمان النبي عليه السلام. ذكر صاحب التيجان أنه لما مات سليمان ملك اليمن إرخيعم المذكور، فأقام بها سنة، فأتته رسل بني إسرائيل من الشام يخبرونه أن أهل الشام ارتدوا من بعد سليمان عن دين الله وطاعة بني إسرائيل، فسار نحو الشام حتى بلغ أنطاكية، فقتله أهلها، وقتلوا من كان معه من المؤمنين. وبلغ ذلك بلقيس باليمن وقد أخذ منها الهرم، فلم يكن لها طاقة بطلب الثأر من الأرض البعيدة ولا تتبع الثوار، وتغلب كل أحد على ما تحت يده.
وذكر صاحب تواريخ الأمم "أن بلقيس بنت سد العرم على ما تزعم حمير، وخالفهم الجمهور في ذلك، وقالوا: إن بانيه لقمان بن عاد ولكن رمته بلقيس".
وذكر صاحب المنتظم أنها بلقيس بنت ذي شرح بن الحارث بن بلقيس بن صيفي بن سبأ، ملكت بعد أبيها لمعرفتها بسياسة الملك، وكانت بمأرب، وكان ملكها تسع سنين، وذكر أن ذلك كان على عهد أفريدون ملك الفرس.
ناشر النعم
مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن السكسك بن واثل بن حمير.
ذكر صاحب التيجان أن ناشر النعم كان قد ظهر في حمير، وقام فيهم خطيبا، وحرضهم على القيام بالملك وجمعه، فتبعوه، وأبقى بلقيس في مأرب، وعاشت في ملكه سنة ثم ماتت.
قال: وتتوج ناشر النعم، ودوخ الأرض، وسار في المغرب حتى أتى وادي الرمل الجاري، فوجه جيشاً في الرمل فهلكوا عن آخرهم، فأمر بصنم من نحاس فصنع، وكتب عليه بالمسند: ليس ورائي مذهب. ورجع إلى غمدان، فنشر النعم على الناس حتى سموه ناشر النعم.
وكانت في زمانه حروب بني إسرائيل مع أهل مكة، وذلك أن التبابعة داست بلاد الشام واستعبدت أهلها، فوجدت بنو إسرائيل فترة بدخول ناشر النعم إلى المغرب، فجمعت جموعاً كثيرة من بني إسرائيل والروم الأول، وساروا إلى جزيرة العرب، وقصدوا البيت لأنه فخر العرب، وكان لهم هنالك ما يتعلق بدولة بني جرهم الثانية. ثم كان دخول بختنصر بلاد العرب على ما سيذكر.
ومن كتاب التيجان أن ناشر النعم لما قام خطيباً في حمير كان من خطبته: "يا حمير، نطق الدهر وسكتم، وانتبه الشر ونمتم. أما ترون الجبابرة تجاهلت، وكل يد تطاولت، وسفهت الأحلام، ورأست العوام؟ وقد دعوتكم ودعاكم الذل، فأجيبوا من اخترتم، فلكم نبأ ولله قضاء. وقد عهد إليكم الهدهاد بما فيه الفضل والرشاد، فملكوه".
قال: "وكان ملك حمير قد دثر ومات فأنشره، فسموه ناشر النعم".
ابنه شمرير عش بن ناشر النعم
ذكر صاحب التيجان أنه ولي بعد أبيه ملك اليمن بغمدان، وطال سيره في الأرض، وامتد عمره إلى أن صار يرعش من الهرم.
وتلخيص خبره أنهم سموه تبعا الأكبر وإن كان قد تقدمه غيره من التبابعة، ولكن كان ذلك لعظمه في النفوس. وهو الذي ذكره الله في كتابه "أهم خير أم قوم تبع"؛ لأنه لم يقم قط للعرب قائم أحفظ لهم منه: يتجاوز عن مسيئهم، ويحسن إلى محسنهم. وكان بنو قحطان شاكرين له، داعين لله في بقائه. وكان أعقل من رأوه من الملوك، وأبعدهم مكراً لمن حاربه، فضربت به الأمثال.
وكان أبوه ناشر النعم قد مات بأرض العجم ودفن في جهة الدينور، فبلغ شمراً أن الصغد والكرد وأهل نهاوند والدينور نبشوه وهدموا قبره، وعبثوا برخامه وزجاجه فنذر شمر ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفا. وغضبت العرب لغضبه، ونهض بالجموع العظيمة التي قال فيها:
يا لك من جمع إذا ما يرى |
|
ليس بذي نزر ولا خاذل |
ومنه:
إن أغفلوا العهد وآياتـه |
|
فان شمراً ليس بالغافل |
وصار سلطان الفرس بلاس تحت يده، وذلك أن جموع بني يافث اجتمعت لقباذ بن شههريار، فلم تكن له طاقة بشمر. وبلغ شمر إلى الغاية القصوى من النصر، وتحصن منه قباذ ملك الفرس بجبل، وقال لابنه بلاس: اقتلني فاني ميت على يد تبع، فقال له ابنه: لا تطاوعني يدي على ذلك. قال: إن أنت لم تفعل قتلت أنا وإخوتك وقومك، وطلب من بقي من فارس فلا يبقى منهم أحد. ولكن الرأي أن تقتلني فتتقرب بذلك إليه، وأحمل له رأسي، وخذ أماناً لك ولاخوتك، ودار عن فارس ما أمكنه.
فاتفقا على أن فصده في الأكحل حتى مات، وحمل رأسه إلى شمر، وقال له: أيها الملك، هذا سبيل من عصاك، فكيف سبيل من أطاعك وسعى في رضاك؟ فقال له شمر: قتلت يا بلاس أباك في رضاي فلك رضاي، فقال بلاس: أيها الملك، لم يرد أبي هلاكي ولكن أراد بقائي. ثم مت إليه بجهة القرابة في سام، فملكه على فارس، وصار في طاعته، وجعله مقدمة على أعدائه، فقال: أيها الملك، إن لم أقاتلهم بالسهام الفارسية والسيوف الكرمانية والنصال الهندية لم أوف لك. فسار بين يديه، فقتل الصغد والزط والخزر، فهم أقل بني يافث اليوم وكانوا أكثرهم. وكان الصغد بنهاوند والدينور في جوار الكرد، فساروا خلف النهر.
ولما أراد أن يوفي نذره قال له أشراف حمير: أيها الملك أي شرف في أن تبني قبر أبيك برؤوس الأعاجم وقد بلغت إربك؟ فأعاده إلى بنائه الأول، ولم يوف بذلك النذر بعد القدرة عليه.
وسار إلى الهند، وكان ملكهم حينئذ تحته السند والحبشة والنوبة والقبط وجميع بني حام، واسمه تقمير، فلاقاه تبع، فهزمه تبع. فاحتال ملك الهند بأن ضرب نفسه، وأظهر أنه هارب من قومه لما أشار عليهم بمهادنة تبع، وخدع شمراً حتى وجه معه عسكراً تغلغل به في المهالك والعطش. وكان عند شمر علم من الزجر عن بلقيس، فرأى أن عساكره عطاش، فوجه إليهم عبيده بالمياه، فلحقوهم ولم يمت إلا اليسير، ورجعوا إليه بملك الهند. فقال له شمر: لم غدرت؟ قال: بل وفيت لقومي وغدرت بعدوهم، فإن قتلت قتلت جانحاً، وإن تركت تركت ناصحاً. فأحسن له وولاه على قومه، فقال: إن عندي نصيحة في مقابلة ما فعلت؛ فقال: قل تسمع؛ فال: إن أرض الهند وبيئة فلا تقابلها بالمهج، فمن تاجر بروحه لم يربح. وأوصاه تبع بأهل الهند وقال: بلغهم مراتبهم؛ فإن كل أمة إن لم تبلغ مراتبها نغلت صدورها، وهانت عليها أعمارها. ثم أحضر أولاده لتبع ودله على مكان ابنه جلهم، فملكه على الصين والهند، وهو أول متوج بالصين. وقال له تبع: أنت كنت أولى بهذا الملك، فقال: أيها الملك، إنه وهن عظمي، وأحسست من روحي العجز، وأخشى ألا أقدر على مكافأة إحسانك. وثانية أني جدعت أنفي حيلة للدفع عن قومي. فكرهت أن ينظر إلي بعين النقص من كان ينظرني بعين التمام. وإني بصير بكيد الملوك وإدارات الحروب، وإن الملك ينبغي له أن يكون في عسكره الصناع ورجال التجارات ورجال الخدمة وأصحاب المشورة وإدارات الحروب، ولا يقوم ملك إلا بهذه الأوصاف. وإنها أيها الملك عندي، وأريد أن أكون في خدمتك. ثم سار معه، وأوصى ولده.
قال صاحب التيجان: وكان معه في هذه الغزوة جيوش إياد وربيعة ومضر، ومدحهم في شعر يقول فيه مبشراً بالنبي صلى الله عليه وسلم:
إلى أن يلي الأمر من هاشم |
|
نبي أمين كريم النـسـب |
فلو مد عمري إلى عمـره |
|
لفرجت عنه جميع الكرب |
"ولما سبى نساء بني يافث قال لقومه: لا تحبسوا من نساء الكرد سبيا؛ فانهن يفسدن النسل، ويغيرن العقول".
"ثم حرضه قومه على قتال السودان، وقالوا له: وأنت تعلم، أيها الملك، أن نصف حمق الدنيا مصبوب في رؤوس السودان! فعبر النيل، وقاتلهم بالبهسناء ثم هزمهم وأخرجهم إلى الرمال، فتلف جمهورهم. وحارب الحبشة، ودوخ الأرض شرقا وغربا".
"وهو أول ملك صنع الدروع السابغة التي منها سواعدها وأكفها".
"وكان عامله على الفرس بلاس بن قباذ، وعلى الروم ماهان، وكانوا يرسلون الإتاوة. وفي ذلك يقول صريع الغواني:
ملكوا على الدنيا فما أحد بها |
|
إلا وهو في ملكهم مقهور |
أعطاهم ذل الإتاوة قيصـر |
|
وجبى إليهم خرجه سابور" |
قال: "وأمر أن يكتب على قبر أبيه في أرض الهجم: هذا أثر ملك العرب والعجم شمر يرعش الأشم، نزل هنا في الشهم الأصم، فروى السيف من مهج ودم، فمن فعل بعدي فعلي فهو مثلي، ومن جاوزه فهو أفضل مني. بررت قسمي، ووفيت لذمتي".
"ثم رجع تبع إلى غمدان وقد ملك الأرض". "ومات وكان عمره ألف عام وستين عاماً".
ورأيت في تواريخ الأمم للأصفهاني ترجمته: وهو "أبو كرب شمر بن أفريقس بن أبرهة، ولي بعد ناشر النعم. وتزعم أهل اليمن أنه ذو القرنين، سمى بذلك لذؤابتين كانتا تنوسان على ظهره".
"وبلغ من بعد مغاره أنه غزا الشرق، فدوخ خراسان، وهدم أسوار مدنها، ومما هدمه مدينة الصغد، فقيل بعد ذلك: شمر كند، أي شمر خربها، ثم عربت فقيل: سمرقند. وقيل: كان في زمان يستاشف ملك الفرس. وكان ملكه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، والاختلاف كثير".
وترك في بلاد الترك طائفة من العرب يكونون رابطة هنالك، فقيل: الثبت لأنهم ثبتوا.
وله حكاية مشهورة في حيلته على فتح سمرقند، وكيف جعل الرجال في الجواليق حتى ثاروا في وسط المدينة وغلبوا عليها، وكانت لامرأة من الترك، فأخذوها وسلبوها ملكها.
وقيل: إن أباه أفريقس بن أبرهة كان السلطان، وأنه أنفذه إلى المشرق، وسار هو إلى المغرب، وبنى أفريقية، وأنزل بها بقية الكنعانين وهم البربر.
ابنه صيفي بن شمر
ذكر صاحب التيجان أنه "ولي الملك باليمن بعد أبيه، وهو تبع مترج، وكان من أجمل أهل زمانه، ومن أجود التبابعة، فأقام بغمدان عشرين سنة، ووجه الجيوش فغزت شرقاً وغرباً، ثم أقام بمكة عشرين سنة ومات".
وكان قد تعبد، ورأى أن يجاور بيت الله. وانتقل الملك من بعده من حمير إلى كهلان، ثم عاد بعد ذلك.
وقال صاحب تواريخ الأمم: "إن الوالي بعد تبع شمر أبو مالك الذي يقول فيه الشاعر:
وحاز النعيم أبـو مـالـك |
|
وأي امرئ لم يخنه الزمن |
وقد ذكر صاحب الكمائم أن بني إسرائيل الذين أجلاهم بختنصر عن القدس إنما دخلوا بلاد العرب وسكنوا في أيلة والمدينة وخيبر في أيام صيفي، وأنهم خاطبوه في ذلك فأذن لهم، وقال: الأرض لله، فاسكنوا حيث شئتم.
عمران بن عامر بن حارثة
ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان. ذكر صاحب التيجان "أنه لما مات صيفي بن شمر الحميري ملك اليمن عمران الأزدي" المذكور، وانتقل الملك باليمن من نخلة حمير إلى نخلة قحطان.
"وتتوج عمران، وولوه التبعية، وكان كاهنا لم يكن في الأرض أعلم منه، وكان بيده أثر من بقايا سليمان وبلقيس؛ فلما حضره الموت أعلم أخاه عمراً أن بلاده تخرب، وقال له: يا عمرو، إن لله علينا رحمتين وسخطتين: فأما الرحمة الأولى فهذه أنتم فيها. والسخطة الأولى ينهدم السد، ويفيض عليكم فتخرب بلادكم، وتغرق جنائنكم، وتفسد أحوالكم. والسخطة الثانية تغلب عليكم الحبشة. والرحمة الثانية يبعث الله النبي محمداً التهامي صلى الله عليه إلى أهل الأرض. ثم يغلب أهل الأوثان في آخر الزمان على أهل الأديان، فيخرجونهم من البيت الحرام ويخربونه، فيرسل الله عليهم رجلاً من حمير يقال له: شعيب بن صالح، فيهلكهم ولا يكون بالدنيا إيمان إلا باليمن. وأعلمه أن النجاة له ولقومه أن يتزوج بطريقة الكاهنة بنت الحبر؛ فإنها وارثة علمه من الكهانة".
ومن الكمائم أن صيفي بن شمر الحميري بلغه من جهة الزجر والعلم الذي كانوا يتوارثونه عن بلقيس أن بلاد العرب تخرب عن قرب، فزهد في الملك، وجاور بالحرم، ونهى حميراً عن أن يمدوا للملك يداً فإنه وبال عليهم، فحينئذ طمع فيه بنو كهلان، فاستولى عليه عمران المذكور إلى أن مات.
أخوه مزيقيا عمرو بن عامر الأزدي
"إنما قيل له: مزيقيا؛ لأنه كانت تنسج له ثلاثمائة وستون حلة في السنة، فإذا أراد الدخول إلى مجلسه رمى الحلة التي عليه في ذلك اليوم، فقطعت مزقاً كيلا يجد أحد فيها ميلبسه بعده". "ويقال لأبيه: عمر ماء السماء لأنه كان يقوم في القحط مقام القطر، وجده حارثة يعرف بالغطريف"، وكانوا بيتاً مخلوقين للملك. ثم تزوج عمرو طريفة الكاهنة، فرأت في كهانتها دلائل خراب سد العرم، وإتلاف الأرض التي كانت تحته.
قال المسعودي: "كانت أرض سبأ أخصب اليمن وأنزهها، وأكثرها جناناً، وهي من بين قصر مرصوف وشجر مصفوف. وكانت مسيرة ذلك أكثر من شهر لراكب من هذه الحال لا يرى فيها الشمس ولا يفارقه الظل. وكان وراء السد أنهار عظام، وكانت المياه تخرج من أنقاب في مجار لها حتى ترتوي الجنان بتدبير أهل الحكمة. وكانت السيول تنحدر من الجبال هابطة على رؤوسها حتى تهلك الزرع، فصنعت له مصارف إلى البحر بتقدير عمرت به البلاد. ثم طالت الإعصار، فعمل الماء في تلك الأنقاب فأضعفها، فغلب الماء عليها، وجاء السيل فدفعها، فخرجت البلاد حتى تقوض سكان تلك الأرض عنها. وقيل: خربت الفأرة السد ليكون ذلك أظهر في الأعجوبة. وقال: وذلك لا اختلاف فيه عند أهل تلك الديار لشهرته".
ومن نكت الماوردي: بعث الله لسبأ ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم، فعاقبهم الله بسيل العرم. وكان لهم بستان عن يمين الوادي وشماله، وكانت المرأة تمشي ومكتلا على رأسها فيمتلئ من الثمر. قال: والعرم: المطر الشديد أو المسناة بلغة أهل الحبشة، أو اسم الوادي الذي كانت تجتمع فيه المياه، سدوه بين جبلين بالحجارة والقار، وجعلوا له أبواباً، يأخذون منها بقدر ما يحتاجون. فلما تركوا أمر الله، وكفروا بأنبيائه، بعث الله عليهم جرذاً يقال له: الخلد، فخرقة وأفسد أرضهم. قال: والقرى التي في قوله تعالى: "والقرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة"، قيل في القرى الظاهرة: كانت بين مأرب والشام، وقيل: هي السروات، وأنهم لما قالوا: "باعد بين أسفارنا" مللا من النعيم والسفر في العمران المتصل، وكفروا بالراحة، عاقبهم الله فأهلك أرضهم ومزقهم، وجرى المثل فيهم فقيل: "تفرقوا أيدي سبا".
وقال المسعودي: "كان أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله لهم رسلا، فكذبوهم وقالوا لهم: إن كنتم رسلا فادعوا الله أن يمزقنا كل ممزق، ويباعد بين أسفارنا، فدعوا الله فأجابهم".
قال صاحب التيجان: "وكان لمزيقيا بتلك البلاد أملاك عظيمة لم يكن لأحد من تبابعة اليمن مثلها. فأعمل الحيلة في الخروج من اليمن وبيع أملاكه، وخاف إن نادى ببيع أملاكه أن ينكر قومه ذلك، فقال لولده ثعلبة العنقاء: إذا أنا قعدت في محفل قومي وأمرتك بكذا، فأظهر عصياني، فاني سأنكر ذلك وأضربك، فقم فالطمني في خدي. ففعل ما أمر به أبوه، فأراد قومه قتله إعظاماً لما فعل بالملك، فقال: لا تقتلوه فإن الرحمة غلبت له في قلبي على السخط، ولكن سأبلغ منه أعظم مبلغ: إنما استطال ثعلبة وأطغاه المال، وأنا أبيع جميع مالي بمأرب تحت السد؛ ونذر لله نذراً ليفعلن. فاغتنم الأزد ذلك وحمير واشتروه".
"فلما باع جميع ماله أخذ في الرحيل مع خواصه ومن نهض معه. قال: وكانوا يعمرون أعماراً طوالا، حتى إنه ليكون مع الرجل من صلبه عسكر جرار. وكان مع عمرو ثلاثة وعشرون رهطاً من أولاده وعقبهم. فسار عمرو مزيقيا حتى نزل على عك، وأرسل إليهم في الجوار، فجمعهم سيدهم وصاحب أمرهم للرأي، فقالوا له: ذلك إليك، غير أنه ما نزل قوم قط على قوم، فعرفوا وجوه أرضهم ووطئوها، إلا كانت لهم الغلبة عليهم. وقد قال يعرب: ويل للمنزول عليه من النازل! فمال الأمر بينهما إلى الحرب بعد العهد والمجاورة".
وبعث مزيقيا الرواد يرتادون له حيث ينزل من البلاد، فمات في عك قبل أن يرجع رواده، واستخلف على قومه ابنه ثعلبة العنقاء، وأمه ذات القرطين مارية بنت ظالم ابن معاوية الكندية. وآل الأمر إلى أن انهزمت الأزد أمام عك، ثم عطفوا عليهم لما اشتغلوا في الغنائم وكانت الدائرة لهم. ثم أحسن إليهم العنقاء بأن دفع إليهم أموالهم ورحل عن بلادهم، فقالوا: أيها الملك، أوحشنا قدومك وقد ساءتنا فرقتك، فما أحسن الفرقة قبل المعرفة، وأحسن الاجتماع بعد الفرقة!
ثم رحلوا عنهم، ثم مروا على نجران، وتحاربوا عليها مع مذحج فانهزمت مذحج، ثم تصالحوا. ومن هنا وقع الافتراق على ما نذكر من تاريخ الأزد: لحق بعمان والبحرين بنو نصر بن الأزد، فكان الملك فيهم في بيت عمرو بن الجلندي؛ ولحقت أزد شنوءة بالسراة المطلة على تهامة الحجاز، فكانت الرياسة فيهم في بيت عامر ابن الجادر بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وسمي الجادر لأنه جدد جدار البيت، وملك المدينة منهم الأوس والخزرج، وانخزعت خزاعة ببطن مر على مكة، وسار إلى الشام فملكها بنو جفنة، وكل هؤلاء من الأزد.
قال البيهقي: ولما كان العرم لم ترم حمير من اليمن ولا تغرب منها قبيلة. وأقام باليمن مع حمير من بني كهلان طائفة من الأزد ومذحج وكندة والأشعريون وأنمار، وتشأمت حمير لخم وجذام وعاملة وغسان. قال: ثم سارت بعدهم طيء. قال: ولم يكن لأحد من اليمانية اسم التبعية حتى قام بأمر حمير أسعد أبو كرب، وهو تبع الأوسط.