القسم الثاني: ملوك الطوائف باليمن

ذكر البيهقي أن رؤساء اليمن وأذواءها بعد سيل العرم لم ينقادوا إلى تبع يعينوه، بل صاروا ملوك طوائف. ووافق ذلك كائنة الاسكندر في قتل دارا ملك الفرس، ووضعه ملوك الطوائف في بلادهم، فكان الذي اجتمع عليه أهل مأرب بعد رحيل عمرو مزيقيا:

مالك بن النعمان

ابن عمرو بن مازن بن الأزد، فلم يحسبوه في التبابعة. ثم غلبت لخم على الأزد بمأرب مدينة الملك، فملك منها:

ربيعة بن نصر اللخمي

وهو أول ملوك الحيرة الذين منهم النعمان بن المنذر. قال صاحب التيجان: "وهو الذي رأى رؤيا هالته، فأرسل عن سطيح الكاهن، فقال: أيها الملك، رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في رياض تهمة، فأكلت كل ذي جمجمة. وأحلف بما بين الحرتين [من حنش] ليملكن أرضكم الحبش ما بين أبين إلى جرش؛ ثم أخبره بالكوائن بعده. ثم قدم شق الكاهن، وهو تلميذ طريفة الكاهنة تفلت في فيه فورث علمها، فقال له قول سطيح باختلاف عبارة.

 

فجهز ربيعة بيته وأهله إلى العراق، وكتب كتاباً إلى سابور، فأسكنهم الحيرة.


وذكر البيهقي أن ربيعة بن نصر دخل ريف العراق في مدة ملوك الطوائف، وكان ملك العراق منهم حينئذ سابور الأشغاني الذي ظهر في زمانه المسيح عليه السلام، فنزل في جوار الدوسيين والملك لهم، فنقله الله إلى ولده.


وفي هذا المكان تخليط في ملوك طوائف اليمن. وذكر صاحب تواريخ الأمم فيهم من وصفه بالتبعية، والاعتماد على ما رتبه صاحب التيجان، والاستغناء عما ليس في ترجمته مريح للخاطر.

تبع أسعد بن عدي بن صيفي

ابن سبأ الأصغر الحميري. ذكر صاحب التيجان أنه أبو كرب تبع أسعد.

وقال ابن قتيبة: "هو ابن كليكرب، وهو المعروف بتبع الأوسط".

وقال صاحب تواريخ الأمم: "إنه المعني بقوله تعالى: "أهم خير أم قوم تبع"".

وتلخيص ذكره من التيجان، والمعارف، وكتاب أشعار الملوك لابن المعتز، وكتاب الأشعار فيما للملوك من النوادر والأشعار، والكمائم للبيهقي: إنه لما كثرت الثوار باليمن - وكانت مثل ملوك الطوائف بالعراق في ذلك الزمان - اجتمعت حمير إليه لأنه من بيت الملك العظيم المتوارث، فضمن لهم الكفاية، وسأل منهم الإعانة، ثم أخذ في التغلب على من باليمن حتى صارت في قبضته، وسمت همته إلى ملوك الطوائف، ودوخ البلاد، وسار شرقاً وغرباً، ومر في طريقه على المدينة المنورة، فأودع فيها ولداً له عند الأوس والخزرج، فلما عاد ظافراً، وقد عظم في النفوس، سموه بتبع الأوسط.

ثم إن أهل المدينة قتلوا ولده، فتجهز إليهم بالعساكر وأناخ عليهم، فكان بنو قيلة - وهم الأوس والخزرج - يحاربونه نهاراً ويقرونه ليلا، فيعجبه ذلك ويقول: إن إخواننا هؤلاء لكرام!  

واتفق أن كان لهذيل بيت يعبدونه ويعظمونه، فقصده أحد بني معد وخرئ فيه، فعظم ذلك عليهم، فأرسلوا إلى تبع، وهو على المدينة: إن خلفك بيتا فيه الكنوز العظيمة التي تغنيك وتغني عقبك آخر الدهر، فإن صرفت وجهك إليه وهدمته واستخرجت كنوزه، وصرفت وجه العرب إلى بيت تبنيه عندك بلغت أعظم من غرضك. وتمكن هذا الكلام من خاطره، ثم خرج إليه حبران من المدينة، ونهياه عن قتالها، وقالا له: إنها مهاجر نبي يأتي في آخر الزمان، فكف عن ذلك. وأخذ الحبرين معه، وانصرف إلى هدم البيت، فلما كان بين أمج وعسفان أظلمت عليهم الأرض، فدعا بالحبرين اللذين كانا معه، وسألهما عن معنى ذلك، فقالا: هل هممت لهذا البيت بسوء؟ قال: نعم، وأعلمهم. فقالا له: بدل نيتك فيه، وانو له خيراً لأنه محرم مدفوع عنه، ففعل. وانجلت الظلمة، وأمر بقتل الهذليين الذين أغروه بالبيت.
ثم وصل إلى مكة، وأقام بها ينحر كل يوم مائة بدنة، لا يرزأ هو ولا أحد من عسكره شيئاً منها، ولا يصد عنها أحداً من مكة ولا سبعا ولا طائراً، وكسا البيت - وهو أول من كساه - وحجه وعظمه، وقال في ذلك شعراً، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال مبشراً به:

 

شهدت على أحـمـد أنـه

 

رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمـره

 

لكنت وزيراً له وابن عم

 

وقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن النهي عن سبه، والإشارة إلى أنه كان مسلماً.


ثم انصرف إلى اليمن. وكانت باليمن نار تعبدها حمير، فإذا قرب منها الظالم أهلكته، فطالبهم أسعد بأن يرجعوا إلى دين اليهودية وما ألقى إليه الحبران من شريعة موسى، فجاء أكبرهما إلى تلك النار، فسلم منها الحبران ومعهما التوراة، وأكلت الأوثان. فاتفقت حمير على اليهودية من ذلك الزمان، وهدموا بيتهم الذي كانوا يعبدونه، وكان فيه شيطان يكلمهم؛ واسم البيت المذكور ريام.


قال: ثم اشتدت وطأته على حمير، وكثرت غزواته، فقتلته حمير؛ وثقل عليهم ما كان يأخذهم به من الغزو، فسألوا ابنه حسان بن أسعد أن يمالئهم على قتله ويملكوه، فأبى ذلك. ثم قتلوه، واختلفوا فيمن يملكونه بعده، فاضطرتهم الأمور إلى أن ملكوا ابنه حسان بن أسعد، وأخذوا عليه المواثق ألا يؤاخذهم بما كان في أبيه. وكانت مدة عمره ثلاثمائة وعشرين سنة.


وقد ذكر المسعودي في المروج "أن تبعا أبا كرب خرج من ظفار، وهدم ملك العراق في مدة ملوك الطائف، وملك العراق والشام وكثيراً من الشرق، وقال في ذلك شعرا يفتخر به، منه:

إذ حثثنا جيادنا من ظفـار

 

ثم سرنا بها مسيراً بعيدا"

ابنه حسان بن أسعد

ذكر المؤرخون وصاحب التيجان أن حمير اجتمعت على حسان بعدما اتفقوا معه على قتل أبيه، فلم يفعل - كما تقدم - واضطروا إلى تقديمه، فأسر في نفسه الفتك بهم. واتفقت في صدر دولته كائنة طسم وجديس باليمامة. وقد تقدم ذلك في تاريخ العرب المبلبلة.
قالوا: ثم رجع حسان من اليمامة بعدما غزا جديساً، وعزم على أن يطيل مغاره، ويطأ أرض العجم والعرب على عادة التبابعة. فتبرمت حمير من معاودة المسير معه، وتشاورت فيما بينها، ولم يخف عنهم أنه يريد إهلاكهم ويتتبع قتلة أبيه، وقد بان لهم ذلك في كيده وسياسته.


فجاءوا إلى أخيه عمرو بن أسعد، وتشاوروا معه في قتله، وقالوا: نحن لا غرض لنا في إخراج الملك عنكم، ولكن نسعى إلى حقن دمائنا، ونطلب حسن سياستنا. فكلهم اتفق على ذلك غير رجل من ذي الكلاع، يقال له: ذو رعين، فإنه حذر عمراً سوء العاقبة، وقال له: إن فعلت ذلك منعت من النوم! فحمله حب الملك على رفض النصيحة، فقال له ذو رعين: أما وقد أبيت إلا ما حملك قومك عليه، فخذ إليك هذه الرقعة، فإذا رأيت أن رأي قومك كان خطأ ففكها وأبصر ما فيها.


فقتل أخاه، واستولى على ملكه. وكان ملك حسان سبعين سنة.

أخوه عمرو بن أسعد

 من كتاب التيجان وغيره أن عمراً لما استقل بملك اليمن بعد قتل أخيه سلط الله عليه السهر، فشكا ذلك، فقيل له: إن النوم لا يأتيك أو تقتل قتلة أخيك. فنادى في جميع مملكته: إن الملك يريد أن يعهد عهداً فاجتمعوا. وأقام لهم الرجال، وقعد في مجلس الملك، ثم أمرهم أن يدخلوا خمسة خمسة وعشرة عشرة، فإذا دخلوا عدل بهم فقتلوا حتى أتى على عامة القوم. وأحضر ذو رعين صاحب الرقعة مع جملتهم، فلما رآه ذكره، وأحضر رقعته فوجد فيها:

ألا من يشتري سهراً بـنـوم

 

سعيد من يبيت قرير عـين

فان تلك حمير غدرت وخانت

 

فمعذرة الإله لذي رعـين

 

فأمر بتخليته وإكرامه، واخصه.


ثم اضطربت عليه أموره، وفنيت رجال دولته، وفسدت عليه قلوب بطانته، ولزمته علة كان ينقل معها في النعوش، فلقب: ذا الأعواد. وبطل الغزو في أيامه، وطمعت ملوك الأطراف فيه.


قال صاحب تواريخ الأمم: "وإياه عنى الأسود بن يعفر:

 

ولقد علمت سوى الذي أنبأتني

 

أن السبيل سبيل ذي الأعواد

 

وفي أيامه علا قدر عمرو بن حجر جد امرئ القيس الشاعر في كندة، وقدمه أهل دمون عليهم، وكتب له عمرو بولايته على كندة، وزوجه بنت أخيه حسان بن أسعد، فعظم شأنه، وتوارث ملك كندة عقبه.


وذكر ابن قتيبة أنه "في زمانه انتقل مزيقيا من اليمن مع من اتبعه خوف سيل العرم"، وهذه مناقضة لما تقدم. قال: "وكان ملكه سبعاً وثلاثين سنة".


وذكر البيهقي أنه في دولة عمرو هذا انتقل مفتاح الكعبة من ولد إسماعيل إلى خزاعة.

عبد كلال بن مثوب الحميري

كان أخا عمرو المذكور من أمه، ومن بيت الملك، فحصلت له التبعية باليمن بعده. وبلغه قوة دين النصرانية، فمال إليها، وكان يكتم ذلك. واشتهر بالزهد وطلب الآخرة. وفي مدته عاثت العرب في بلادها وأرياف العراق، فخرج عليها سابور ذو الأكتاف، وفعل فيهم الأفعال الشنيعة.
وذكر صاحب الكمائم أن عبد كلال كان قد هم بأن يحمل أهل اليمن على دين المسيح لما رأى من غلبته على دين اليهود الذي دانت به اليمانية في ذلك الأوان، فبلغه ما فعل سابور بأهل هذه الملة، وأنه حصر مدينتهم العظيمة القسطنطينية وأقسم أن يكسر الصلبان ويفني أهل هذا الدين، فخاف إن أظهر ذلك أن يجعله سببا لغزوه مع ما كان يعتقده من إفناء العرب واستئصالهم، فمات وهو كاتم له، ولم يظهره إلا لبعض خواصه، ووجد الصليب في بيته حين مات.


وكان ملكه أربعاً وثلاثين سنة.

تبع بن حسان بن أسعد

ذكروا أن اسمه تبع وإن كانت هذه صفة لكل واحد منهم. وقيل له: تبع الأصغر؛ لأنه كان آخر العظماء من التبابعة، واختلت التبعية بعده. وكان مهيباً مشهوراً بالعظمة وعلو الهمة، وعندما صار إليه الملك بعث ابن أخته الحارث بن عمرو الكدني ملكاً على بلاد المضرية.
"وأتاه قوم من الأوس والخزرج النازلين على اليهود بيثرب فشكوا إليه، وذكروا سوء مجاورتهم، ونقضهم الشروط التي كانت بينهم، ومتوا إليه بالرحم، فأحفظه ذلك. وسار إلى يثرب، وبعث إلى اليهود فقتل منهم نيفا على ثلاثمائة صبراً. وأراد إحراق المدينة وإخراجها واستئصال اليهود، فقال إليه رجل منهم قد أتت له مائتان وخمسون سنة، فقال: أيها الملك، مثلك لا يقبل على الغضب، ولا يقبل قول الزور، وأمرك أعظم من أن يطير بك نزق أو يسرع بك لجاج، وإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية. قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه البنية - يعني البيت - فكف عنهم، وانصرف لشأنه".


وملكه ثمان وسبعون سنة.

مرثد بن عبد كلال الحميري

ذكروا أنه كان أخا تبع بن حسان لأمه، فولته التبابعة عليها.


قال ابن قتيبة: "وكان ذا رأي وبأس وجود، وبعده تفرق ملك حمير وضعف، وكان ملكه إحدى وأربعين سنة".

وليعة بن مرثد

ولي بعد أبيه، وليس له أخبار مدونة. قال صاحب المعارف: "كان عاقلاً حسن التدبير، وملك سبعاً وثلاثين سنة".

أبرهة بن الصباح الحميري

ذكروا أنه ولي اليمن بعد وليعة، "وكان عالماً جواداً. ومدته في الملك ثلاث وسبعون سنة".

حسان بن عمرو بن أسعد

ذكروا أنه ولي اليمن بعد أبرهة، "وهو الذي أتاه خالد بن جعفر العامري في أساري قومه، فأطلقهم له، ومدحه خالد. وكان ملكه سبعاً وخمسين سنة".

ذو شناتر الحميري

 ذكروا أنه "لم يكن من أهل بيت الله، وإنما ولي لاضطرابه واختلال عمود السلطنة. وكان من أبناء المقاول فظاً غليظاً قتالا، ولا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء المقاول والكبراء إلا بعث عنه وأفسده. ثم إنه بعث إلى غلام منهم يقال له: ذو نواس؛ وكان له ذؤابتان تنوسان على عاتقيه. فأدخل عليه ومعه سكين لطيفة مخفية، فلما دنا منه للعمل الذميم شق بطنه، واحتز رأسه. وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة".

ذو نواس أسعد بن تبان

لما قتل ذا شناتر وهو من ذرية الملك "قالوا له: لا نرى أحق [معك] بالملك فملكوه. وهو صاحب الأخدود المذكور في القرآن: وذلك أنه كان على اليهودية، فبلغه عن أهل نجران أنهم دخلوا في النصرانية برجل أتاهم من قبل آل جفنة ملوك غسان فعلمهم إياها وحببها إليهم. فسار ذو نواس إلى غزوهم بنفسه، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتي [بامرأة] معها صبي لها ابن سبعة أشهر، فقال لها الصبي: يا أماه، أمضي على دينك، فإنه لا نار بعدها! فرمى بالمرأة وابنها بالنار، وكف.
ومضى رجل من اليمن يقال له: ذو ثعلبة، في البحر إلى ملك الحبشة وهو على النصرانية، فخبره ما صنع ذو نواس بأهل ملته. فكتب ملك الحبشة إلى قيصر يعلمه بذلك، ويستأذنه في التوجه إلى اليمن؛ فكتب له أن يصير إليها، وأعلمه أنه سيظهر عليها.
فأقبل ملك الحبشة في سبعين ألفاً، وجازوا البحر إلى اليمن، فخرج إليهم ذو نواس وحاربهم، فهزموه وقتلوا خلقا كثيراً من أصحابه، ومضى منهزماً وهم في أثره حتى أتى البحر، فاقتحم فيه بفرسه، فكان آخر العهد به".

ذو جدن الحميري

ذكروا أنه قام مكان ذي نواس لما أغرق نفسه، ورام ارتجاع ملك حمير وقد أدبر، فلم تكن له بالحبشة طاقة، ولم يزالوا به حتى "هزموه، وألجأوا للبحر أيضاً، فاقتحم فيه، فغرق هو ومن تبعه من أصحابه".


قال صاحب المعارف: "وكان ملك ذي نواس ثمانية وستين عاماً"، وأما ذو جدن فهلك عن قرب.


قال السهيلي صاحب الروض الأنف: "قام بأمر أهل اليمن بعدما غرق ذو نواس ذو جدن - والجدن: حسن الصوت - ويقال: إنه أول من أظهر الغناء باليمن". وزعم البكري أن جدن مفازة باليمن نسب إليها.


وقال البيهقي: كان ذو جدن من المقاول الذين يلون الجهات الكبار من اليمن. وكان له بينون - مدينة جليلة بين عمان والبحرين - ومدينة سلحين، وكانت الحبشة قد خرجتهما في أول خروجها، فكان قلبه عليهم قد امتلأ غيظا لذلك. فقام بالأمر عند إدباره، وبذل فيها جهده. وقال لما قيل له: ابن بنياناً تمتنع فيه من الحبشة، وقاتلهم دونه:

 

أبعد بينون لا عـين ولا أثـر

 

وبعد سلحين يبني الناس أبياتا

تغلب الحبشة على اليمن وانقراض ملك حمير إلى أن رجع ثم ذهب وما آلت إليه اليمن إلى أن جاء الإسلام

قال الجوزي في المنتظم: كان ملك اليمن لا مطمع فيه إلى أن ظهرت الحبشة عليه من البحر. وكان المقدم على الحبشة أرياط الحبشي ومعه أبرهة الأشرم. فلما غرق ذو جدن نفسه في البحر، وخلصت اليمن للحبشة، عمد أبرهة الأشرم الحبشي إلى أرياط فقتله، واستبد بملك اليمن. فحلف النجاشي ملك الحبشة أن يطأ بلاده ويريق دمه. فبعث له أبرهة بقارورة من دمه، وجراب فيه من تراب أرضه، ليخرج بذلك عن يمينه، ويسكن غيظه، فرضي بذلك وأقره.


ثم إن أبرهة بنى باليمن البيت العظيم الارتفاع الذي سماه القليس، وعزم على أن يصرف حج العرب إليه، ويزهدهم في الكعبة. فأحدث فيه رجل من فقيم، فغضب أبرهة، وتجهز بالفيل لهدم الكعبة. وكان دليله أبا رغال الثقفي، فأهلكه الله، وجعل قبره مرجوما إلى يوم القيامة، وأرسل على الحبشة الطير الأبابيل "ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول". وكانوا قد استقبلوا الكعبة بالفيل في اليوم الذي عزموا على هدمها، فلم يرد إليها وجهه البتة، وكلما ضربوه ليسير إلى ما قدامه رد وجهه إلى ما خلفه وسار.
قال ابن قتيبة: "وقعت الاكلة في صدر أبرهة، فحمل إلى اليمن، فهلك بها؛ وفي ذلك العصر كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ملك بعد أبرهة ابنه يكسوم، فساءت سيرته وسيرة الحبشة باليمن، وركبوا في أهلها العظائم".


ثم مات، وولي بعده أخوه مسروق بن أبرهة.

سيف بن ذي يزن

 واجتمعت حمير في السر إلى سيف بن ذي يزن بن مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن واثل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن يمن بن الهميسع بن حمير، وشكت له ذهاب ملكها بالعبيد، وتكمهم في حرمهم وأموالهم [فامتعض] لذلك. وتجهز في طلب الثأر إلى قيصر ملك الروم، فاعتذر له بأن الحبشة قائلة بالنصرانية، ولا يسوغ له أن ينصره على أهل ملته.

فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر، وشكا إليه ذل العرب مع الحبشة، فقال له: إن لي على كسرى وفاده كل عام، فأقم عندي إلى حين وفادتي. فأقام معه حتى وفدوا على كسرى أنوشروان، فدخلا عليه، [وتكلم] النعمان فيما شكا إليه سيف، فاستنطقه عن ذلك، فقال له فيما تكلم به: أنت، أيها الملك، خير لنا منهم. ونحن طالبو ثأر لا ملك، والدماء لنا والأرض لك! فقال: بعدت أرضك من أرضنا، وهي مع ذلك قليلة الخير! وأمر له بعشرة آلاف درهم وخلعة. فلما قبضها خرج وجعل ينثر الدراهم، فنهبتها العبيد والصبيان.
وبلغ ذلك كسرة، فقال: إن لهذا الرجل شأنا، وأمر أن يلام على ذلك. فقال: إن جبال أرضي ذهب وفضة، وإنما رغبت في إزالة الظلم، ورفع الذل الذي لا يقدر عليه إلا الملك. فاستشار أنوشروان ثقاته في ذلك، فأشير عليه أن يبعث معه رجالا كانوا في سجونه، فإن نصروا كان الاسم للفرس من غير مرزئة، وإن هلكوا استرحنا منهم. وكانوا ثمانمائة، فغرق مائتان في البحر، وسلم ستمائة.

وكان المقدم على الفرس وهرز، فقرن سيف بن ذي يزن رجله مع رجله، وتحالفا. وعندما نشبت المعركة قتل الحبشة أبنا لوهرز فزاد حنقه، وأقبل مسروق بن أبرهة وهو على فيل، وبين عينية ياقوتة حمراء، ثم تحول عنه إلى بغلة، فقال: انتقل إلى بنت الحمار! ذلك ملكهم! ثم ضربه بنشابة خرجت من قفاه، وهلك، وانقرضت مدة الحبشة. وقد اختلف فيها، والأكثر يقولون: إنها اثنتان وسبعون سنة.
قال صاحب تواريخ الأمم: "كان قدوم سيف بن ذي يزن مع وهرز إلى اليمن وللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة. وأقام ملك اليمن ولكنه تحت طاعة أنوشروان ومعترف له".

ولما ملك اليمن وقتل الحبشة وفدت عليه الوفود من الأقطار. وكان فيمن وفد عليه عبد المطلب بن عبد مناف، فسر به وأكرمه وحباه، وبشره بأن النبي الذي يعز الله به العرب من صلبه. وكان فيمن وفد عليه أبو الصلت بن ربيعة الثقفي، وأنشده قصيدته التي منها:

ليطلب الملك أمثـال ابـن ذي يزن

 

لجج في البحر حتى غاب أمـيالا

تلك المكارم لا قعبان مـن لـبـن

 

شيبا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفـقـاً

 

في رأس غمدان داراً منك محلالا

 

ثم إن سيف بن ذي يزن أساء الرأي "فاتخذ من بقايا الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً في متصيد، فزرقوه بحرابهم، فوقع ميتاً، وهربوا في رؤوس الجبال".


وتفرق أهل اليمن بعده في مخاليفهم، وصاروا ملوك طوائف لا ينقاد بعض لبعض. وكان بصنعاء الأبناء - وهم أبناء الفرس الذين فتحوا اليمن - ومنهم عمال الأكاسرة.


ودخل زمان الهجرة النبوية وباذان الفارسي عامل أبرويز ملك الفرس، ثم أسلم في زمان ابنه شيرويه بن أبرويز.


قال صاحب تواريخ الأمم: "ليس في جميع التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير؛ لما يذكر فيه من كثرة عدد سنيهم مع قلة ملوكهم".
قال: "وقد زعموا أن جميع ملوك حمير باليمن ستة وعشرون ملكاً في مدة ألفين وعشرين سنة. ثم ملك بعدهم من الحبشة ثلاثة، ثم من الفرس ثمانية، وانتقل الملك بها إلى قريش".

من له من حمير ذكر في الجاهلية من غير عمود سلطنة اليمن

بنو هزان بن يعفر

ابن السكسك بن واثل بن حمير. ذكر صاحب الكمائم أنهم كانوا أحسن حمير صوراً، وأطول أجساماً وأعناقاً. وكان (يعفر بن) السكسك قد ولى ابنه هزان على اليمامة، فتوالى ملكها في بني هزان، ثم انقرض على يد:

جعفر بن قرط الهزاني

وقد ذكر صاحب التيجان، وأخبر أن قومه بني هزان كان يقال لهم: الغرانيق؛ لطولهم وحسنهم، وكان جعفر أعظمهم يأكل من النخلة السحوق وهو قاعد، وعلى يديه انقرض ملك هزان من اليمامة، وصار إلى طسم الذين كانوا ملوكها من قبل.
 وكان له حصن بالحفيف من جهة الأحقاف، فخرج يزور قبر هود عليه السلام ومعه ظعائن له، فخرج عليه عمرو بن عباد الفاتك في أصحاب له قد استعدوا لذلك، فطالبوه بأن يسلم الظعائن، فقال شعراً منه:

خل الظغائن تسلك جانب الـوادي

 

واصرف عنانك عنها يا ابن عباد

لا تعرضن لقوم حـول أظـعـنة

 

فان خلفهم ضـرغـامة عـاد

 

فأبى عمرو إلا لجاجاً، فأسره جعفر، ثم أحسن إليه وأطلقه. فجاءه عمرو بعد ذلك بهدية احتفل فيها شكراً على ما صنعه معه، فقبلها جعفر، وأنس به، وأحضره شرابه. فلما سكر جعفر ملك اليمامة قتله عمرو. وكان عمرو قد عشق ابنته جدجاد فطلبها حينئذ، وكانت بلقيس ملكة اليمن قد هربت من ذي الأذعار، واستجارت بجعفر، فتحيلت على عمرو بن عباد حتى قتله كما تقدم في تاريخ بلقيس.
وملكت جدجاد بنت جعفر بن قرط اليمامة، وكان قومها قد طردوا طسماً وجديسا إلى بريتهما، فلما سمعوا ما جرى على جعفر، وأن الملك في يد امرأة عادوا إلى الحرب حتى أخذوا اليمامة، وانقرض ملك بني هزان.


(وذكر صاحب التيجان أن جعفر بن قرط هو القائل وقد بلغ ثلاثمائة سنة:

 

إن الليالي أسرعت في نقضي

 

أكلن بعضي وتركن بعضي

الأعقب بن هزان

ذكر صاحب التيجان أنه كان من شعرائهم، وأنشد له قوله حين تحارب بنو هزان مع جديس على أرض عدن، فانهزم بنو هزان إلى اليمامة:

 

قد غرنا من دهرنا طول المنى

 

وشتت الله علينا شمـلـنـا)

بنو همدان

أفعى نجران ملكها

ذكر البيهقي أن سلفه [كانوا] يلون نجران وطاعته للتبابعة، وكان كل ملك منهم لقبه الأفعى. والمشهور منهم بهذه الصفة القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن واثل بن حمير.


قال صاحب التيجان: "كان داعياً من دعاة سليمان" عليه السلام، أرسلته إليه بلقيس وكان نائبها على نجران، فرأى من سليمان ما علم به أنه نبي وآمن وحسن إيمانه. وخطب الناس بعد موت سليمان وأحسن ذكره، ورثاه بشعر قال فيه في ذكر ذي القرنين:

 

وكان الصعب في دنياه صعباً

 

وحكم الدهر كان له قـرين

وكـان عـلـيه لــلأيام دين

 

فقد قضيت عن المرء الديون

 

وطال عمره حتى جرى له مع أولاد نزار ما هو مذكور في تاريخ العدنانية.

 

عمه القلمس بن همدان

 

ذكر صاحب التيجان أنه أول من حرم الخمر في الجاهلية على نفسه؛ لأنه سكر وأغار على بلاد أخيه والد أفعى نجران، وواقع أم الأفعى، فحملت منه بالأفعى، فلذلك قال فيه بنو نزار: إنه لزنية، وقال عمه شعراً ندم فيه على ما فعل، وذكر الخمر:

 

لها سورة تدعو الحليم إلى الصبا

 

وتظهر من أحواله كل فاضح

 

وذكر أن المشلل والبحرين كانا لأفعى نجران، واستولى على نجران بعدهم بنو مذحج، والملك منهم في بني الحارث ابن كعب.

قضاعة بن مالك بن حمير

في تقدم في عمود سلطنة التبابعة أن مالك بن حمير نافس أخاه واثل بن حمير، فخرج عليه ببلاد الشحر، وما زال يحاربه وواثل في قصر غمدان، حتى مات مالك وولي بعده ابنه قضاعة.


ذكر صاحب التيجان أنه حارب السكسك بن واثل إلى أن قهره السكسك، واقتصر قضاعة على ما بيده من بلاد الشحر.


ووجد قبر قضاعة في جبل الشحر بقرب قبر هود عليه السلام، وعليه مكتوب بالمسند: هذا قبر قضاعة بن مالك بن حمير. ومكتوب أيضاً بعده: كنا زينة للناظرين، فصرنا عبرة للزائرين! وأبيات تدل أنه ملك غمدان وذمار والعراقين.


وملك بعده ولده:

إلحاف بن قضاعة

ثم ملك بعده ابنه:

مالك بن إلحاف

وجرت له حروب مع التبابعة، فأخرجوه من البلاد، وطردوه إلى الحبشة، ثم آل أمره إلى أن ملك بعمان.


قال البيهقي: وملك مهرة بن حيدان بن إلحاف بن قضاعة بلاد الشحر، وحارب عمه مالك بن إلحاف صاحب عمان عليها، فتغلب هو وولده على الصقع، ونسب إليهم إلى اليوم، فقيل بلاد مهرة.


قال البيهقي: ولما دخلت فضاعة بالفتنة التي كانت بينها وبين بني عمها التبابعة إلى الحجاز، خمد ذكرهم في اليمن وجهاته، واشتهروا بالحجاز، ونسبوا إلى معد بن عدنان، فقيل: قضاعة بن معد بن عدنان. وإنما الأصح والأشهر ما قاله شاعرهم:

 

نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر

 

قضاعة بن مالك بن حمـير

 

وأشهر قبائل قضاعة وأضخمها:

 كلب بن وبرة

 ابن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وهي من الأرحاء المذكورة في العرب، تديرت في الجاهلية دومة الجندل، وتيماء وتبوك، وأطرار الشام، وجاورت النصرانية فغلبت عليها.


ولما جاء الإسلام دخل منهم خلق كثير ممن أبى الإسلام إلى بلاد الروم، فكانوا بها ضاحية، ونال بلاد الإسلام منهم شر كثير.
وأعلام كلب في الجاهلية ممن له ترجمة:

زهير بن جناب الكلبي

من واجب الأدب: كان رئيس كتاب كلب في الجاهلية وقائدها في حروبها، وطال عمره. وهو من شعراء كتاب الأغاني، وله البيتان المشهوران:

إذا ما شئت أن تسلى حبيباً

 

فأكثر دونه عدد الليالي

فلما سلى حبيبك مثل نأي

 

ولا أبلى جديدك كابتذال

 

وأنشد له أبو تمام في حماسته:

 

فارس يكلأ الصحـابة مـنـه

 

بحسام يمر مـر الـحـريق

لا تراه لدى الوغى في مجـال

 

يعتلي العير لا ولا في مضيق

من يراه يخله في الحرب يوماً

 

أنه أخرق مضل الـطـريق

 

وذكر صاحب قطب السرور أنه أسره همام بن مرة سيد وائل، فعرض عليه في فدائه مائة من الإبل، فأبى أن يقبلها، وقال: أحسن من ذلك عندي أن أطلقك على ألا تشرب شراباً أبداً إلا بدأت بذكري وحياتي، وشربت قبل نفسك. فأطلقه على ذلك الشرط.

زهير بن شريك الكلبي

من واجب الأدب: كان من رؤساء كلب في الجاهلية، وكان منهوماً في الخمر، وهو القائل:

 

ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل

 

وتزعم أني بالسـفـاه مـوكـل

وأني جعلت المال فيها خـسـارة

 

فليس على مال لـدى مـعـول

فقلت لها: كفي عتابك نصطحـب

 

وإلا فبيني فالتـعـزب أمـثـل

عمرو بن حذام الكلب

من واجب الأدب: هو الذي عناه امرؤ القيس في قوله: نبكي الديار كما بكى ابن حذام قال ابن الكلبي: إذا سئلت كلب عما وصف به جذام الديار أنشدوا أبياتا من قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وذكروا أن أمرئ القيس أغار عليها وكان يصحبه، وهو أول من وصف الديار.

حارثة بن شراحيل الكلبي

هو أبو زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه. وكان ابنه زيد قد أصابه سباء في الجاهلية، فصار إلى خديجة زوج النبي عليه السلام، فوهبته له فتبناه.


وأنشد ابن عبد البر في كتاب الصحابة لحارثة المذكور يبكي ابنه زيداً لما فقده:

 

بكيت على زيد ولم أدر ما فـعـل

 

أحي يرجى أم أتى دونه الأجـل؟

فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة

 

فحسبي من الدنيا رجوعك أن يحل

تذكرنيه الشمس عند طـلـوعـهـا

 

وتعرض ذكره إذا قارب الطفـل

وإن هبت الأرواح هيجـن ذكـره

 

فيا طول ما حزني عليه ويا وجل!

 

وحج جماعة من كلب، فزاروا زيداً بمكة، فأعلموا أباه فسار إلى مكة في طلبه، واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في شأنه، فأحضره وخيره، فاختار النبي عليه السلام على أبيه وأهله.


ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية والإسلام:

جهينة

قال الحازمي: "هي قبيلة عظيمة ينتسب إليها بطون كثيرة". وكانت منازلها أطراف الحجاز الشمالي من جهة بحر جدة. وهي الآن قبيلة ضخمة باقية على أنبه ما كانت عليه، ومنازلها بصعيد مصر، وتجاورها إلى جهة الحجاز بلي، وهي أيضاً من قبائل قضاعة الضخمة إلى الآن. وللقبيلتين تراجم في الإسلام، ولم أقع من تراجمهم في الجاهلية إلا على:

عبد الشارق بن عبد العزى الجهني

من شعراء الجاهلية، أنشد له أبو تمام في حماسته أبياتاً تقع في منصفات العرب، منها:

 

ولما لم ندع قوساً وسهـمـاً

 

مشينا نحوهم ومشوا إلينـا

فآبوا بالرماح مكـسـرات

 

وأبنا بالسيوف قد انحنينـا

فباتوا بالصعيد لهم كـلـوم

 

ولو خفت لنا الكلمى سرينا

 

ومن قبائل قضاعة المشهورة:

تنوخ

قال الحازمي: "ينتسبون إلى تنوخ، واسمه مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة"، وأسد أخو كلب.


وذكر البيهقي أنه كان لتنوخ ملك في عين التمر، ولهم محاربات في الجاهلية مع ملوك بني نصر أصحاب الحيرة. قال: ثم انقرضوا من هنالك وتفرقوا على البلاد.

 

ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية:

بنو سليح

 وهو عمرو بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. قال الحازمي: "منهم نفر يسير بالشام ومصر". قال البيهقي: كان لهم صيت في الجاهلية بالشام، ثم قلوا وذلوا.

ومن تواريخ الأمم أن بني سليح ملكوا بادية الشام وهم عمال للقياصرة، إلى أن نزل عليهم غسان الذين خرجوا من اليمن عند سيل العرم، فغلبوا عليهم، وأذهبوا ملكهم.

ومن قبائل قضاعة:

بنو نهد

سكنت أجواز السروات باليمن؛ والمذكور منها:

الصقعب بن عمرو النهدي

ذكر صاحب العقد أن اسمه جشم بن عمرو، وكان سيد نهد في الجاهلية، وكان قصيراً أسود دميماً. وكان النعمان قد سمع بشرفه، فلما بصر به نبت عينه عنه، فقال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فقال: أبيت اللعن، إن الرجال ليست بمسوك فيستقى فيها الماء، وإنما المرء بأصغريه، إن نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجنان؛ قال: صدقت. ثم قال: كيف علمك بالأمور؟ قال: أنقض منها المفتول، وأبرم السحيل، وليس لها بصاحب من لا ينظر في العواقب.


(ومن أمثال أبي عبيدة: كان الصقعب من حكماء العرب، فقال له النعمان بن المنذد: ما الداء العياء؟ فقال: جار السوء إن خاصمك بهتك، وإن غبت عنه سبعك).


ومن واجب الأدب: كان ابنه خالد بن الصقعب رئيساً في الإسلام مشهوراً بالشجاعة. والصقعب القائل في وصف رقاص:

 

عجبت من رجليه يتبعانه

يعلوهما طوراً ويعلوانه

كأن أفعيين يلسعانه

 

ومن قبائل قضاعة المشهورة في الجاهلية:

بنو العبيد

ملوك سنجار والحضر من بلاد الجزيرة. وقد ذكر ابن إياس صاحب تاريخ الموصل أنهم ينتسبون إلى بني سليح. قال: والعبيد هو ابن الأبرص (بن عمرو) ابن أشجع بن سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة. كانوا في خلق كثير بالجزيرة؛ والمذكور منهم:

الضيزن بن معاوية بن العبيد

قال: هو صاحب الحضر بأرض الثرثار، والعجم تعرفه بالساطرون، وفيه قال أبو دواد الايادي:

 

وأرى الموت قد تدللى من الحض

 

ر على رب أهله الساطـرون

 

وقد قيل: إنه الذي غزا الأعرج من ولد سليمان النبي عليه السلام بالقدس، وكاتبه بختنصر. ولما قتل سابور الضيزن قال عمرو بن كلثوم سيد بني تغلب، وكان معه:

 

ألم يأتيك والأنباء تنـمـي

 

بما لاقت سراة بني العبيد

 

قال: وملك بختنصر الحضر بعد ملك الضيزن؛ وقد تقدم ذكره في تاريخ السريان.


ومن تاريخ الطبري أنه اختلف في الضيزن: فقيل: إنه من قضاعة، وقيل: إنه من الجرامقة. قال: وذكروا "أنه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى، وكان ملكه قد بلغ الشام، وتطرف بسواد العراق في غيبة سابور بخراسان. فلما قدم سابور شخص إليه، وأناخ على حصنه، فلم يقدر عليه نحو أربع سنين".


"ثم إن النضيرة بنت الضيزن عركت، فأخرجت إلى ربض المدينة، وكانت من أجمل أهل زمانها، وكان سابور من أجمل أهل زمانه؛ فرأى كل منهما صاحبه، فتعاشقا وتراسلا، إلى أن قالت له: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة وتقتل أبي؟ قال: أحكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصك بي دونهن. قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها: بحيض جارية بكر زرقاء؛ ثم أرسلها، فإنها تقع على سور المدينة فتتداعى - وكان ذلك طلسم المدينة. ففعل، فتداعى سور المدينة، وفتحها عنوة، وقتل الضيزن، وأباد بني قضاعة الذين كانوا معه فلم يبق منهم باقية؛ فقال عمرو بن إله وكان مع الضيزن:

 

ألم يأتيك والأنباء تنـمـي

 

بما لاقت سراة بني العبيد

ومصرع ضيزن وبني أبيه

 

وأحلاس الكتائب من تزيد

أتاهم بالفيول مـجـلـلات

 

وبالأبطال سابور الجنـود

قال: "وكانت أم الضيزن من تزيد بن حلوان [بن عمران بن إلحاف] ابن قضاعة".


 وأخرب سابور المدينة، واحتمل النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها في عين التمر. فذكر أنها لم تزل ليلتها تتضور من خشونة فرشها، وهي من حرير محشوة بالقز، فالتمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها، فقال لها سابور: ويحك! بأي شيء كان يغذوك أبوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر! قال: وأبيك لأنا أحدث عهداً [بك] وأوثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين؟ وأمر رجلاً فركب فرساً جماحاً، ثم عصب غدائرها بذيله، ثم استركض الفرس فقطعها قطعاً؛ فذلك قول الشاعر:

أقفر الحضر من نضيرة فالمر

 

باع منها فجانب الثـرثـار

 

قال الطبري: "وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن، وإياه عنى عدي بن زيد في قوله:

 

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج

 

لة تجبى إليه والخـابـور

شاده مرمراً وجللـه كـل

 

ساً فللطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون فباد ال

 

ملك عنه فبابه مهجـور