القسم الثاني: ملوك عرب الشام الغسانيين

ملوك عرب الشام الغسانيين

النسب في الأزد كما تقدم، وغسان ماء شربوا منه فعرفوا به؛ قال حسان بن ثابت:

 

إما سألت فأنا معشر نجب

 

الأزد نسبتنا والماء غسان

 

وقد تقدم أنهم لما خرجوا من اليمن عند سيل العرم تفرقوا على البلاد.


ومن تواريخ الأمم: "نزلت غسان من الأزد بادية الشام، والملك بها في سليح بن حلوان بن قضاعة وهم من قبل القياصرة، فضربت عليهم ملوك سليح وهم الضجاعمة الاتاوة. فلما أتى سبيط والي الجباية لأخذها من ثعلبة بن عمرو الغساني وأغلظ له، رفق به ثعلبة وكان حليماً، وقال له: هل لك فيمن يزيح عللك في الإتاوة؟ قال: نعم؛ قال: عليك بأخي جذع بن عمرو، وكان فاتكاً. فأتاه سبيط، وأغلظ له في المقال، فسل جذع سيفه، وضربه حتى برد، فقيل: "خذ من جذع ما أعطاك"، وذهبت مثلا. ووقعت الحرب بين سليح وغسان، فأخرجت غسان سليحا من الشام، وصارت ملوكها".


وكان أول ملوكهم:

جفنة بن عامر مزيقيا الأزدي

وقد تقدم ذكر أبيه في التبابعة ملوك اليمن ولم سمي مزيقيا.


وقيل: إنه "سمي بذلك لأن الأزد تمزقت على عهده عند الخروج من اليمن بسبب سيل العرم".


قال صاحب تواريخ الأمم: "وكان سيل العرم قبل الإسلام بأربعمائة سنة". قال: "ولما ملك جفنة بني جلق - وهي دمشق - وعدة مصانع، وكان ملكه خمسا وأربعين سنة وثلاثة أشهر".


ثم ولي ابنه:

عمرو بن جفنة

وبني الأديار، ودان بالنصرانية، ثم ملك ابنه:

ثعلبة بن عمرو

وبنى المباني بالبلقاء، ثم ملك ابنه:

الحارث بن ثعلبة

ثم ملك ابنه:

جبلة بن الحارث

وبنى القناطر، ثم ملك ابنه:

الحارث بن جبلة

وأمه مارية ذات القرطين بنت عمرو بن جفنة. وكان مسكنه بمعان، ثم ملك ابنه:

المنذر بن الحارث

ثم ملك أخوه:

النعمان بن الحارث

ثم ملك أخوه:

جبلة بن الحارث

 ملك أخوه:

الأيهم بن الحارث

وبنى أدياراً، ثم ملك أخوه:

عمرو بن الحارث

وبنى مباني، ثم:

جفنة بن المنذر الأكبر بن الحارث

ابن مارية، وهو محرق، سموه بذلك لأنه حرق الحيرة، فعرف ولده بآل محرق. وكان جوالا في الآفاق. وملكه ثلاثون سنة. وملك بعده:

النعمان الأصغر

ابن المنذر الأكبر بن الحارث بن مارية. ثم:

 النعمان بن عمرو بن المنذر

الذي بنى قصر السويداء، وقصر حارب عند صيداء. قال: وأبوه عمرو لم يكن ملكاً، وإنما كان يغزو بالجيوش، وفيه يقول النابغة الذبياني:

 

لعمرو علينا نعمة بعد نعمة

 

لوالده ليست بذات عقارب

 

وذكر أباه فقال وقبر بصيداء الذي عند حارب ثم ملك ابنه:

جبلة بن النعمان

وكان منزله بصفين، وهو صاحب عين أباغ، وكانت له الوقعة المشهورة على المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، حتى ظهرت النجوم بالنهار من شدة العجاج، وقتل المنذر في ظهر اليوم. ويعرف أيضاً هذا اليوم بيوم حليمة، وهي بنت جبلة الملك، وفيه قيل: "ما يوم حليمة بسر".
ثم ملك:

النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية

ثم ملك:

الحارث بن الأيهم

ثم ملك ابنه:

النعمان بن الحارث

ثم ملك ابنه:

المنذر بن النعمان

ثم ملك أخوه:

عمرو بن النعمان

ثم ملك أخوه:

حجر بن النعمان

ثم ملك ابنه:

جبلة بن الحارث

وهو ابن أبي شمر. ثم ملك أخوه:

أبو كرب النعمان بن الحارث

ولقبه قطام، وبكاه النابغة الذبياني بقوله:

 

بكى حارث الجولان من فقد ربه

 

وحوران منه خاشع متضـائل

 

وحارث: قصر كان له بالجولان، وحوران بلد في جهات دمشق ثم ملك:

الأيهم بن جبلة بن الحارث

وهو صاحب تدمر المدينة المشهورة بالشام والموقع الحرب بين جسر وعاملة. ثم ملك أخوه:

المنذر بن جبلة

ثم ملك أخوه:

إسرافيل بن جبلة

ثم ملك أخوه:

عمرو بن جبلة

ثم ملك ابن أخيه:

جبلة بن الحارث

ثم ملك:

جبلة بن الأيهم

ابن جبلة بن الحارث بن مارية. قال: وهو آخر ملوك غسان بالشام، أسلم ثم تنصر".


وهو باني مدينة جبلة على ساحل الشام.


وذكر البيهقي أن طوله كان اثني عشر شبراً. وحكايته طويلة استوفاها ابن عبد ربه في العقد، واختصارها أنه لما أسلم ووفد على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طاف بالبيت، فوطئ فزاري على إزاره، فلطمه جبلة فهشم أنفه، فاستعدى عليه عمر، فقال: إما أن ترضيه وإلا أقدته. فرغب منه أن يمهله إلى غد ذلك اليوم، فلما كان الليل فر بأصحابه إلى القسطنطينية وتنصر. وقال بعد ذلك:

 

تنصرت الأشراف من أجل لطـمة

 

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تكنفني فـيهـا لـجـاج ونـخـوة

 

وبعت لها لعين الصحيحة بالعـور

فيا ليت أمي لم تلدنـي ولـيتـنـي

 

رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر

ويا ليتني أرعى المخاض بقـفـرة

 

وكنت أسيراً في ربيعة أو مضـر

ولما جاء رسول عمر رضي الله عنه إلى هرقل بالقسطنطينية اجتمع بجبلة - وهو في رفاهية عظيمة كما يكون الملوك، والجواري تغنيه بشعر حسان بن ثابت، وكان مداحا له في الجاهلية - فدعاه ذلك الرسول إلى الإسلام، فقال: إن كنت تضمن لي زواج بنت عمر، والأمر من بعده، رجعت إلى الإسلام. فضمن له التزويج ولم يضمن له الأمر ثم سأله عن حسان الشاعر، فأمر له بكسوة وجمال موقرة براً، وقال: إن وجدته حياً فادفع إليه الهدية، وإن وجدته ميتاً فادفع إلى أهله، وانحر الجمال على قبره.

فلما أخبر عمر بذلك، قال له: هلا ضمنت له الأمر، فإذا أفاء الله به إلى الإسلام قضى عليه بحكمه.

وبعث عمر رضي الله عنه إلى حسان، فأقبل وقد كف بصره، فقال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريح آل جفنة عندك. قال: نعم، هذا رجل أقبل من عند جبلة. قال: هات ما بعث معك، فقال له: وما علمك بذلك؟ قال: إنه كريم من عصبة كرام، مدحته في الجاهلية فحلف ألا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي شيئاً. فدفع إليه تلك الهدية، وأخبره بما حد له في الجمال، فقال: وددت أنك وجدتني ميتا، فنجرتها على قبري!  

ثم عاد الرسول، فأمره عمر أن يضمن له الأمر من بعده، فعندما دخل القسطنطينية وجد الناس منصرفين من جنازته.


ومن عقبه البرجلوني أحد ملوك النصارى بالأندلس.


قال صاحب تواريخ الأمم: "جميع ملوك بني جفنة من غسان اثنان وثلاثون ملكا، وملكهم ستمائة سنة وسنة".

 

ومن الكمائم: هؤلاء الملوك كانوا لا يستقرون في مدينة يتوارثون فيها الملك مثل بني نصر بالحيرة. نزلوا في أول أمرهم بجلق، وأحيوا رسومها بعدما خرجت. ودفن جفنة أول ملوكهم بالبريص، وهي قرية عند وادي الشقراء بظاهر دمشق. ولذلك يقول حسان فيهم:

 

لله در عصـابة نـادمـتـهـم

 

يوماً بجلق في الزمـان الأول

أولاد جفنة حول قبـر أبـيهـم

 

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم

 

بردى يصفق بالرحيق السلسل

 

وبردى: نهر دمشق.


قال: وبالبريص كان قصر ملكهم، ثم استحسنت الروم دمشق، فأخذتها منهم، وصارت متنزها لملوكهم. وأخرجتهم إلى عمان مدينة البلقاء، فتولوها، ونزلوا اليرموك من حوران، والجولان، وصيداء، وجبلة، وترددوا في هذه الأماكن إلى أن جاء الإسلام. وكان آخر ملوكهم جبلة، فانقرضت دولتهم، وصار كثير من فرسان غسان إلى بلاد الروم وتنصروا، وورث الأرض من العرب غيرهم، إلى أن استقر بها الآن العرب المعروفون بالأمراء من بني طيء.

خزاعة

وأما خزاعة فإنها قبيلة مشهورة انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا أيدي سبا من سيل العرم، ونزلت ببطن مر على قرب من مكة، ثم حصلت لها سدنة البيت والرياسة.


قال الحازمي: "خزاعة هو كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو" مزيقيا الأزدي. وقد تقدم عمرو مزيقيا في التبابعة.
قال البيهقي: وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدية واليمانية، والأكثرون يقولون: إنها يمانية من الفرق التي خرجت من سيل العرم.
وذكر المؤرخون أنه لما سارت قبائل اليمن في البلاد بعد سيل العرم أقام حارثة بن مزيقيا بمكة، فولي أمرها، وغلب على من كان فيها من جرهم والمعدية، ثم أخذه الرعاف فمات. وصار كل من يليها منهم لا يقيم إلا سبعة أيام ويموت بالرعاف. فهربوا إلى جهة المدينة، وتخزعت خزاعة، فأقامت ببطن مر من جهة مكة، وسميت خزاعة. وقال فيها عمرو بن أنيف الغساني:

 

ولما هبطنا بطن مر تخزعـت

 

خزاعة منا في بطون كراكير

حمت كل واد من تهامة واعتلت

 

بسمر القنا والمرهفات البواتر

 

وأول من عظم بمكة من خزاعة، ورأس وأخذ مفتاح الكعبة واشتهر:

عمرو بن لحي

ابن حارثة بن مزيقيا الأزدي. هذا هو النسب المشهور عند اليمانية، ونساب المعدية تجعله منها لشرفه وسمو ذكره في الجاهلية، وتقول: إنه عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر.

وإن الرياسة وولاية البيت لم تزل في بني إسماعيل إلى أن انتهت إلى عمرو المذكور، فدانت له العرب، واتخذته رباً تمتثل كل ما أمرها به في أديانها.

ومنهم من قال: إنه من ولد قنص بن معد، وإنهم عادوا إلى مكة فملكوها. واليمانية تذكر ما تقدم، وأنه ورث سلطنة مكة عن آبائه، وأنه من نسل مزيقيا المذكور في التبابعة.

قال البيهقي: ولم يكن لخزاعة في ولاية البيت نصيب، إلى أن صار لعمرو بن لحي. وذلك أن خزاعة لما ملكوا مكة كان الشرط على أن يخلوا مفتاح البيت في أيدي بني إسماعيل، وعاهدوهم على ذلك. فاستقر بنو إسماعيل على سدانة البيت، وخزاعة على ولاية الأمر. وكان بنو إياد قد بقيت منهم بقايا في مكة، فرغب المضريون إلى خزاعة أن يعينوهم على إخراجهم، فأخرجوهم، فعمدوا إلى الحجر الأسود، ودفنوه في الليل في موضع خفي حسداً لبني مضر؛ وبصرت به امرأة من خزاعة.

وأصبح الناس من فقده في أمر عظيم؛ وجاءت المرأة فأعلمت بذلك عمراً، فجمع بني إسماعيل وخزاعة، وقال: يا بني إسماعيل، إن الله ملككم البيت وأمر الناس ما شاء، ثم نزعه منكم إلى ما يشاء، والأديام دول، والأحوال تحول، وإنما يأبي قضاء الله من فسد حسه. وقد أصبح الملك فينا، وولاية البيت كانت لكم بشرط عقدناه بيننا. وكان الحجر الأسود أعظم ما بمكة، وبه كمال الحج، فكيف ترون أمركم بعد فقده؟ فقالوا: ما لنا حياة بعده، وما بقي لنا منسك دونه! قال: فإن رده أحد عليكم، أتسندون له ولاية البيت؟ فقالوا: كيف لنا به وإياد قد حملته معها! قال: جاوبوني على ما قلت لكم؛ قالوا: نعم. فأحضر المرأة الخزاعية، ودلتهم على المكان الذي دفنوه فيه، فأخرجوه، وردوه إلى مكانه. وصارت حجابة البيت في يد عمرو وولده من بعده، ولم يبق لبني إسماعيل لا سلطنة ولا سدانة.

قال البيهقي: وحين استوى لعمرو أمره بالملك والسدانة، قال في خاطره أن يغير دين بني إسماعيل، ويخرج من عنده دينا يتبع؛ وأعانه على ما أراده كثرة المال والكرم وعز القوم.

قال صاحب الروض الأنف: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عرفت أول من سيب السائبة ونصب النصب عمرو بن لحي وجدته يؤذي أهل النار بريح قصبه".

قال: "وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على الحرم قد جعلته العرب رباً لا يبتدع بدعة إلا اتخذوها شريعة، وربما كان ينحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، ويكسو عشرة آلاف ثوب. وكان يلت السويق على صخرة اللات، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتاً سموه اللات. ويقال: دام أمره وأمر ولده على هذا ثلاثمائة سنة".

"وذكر الأزرقي في أخبار مكة أن عمرو بن لحي فقأ أعين عشرين بعيراً، وكانوا من بلغت إبله ألفا فقأ عين بعير. وفيهم قيل:

وكان شكر القوم عند المـنـن

 

كي الصحيحات وفقء الأعين"

 

"وكانت التلبية في عهد إبراهيم عليه السلام: اللهم لبيك لا شريك لك، حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي إذ تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك؛ فقال الشيخ: إلا شريكاً هو لك! فأنكر ذلك عمرو، فقال الشيخ: تملكه وما ملك؛ فإنه لا بأس بهذا! فقالها عمرو ودانت بها العرب".


قال صاحب الكمائم: وتوالى الملك بمكة وحجابة البيت في ولد عمرو بن لحي، ثم قويت قريش، وصار كل رئيس له أمر أهل بيته، إلا أن مفتاح الكعبة كان في يد:

أبي غبشان الخزاعي

قال الأصفهاني في كتاب أفعل: "وما قولهم: "أحمق من أبي غبشان" فإنه رجل من خزاعة. ومن حديثه أن خزاعة كانت لها سدانة البيت قبل قريش، وكان أبو غبشان يلي ذلك، فاتفق عليه أن اجتمع مع قصي بن كلاب في شرب بالطائف، فخدعه قصي عن مفاتيح الكعبة بأن أسكره، ثم اشترى المفاتيح منه بزق خمر وأشهد عليه، ودفع المفاتيح لابنه عبد الدار بن قصي، وطيره إلى مكة. فلما أشرف عبد الدار على دور مكة رفع عقيرته وقال: معاشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل، قد ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم. فأفاق أبو غبشان من سكرته أنجم من الكسعي، فقال الناس: "أحمق من أبي غبشان" و"أندم من أبي غبشان" و"أخسر صفقة من صفقة أبي غبشان".


وأكثر الشعراء القول في ذلك، فقال بعضهم:

 

باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت

 

بزق خمر فبئست صفقة البادي

باعت سدانتها بالنزر وانصرفت

 

عن المقام وظل البيت والنادي

 

وقال آخر:

إذا افتخرت خزاعة في قـديم

 

وجدنا فخرها شرب الخمور

وبيعا كعبة الرحمن حمـقـاً

 

بزق بئس مفتخر الفخـور"

 

ومن كتاب مروج الذهب: "إن قصي بن كلاب كان قد تزوج في خزاعة، فجعل أبو زوجته ولاية البيت لها، فجعلته لأبي غبشان الخزاعي، فباعه إلى قصي ببعير وزق خمر".


قال البيهقي: وجمع قصي أشتات قريش، وظهر على خزاعة، وأخرجها من مكة إلى بطن مر، فسكنت هنالك إلى جهات المدينة، ثم أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وتفرقت في البلاد.


وشعراؤها في تاريخ الإسلام:

مطرود بن سعد بن كعب الخزاعي

فانه كان من شعراء الجاهلية، وأنشد له صاحب السيرة النبوية:

يا أيها الرجل المحول رحـلـه

 

هلا نزلت بال عبد مـنـاف

هبلتك أمك لو حللت بـدارهـم

 

منعوك من خزي ومن إقراف

المطعمون إذا النجوم تغورت

 

والظاعنون لرحلة الايلاف

بارق

وأما بارق فذكر النسابون أنهم ينتسبون إلى سعد بن عدي بن عمرو مزيقيا الأزدي، نزلوا جبلا بجانب اليمن يقال له بارق، فسموا به. ومن شعراء الجاهلية منهم:

معقر بن حمار البارقي

ذكره صاحب الأغاني، وأخبر أن اسمه سفيان، وأنه لقب بذلك لقوله كما نهدت للزوج حسناء عاقر.


ومن مشهور هذه القصيدة:

وحلت سليمى في هضاب وأيكة

 

فليس عليها بعد ذلـك قـادر

وألقت عصاها واستقر بها النوى

 

كما قر عيناً بالاياب المسافـر

 

قال: "وحضر يوم جبلة وهو شيخ كبير أعمى".

دوس

وأما دوس فهو ابن عدثان بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد، سكنوا إحدى السروات المطلة على تهامة، وكانت لهم دولة بالعراق.


وأصل خبرها - على ما ذكر صاحب تواريخ الأمم: "أن مالك بن فهم بن غنم بن دوس سار في جمهور من الأزد، ومالك بن تيم الله بن أسد بن وبره بن تغلب بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة [في جمهور من قضاعة]، فتنخوا - أي أقاموا - بالبحرين، وتحالفوا على من سواهم، فقيل لهم: تنوخ، وكان ذلك في مدة ملوك الطوائف. فسارت الأزد إلى العراق مع مالك بن فهم الدوسي؛ وسارت قضاعة إلى الشام، فصار الملك بالشام في سليح القضاعيين إلى أن غلب عليهم الغسانيون. وتملك على تنوخ بالعراق مالك بن فهم، وحل بالأنبار".
وقال مسكويه: أما تنوخ فهم قبائل كانوا يسكنون بالمظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات ما بين الحيرة والأنبار، وأبوا الإقامة في مملكة أردشير بن بابك ملك الفرس، فخرجوا إلى الشام. وأول ملوك الدوسيين بالعراق:

مالك بن فهم

ابن غنم بن دوس. ذكر صاحب تواريخ الأمم: أنه ملك بالأنبار وريف العراق في مدة ملوك الطوائف، وكان قد أغري بأن يعلم ولده سليمة الرمي إلى أن برع في الرماية، فاتفق أن رمى سليمة بالليل، فوقع السهم في أبيه مالك وهو لا يدري، فلما علم مالك أن ابنه رماه قال:

 

جزاني لا جزاه الله خيراً

 

سليمة إنه شراً جزاني

أعلمه الرماية كـل يوم

 

فلما اشتد ساعده رماني

 

ومات في أثر ذلك، وهرب سليمة إلى عمان، فعقبه بها.


وأخذ الملك بعد مالك جذيمة الأبرش، فبعضهم يقول: جذيمة بن مالك هذا، وبعضهم يقول: إنه من وبار من العرب البائدة، وقد تقدم ذكره فيها.


وقد قيل: إن الذي ورث ملك مالك بن فهم بالعراق ابنه:

جهضم بن مالك

قالوا: وإليه تنسب الجهاضمة رهط أبي حمزة الخارجي المختار.

 

قال الحازمي: "والجهاضم أثنتا عشرة فخذاً" منها الفراهيد رهط الخليل بن أحمد، وثمالة رهط المبرد.


وقيل: إنهم ينتسبون إلى جهضم بن جذيمة الأبرش؛ وقيل: لم يعقب جذيمة، ولذلك ورث ملكه بالعراق ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر اللخمي.

العيتك وغافق

وأما العيتك وغافق من الأزد فأعلامهم مذكورة في تاريخ الإسلام شرقاً وغرباً.

بنو نصر بن الأزد

ومن بني نصر بن الأزد:

بنو الجلندا

الذين توارثوا ملك عمان إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر البيهقي أن الجلندا لقب كل ملك منهم، ومنهم الجلندا الذي كان "يأخذ كل سفينة غصباً".


وكان ملك عمان في أول الإسلام إلى حبقر وعبد ابني الجلندا، وأسلما مع أهل عمان على يدي عمرو بن العاص؛ ثم ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليم وسلم، فارتدت الأزد بعمان وعليها حينئذ لقيط بن مالك الأزدي ذو التاج، ووجه إليه أبو بكر جيشاً قتله، وردهم إلى الإسلام.

تاريخ طيء

وهي الرحى الجليلة التي نزلت حين خرجت من اليمن بعد سيل العرم على بني أسد، فحاربتها إلى أن اصطلحتا على الجوار، فحلت طيء بجبلي أجأ وسلمى من نجد الحجاز إلى اليوم، وانتشرت في الأقطار؛ ولها اليوم دولة العرب بالحجاز والشام.
قالوا: وطيء وهو أدد بن زيد بن كهلان. قال البيهقي: طيء كثيرة الكرماء والسادة، وكانت الرياسة في الجاهلية في بني تيم الذين يقول فيهم امرؤ القيس بن حجر ملك كندة حين استجار بهم:

 

أقر حشا امرئ القيس بن حجر

 

بنو تيم مصابـيح الـظـلام

وكان ملكهم المعلى الذي يقول فيه من هذه الأبيات:  

فما ملك العراق على المعلى

 

بمقتدر ولا الملك الشآمـي

 

وذكر البيهقي: من بلاد طيء المشهورة في طريق الحجاج: سميرا وفيد؛ ونحن نذكر أعلامهم المشهورين في الجاهلية على ما بني عليه شرط هذا الكتاب.

حاتم بن عبد الله بن سعد

ابن الحشرج بن أخزم بن امرئ القيس بن عدي بن ربيعة بن جرول بن ثعل. وثعل من أكبر قبائل طيء، ينتسبون إلى ثعل بن عمرو بن عدي بن طيء، وهم مشهورون بالرماية.


وشهرة حاتم بالجود أجل من أن ينبه عليها، وقد اختصرت ترجمته في الأغاني.


"كان حاتم من شعراء الجاهلية، جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله. وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً، إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق. وكان أقسم بالله ألا يقتل واحد أمه؛ وكان إذا أهل رجب - والعرب تعظمه في الجاهلية - نحر في كل يوم عشراً من الإبل، وأطعم الناس، واجتمعوا إليه. وكان ممن يقصده من الشعراء: الحطيئة وبشر بن أبي خازم".


"وكان قد تزوج ماوية بنت عفزر، وكانت تعذله على إتلاف المال وتلومه"، فلا يقبل منها. وكان لها ابن عم يقال له: مالك، فقال له يوماً: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد مالا ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن له، ولئن مات ليتركن ولدك عيالا على قومك! قالت: صدقت، إنه لكذلك - وكان النساء [أو بعضهن] يطلقن الرجال في الجاهلية، وعلامة الطلاق أن تحول بيتها إلى الجهة الأخرى - ووعدها أن يتزوجها وله المال الكثير. فأتى حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال لولده: يا عدي، أما ترى أمك عدا عليها فلان! ثم هبطا بطن واد، ونزلا فيه.
وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، فاجتمعوا خمسين رجلا؛ فضاقت بهم ماوية ذرعاً، وقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك، فقولي له: إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا، فأرسل إلينا بلحم نقريهم ولبن نسقيهم؛ وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه، فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن هز بلحيته على زوره وأدخل يده في رأسه، فأقبلي ودعيه. ففعل ما قدرته فيه من اللؤم، وقال: قولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما فيه، وما عندي ما يكفي هؤلاء.


فرجعت وأخبرت سيدتها، فقالت: اذهبي إلى حاتم. فعندما عرفته بمكان الأضياف، قام إلى الإبل فأطلق ثنيتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتيا الخباء، ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك من أجله، تترك أولادك وليس لهم شيء".
وقيل لماوية: "حدثينا ببعض عجائب حاتم، فقالت: كان كل أمره عجباً: أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف، فإني وإياه ليلة وقد أسهرنا الجوع، فأخذ عدياً، و[أخذت] بنته سفانة نعللهما حتى ناما، فأقبل علي يحدثني ويعللني حتى أنام، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال: نمت؟ فلم أجبه، فسكت. ثم نظر في فتق الخباء فإذا شيء من أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال لها: من هذا؟ قالت: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعا، فقال: أحضري صبيانك، فوالله لأشبعنهم! قالت: فقمت سريعاً فقلت: بماذا يا حاتم؟ فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعلل! فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها. ثم قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح ناراً وأججها ثم دفع لها شفرة، وقال لها: اشوي وكلي. ثم قال لي: أيقظي صبيانك، ثم قال: والله إن هذا للؤم، تأكلون وأهل الصرم حالهم مثل حالكم! فجعل يأتي القوم بيتاً بيتاً، فيقول: انهضوا عليكم بالنار. قال: فاجتمعوا حول تلك الفرس، وتقنع بكسائه وجلس ناحية، فما أصبحوا وعلى الأرض منها قليل أو كثير إلا عظم أو حافر، وإنه لأشد جوعاً منهم وما ذاقه".


ومن مشهور شعره قوله:

 

أمـاوي إن الـمـال غـاد ورائح

 

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

وقد علم الأقوام لـو أن حـاتـمـاً

 

يريد ثراء المال كان لـه وفـر

أماوي إن يصبح صادي بقـفـرة

 

من الأرض لا مال لدي ولا خمر

تري أن ما أبقـيت لـم أك ربـه

 

وأن يدي مما بخلت به صـفـر

 

قال البيهقي: أعجب ما في جود حاتم أنه أطعم أضيافه وهو ميت؛ ولذلك قال أحد شعراء طيء:

 

ومنا الذي قد جاد حياً بـنـفـسـه

 

وجاد على أضيافه وهو في القبر

 وذلك أن قوماً من العرب باتوا على قبره، وفيهم رجل يقال له: أبو الخيبري، فجعل يقول: يا حاتم، أضيافك الليلة جياع! فلما ناموا رأى أبو الخيبري في نومه حاتماً قد قام من قبره بسيفه ونحر ناقته، فقام مذعوراً، فوجد الناقة منحورة لأكلها. فلما أصبحوا جاء عدي بن حاتم بناقة بدلها لأبي الخيبري، وعرف أنه رأى أباه في النوم، وأمره بذلك.

وأنشد أبو تمام لحاتم:

وما أنا بالساعي بفضل زمامـهـا

 

لتشرب ماء الحوض قبل الركائب

وما أنا بالطاوي حقيبة رحـلـهـا

 

لأبعثها خفاً وأترك صـاحـبـي

إذا كنت رباً للقلـوص فـلا تـدع

 

رفيقك يمشي خلفها غير راكـب

وقوله:

وإني لأستحيي رفـيقـي أن يرى

 

مكان يدي من جانب الزاد أقرعا

وإنك إن أعطيت بطنك سـؤلـه

 

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعـا

وقوله:

متى ما يجئ يوماً إلى المـال وارثـي

 

يجد جمع كف غير ملأى ولا صفـر

يجد فرساً ملء العـنـان وصـارمـاً

 

حساماً إذا ما هز لم يرض بالهـبـر

وأسـمـر خـطـياً كـأن كـعـوبة

 

نوى القسب قد ألقى ذراعاً على عشر

وقوله:

أضاحك ضيفي قبل إنـزال رحـلـه

 

ويخصب عندي والمـحـل جـديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى

 

ولكنما وجه الـكـريم خـصـيب

أبوه عبد الله بن سعد

من واجب الأدب أنه كان فارساً كريماً سيداً في قومه شاعراً. وله تنسب الأبيات التي أنشدها أبو تمام في حماسته لعنترة الطائي:

أطل حمل الشناءة لي ودعـنـي

 

وعش ما شئت فانظر من تضير

فمـا بـيديك نـفـع أرتـجـية

 

وغير صدودك الخطب الكبـير

إذا أبصرتني أعرضـت عـنـي

 

كأن الشمس من قبلـي تـدور

وكيف تعيب من تمسي فـقـيراً

 

إليه حين تخـز بـك الأمـور

ألم تر أن شعري سـار عـنـي

 

وشعرك حول بيتـك يسـتـدير

وأمه عنبة أم حاتم

من واجب الأدب: كانت نهاية في الجود، وأسرفت حتى لم تبق شيئاً، فقال قومها: لو سلبناها مالها فقاست الفقر لرجعت! فلما فعلوا ذلك ثم ردوا إليها مالها - وقد ظنوا أنها تصير أبخل خلق الله لما كابدته من الحاجة - أنهبته، وأفرطت في الإحسان به، وقالت:

لعمري لقدماً عضني الجوع عـضة

 

فاليت ألا أمنع الدهـر جـائعـا

فقولا لهذا اللائمي اليوم أعـفـنـي

 

وإن أنت لم تسطع فعض الأصابعا

وهل ما ترون الـيوم إلا طـبـيعة

 

وكيف بتركي يا ابن أم الطبائعـا!

أوس بن حارثة بن لأم

من بني ثعلبة بن جدعان بن طيء، وكان يضارع حاتماً في الكرم والرياسة. ومن العقد أنه "كان سيد وطيء". وهو ابن سعدي الذي عناه جرير بقوله لعمر بن عبد العزيز:

 

وما كعب بن مامة وابن سعدي

 

بأجود منك يا عمر الجـوادا

 

ومن واجب الأدب: كان سيد قومه، ونشر الله عقبه، فمنهم بنو لأم الذين هم الآن مشهورون في بلاد طيء، وإن كان فيهم من أولاد حارثة بن لأم من خرج عن عقبة، فإنهم قليل والأغلب ولده.


وكان بينه وبين حاتم على الاشتراك في الرياسة والمنافسة ألطف ما يكون بين اثنين، فتحدث في ذلك جلساء النعمان بن المنذر، وأظهروا التعجب منه. فقال النعمان: والله لأفسدن بينهما! قالوا: لا تقدر على ذلك؛ قال: قلما جرت الرجال في شيء إلا بلغته.
فدخل عليه أوس، فقال: يا أوس، ما الذي يقول حاتم؟ قال: وما يقول؟ قال: يزعم أنه أفضل منك وأشرف. قال: صدق أبيت اللعن، لو كنت أنا وأهلي وولدي لأنهبنا حاتم في مجلس واحد! ثم خرج وهو يقول:

 

يقول لي النعمان لا من نصـيحة

 

أرى حاتماً في فعله متطـاولا

له فوقنا باع كمـا قـال حـاتـم

 

وما النصح فيما بيننا كان حاولا

يسائلني النعمان كي يستزلـنـي

 

وهيهات لي من أن أزل وأخدعا

كفاني نقصاً أن أضيم عشيرتـي

 

بقول أرى في غيره متوسـعـا

فقال النعمان: ما سمعت بأكرم، منهما".

وقال النعمان مرة لأشراف العرب: تحضرون غداً لألبس أشرفكم حلة؛ فحضروا، ولم يحضر أوس. فقيل له في ذلك، فقال: إن كان الشريف غيري فقبيح حضوري، وإن كنت أنا وجه إلي. فافتقده النعمان فلم يجده، فأحضره وألبسه الحلة. فقيل للحطيئة: اهجه، وضمن له حساده على ذلك مراده، فقال:  

كيف الهجاء وما تنفك صالـحة

 

من آل لأم بظهر الغيب تأتيني

الهذيل بن مشجعة البولاني

من بني بولان من طيء، وهو من شعراء الحماسة. ويغلب الظن أنه كان جاهليا، وذكر ذلك البيهقي وأنشد له:

 

ألا عائذ بالله من عـدم الـغـنـى

 

ومن رغبة يوماً إلى غير مرغب

 

وله تنسب الأبيات المنسوبة إلى أبي عروبة المدني التي منها:

 

إني وإن كان ابن عمي خاذلا

 

لمدافع من دونـه وورائه

البرج بن مسهر الطائي

من واجب الأدب: شاعر فارسي طويل العمر جاهلي. كان معاصراً لوالد حاتم الطائي. واتفق له أن شرب الخمر، فعلبت على عقله، ففعل ببنته قبيحاً. واشتهر ذلك عنه، فحرم الخمر على نفسه، وخرج عن بلاد قومه، وجال إلى أن انتهى إلى القدس، وتنصر، ولازم بها العبادة.
وأنشد له أبو تمام في حماسته:

 

فنعم الحي كلـب غـير أنـا

 

لقينا في جوارهم هـنـات

ونعم القوم كلـب غـير أنـا

 

رزينا من بنين ومن بنـات

فان الغدر قد أمسى وأضحى

 

مقيماً بين خبت إلى المسات

تركنا قومنا من حرب عـام

 

ألا يا قوم للأمر الشـتـات

وأخرجنا الأيامى من حصون

 

بها دار الاقامة والثـبـات

فان نرجع إلى الجبلين يومـاً

 

نصالح قومنا حتى الممات

 

ومن الكمائم: هو الذي سمع أخته تبول، فقال: إني لأسمع شخة لابد لها من زخة - وكان سكران - فوثب عليها، فنالها. فلما أفاق أخبر بذلك، ففر إلى الشام وتنصر، ثم جعل يأسف على الذي كان منه، فشرب الخمر صرفا حتى ذهبت بروحه.

نفر الطائي

من الكمائم: هو جد الطرماح الشاعر، ومن شعره:

 

ألا قالت بهيسة ما لـنـفـر

 

أراه غيرت فيه الدهـور!

وأنت كذاك قد غيرت بعـدي

 

وكنت كأنك الشعري العبور

سيار بن الفحل الطائي

من واجب الأدب أنه من شعراء الجاهلية، وسألته امرأة عن أبيها وقد آب من حرب، فقال:

 

وقائلة يا فارس الخـيل دلـنـي

 

أبي هل ترى عنه المنية زلت؟

فقلت لها: لا علم لي غير أننـي

 

رأيت سيوف المشرفية سلـت

ودارت عليه الخيل دورين بالقنا

 

وحامت عقاب الموت ثم تدلت

عارق بن أمامة الطائي

من واجب الأدب: كان من شعراء الجاهلية معاصراً للبرج ابن مسهر، وكان مولعاً بهجو النعمان بن المنذر [عمرو] بن هند، وهو القائل:

فمن مبلغ عمرو بن هنـد رسـالة

 

إذا حملتها العيس تنضى من البعد

أيوعدني والرمل بـينـي وبـينـه

 

تبين رويداً ما أمامة من هـنـد

حصان وأخرى لانقاء لعـهـدهـا

 

تلاعب شبان الضيوف على عمد

حاجر بن ثعلبة الطائي

من شعراء طيء، ولا أتحقق أنه كان في الجاهلية، وله البيتان المشهوران:

كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتـسـى

 

ولم يك صعلوكاً إذا مـا تـمـولا

ولم يك في بؤسـى إذا بـات لـيلة

 

يناغي غزالا ساجي الطرف أكحلا

تاريخ مذحج

قال الحاتمي: اسمه مالك بن أدد بن زيد بن كهلان، وهي قبيلة كبيرة، ولها بطون كثيرة.


كان الملك والرياسة فيها في بني الحارث بن كعب، هكذا ذكر صاحب العقد. وقد قيل: إنه الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. فمن يقول إنهم من مذحج يقول: كانت بنو مذحج قد نزلت نجران، وعليها حاربت قبائل الأزد حين خرجت من سيل العرم، ولم تزل الرياسة بها في بني الحارث إلى أن جاء الإسلام وإلى اليوم. ومن يقول إنهم من الأزد يقول: إن بني الحارث نزلوا حينئذ فيهم، وغلبوا عليهم بالرياسة، وصار نسبهم فيهم. وأسلم أهل نجران والرياسة فيهم لبني عبد المدان من بني الحارث، وصاحبها حينئذ يزيد بن عبد المدان.

عبد يغوث بن صلاءة بن الحارث

من الأغاني: "كان من شعراء الجاهلية فارساً سيداً، وهو قائد بني الحارث بن كعب يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم. وهو من بيت معرق في الشعر [منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة]، وأخوه مسهر شاعر فارس، وهو الذي طعن عامر بن الطفيل"؛ ولذلك يقول اللجلاج الحارثي الشامي:

سائل بفيف الريح عنا عـامـراً

 

هل بات ذا سهر بطعنة مسهر

 قال: "وأسر عبد يغوث يوم الكلاب فتى من بني عبد شمس، وأنطلق به إلى أهله، وكان أهوج. فقالت له امرأته ورأت عبد يغوث رجلاً عظيماً جميلاً: من أنت؟ قال: سيد القوم؛ فضحكت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج!". ففصده بنو تيم في الأكحل، وشدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم. ولما فصد وجعل الدم يفور، قالوا له: كيف رأيت؟ جمعت أهل اليمن، وجئت إلينا لتصطلمنا، وكيف رأيت الله صنع بك! فقال:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بـيا

 

فما لكما في اللوم خير ولا ليا

ألم تعلما أن الملامة نفـعـهـا

 

قليل وما لومي أخي من شماليا

أيا راكباً إما عرضت فبلـغـن

 

نداماي من نجران ألا تـلاقـيا

وعطل قلوصي في الركاب فإنها

 

ستبرد أكباداً وتبكـي بـواكـيا

وتضحك مني شيخة عبشـمـية

 

كأن لم تري قبلي أسيراً يمانـيا

وقد علمت عرسي مليكة أننـي

 

أنا الليث معدواً علـيه وعـاديا

أقول وقد شدوا لساني بنـسـعة

 

أمعشر تيم أطلقوا لي لسـانـيا

فان تقتلوني تقتـلـونـي سـيداً

 

وإن تطلقوني تسلبوني مـالـيا

 

ومن قبائل مذحج المشهورة الكبيرة:

سعد العشيرة

وهو ابن مذحج. قال الحازمي: "إنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب في ثلاثمائة من ولده وولد ولده؛ فإذا قيل له: من هؤلاء؟ قال: عشيرتي! خوف العين عليهم".


وحا وحكم ابنا سعد العشيرة، وبلادهم مشهورة إلى جانب زبيد. ومن قبائل مذحج المشهورة:

خولان

لهم بلاد متسعة مشهورة في جانب اليمن إلى جانب صعدة، ولم ذكر نابه في الشرق والغرب.


ومن قبائل مذحج:  

زبيد

قبيل عمرو بن معدي كرب، ولها صيت. وإلى الآن منها جمع كبير قد نزلوا بين مكة والمدينة، يقال لهم: بنو حرب.
ومن قبائل مذحج:

أود بن صعب بن سعد العشيرة

ومنهم:

الأفوه الأودي

الشاعر الذي له البيت المشهور:

 

لا يصلح القوم فوضى لا سراد لهم

 

ولا سراة إذا جها لهـم سـادوا

ومنهم:

عنس

قال الحاتمي: هو زيد بن مذحج، وفيهم يقول الشاعر:

 

لا مهل حتى تلحقي بعنـس

 

أهل الرياط البيض والقلنس

 

وديارهم باليمن حول صنعاء. وهم رهط عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه.


ومنهم:

الأسود الكذاب

الذي ادعى النبوة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له نير نجات وسحر، فنفق على الجهال، ولحق به كثير من رعاع اليمن، إلى أن قتله باذان نائب الفرس على اليمن؛ وكان قد أسلم النائب المذكور.

همدان

وأما همدان فهم أوسلة بن ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان. ولها صيت في الجاهلية وفي صدر الإسلام. وبلادهم في جهات صعدة باليمن مشهورة إلى اليوم. وقد كان منهم ملوك في الإسلام باليمن.

تاريخ كندة

قال الحازمي: "هو ثور بن عفير بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. ولقب بذلك لأنه كند أباه نعمته - أي كفرها".


وبلادها مشهورة باليمن، وكان بها مدينة دمون كان يحلها ملوك كندة. قال البيهقي: بلاد كندة من جبال اليمن تلي حضرموت والشحر، وكان لهم بها ملوك، وقاعدتهم دمون، وهي مذكورة في شعر امرئ القيس.


ومن قبائلها المشهورة: السكسك، الذين فيهم السحر والكهانة، يرقون السحابة، فر تبرح مكانها تمطر. ومنهم: تجيب قبيل كبير.
والملك في معاوية الأكرمين، قالوا: وهو معاوية بن كندة، ومنهم ملوك كندة الذين مدحهم الأعشى؛ ولهؤلاء الملوك باب مفرد في كتاب تواريخ الأمم للأصفهاني.

حجر آكل المرار

قال فيه: "ملك معداً منهم حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية الكندي حين أقبل تبع سائراً إلى العراق، فنزل بأرض معد الحجازية، وولى عليهم حجراً؛ فبقى حجر لحسن سيرته مطاعاً في مملكته. وكان زياد بن الهبولة السليحي، ملك الشام، قد انتزح أمام بني جفنة، وداخل أطراف الحجاز، فنهض له حجر وقتله"، وأفنى بني سليح وقد أدبرت دولتهم.


وملك بعده ابنه:

عمرو بن حجر

وكان الذي رفع من شأنه عمرو بن أسعد تبع اليمن، وزوجه بنت أخيه حسان بن أسعد، فعظم شأنه.


وولي بعده مكانه ابنه:

الحارث المقصور بن عمرو

وكان قباذ ملك الفرس قد تزندق، واتبع دين مزدك الذي رأى إباحة النساء. فطالب قباذ بذلك المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، فأبى وقال: للعرب غيرة لا يسوغ معها الاشتراك في النساء! فعزله وطلبه، فهرب أمامه، وأسلم ملكه.

فولى قباذ الحارث على الحيرة والعرب المعدية على أن يدخل في هذا الدين، فأجابه لذلك. وعظم قدر الحارث، وولى بنيه على بكر وتميم وتغلب وأسد وعس، ودام ذلك إلى أن ولي ملك الفرس أنوشروان بن قباذ، فرد المنذر بن ماء السماء اللخمي إلى ملكه بالحيرة وطلب الزنادقة وقتلهم بكل مكان، فهرب منه الحارث، وأدرك المنذر ابنا له فقتله.

قال البيهقي: وكان بنو جفنة، ملوك غسان، يتعصبون لملوك كندة، وبنيهم المهاداة والمراسلة، ويبغضون ملوك الحيرة. فلما عاد ملك الحيرة إلى المنذر حسده الحارث الأعرج الجفني، وجمع معه كثيراً من عرب أطراف الشام والحجاز الشمالي، وقصد بلاد المنذر، وأراد أن يرد ملك المعدية إلى حجر بن الحارث. فخرج له المنذر بن ماء السماء، وتلاقوا بعين أباغ المشهور يومه في وقائع العرب الذي قيل فيه: "ما يوم حليمة بسر"، وكانت الهزيمة على المنذر، وملك الحيرة وقتله الحارث الأعرج.

وقيل: "إن يوم عين أباغ بعد يوم حليمة، والمقتول في عين أباغ هو المنذر بن المنذر، خرج يطلب بدم أبيه، فقتله الحارث الأعرج أيضاً".
قال صاحب تواريخ الأمم: "وقد سمعنا [من يذكر] أن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم سيد تغلب".
وأما ما كان من حديث الحارث الكندي فإن صاحب تواريخ الأمم ذكر أنه انهزم من المنذر ملك الحيرة إلى جهة كلب، فوقع عليه بنو كلب بمسحلان، فقتلوه؛ واختلف أولاده فقتل عامتهم.

حجر بن الحارث

وكان حجر بن الحارث قد ملكه أبو على بني أسد فتماسك فيهم، وكان له أيضاً ملك غطفان، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة.
قال صاحب الأغاني: "فعمر بذلك دهراً طويلاً. ثم بعث إليهم جابيه، فمنعوه وضربوا رسله، وحجر يومئذ بتهامة، فبلغه ذلك، فسار إليهم بجند من ربيعة وقيس وكنانة، فأخذ سرواتهم وجعل يقتلهم، وأباح أموالهم، وحبس منهم عبيد بن الأبرص الشاعر الأسدي، فأنشده شعراً منه:

 

أنت الأمير عـلـيهـم

 

وهم العبيد إلى القيامة

عيوا بأمرهـم كـمـا

 

عيت ببيضتها الحمامة

جعلت لها عودين مـن

 

نشم وآخر من ثمامة

 

يعني أن العاقل الصلب الرأي اختلط رأيه برأي السفيه، فهلك التدبير بينهم. فرق عليهم حجر، وأطلقهم، وأوفدهم عليه. فلما أشرفوا على قبته هجموا عليه وقتلوه. وكان قاتله علباء بن الحارث الكاهلي - وكان حجر قد قتل أباه - وقالت أسد للعرب المعدية الذين كانوا جنده: أنتم بنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم سيرته؛ فكفوا عن قتالهم.

امرؤ القيس بن حجر

ولما سمع ذلك امرؤ القيس بن حجر وهو بدمون من أرض كندة "قال:

 

تطاول الليل علي دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

 

ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر [غداً]، اليوم خمر، وغداً أمر".


قال صاحب الأغاني: "ثم شرب سبعاً، فلما صحا أقسم بالله ألا يأكل لحماً، ولا يشرب خمرا‎ً، ولا يدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره".


وارتحل حتى نزل ببكر وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد فأجابوه، ووقع الخبر على بني أسد وكانوا مع كنانة، فارتحلوا بالليل، وقائدهم علباء الكاهلي.


وأقبل امرؤ القيس ومن معه، فوقعوا ببني كنانة، فوضعوا السيف فيهم وهم يظنونهم بني أسد، وصاحوا: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليهم عجوز وقالت: أبيت اللعن، لسنا لك بثأر، نحن بنو كنانة، وإن القوم ارتحلوا بالأمس! فتبع بني أسد، ففاتوه فقال:

 

ألا يا لهف هند إثـر قـوم

 

هم كانوا الشفاء فلم يصابوا

وقاهم جدهم ببنـي أبـيهـم

 

وبالأشقين ما كان العقـاب

وأفلتهن علبـاء جـريضـاً

 

ولو أدركنه صفر الوطاب

وجهد امرؤ القيس حتى لحق ببني أسد على الماء وقد هلكت خيله وتقطعت، فقاتلهم، وكثرت الجرحى والقتلى حتى حجز بينهم الليل. وهربت بنو أسد، وأبت بنو وائل أن يتبعوهم، وقالوا لامرئ القيس: أنت رجل مشؤوم، وكرهوا محاربة من يقرب إليهم بالنسب.
 وانصرف امرؤ القيس إلى حمير، فنزل بقبيلة تدعى مرثد الخير من ذي جدن وكانت بينهم قرابة، فاستنصرهم، فأمدوه بخمسمائة رجل، وتبعهم شذاذ من العرب، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمة، ويقال له: ذو الخلصة، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الأمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم الثالثة، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: مصصت بظر أمك، لو أبوك قتل لما عوقتني! فقيل: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة أحد بقدح بعد ذلك حتى جاء الإسلام، وهدمه جرير بن عبد الله البجلي.

وقال: ولج المنذر صاحب الحيرة في طلب امرئ القيس، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه. وتفرقت حمير ومن كان معه، فنجا بمن خف.

ومازال ينتقل في القبائل حتى لحق "بقيصر ملك الروم، فقبله وأكرمه، وكانت له عنده منزلة. فاندس رجل من بني أسد يقال له: الطماح، وكان امرؤ القيس قتل أخاه، فأتى بلاد الروم، وأقام مستخفياً".

ثم إن امرؤ القيس ضم إليه قيصر جيشاً كثيراً. فلما فصل بهم قال له [الطماح]: إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف من عندك بالجيش ذكر أنه يواصل ابنتك، وأنه قائل في ذلك أشعاراً يشهرها بها في بلاد العرب. فبعث قيصر حينئذ له بحلة وشيء مسمومة، وقال: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل إلى منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها" فأسرع إليه السم وسقط جلده فلذلك سمي: ذا القروح، وقال:

لقد طمح الطماح من بعد أرضه

 

ليلبسني من دائه ما تلـبـسـا

فلو أنها نفس تموت احتسبتـهـا

 

ولكنها نفس تساقط أنـفـسـا

ثم مات، ودفن بأنقرة من بلاد الروم. قال البيهقي: وهي التي يقال لها: أنكورية.

ومن الأغاني: "أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث، وهي أخت كليب ومهلهل سيدي تغلب. وقيل: أمه من زبيد رهط عمرو بن معدي كرب. وكان يقال له: الملك الضليل.

"قال ابن الكلبي: بلغني أن حجراً أباه كان قد طرد امرأ القيس، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في أحياء العرب [ومعه أخلاط من شذاذ العرب] من طيء وكلب وبكر، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه، وخرج للصيد، وأكل وشرب الخمر، وغنته قيناته، فلا يزال كذلك حتى ينفذ ماء الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره". وفي تلك الحال كان حين أتاه الخبر يقتل أبيه كما تقدم.

قال: "ومن حكاياته أنه آلى ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمان وأربع وثنتين. فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن قلن: أربع عشرة. فبينا هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كالبدر، فقال لها: يا جارية، ما ثمان وأربع واثنتان؟ فقالت: أما الثمان فأطباء الكلبة، وأما الأربع فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فالثديان. فخطبها إلى أبيها، فزوجها إياها. وشرطت هي عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وساق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس.

ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة، وأهدى لها نحيا" من سمن ونحيا من عسل، وحلة من عصب اليمن، فنزل العبد ببعض المياه، فنشر الحلة ولبسها فعلقت بسمرة فانشقت، وفتح النحيين فأطعم أهل الماء فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها الهدية، فقالت أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا.

فقدم الغلام عليه فأخبره، فقال: أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوماً على قومه، وأما أمها فإنها ذهبت تقبل امرأة نفساء، وأما أخوها فإنه في سرح له يرعاه، وهو ينتظر وجوب الشمس ليروح؛ وأما قولها: إن سماءكم انشقت فإن الحلة التي بعثت إليها انقشت؛ وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا فإن النحيين نقصا! فأصدقني فصدقه، فقال: أولى لك!  

ثم ساق مائة من الإبل، وخرج نحوها ومعه الغلام، [فنزلا منزلا]، فسقى الإبل فعجز، وأعانه امرؤ القيس فرماه الغلام في البئر، وفر حتى أتى المرأة بالإبل، وأخبرهم أنه زوجها! فقيل لها: قد جاء زوجك، فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا؟ ولكن انحروا له جزوراً، وأطعموه من كرشها وذنبها؛ فلما فعلوا ذلك أكل. فقالت: أسقوه لبناً حازراً فشرب؛ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك، قال: اسألي عما شئت؛ قالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لتقبيل فمك؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: لالتزامي إياك؛ قالت: مم يختلج وركاك؟ قال: لتوركي إياك؛ قالت: عليكم العبد فشدوه! ففعلوا.

 

ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، واستاق مائة من الإبل، وأقبل إلى امرأته، فقيل لها: قد جاء زوجك؛ فأمرتهم أن يختبروه بما اختبروا به العبد، فقال لما أطعموه الكرش والذنب: أين الكبد والسنام والملحاء؟ وأبى أن يأكل؛ وقال لما سقوه اللبن الحازر: أين الصريف والرثيئة؟ وأبى أن يشرب؛ وقال لما فرشوا قريباً من الفرث والدم: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا لي عليها خباء! ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل، فقال: سلي عما بدا لك. قالت: مم تختلج شفتاك؟ قال: لشرب المشعشعات؛ قالت: مم تختلج كشحاك؟ قال: للبس المحبرات؛ قالت: مم تختلج فخذاك؟ قال لركض المطهمات؛ قالت: هذا زوجي لعمري، فعليكم به! فدخل امرؤ القيس بها".


ومن نثر الدر: جاء وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله، لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس؛ قال: وما ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك، حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء، فمكثنا ثلاثا لا نقدر عليه، وانتهينا إلى موضع طلح وسمر، فانطلق كل رجال إلى أصل شجرة ليموت في ظلها. فبينا نحن في آمر رمق إذا راكب قد أقبل، فلما رآه بعضنا تمثل:

 

ولما رأت أن الشريعة هـمـهـا

 

وأن البياض من فرائصهـا دام

تيممت العين التي عنـد ضـارج

 

يفيء عليها الظل عرمضها طام

 

فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ فقال بعضنا: امرؤ القيس؛ قال: وهذه والله ضارج عندكم وقد رأى ما بنا من الجهد. فزحفنا إليها، فإذا بيننا وبينها نحو خمسين ذراعاً، وإذا هي كما وصف امرؤ القيس، فشربنا وعشنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك رجل مشهور في الدنيا، خامل في الآخرة، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء يقودهم إلى النار".


ومن كتاب الأشعار فيما للملوك من النوادر والأشعار أن امرأ القيس لما أيقن بالموت، نظر إلى جبل يقال له: عسيب؛ وبه قبر بنت ملك، فأوصى أن يدفن إلى جانبها، وقال في ذلك:

 

أجارتنا إن الخطوب تنـوب

 

وإني مقيم ما أقام عسـيب

أجارتنا إنا غريبان هاهـنـا

 

وكل غريب للغريب نسيب

 

قال: وكان امرؤ القيس قد اضطر في حال صغره إلى أن أرضعته كلبة، فكان منتن الرائحة، ولم يزل مفركا عند النساء. وقالت له امرأته أم جندب: إنك سريع الإراقة بطيء الإفاقة.


وفضله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل: بم فضلته؟ قال: رأيته أسبقهم بادرة، وأحسنهم نادرة، ولم يقل رغبة ولا رهبة.
وقيل: إنه أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وهو قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأخذ خاطره باختراع المعاني، وإبداع الألفاظ الرائقة التي يحاضر بها كل عصر. فمن مخترعاته قوله:

 

سموت إليها بعدما نام أهـلـهـا

 

سمو حباب الماء حالا على حال

 

وقوله:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

 

بمنجرد قيد الأوابد هـيكـل

 

والأوابد: المتقدمات من الوحش.


وقوله في العقاب:

 

كأن قلوب الطير رطبـاً ويابـسـاً

 

لدى وكرها العناب والحشف البالي

وقوله:

كأن عيون الوحش حول خبائنا

 

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

 

ومن مبتدعات ألفاظه الرائقة التي تشبه كلام المعاصرين قوله:

 

إذا التفت نحوي تضوع نشرهـا

 

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

وقوله:

وصرنا إلى الحسنى ورق كلامها

 

ورضت فذلت صعبة أي إذلال

وقوله:

ألم ترياني كلما جئت طارقـاً

 

وجدت بها طيباً وإن لم تطيب

ومن فحل كلامه:  

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

 

وأيقن أنا لاحقـان بـقـيصـرا

فقلت له: لا تبك عـينـك إنـمـا

 

نحاول ملكاً أو نموت فنـعـذرا

وقوله:

ولو أن ما أسعى لأدنى معـيشة

 

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمـجـد مـؤثـل

 

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

 

ومن واجب الأدب: قالوا: أشعر الشعراء امرؤ القيس إذا كلب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وعنترة إذا ركب. ومن يقدم التشبيه على كل فن يقول: الشعراء ثلاثة: جاهلي وهو امرؤ القيس، وإسلامي وهو ذو الرمة، ومحدث وهو ابن المعتز. وسئل الفرزدق من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح بقوله:

 

وأفلتهن علبـاء جـريضـا

 

ولو أدركنه صفر الوطاب

 

ويقدمه دعبل بقوله في وصف عقاب:

ويل أمها من هواء الجـو طـالـبة

 

ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب

صبت عليه وما تنصـب مـن أمـم

 

إن الشقاء على الأشقين مصبـوب

 

وقدمه غيره بقوله:

 

وإنك لم يفخر عليك كفـاخـر

 

ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب

 

ومن مختار نسيبه قوله:

 

أفاطم مهلا بعـض هـذا الـتـذلـل

 

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

وإن كنت قد ساءتك مـنـي خـلـيقة

 

فسلي ثيابي من ثـيابـك تـنـسـل

أغرك منـي أن حـبـك قـاتـلـي

 

وأنك مهما تأمري القلـب يفـعـل

وما ذرفت عينـاك إلا لـتـقـدحـي

 

بسهميك في أعشار قلب مـقـتـل

وبـيضة خـدر لا يرام خـبـاؤهــا

 

تمتعت من لهوبها غـير مـعـجـل

خرجت بها تمشـي تـجـر وراءنـا

 

على أثرينـا ذيل مـرط مـرحـل

إذا التفتت نحوي تضـوع نـشـرهـا

 

نسيم الصبا جاءت بريا القـرنـفـل

كبكر مقانـاة الـبـياض بـصـفـرة

 

غذاها نمير الماء غير الـمـحـلـل

تصد وتبدي عـن أسـيل وتـتـقـي

 

بناظرة من وحش وجرة مـطـفـل

ويضحي فتيت المسك فوق فراشـهـا

 

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضـل

 

وهذا من باب التتبيع، وهو أول من نطق به، فإنهم كانوا يقولون: طويلة الجيد، فقال: بعيدة مهوى القرط، كما أنهم كانوا يقولون عن الفرس: يسبق الظليم؛ فقال: قيد الأوابد.


ومن فرائده قوله:

 

وقد أغتدي والطير في وكنـاتـهـا

 

بمنجـرد قـيد الأوابـد هـيكـل

مكر مفر مقـبـل مـدبـر مـعـاً

 

كجلمود صخر حطه السيل من عل

له أيطلا ظبـي وسـاقـا نـعـامة

 

وإرخاء سرحان وتقريب تنـفـل

ورحنا وراح الظرف ينفض رأسـه

 

متى ما ترق العين فيه تـسـهـل

كأن دمـاء الـهـاديات بـنـحـره

 

عصارة حناء بـشـيب مـرجـل

 

ومما حاز فيه غاية الإحسان في وصف الفرس قوله:

 

على هيكل يعطيك قبل سؤالـه

 

أفانين جرى غير كز ولا وان

 

وهذا من بديع الوحي والإشارة.


قال أبو هفان: لم يقل في الثقة بالصيد كقول امرئ القيس:

 

إذا ما ركبنا قال ولدان أهلـنـا

 

تعالوا إلى أن تأتي النار نحطب

 

وذكر صاحب تواريخ الأمم أن الملك في كندة بعدهم صار في بني جبلة بن عدي بن ربيعة معاوية الأكرمين، واشتهر في الملك منهم:

معدي كرب بن جبلة

وقد مدحه أعشى بكر. ثم ملك بعده ابنه:

قيس بن معدي كرب

وعلى عهده قام الإسلام بمكة، وولده الأشعث بن قيس مذكور في الصحابة.

مراد

وأما مراد من قبائل كهلان فبلادها إلى جانب زبيد من جبال اليمن، ولها أعلام مشهورون في الإسلام.

أنمار

ومن قبائل كهلان على ما فيها من الاختلاف: "أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن بنت بن مالك بن زيد بن كهلان. وقيل: أنمار هو ابن نزار بن معد".


ولأنمار فرعان مشهوران: خثعم بن أنمار، وبجيلة بن أنمار، وبلادهم سروات اليمن وتبالة إلى الآن.

خثعم

فأما خثعم فمنها في الجاهلية:

نفيل بن حبيب

دليل الحبشة أصحاب الفيل إلى الكعبة بغير اختيار. ولما رمى الله عليهم الطير الأبابيل، وضلوا الطريق، جعلوا يسألون عنه وقد هرب منهم، فقال:

وكل القوم يسأل عن نفيل

 

كأن علي للحبشان دينا

بجيلة

وأما بجيلة فهي رهط جرير بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من له ذكر في هذا الكتاب

من سبأ بن يشجب بن يعرب من غير فرعي حمير وكهلان  

قال ابن قتيبة في المعارف، والبيهقي في الكمائم: إن من ولده عمرو بن سبأ، والأشعر بن سبأ، وأنمار بن سبأ.

تاريخ لخم

ابن عدي بن عمرو بن سبأ. منهم بنو نمارة بن لخم جند الزباء ملكة عرب مشارق الشام، ومنهم بنو الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم رهط تميم بن أوس الداري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم: