القسم الثالث: بنو ذبيان

بنو ذبيان

ابن بغيض بن ريث بن غطفان. جماهيرها التي تنتسب إليها: فزارة، ومرة.

فزارة بن ذبيان

قال ابن حزم: خلاصة قيس فزارة، وبيتهم بنو بدر بن عدي بن فزارة، وعظماؤهم في الجاهلية كانوا يرأسون جميع غطفان، وتدين لهم قبائل قيس، فمنهم:

حصن بن حذيفة بن بدر

الذي يمدحه زهير بقوله:

 

تراه إذا ما جئته متـهـلـلا

 

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

 

ويرثيه النابغة الذبياني بقوله:

 

يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم

 

وكيف بحصن والجبال جنوح

 

وكان في قومه منزلا منزلة الملوك.


ومن نثر الدر: قال حصن بن حذيفة: إياكم وصرعات البغي، وفضحات الغدر، وفلتات المزح.


وأبوه حذيفة الذي دارت عليه حرب داحس وكذلك عماه: حمل بن بدر، ومالك بن بدر.


قالوا: وليوث بني بدر بنو أم قرفة، وهم أولاد مالك بن حذيفة من هذه المرأة، صارت يضرب بها المثل في العز بهم.


وأرسل النبي صلى الله عليه إليهم سرية تغير عليهم. ومنهم:

نهشل بن مالك الفزاري

القائل: "إياك أعني واسمعي يا جاره".


ومن يجهل عصره من فزارة:

أسيد بن عنقاء الفزاري

من واجب الأدب: "كان من أكثر أهل زمانه مالا، وأشدهم عارضة ولساناً. وطال عمره، ونكبه دهره، فخرج عشية يتقبل لأهله، فمر به عميلة الفزاري، فقال: يا عم، ما الذي أصارك إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصون وجهي عن المسألة! فقال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن حالك! فرجع إلى أهله وأخبرها، فقالت: غرك كلام غلام جنح ليل! فكأنما ألقمته حجراً؛ فبات متململا بين رجاء ويأس. فلما كان السحر سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء، وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ قيل: عميلة ساق جميع ما عنده فاستخرجه، ثم قسم ماله شطرين، وساهمه عليه، فقال فيه أسيد:

 

رآني على ما بي عميلة فاشتـكـى

 

إلى ماله حالي أسر كما جـهـر

دعاني فآساني ولو ضـن لـم ألـم

 

على حين لا بدو يرجى ولا حضر

فقلت له خيراً وأثـنـيت فـعـلـه

 

وأولاك ما أثنيت من ذم أو شكـر

ولما رأى المجد استعيرت ثـيابـه

 

تردى رداء سابغ الـذيل وأئتـزر

غلام رماه الله بالحـسـن يافـعـاً

 

له سمياء لا تشق على البـصـر

كأن الثريا علقـت فـوق نـحـره

 

وفي أنفه الشعرى وفي خده القمر

إذا قيلت العوراء أغضـى كـأنـه

 

ذليل بلا ذل ولو شاء لانتـصـر؟

شبل الفزاري

من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام:

 

أيا لهفي على من كنت أدعو

 

فيكفيني وسـاعـده شـديد

وما من ذلة غلبـوا ولـكـن

 

كذاك الأسد تصرعها الأسود

جميل بن معلى الفزاري

ذكره الآمدي في معجم الشعراء، وأنشد له:

 

وأعرض عن مطاعم أشتهيهـا

 

وأهجرها وفي البطن انطواء

فلا وأبيك ما في العيش خـير

 

ولا الدنيا إذا ذهب الـحـياء

بنو مرة بن عوف

ابن سعد بن ذبيان. لهم أعلام في الإسلام، وهم رهط مسلم بن عقبة صاحب وقعة الحرة على أهل المدينة، وسيدهم في الجاهلية:

الحارث بن ظالم المري

الذي يضرب به المثل في الفتك، فيقال: "أفتك من الحارث بن ظالم" كما يقال: "أمنع من الحارث بن ظالم". وقد لخصت ترجمته من الأغاني والكمائم وواجب الأدب.


قال له رجل: ما الفتك؟ قال: أن تستنجز ولا تستأسن، قال: أريد أبين من هذا؛ فاخترط سيفه وقتله، وقال: هذا أبين من ذلك! فعوتب فقال: "سبق السيف العذل".


واجتمع مع خالد بن جعفر بن كلاب عند النعمان بن المنذر في أكل تمر، فألقى خالد نوى ما أكل بين يدي الحارث. فلما فرغا قال: انظروا ما أكل الحارث! فقال الحارث: أما أنا فألقيت النوى، وأما أنت فأكلته! فغضب خالد _ وكان لا ينازع _ وقال له: تنازعني وقد تركتك يتيماً؟ فقال الحارث: ذاك يوم لم أشهده، وأنا اليوم مغن مكاني؛ فقال خالد: أفلا تشكر قتلى زهير بن جذيمة وجعلك سيد غطفان؟ فقال له: سأشكرك! ثم جاءه ليلا، ففتك به وكان عنده عمرو بن الاطنابة ملك الحجاز، فلما قتل الحارث خالداً غضب وقال: لو لقيه يقظان ما نظر إليه، ولو لقيني لعرف قدره، ثم قال:

 

عللاني وعللا صاحـبـيا

 

واسقياني من المدامة ريا

إن فينا القيان يعزفن بالـد

 

ف لفتياننا وعيشاً رخـيا

أبلغا الحارث بن ظالم المو

 

عد والناذر النذور علـيا

أنما تقتل النيام ولا تقـتـل

 

من كان ذا سلاح كمـيا

 

فغضب الحارث للشعر، وقال:

 

عللاني بلذتـي قـينـتـيا

 

قبل أن تبكر الهموم عليا

من سلاف كأنها دم ظبـي

 

في زجاج تخاله رازقيا

لا أبالي إذا اصطحبت ثلاثاً

 

أرشيداً دعوتني أم غـويا

أبلغا عمراً أنني سوف ألقا

 

ه وإن كان ذا سلاح كميا

 

ثم أتى ديار الخزرج ليلا، ودنا من قبة عمرو فنادى: أيها الملك، أغشني وخذ سلاحك! فلما برز له عطف عليه الحارث وقال: أنا أبو ليلى! فخشي عمرو أن يقتله، فألقى رمحه، وقال: سقط رمحي، فدعني آخذه؛ قال: خذه؛ قال: أخشى أن تعدجلني عنه؟ قال: وذمة ظالم لا أعجلتك عنه! قال عمرو: وذمة الإطنابة لا آخذه حتى تنصرف! فانصرف الحارث.


ولما قتل خالداً طلبه النعمان بن المنذر وأخوه الأسود بن المنذر، ثم أغار الأسود على جارات له وسباهن، فعظم ذلك على الحارث، فعمد إلى شرحبيل بن الأسود، وكان مرضعاً عند سنان بن حارثة، والمتكفلة به سلمى أخت الحارث بن ظالم، فقال لها: ادفعيه لي لآتي به الأسود شفيعاً؛ فلما دفعته له قتله، فأخذ الأسود سناناً حتى أدى فيه دية الملوك ألف بعير.


وضاقت على الحارث الأرض إلى أن استجار بمعبد بن زرارة فأجاره، فجر جواره يوم رحرحان ويوم جبلة، ووجد الأسود نعل ابنه شرحبيل في محارب، فقال: إني لأحذيكم شر نعال! فأمشاهم على الصفا المحمى، فتساقط لحم أقدامهم؛ فلذلك يقول أحد الشعراء اليمانية:

 

على عهد كسرى أنعلتكم ملوكنا

 

صفا من أضاخ حامياً يتلهب

ثم إن الحارث حصل بعد ذلك في يد النعمان على تأمين، فغدر به، فقال له أتغدر بي بعدما أمنتني؟ فقال: إن غدرت بك مرة فقد غدرت مراراً فقتله.

 وقيل غير ذلك، قالوا: لما تشاءمت غطفان بالحارث وطردته، انتفى منها، وانتسب إلى قريش إذ كان يقال: إن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان هو مرة بن عوف بن غالب، وفي ذلك يقول:

رفعت السيف إذ قالوا قريش

 

وبينت الشمائل والقبـابـا

فما قومي بثعلبة بن سـعـد

 

ولا بفزارة الشعر الرقابـا

 

وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: هل تعرفون أهل بيت قيل فيهم بيت شعر ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال سبأ بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين، قال: وما ذاك؟ قال: قول الحارث: فما قومي (البيت) والله يا أمير المؤمنين، إني لألبس العمامة الصفيقة، فيخيل إلي أن شعر قفاي يظهر من تحتها.

النابغة الذبياني

زياد بن عمرو من غيظ بن مرة، وهو أحد شعراء الجاهلية.


من الأغاني: "لقب بقوله فقد نبغت لنا منهم شؤون وهو أحد الأشراف الذين غض منهم الشعر".


قال الأصمعي: "كان يضرب للنابغة قبة أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء تعرض أشعارها عليه؛ فأنشدته الخنساء:

 

وإن صخراً لتأتم الهداة به

 

كأنه علم في رأسه نار

 

فقال: والله، لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت إنك أشعر الانس والجن! فقام حسان بن ثابت فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك؛ فقال إنك يا ابن أخي لا تحسن أن تقول:

 

فانك كالليل الذي هو مـدركـي

 

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متـينة

 

تمد بـهـا أيد إلـيك نـوازع"

 

"قال أبو عبيدة: كان رجلان من الشعراء يقويان: النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت وانكفأت، فدعوا له قينة، وأمروها أن تغني من شعره ففعلت، فلما سمع في الشعر غير مزود والغراب الأسود ومدت الكسرة لأجل اللحن حتى صارت ياء، ومدت الضمة حتى صارت واواً فطن لموضع الخطأ فلم يعد. وأما بشر ابن أبي خازم فدله أخوه على ذلك فلم يعد. وكان النابغة يقول: وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة، فصدرت عنها وأنا أشعر الناس".


"وقال صالح بن كيسان: كان والله النابغة مخنثاً، أما سمعت إلى قوله:

 

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

 

فتناولته واتقـتـنـا بـالـيد

 

فوالله ما يحسن هذه الإشارة، ولا هذا القول إلا مخنث".


وكان خاصاً بالنعمان بن المنذر، ثم إنه هرب منه لأجل أنه شبب بزوجة النعمان المتجردة في قصيدته الدالية. وقيل: كان السبب في هروبه أن عبد القيس بن خفاف التميمي ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان، فأنشداه النعمان، ونسباه إلى النابغة، ومنه:

 

قبح اللـه ثـم ثـنـي بـلـعـن

 

وارث الصائغ الجبان الجهـولا

من يضر الأدنى ويعجز عن ضر

 

(م) الأقاصي ومن يخون الخليلا

يجمع الجيش ذا الألوف ويغـزو

 

ثم لا يرزأ الـعـدو فـتــيلا

 

وكان جده لأمه صائغاً ثم إن النابغة بعد ذلك وفد على النعمان مع الفزاريين، فكلموه فيه، فرضي عنه، وأنشد قصيدته الدالية:

 

يا دار مية بالعلياء فالسند

 

وأحسن الاعتذار فيها.


ومن واجب الأدب: قيل إنه لقب بالنابغة لكونه نبغ بالشعر كبيراً. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقدمه ويقول: هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً. وقال عمر رضي الله عنه: يا معشر غطفان، من الذي يقول:

 

إلى ابن محرق أعملت نفسي

 

وراحلتي وقد هدت العـيون

أتيتك عارياً خلـقـاً ثـيابـي

 

على خوف تظن بي الظنون

فوفيت الأمانة لم تـخـنـهـا

 

ومن يك في نصابك لا يخون

 

قالوا: النابغة، قال: ذلك أشعر الناس! وكان الخليل بن أحمد يقدمه على زهير، وقال يوماً: إنه دخل على النعمان فأنشده:

 

متوج بالمعالـي فـوق مـفـرقـه

 

وفي الوغى ضيغم في صورة القمر

أخلاق مجد تجلت مـالـهـا مـثـل

 

في البأس والجود بين الحلم والخفر

 

فأمر أن يحشى فوه بالدر، وأن يكسى أثواب الرضا. ثم قال الخليل: بمثل هذا تمدح الملوك! وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه بقوله:

 

كم قد أحل بدار الفقر بعد غـنـى

 

عمرو، وكم راش عمرو بن إقتار

يريش قوماً ويبري آخـرين بـهـم

 

لله من رائش عمرو ومـن بـار

 وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، وقد حمله إحسان النعمان بن المنذر على التجاوز في مدحه والذل له، على مكانه في ذبيان. ولما تناهت حاله عند النعمان، وصار من أخص ندمائه، حسده أعداؤه، وعملوا على لسانه الهجاء المتقدم الذكر، ووجدوا له سبيلا بأنه كان جميلا وكان النعمان دميماً، فقالوا له: إن المتجردة زوجة تعشقه، وزاد على ذلك وصفه لها بقوله:

وإذا طعنت طعنت في مستهـدف

 

رابي المجسة بالعبير مقـرمـد

وإذا نزعت نزعت عن مستحصف

 

نزع الحزور بالرشاء المحصـد

وإذا يعض تـشـده أعـضـاؤه

 

عض الكبير من الرجال الأدرد

 

وقالوا: ليس يصف هذا الوصف الباطن إلا من جرب! فغضب النعمان عليه، وهم بقتله، ففر منه.


وله في الاستعذار والاستعطاف من المحاسن ما انفرد به وتقدم، وهو أشعر الناس إذا رهب؛ فمن فرائد اعتذاره المنصوص على تقديمها قوله:

أنبئت أن أبا قابوس أوعـدنـي

 

ولا قرار على زأر من الأسد

لا تقذفني بركن لا كـفـاء لـه

 

وإن تأثفك الأعداء بـالـرفـد

ما قلت من سيئ مما أتيت بـه

 

إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي

 

قال أحد النقاد: وإنما دعا على يده؛ لأنه كان قد بلغ النعمان أنه عزم على الغارة على بلاده بقومه.


وقوله:

أتاني أبيت اللعن أنك لـمـتـنـي

 

وتلك التي أهتم منها وأنـصـب

حلفت فلم أترك لنـفـسـك ريبة

 

وليس وراء الله للمرء مـذهـب

لئن كنت قد بلغت عـنـي خـيانة

 

لمبلغك الواشي أغـش وأكـذب

ولكنني كنت أمرأ لـي جـانـب

 

من الناس فيه مستراد ومذهـب

ملوك وإخوان إذا ما قصـدتـهـم

 

أحكم في أمـوالـهـم وأقـرب

كفعلك في قوم أراك اصطفيتهـم

 

فلم ترهم في فعل ذلك أذنـبـوا

فلا تتركني بالـوعـيد كـأنـنـي

 

إلى الناس مطلي به القار أجرب

ألم تر أن الله أعـطـاك سـورة

 

ترى كل ملك دونهـا يتـذبـذب

وأنك شمس والملـوك كـواكـب

 

إذا طلعت لم يبد منهن كـوكـب

ولست بمستبق أخـاً لا تـلـمـه

 

على شعث، أي الرجال المهذب؟

وقوله:

وعيد أبي قابوس في غير كنـهـه

 

أتاني ودوني راكس فالضواجـع

فبت كأني سـاورتـنـي ضـئيلة

 

من الرقش في أنيابها السم ناقـع

أتاني أبيت اللعن أنك لـمـتـنـي

 

وتلك التي تستك منها المسامـع

مخافة أن قلـت: سـوف أنـالـه

 

وذلك من تلقاء مـثـلـك رائع

لكلفتني ذنب امـرئ وتـركـتـه

 

كذي العر يكون غيره وهو راتع

فان كنت لا ذو الضغن عني مكذب

 

ولا حلفي على البراءة نـافـع

فانك كالليل الذي هـو مـدركـي

 

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وأنت ربيع ينعش النـاس سـيبـه

 

وسيف أعيرته المنـية قـاطـع

ومن فرائد نسيبه قوله:

سقـط الـنـصـيف ولـــم تـــرد إســـقـــاطـــه

 

فتـنـاولـتـــه واتـــقـــتـــنـــا بـــالـــيد

نظـرت إلـيك بـحــاجة لـــم تـــقـــضـــهـــا

 

نظـر الـســـقـــيم إلـــى وجـــوه الـــعـــود

لو أنـهـــا عـــرضـــت لأشـــمـــط راهـــب

 

عبـــد الإلـــه صـــرورة مـــتـــعـــبـــد

لرنـا لـرؤيتـهـــا وحـــســـن حـــديثـــهـــا

 

ولـــخـــالـــه رشـــداً وإن لـــم يرشــــــد

زعـم الـــهـــمـــام بـــأن فـــاهـــا بـــارد

 

عذب مـقــبـــلـــه شـــهـــي الـــمـــورد

زعـــــــم الـــــــهـــــــمـــــــام

 

ولم أذقه بأنهعذب متى ما ذقته قلت: ازدد

تجـلـــو بـــقـــادمـــتـــي حـــمـــامة أيكة

 

برداً أســـف لـــثـــاتـــه بـــالأثـــمــــد

كالأقـــحـــوان غـــداة غـــب ســـمــــــائه

 

جفـــت أعـــالـــيه وأســـفـــلـــه نــــد

 

والبيت الثاني عندهم من أغزل ما قالته العرب، وعابه الأصمعي لذكر السقم في صفتها.


وقوله من قصيدة في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني لما أجاره من النعمان:

 

كليني لهـم يا أمـيمة نـاصـب

 

وليل أقاسيه بطيء الكـواكـب

تطاول حتى قلت ليس بمنـقـض

 

وليس الذي يرعى النجوم بـآئب

وصدر أراح الليل عازب همـه

 

تطاول فيه الحزن من كل جانب

أراد براعي النجوم الصبح، فأقام مقامه الذي يغدو بالماشية للرعي؛ وهذا من بارع التلويح، وجعل صدره مأوى للهموم، وجعلها كالنعم الشاردة للسرح نهاراً، الآوبة لمكانها ليلا لتقييد الألحاظ عما هي فيه مطلقة بالنهار، متسلية بسببه. قال صاحب زهر الآداب: "وهو أول من أثار هذا المعنى. وكره امرؤ القيس أن يخف عنه الهم في وقت من الأوقات، فقال:  

ألا أيهـا الـلـيل ألا انـجــل

 

بصبح وما الإصباح منك بأمثل"

 

ومن فرائد هذه القصيدة قوله:

إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهـم

 

عصائب طير تهتدي بعصـائب

جوانـح قـد أيقـن أن قـبـيلـه

 

إذا ما التقى الجيشان أول غالب

تراهن خلف القوم خزراً عيونهـا

 

جلوس الشيوخ في ثياب المرانب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفـهـم

 

بهن فلول من قراع الكـتـائب

تورثن من أزمـان يوم حـلـيمة

 

إلى اليوم قد جربن كل التجارب

تقد السلوقي المضاعف نسـجـه

 

وتوقد بالصفاح نار الحبـاحـب

رقاق النعال طيب حجـزاتـهـم

 

يحيون بالريحان يوم السبـاسـب

ولا يحسبون الخير لا شر بـعـده

 

ولا يحسبون الشر ضربة لازب

 

وبيته الثالث من التشبيهات العقم. ويوم حليمة هو الذي قتل فيه الحارث بن أبي شمر ملك عرب الشام المنذر بن المنذر ملك عرب العراق، ونسب إلى حليمة بنت الحارث بن أبي شمر؛ لأنها حضرته محرضة لعسكر أبيها، وتزعم العرب أن الغبار ارتفع في ذلك اليوم، وتكاثف حتى سد عين الشمس، وظهرت الكواكب.


ولما بلغ النابغة أن النعمان عليل قد اشتد ألمه أقلقه ذلك، ولم يملك الصبر عنه، فسار إليه، فألفاه محمولا على سرير ينقل، فقال لعصام حاجبه:

ألم أقسم عليك لتخـبـرنـي

 

أمحمول على النعش الهمام؟

فاني لا ألومك فـي دخـول

 

"ولكن ما وراءك يا عصام"

فان يهلك أبو قابوس يهـلـك

 

ربيع الناس والبلد الـحـرام

وكان النعمان بن الحارث الغساني قد حمى قراقراً لتربع ماله، فتربعته ذبيان، فنهاهم النابغة، وخوفهم عقوبته، فعيروه خوفه منه. ثم إن النعمان أوقع بهم، فقال النابغة:

وخوفتني بنو ذبيان خـشـيتـه

 

وهل علي بأن أخشاك من عار

وقلت: يا قوم إن الليث منقبـض

 

على براثنه لوثبة الـضـاري

 

ويستحسن في باب رثاء الملوك والعظماء قوله في حصن بن بدر سيد فزارة:

يقولون حصن ثم تأبى نفوسهـم

 

وكيف بحصن والجبال جنوح

ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل

 

نجوم السماء والأديم صحـيح

فعما قلـيل ثـم جـاء نـعـيه

 

فظل ندي القوم وهـو ينـوح

 

ومن فرائده التي يتمثل بها قوله في عامر بن الطفيل:

فان يك عامر قد قال جهـلا

 

فان مظنة الجهل الشبـاب

فانك سوف تحلم أو تنـاهـى

 

إذا ما شبت أو شاب الغراب

وقوله:

إذا حاولت في أسد فجـوراً

 

فاني لست منك ولست مني

وقوله:

نصحت بني عوف فلم يتقبـلـوا

 

وصاتي ولم تنجح لديهم وسائلي

وقوله:

ليهنئ بني ذبيان أن بـلادهـم

 

خلت لهم من كل مولى وتابع

 

ومن تاريخ ابن عساكر أن "الشعبي كان عند عبد الملك بن مروان يوماً، فدخل عليه الأخطل، وأنشده ما قال فيهم من الشعر، فقال الشعبي: قاتل الله النابغة حيث يقول:

 

هذا غـلام حـسـن وجـهــه

 

مستقبل الخير بـديع الـتـمـام

للحارث الأكبـر والـحـارث ال

 

أصغر والحـارث خـير الأنـام

ثم لـهـنـد وهـنــد وقـــد

 

أفرغ في الخيرات منهـم إمـام

ستة أعـلام هـم مــا هـــم

 

هم خير من يشرب صوب الغمام

 

فقال عبد الملك: يا أخطل، لم لا تقول مثل هذا؟ فقال له الأخطل: أعوذ بالله من شرك يا شعبي".

سنان بن أبي حارثة المري

من كتاب أفعل للأصفهاني: "عنفه قومه في الجود، فركب ناقة يقال لها: الجهول، وقال: لا أراني يؤخذ على يدي! فلم ير بعد ذلك، فسمته العرب: ضالة غطفان؛ وفيه يقول زهير:

 

إن الرزية لا رزية مثـلـهـا

 

ما تبتغي غطفان حين أضلت"

هرم بن سنان

المذكور. من الأغاني: "ذكر أن هرماً كان قد حلف ألا يمدحه زهير الشاعر إلا أعطاء عشرة أعبد أو وليدة أو فرساً، فاستحيا زهير مما كان يأخذه منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: أنعموا صباحاً غير هرم، وخيركم تركت". وله فيه أمداح جليلة قد تقدم منها في ترجمة زهير ما تقدم.

أسماء المرية

صاحبة عامر بن الطفيل في الجاهلية. من واجب الأدب أنها كانت من شواعر العرب، وهي القائلة:

ألا خليا مجرى الجنوب لعـلـه

 

يداوي فؤادي من جواه نسيمها

وكيف تداوي الريح شوقاً مماطلا

 

وعيناً طويلا بالدموع سجومها؟

وممن لا يتحقق عصره:  

عاتكة المرية

أنشد لها صاحب الزهر وقد راودها ابن عمها:

 

فما طعم ماء أي مـاء تـقـولـه

 

تحدر من غر طـوال الـذوائب

بمنعرج من بطن واد تقـابـلـت

 

عليه رياح الصيف من كل جانب

نفت جرية الماء القذى عن متونـه

 

فما إن به عيب تراه لـشـارب

بأطيب ممن يقصر الطرف دونـه

 

تقى الله واستحياء بعض العواقب

المثلم بن رياح المري

من شعراء الحماسة، أنشد له أبو تمام:

 

تصيح الردينيات فينـا وفـيهـم

 

صياح بنات الماء أصبحن جوعا

خلطنا البيوت بالبيوت فأصبحـوا

 

بني عمنا من يرمهم يومنا معـا

أشجع بن ريث بن غطفان

وأما أشجع بن ريث بن غطفان فلا تفرع لها، وكانت ممن يحسب في أعراب المدينة النبوية.


ولا ذكر لها الآن في الحجاز ولا في غيرها.

أعصر بن سعد بن قيس عيلان

وأما أعصر بن سعد بن قيس عيلان فلها جذمان: الغنويون والباهليون.

غني بن أعصر

فمن غني بن أعصر:

طفيل الخيل الغنوي

من واجب الأدب: عرف بذلك لكثرة وصفه الخيل وإحسانه فيه. ومن الأغاني: هو "طفيل بن عوف، جاهلي من الفحول المعدودين. ويقال: إنه أقدم شعراء قيس، وهو من أوصف العرب للخيل".


"وقال [قتيبة بن مسلم] لأعرابي من غني: أي بيت قالت العرب أعف؟ قال: قول طفيل الغنوي:

 

ولا أكون وكاء الزاد أحبسـه

 

لقد علمت بأن الزاد مأكول"

 

وله: فذوقوا كما ذقنا غداة محجر=من الغيظ في أكبادنا والتحوب ومن الكمائم: كان يسمى محبراً لحسن وصفه للخيل؛ وكان معاوية يقول: خلوا لي طفيلا، وخذوا من شئتم.


وهو القائل:

بساهم الوجه لم تقطع أباجلـه

 

يصان وهو ليوم الروع مبذول

وله:

إن النساء كأشجار خلقـن لـنـا

 

منها المرار وبعض المر مأكول

إن النساء متى ينهين عن خـلـق

 

فانه واجب لابـد مـفـعـول

 

وذكر صاحب العقد أنه كان رئيس غني، وأخذ منها المرباع كما تفعل الملوك.


وهو القائل:

جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت

 

بنا نعلنا في الواطئين فزلـت

أبوا أن يملونا ولـو أن أمـنـا

 

تقاسيه ما قاسوه منا لمـلـت

هم أسكنونا في ظلال بيوتـهـم

 

ظلال بيوت أدفأت وأظـلـت

 

وممن لا يتحقق عصره:

علي بن الغدير الغنوي

ذكر البيهقي أنه من شعراء غني وفرسانها، وأنشد له:

 

كيف صبري إذا نأت بك دار

 

وأراني من قبلها ذا اكتئاب

رب إن العداة ما عذبونـي

 

فأليم العذاب من أحبابـي

نافع بن خليفة الغنوي

قال البيهقي: هو شاعر اشتهر من شعره البيت الذي ينشده أهل البديع في محاسن التميم:

 

رجال إذا لم يقبل الحق مـنـهـم

 

ويعطوه لاذوا بالسيوف القواضب

العباس بن حذيفة الغنوي

من واجب الأدب: شاعر اشتهر من شعره قوله:

 

يقولون من هذا الغريب بأرضنا

 

أما والهدايا إننـي لـغـريب

وماذا عليكم إن أطاف بأرضكم

 

مطالب دين أو نفته حروب؟

أمشي بأعطان المياه وأبتغـى

 

قلائص منها صعبة وركوب

باهلة

ومن باهلة، وهم بنو معن بن مالك بن أعصر:

أعشى باهلة عامر بن الحارث

من واجب الأدب: من أعلام شعراء الجاهلية؛ أشهر ما له القصيدة التي يرثي بها المنتشر بن وهب ا

 

باهلي المشهور بالعدو والكرم، منها:

 

إن تقتلوه فقد أشجاكـم زمـنـاً

 

كذلك الرمح بعد الطعن ينكسر

لا يأمن القوم ممساه ومصبحـه

 

من كل أوب وإن لم يأت ينتظر

لا يتأرى لما في القدر يرقـبـه

 

ولا يعض على سوفه الصفـر

تكفيه فلذة كبـد إن ألـم بـهـا

 

من الشواء ويروي شربه الغمر

فان جزعنا فإن الخطب أجزعنـا

 

وإن صبرنا فانا معشر صبـر

صفية الباهلية

من واجب الأدب: شاعرة من شواعر العرب، اشتهر قولها:

 

كما كغصنين في جرثومة بسـقـا

 

حسناً بأكثر ما تسمو به الشـجـر

حتى إذا قيل قد طالت فروعهـمـا

 

وطاب فيئاهما واستنظر الثـمـر

أنحى على مؤنسي ريب الزمان وما

 

يبقي الزمان على شـيء ولا يذر

كنا كأنجم لـيل بـينـهـا قـمـر

 

يجلو الدجى فهوى من بينها القمر

عمرو بن قيس عيلان

 وأما عمرو بن قيس عيلان فولداه: فهم وعدوان، وأمهما جديلة إليها ينسب الجدليون.

بنو فهم بن عمرو

لا ذكر لهم الآن في الحجاز ولا في غيره، ولهم أعلام في الجاهلية والإسلام.

تأبط شراً الفهمي

من واجب الأدب: قيل: اسمه ثابت بن جابر؛ وقيل ابن عميثل. واختلف في سبب لقبه: لأنه جاء إلى أهله بجراب فيه حيات، فقيل: تأبط شراً؛ وقيل: لأنه قتل الغول، ثم جاء بها في جوف الليل إلى أصحابه.


"وكان يكثر الغارات على هذيل، فرصدته حتى أتى مع أصحابه إلى غار في جوف جبل، فتدلى له بحبل، فعلمت به هذيل فجاءت، وهرب أصحابه. وحركوا الحبل، فرفع رأسهم فرآهم، فقالوا له: اطلع! فقال: على أن تطلقوني بالفداء! فقالوا: لا شرط لك، فقال: فأراكم قاتلي وأخذي جناي - وكان قد اشتار من الغار عسلاً - والله لا أفعل! ثم جعل يسيل العسل على فم الغار، وعمد إلى الزق فشده على صدره وألصقه بالعسل، فلم يزل يزلق إلى أن أنزله إلى أسفل الجبل، ففاتهم وبين الموضع الذي وقع فيه وموضعهم مسيرة ثلاثة أيام. وفي ذلك يقول أبياته التي في الحماسة:

 

إذا المرء لم يحتل وقد جـد جـده

 

أضاع وقاسى أمره وهو مدبـر

ولكن أخو الحزم الذي ليس نـازلا

 

به الخطب إلا وهو للقصد مبصر

فذاك قريع الدهر ما عاش حـول

 

إذا جاش منه منخر جاش منخـر

أقول للحيان وقد صفـرت لـهـم

 

وطابي ويومي ضيق الباع معسر

هما خطـتـا: إمـا إسـار ومـنة

 

وإما دم والقتل بالـحـر أجـدر

وأخرى أصادي النفس عنها وإنهـا

 

لمورد حزم إن فعلت ومصـدر

فرشت لها صدري فزل عن الصفا

 

به جؤجؤ عبل ومتن محـضـر

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا

 

به كدحة والموت خزيان ينظـر

فأبت إلى فهم ومـا كـنـت آبـياً

 

وكم مثلها فارقتها وهي تصفـر

 

ومما أنشده صاحب الحماسة من مختار شعره قوله:

 

وإني لـمـهـد مـن ثـنـائي فـقـاصـد

 

به لابن عم الصدق شمـس بـن مـالـك

أهز بـه فـي نـدوة الـحـي عـطـفـه

 

كما هز عطفـي بـالـهـجـان الأوارك

قليل الـتـشـكـي لـلـمـهـم يصـيبـه

 

كثير النوى شتى الهـوى والـمـسـالـك

يظل بـمـومـاة ويضـحـي بـغـيرهـا

 

وحيداً ويعروري ظـهـور الـمـهـالـك

ويسبق وفد الريح مـن حـيث تـنـتـحـي

 

بمـنـخـرق مـن شـده الـمـتـدارك

إذا حاص عينـيه كـرى الـنـوم لـم يزل

 

له كـالـئ مـن حـد أخـلـق صـائك

يرى الوحـشة الأنـس الأنـيس ويهـتـدي

 

بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك

 

[بنو عدوان بن عمرو]  [عامر بن الظرب] 

 

وأرمي بطرفي إذا ما نظـرت

 

كأن على الطرف مني غماما

 

وقال في أثناء كلامه: ولا تسألوا أميركم أكثر من ماله، فيعجز ويموت في أيديكم، فتكون حسرة عليكم. وأوصيكم بالضيف فلا يخرج إلا وهو مكموم الفم باحسانكم. وإذا نكح فيكم الغريب فاختاروا له أهل العفاف من نسائكم؛ فإنه أستر لعرضكم. وعليكم بالصلات فإنها تزرع المودة. وإياكم والغيبة فإنها توغر القلوب، وتفرق الجماعة. واذكروا قومكم إذا غالوا عنكم بما تحبون أن يذكروه منكم إذا غبتم.
وذكر أنه أدرك كنانة بن جذيمة وهو شيخ محجوب، فأخبره أنه قد آن خروج نبي اسمه محمد صلى الله عليه، وأوصى بأتباعه.
ثم قال: وإياكم وعهد الملك قابوس، فإنه حليم ما استحلم، سفيه ما استسفه.


وذكر أنه كان خطيب سوق عكاظ غير مدافع في زمانه.


ومن واجب الأدب: كان حكيم العرب، وحرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال:

 

إن أشرب الخمر أشربها للذتها

 

وإن أدعها فاني فارك قـال

سئالة للفتي ما ليس فـي يده

 

ذهابة بعقول القوم والمـال

 

ولما طال عمره صار بما يهفو في أحكامه، فتقرع له العصا بنته، فيعود إلى الإصابة ويتنبه. وفي ذلك يقول الشاعر:

 

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا

 

وما علم الإنسان إلا ليعـلـمـا

وفي الأغاني ذكره.

ومن نثر الدر: زوج ابنته من ابن أخيه، فلما أراد تحويلها إليه قال لأمها: مري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها الماء؛ فإنه للأعلى جلاء، وللأسفل نقاء. ولا تكثر مضاجعة الرجل؛ فإنه إذا مل البدن مل القلب، ولا تمنعه شهوته؛ فإن الحظوة الموافقة.

فلم تلبث شهراً أن جاءته مشجوجة، فقال له: يا ابن أخي، ارفع عصاك عن بكرتك [تسكن]؛ فإن كانت نفرت من غير أن تنفر فذاك الداء الذي ليس له دواء، وإن لم يكن بينكما وماق فمذاق الخلع خير من الطلاق! فرد عليه صداقه وخلعها منه، وهو أول خلع كان في العرب.
ومن كلامه: الرأي نائم والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي.

قال وكان حكيماً خطيباً رئيساً، وهو الذي قال: يا معشر عدوان، الخير ألوف عزوف، ولن يفارق صاحبه حتى يفارقه؛ وإني لم أكن حكيماً حتى اتبعت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم! وشاعرهم:

ذو الأصبع العدواني

من الروض الأنف أنه من ولد ظرب الذي من ولده عامر بن الظرب. ومن الأغاني: اسمه "حرثان [ابن الحارث]، وهو من قدماء شعراء الجاهلية، وله غارات كثيرة، ووقائع في العرب".


وقيل: اسمه حرثان بن عدوان. "قال الأصمعي: نزلت عدوان على ماء، فأحصوا فيه سبعين ألف غلام أغرل سوى من كان مختوناً، ثم وقع بينهم بأسهم، فقال ذو الأصبع:

 

عذيري من بني عـدوا

 

ن كانوا حية الأرض

بغى بعضهم بعـضـاً

 

فلم يبق على البعض

فقد صـاروا أحـاديثـاً

 

برفع القول والخفض

ومنهم كانـت الـسـادا

 

ت والموفون بالقرض

ومنهم حكـم يقـضـي

 

فلا ينقض ما يقضي

ومنهم من يجيز الـنـا

 

س بالسنة والفـرض"

 

الحكم: ابن الظرب وقد تقدم، والذي يجيز الناس في الحج: أبو سيارة العدواني: أفاض بالعرب من عرفات أربعين سنة على حمار واحد، فقيل: "أصح من حمار أبي سيارة". قال السهيلي في الروض: وهو الذي كان يقول: "أشرق ثبير كيما نغير". قال: والإجازة: الدفع من مزدلفة وله كانت. ومن دعاء أبي سيارة: اللهم حبب بين نسائنا، وبغض بين رعائنا، واجعل المال في سمحائنا".
وأنشد صاحب الأغاني من شعر ذي الأصبع العدواني:

 

أزرى بنا أننا شالت نعامتـنـا

 

فخالني دونه بل خلته دونـي

فان تصبك من الأيام جـائحة

 

لم نبك منك على دنيا ولا دين

بنات ذي الأصبع

من نثر الدر: كان ذو الأصبع غيوراً، وكان له بنات أربع لا يزوجهن غيرة، فاستمع عليهن مرة وقد خلون يتحدثن، فذكرن الأزواج حتى قالت الصغيرة: "زوج من عود خير من القعود:، فخطبن فزوجن.


ثم أمهلهن حولا فزار الكبرى، فسألها عن زوجها فقالت: خير زوج؛ يكرم أهله، وينسى فضله، قال: حظيت ورضيت، فما مالكم؟ قالت: خير مال، قال: وما هو؟ قالت: الإبل نأكل لحمها مزعاً، ونشرب ألبانها جرعاً، وتحملنا وضعيفنا معاً؛ قال: زوج كريم، ومال عميم! ثم زار الثانية فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: يكرم الحليلة، ويقرب الوسية، قال: فما مالكم؟ قالت: البقرة، قال: وما هي؟ قالت: تأنف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساء مع نساء؛ قال: رضيت وحظيت! ثم زار الثالثة فقال: كيف رأيت زوجك؟ قالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكر، قال: فما مالكم؟ قالت: المعزى، قال: وما هي؟ قالت: لو كنا نولدها فطما، ونسلخها أدماً لم نبلغ بها نعما؛ فقال: جزر مغنية! ثم زار الرابعة فقال، كيف رأيت زوجك؟ قالت: شر زوج، يكرم نفسه، ويهين عرسه، قال: فما مالكم؟ قالت: شر مال! الضأن، قال: وما هي؟ قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن، فقال: "أشبه امرؤ بعض بزه" فأرسلها مثلا.

تاريخ ربيعة

ابن نزار بن معد بن عدنان بين ربيعة ومضر من الفخر والمناقضات بالأشعار ما يطول ذكره. وكلاهما كثير في العدد والشرف والعز، إلا أن النبوة والخلافة في مضر.

وكان معظم العز لمن حاز البيت من ولد إسماعيل فحازته المضرية، وخرجت ربيعة عن أرجائه، فتشتتت قبائلها، وتفرقت في البلاد، فاختص منهم تغلب وبكر بن وائل بأطراف نجد من شمال الحجاز وشرقه، والبلاد الجزرية والفراتية التي تعرف الآن بديار ربيعة، منها سنجار ونصيبين.

ثم إن تغلب وبكراً وقعت بينهما حرب وائل، فانحازت بكر إلى الجبال، وهي جهات ماردين وميافارقين، فعرفت بديار بكر إلى اليوم. وسكن بنو عجل منهم مما يلي أرض العراق في جهات ذي قار وقراقر، وسكن بنو حنيفة باليمامة، وسكن عبد القيس بالبحرين، وسكن عنزة في جهة عبد القيس.


ولم يبق الآن من ربيعة طائل على ما كان فيها من الكثرة والعظمة، وتفرقت قبائلها وبطونها في الحواضر والقرارات. ولقد دوخت بلاد ربيعة بالجزيرة الفراتية فلم أجد فيها من يركب فرساً من تغلب ولا بكر، ولا لهم قائمة. وقد صارت دولة العرب هنالك لزبيد من طيء ولعبادة من المضرية، وتغلب وبكر دخلوا في الفلاحين، وامحي عنهم اسم العرب.


ودخلت جزيرة العرب، فسألت: هل بقي في أقطارها أحد من ربيعة؟ فقالوا: لم يبق من يركب الخيل وفيه عربية وحل وترحال غير عنزة، وهم بجهات خيبر، وبني شعبة المشهورين بقطع الطرقات وهتك الأستار في أطراف الحجاز مما يلي اليمن والبحر، وبني عنز في جهة تبالة؛ وغير ذلك لا نعلمه في المشرق ولا في المغرب.


وولدا ربيعة اللذان اشتهر إليهما النسب: أسد وفيه العدد والبيت، وضبيعة.


فأما أسد بن ربيعة فولداه جديلة وعنزة. فأما جديلة فمنها: وائل بن قاسط بن أفصى بن هنب بن دعمي بن جديلة، وأخوه النمر بن قاسط، وعبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة.

تاريخ وائل بن قاسط

وولده ثلاثة: بكر، وتغلب، وعنز. والشرف القديم والعدد لبكر وتغلب سكان الجزيرة الفراتية؛ والباقية لعنز، وهم الآن قد غلبوا على تبالة من أرض اليمن.

تاريخ بكر بن وائل

قال البيهقي: هي وعبد القيس من أرحاء العرب لأنهما غلبا على ديار جليلة تدور حولها كالرحى حول قطبها. وهما أيضاً جمجمتان لأن لهما رجالا اشتهروا بالنسب إليهم، واقتصر عليهم دون الارتفاع إلى الأصل. وبكر أجل في ذلك، وبطونها أشهر في الانتساب.
وديار بكر بالجزيرة الفراتية مشهورة، وإن لم يبق لهم بها الآن قائمة.


وولدا بكر اللذان ينسب إليهما: علي وفيه البيت والعدد، ويشكر. فأما علي بن بكر فافترق النسب المشهور من ولده على: عكابة بن صعب بن علي، ولجيم بن صعب، (ولهم زمان بن مالك بن صعب).


وأما عكابة بن صعب بن علي فأجل بطونها: شيبان بن ثعلبة بن عكابة، ولها ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة.

تاريخ بني شيبان

ابن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن أفصى بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة.
قال ابن حزم: ولد ذهل بن شيبان مرة بن ذهل، وفيهم البيت والعدد، ولد له عشرة رجال انشأوا عشر قبائل. والمشهور ممن ذكر: همام بن مرة، وجساس بن مرة.

همام بن مرة

فأما همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فكان سيد وائل في وقته (والقائم بحربها حتى قتل، وقام بها بعده الحارث بن عباد)، وكان شديد الغيرة.


قال ابن حزم: وتفرغ من همام بن مرة ثمانية وعشرون بطنا، منهم بنو الحارث بن همام. وليس لهذه البطون ذكر ولا قائمة في جهة من الجهات.


وكان لهمام في الجاهلية بنات قد منعن من التزويج لشدة غيرته، فخلون في بعض الليالي القمر، وتذاكرن في ضياع شبابهن، واتفقن على أن تنشد كل واحدة منهن إباها بيتاً يخص على التزويج، فأسمعته الكبرى:

 

أهمام بن مرة إن همـي

 

إلى قنفاء مشرفة القذل

 

فلما سمع ذلك قال: هذه تريد ناقة! وعادت فقالت لأختيها: قد أنشدته كذا وكذا، فقالا: ما صنعت شيئاً! ثم أسمعته الثانية:

 

أهمام بن مـرة إن هـمـي

 

إلى اللائي يكن مع الرجال

 

فقال: يكون مع الرجال الذهب والفضة وغير ذلك! ولما عادت أخبرتهما بذلك، فقالت لهما الصغرى: ما صنعتما شيئاً! ثم أسمعته:

 

أهمام بن مرة إن همي

 

إلى عرد أسد به مبالي

 

فقال: قاتلها الله لقد كشفت عن طلبها! ثم زوجهن في أثر ذلك.

جساس بن مرة

وأما جساس بن مرة فكان من أبطال بكر في الجاهلية وفتاكها، وهو قاتل كليب وائل سيد بني تغلب، ومسبب حرب وائل التي أتت على الفريقين. وسيأتي ذكرها وسببها.

قال البيهقي: ومن ولد جساس بنو الشيخ الذين كانت لهم بآمد دولة متوارثة.

قال: وكان حديث جساس من أعجب ما يسطر: وذلك أنه قتل صهره زوج أخته كليب وائل لكونه رمى ناقة جارة له بسهم، وأقام الحرب العظيمة، وأفنت الأبطال والأشراف، وآخر من قتل فيها جانيها جساس المذكور: وذلك أنه ربى ولد كليب من أخته، فنشأ الغلام ولا يعلم له والداً غير جساس؛ فلما كبر وركب أعلم بقضية أبيه، وأن خاله هو الذي قتله، فطلب بثأره، وقتل خاله.

جليلة بنت مرة

وجليلة بنت مرة من شواعر العرب، ولها الرثاء المختار في زوجها كليب، منه:

 

فعل جساس على ضني بـه

 

قاطع ظهري ومدني أجلي

إننـي قـاتـلة مـقـتـولة

 

فلعل الله أن يرتـاح لـي

عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان

كان سيداً في قومه، وفيه جرى المثل "لا حر بوادي عوف"، أي من كان في جهته كان بمنزلة العبد له.

عوف بن النعمان الشيباني

قال أبو عبيدة في الأمثال: هو القائل في الجاهلية الجهلاء: "لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أكون مخلاف الوعد".

قيس بن مسعود الشيباني ذو الجدين

هو الذي ملكته عليها بنو بكر في يوم ذي قار الذي كسرت فيه العرب العجم، وكان بعد وقعة بدر بأشهر. وسببه قتل كسرى النعمان بن المنذر.


ثم حصل قيس بن مسعود في يد كسرى، فحبسه بساباط المدائن فمات هناك.


وقال قصيدة يومصي بها قومه، منها:

 

ألا ليتني أرشو سلاحي وبغلـتـي

 

لمن ترفع الأبناء بـعـدي وائل

وأوصيهم بالله والصلح بـينـهـم

 

ليذكر معروف ويدحض جاهـل

وصاة امرئ لو كان فيهم أعانهـم

 

على الدهر والأيام وهي غوائل

وأخبركم والعلم ينـفـع أنـنـي

 

سقطت على ضرغامة وهو آكل

 

(وابنه بسطام سيد وائل بعده، وأخوه هانئ بن مسعود كان المقدم لهم بذي قار).

سدوس بن شيبان

وقال الحازمي: "سدوس بن ذهل [بن ثعلبة] بن عكابة الذي ينتسب إليه بنو سدوس كان رئيساً في قومه، وله ردافة آل المرار ملك كندة، وكان له عشرة أولاد.


قال البيهقي: لما هزم زياد بن هبولة القضاعي حجر بن عمرو الكندي، وأخذ امرأته هنداً، تلطف سدوس حتى دنا من قبة ابن الهبولة بالليل، فسمعه يداعب هنداً، ويتكلم معها في شأن حجر، فسرى في ليلته حتى صبح حجراً وقال:

 

أتاك المرجفون بأمر غيب

 

على دهش وجئتك باليقين

فمن يك قد أتاك بأمر لبس

 

فقد وافيت بالنبأ المبـين

 

ثم قص عليه ما سمع، فنادى بالرحيل حتى أتيا إلى عسكر ابن الهبولة، وقتل سدوس ابن الهبولة، وأخذ حجر هنداً.


وقال الحازمي: "وأما سدوس فبطن كبير من ربيعة، وعامتهم بالبصرة".


قال ابن قتيبة: "ومن بني سدوس الحارث بن سدوس كان له أحد وعشرون ذكراً فقيل فيه:

 

فلو شاء ربي كـان أير أبـيكـم

 

طويلا كأير الحارث بن سدوس"

 

قال: "وفي سدوس بن شيبان العدد".