المقدمة

جمع الظواهر في الملح والنوادر

الحصري

 

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة. قال الطائي:

أوما رأيت منازل ابنة مـالـكٍ

 

رسمت له كيف الزفير رسومها

والحادثات وإن أصابك بؤسـهـا

 

فهو الذي أدراك كيف نعيمهـا

وقال:

إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعـلـه

 

ولولا الشري لم يعرف الشهد ذائقه

وصلى الله على خير مبعوث، وأكرم وارث وموروث، محمد الذي أخرجنا من الضيق إلى الفسحة، وبعث إلينا بالحنيفية السمحة، ليضع عن ولد إسماعيل أغلال بني إسرائيل، بل ليرفع عن كل من دخل في السلم، من جملة العرب والعجم، ما أضلع حمله وأظلع ثقله، صلى الله عليه صلاةً تزلف لديه، وتصعد في الكلم الطيب إليه، وعلى آله وصحبه وسلم.

سبب وضع الكتاب

سألت أطال الله بقاءك، وحرس إخاءك، من زكا بسقي مودتك زرعه ونما، وعلا برعي محبتك فرعه وسما، فانقاد إليك قلبه بغير زمام، وصح فيك حبه بغير سقام أن يجمع لك كتاباً في جواهر النوادر ولمح الملح، وفواكه الفكاهات، ومنازه المضحكات، ترتاح إليه الأرواح، وتطيب له القلوب، وتفتق فيه الآذان، وتشحذ به الأذهان، ويطلق النفس من رباطها، ويعيد إليها عادة نشاطه إذا انقبضت بعد انبساطها، فقد قيل: القلب إذا أكره عمي.

وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا هذه القلوب ولا تهملوها. وخير الكلام ما كان عقيب جمام، ومن أكره بصره عشي، وعاودوا الفكرة عند نبوات القلوب، وأشحذوها بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق؛ فإن من أدمن قرع الباب ولج.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون أقوى لها على الحق.

وقال الحسن البصري رحمه الله: حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة؛ وإنكم إن لم تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.

وقال أردشير بن بابك: إن للقلوب محبة، وللنفوس مللاً؛ ففرقوا بين الحكمين يكون ذلك استجماماً.

وقال في حكة آل داود: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع؛ من عدة لمعاد، وإصلاح لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه لما يفسده، ولذة في غير محرم يستعين بها على الحالات الثلاث.

وقال أبو الفتح كشاجم:

عجبي للمرء تعالت حالـه

 

وكفاه اللّه ذلات الطـلـب

كيف لا يقسم شطري عمره

 

بين حالـين نـعـيم وأدب

ساعة يمتع فيها نـفـسـه

 

من غذاء وشراب منتخـب

ودنوٍّ من دمـىّ هـنّ لـه

 

حين يشتاق إلى اللعب لعب

فإذا ما زال من ذا حـظّـه

 

فنشيدٌ وحـديث وكـتـب

ساعةً جدّاً وأخرى لعـبـاً

 

فإذا ما غسق الليل انتصب

فقضى الدنيا نهاراً حقّـهـا

 

وقضى للّه ليلاً ما يجـب

تلك أعمالٌ متى يعمل بهـا

 

عاملٌ يسعد ويرشد ويصب

منهج الكتاب

فأجبتك إلى ملتمسك بكتاب كللت نظامه، وثقلت أعلامه، بذهب يروق سبك إبريزه، ويرق حوك تطريزه، من نوادر المتقدمين والمتأخرين، وجواهر العقلاء والمجانين، وغرائب السقاط والفضلاء، وعجائب الأجواد والبخلاء، وطرف الجهال والعلماء، وتحف المغفلين والفهماء، ونتف الفلاسفة والحكماء، وبدائع السؤال والقصاص، وروائع العوام والخواص، وفواكه الأشراف والسفلة، ومنازه الطفيليين والأكلة، وأخبار المخانيث والخصيان، وآثار النساء والصبيان.

وأتيت به على سبيل الاختصار، وطريق الاختيار؛ وجعلته بتنويع الكلام، كالمائدة الجامعة لفنون الطعام؛ إذ همم الناس مفترقة، وأغراضهم غير متفقة، ولا أعلم حقيقة ما تستندره، ولا محض ما تؤثره؛ إذ لا يحيط بذلك إلا علام الغيوب، المطلع على ما في القلوب.

وقد تجنبت أن أهدي إليك، وأورد عليك، ما يخرج به قائله في الدين عن اتباع سبيل المؤمنين، فمن أهل الإلحاد والأهواء، من يسر حسواً في ارتغاء، ويطلب ما يشفى به من دائه، ويضحك خاصة أودائه، ويغر به من ضعفت نحيزته، وهفت غريزته، بألطف ما يمكنه، كمون الأفعوان، في أصول الريحان، إذا قابله بشمه، قتله بسمه. كما حكى الجاحظ عن الشرقي بن القطامي أن ابن أبي عتيق لقي عائشة رضي الله عنها على بغلة. فقال: إلى أين يا أماه ؟ فقالت له: أصلح بين حيين تقاتلا، فقال: عزمت عليك إلا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة.

وهذه حكاية أوردها الشرقي لغله ودغله على وجه النادرة؛ لتحفظ ويضحك منها، ويتعلق بها من ضعف عمله، وقل عزمه؛ فيكون ذلك أنجع وأنفع لما أراد من التعرض لعرض أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومثل هذا كثير مما لو ذكرته لدخلت فيما أنكرته. فقد قيل: الراوية أحد الشاتمين، كما قيل: السامع أحد القائلين.

وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وقد مر به عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر فلم يسلما عليه:

مساء تراب الأرض منها خلقتما

 

فيها المعاد والرجوع إلى الحشر

ولا تعجبا أن ترجعا فتسـلّـمـا

 

فما حشي الإنسان شرّاً من الكبر

وقال آخر:

إن كنت لا ترهب ذمّي لـمـا

 

تعرف من صفحي عن الجاهل

فاخش سكوتي إذ أنا منـصـت

 

فيك لمسموع خـنـا الـقـائل

فسامع الـسـوء شـريكٌ لـه

 

ومطعم المأكـول كـالآكـل

ومن دعا الـنـاس إلـى ذمّـه

 

ذمّوه بالحـقّ وبـالـبـاطـل

مقالة السـوء إلـى أهـلـهـا

 

أسرع من مـنـحـدرٍ سـائل

وقد رام ابن قتيبة تسهيل السبيل في مثل هذا، فقال: مهما مر بك من كلام تنفر عنه نفسك، فلا تعرض عنه بوجهك، فالقول منسوب إلى قائله، والفعل عائد إلى فاعله.

قلت: وليت شعري ما اللذة فيما يضحك منه من هو معرض عنه، إلا أن يدخل في حد المستهزئين، وحيز المتلاعبين. نعوذ بالله من الحور بعد الكور.

وأنشد أبو نواس الجماز شعراً من أعابيثه ومجونه كفر فيه، وقال للجماز: أين أنت من أهل الطراز ؟ قال: أنا لا أتعرض لمن أعضائي جنده يحرك علي منها ساكناً أو يسكن متحركاً فأهلك.

وقد طرد الجماز أصله في التحرز مما تعلق عليه من شناعة، أو تلزمه فيه بباعة، فقال يمدح:

أقول بيتاً واحداً أكـتـفـي

 

بذكره مـن دون أبـيات

إنّ عليّ بن أبي جعـفـر

 

أكرم أهل الأرض من آت

فقد سلم مما كاد يقع فيه أبو الخطاب عمرو بن عامر السعدي، وقد أنشد موسى الهادي:

يا خير من عقدت كفّاه حجزته

 

وخير من قلّدته أمرها مضر

فانقلبت عيناه في رأسه، واحمر وجهه، وقال: إلا من ؟ ويحك ! ولم يكن أبو الخطاب استثنى أحداً، وإنما جرى على مذهب الشعراء في تفضيل الممدوح على أهل العصر؛ فلما رأى ما بوجه الهادي من إرادة الإيقاع به قال ارتجالاً:

إلاّ النبيّ رسول اللّـه إنّ لـه

 

فخراً وأنت بذاك الفخر تفتخر

فسري عنه ووصله.

تدرج الكتاب ولذة الانتقال من حال إلى حال

وقد جعلت ما عملت مدبجاً مدرجاً، لتلذ النفس بالانتقال من حال إلى حال، فقد جبلت على محبة التحول، وطبعت على اختيار التنقل.

وقد قيل: إن عبد الله بن طاهر لما أسر نصر بن شبث بكيسوم، وأنفذه إلى المأمون، جلس مجلساً أنصف فيه من وجوه القواد، ومن أمراء الأجناد، وضرب الأعناق، وقطع الأيدي، ورد كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس؛ فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، هذا إزاره. فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها، ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:

النّشر مسك والوجوه دنـا

 

نير وأطراف الأكفّ عنم

قال عيسى بن يزيد: وكنت جرياً عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى أو قيصر أو ذي القرنين، ثم تعمل الساعة عمل علويه ومخارق ؟ فرد ثوبه على عاتقه وهو يقول:

لا بدّ للنفس إن كانت مصرّفة

 

من أن تنقّل من حالٍ إلى حال

قال أبو القاسم بن جدار: كأنه ذهب إلى ما فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين قام من بعض مجالسه الجليلة التي كان يدون فيها الدواوين ويمصر الأمصار، ويقمع الأعداء، ويؤيد الإسلام، فدخل منزله ثم رفع صوته وهو يقول:

وكيف ثوائي بالمـدينة بـعـدمـا

 

قضى وطراً منها جميل بن معمر

فلحقه عبد الرحمن بن عوف فاستأذن عليه، فقيل: عبد الرحمن يا أمير المؤمنين بالباب. فلما دخل عليه، قال: ما صوت سمعته منك آنفاً يا أمير المؤمنين ؟ فقال: يا أبا محمد، إيهاً عنك ! فإن الناس إن أخلوا قالوا.

وقد قلت:

فرّقت في التأليف معتمداً

 

ما كان لو قد شئت يأتلف

والعقد ما اختلفت جواهره

 

إلاّ ليشرق حين يختلـف

إن كان الشيء مع نظيره يذهب بنوره، ويغض من بهائه؛ ويخلق من روائه؛ فقد زعموا أن المجرة كواكب مضيئة مجتمعة؛ فكسف بعضها نور بعض؛ فصارت طريقاً في السماء بيضاء. وقال ابن الرومي:

وبيضاء يخبو درّها من بياضها

 

ويذكو بها ياقوتها والزبرجـد

إلا أن تندرج الحكاية في الحكايات، ويتسلسل البيت مع الأبيات، فيكون الجمع أزين من القطع، والتوصيل أحسن من التفصيل، فأقرنها بأشكالها، وأجملها مع أمثالها.

لاختيار المطايبات والمداعبات أصول

ولاختيار المطايبات والمداعبات وما انخرط في سلكها من الملح والمزح أصول لا يخرج فيها عنها، وفصول لا يخرج بها منها، وقد يستندر الحار المنضج، والبارد المثلج؛ لأن إفراط البرد، يعود به إلى الضد. ولذلك قول أبو نواس:

قل للزّهيريّ إن حـدا وشـدا

 

أقلل وأكثر فأنـت مـهـذار

سخنت من شدة الـبـرودة ح

 

تى صرت عندي كأنك النار

لا يعجب السامعون من صفتي

 

كذلك الثـلـج بـاردٌ حـار

وفي كليلة ودمنة: لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإزالته؛ فإنه إما شرس الطبيعة كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها، وإما سبح الطبع كالصندل البارد، إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً.

وقالوا: إنما ملح القرد عند الناس لإفراط قبحه. وقد قال ابن الرومي في الخصيان:

معشراً أشبهوا القرود ولكن

 

خالفوها في خفّة الأرواح

لأن العبد إذا خصي استرخت معاقد عصبه، وحدث في طبعه نشاط في الخدمة؛ فيحصل بين حالين لا يطيق المبالغة فيهما فيضيق صدره، وتثقل روحه. وقد قال أبو تمام:

أمن عمىً نزل الناس الربى فنجوا

 

وأنتم نصب سيل القنّة الـعـرم

أم ذاك من هممٍ جاشت وكم صفة

 

حدا إليها غلوّ القوم في الهـمـم

وكان يقال: من التوقي ترك الإفراط في التوقي، وإنما الموت المحبب والسقم المغيب، أن تقع النادرة فاترة فتخرج عن رتبة الهزل والجد، ودرجة الحر والبرد، فيكون بها جهد الكرب على القلب؛ كما قال أبو بكر الخوارزمي: أثقل من عذاب الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلعة الرقيب، وقدح اللبلاب في كف المريض، ونظرة الذل إلى البغيض ، وأشد من خراج بلا غلة، ودواء بلا علة، وطلعة الموت في عين الكافر، وقد ختم عمره في الكبائر، وأعظم من ليلة المسافر، في عين كانون الآخر، على إكاف يابس، تحت مطر وبرد قارس.

ومن أمثال البغداديين: هو أثقل من مغن وسط، ومن مضحك وسط. وقال ابن الرومي يهجو أحمد بن طيفور:

فقدتك يا بن أبي طـافـر

 

وأطعمت فقدك من شاعر

فلت بسـخـن ولا بـارد

 

وما بين ذين سوى الفاتر

وأنت كذاك تغثّي النـفـو

 

س بغثية الفاتر الخـاثـر

شرط المسامر والمنادر

ومن شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة، لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول؛ قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها، فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، وكان برائق حلاوته، وفائق طلاوته، يضع الهناء مواضع النقب، ويعرف كيف يخرج مما يدخل فيه، إذا خاف ألا يتسحسن ما يأتيه.

كما ذكر عن الفتح بن خاقان أنه كان مع المتوكل فرمى المتوكل عصفوراً فأخطأه. فقال: أحسنت يا أمير المؤمنين ! فنظر إليه نظرة منكرة. فقال: إلى الطائر حتى سلم؛ فضحك المتوكل.

وذكر لبعض ولاة البصرة لما وليها حلاوة الجماز، وأن أكثر نوادره على الطعام، فأحضره، وقدمت المائدة، فأتى بنادرة فاخرة وأتبعها بأخرى فلم تستملح. فقال: لعل الأمير أنكر برد ما أتيت به ؟ وإنما احتذيت حذوه في تقديم البوارد قبل الحوار.

كلما طال كلامه انحل نظامه

ولا يحب أن يكون كلما طال كلامه انحل نظامه؛ بل يأتي في آخر ما أحكمه بما ينسي ما تقدمه، وإلا كان كما ذكر الجاحظ: أن الرشيد أحب أن ينظر إلى شعيب القلال كيف يعمل ؟ فأدخل القصر، وأتي بكل ما يحتاج إليه من آلة العمل؛ فبينما هو يعمل إذ بصر بالرشيد فنهض قائماً. فقال له: دونك وما دعيت له؛ فإني لم آتك لتقوم إلي؛ بل لتعمل بين يدي. فقال: وأنا أصلحك الله لم آتك ليسوء أدبي؛ وإنما أتيتك لأزداد أدباً؛ فأعجب الرشيد به، وقال له: بلغني أنك إنما تعرضت لي حين كسدت صناعتك ؟ فقال: يا سيدي، وما كساد عملي في خلال وجهك! فضحك الرشيد حتى غطى وجهه. وقال: ما رأيت أنطق منه ولا أعيا منه ! ينبغي أن يكون أعقل الناس وأجهل الناس. وكذلك كان.

سر النادرة دون مطمطة ومجمجة

ويجب إذا حكى النادرة الظريفة، والحكمة اللطيفة، ألا يعربها فتثقل، ولا يمجمجها فتجهل، ولا يمطمطها فتبرد، ولا يقطعها فتجمد. ولو أن قائلاً حكى قول مزيد المدني، وقد أكل طعاماً فأثقله. فقيل له: تقيأه يذهب ما بك. فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قياً لأكلته. فلو أعطاه حقه من الإعراب فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قيئاً لأكلته، لخرج عن حده، وأفلج من برده.
وكذلك لو ذهب بما يحتاج إلى الإعراب من كلام الفصحاء والأعراب إلى اللحن لاستغث واسترث. كما ذكروا أن الحجاج بعث إلى ولي البصرة أن اختر لي من عندك عشر فصحاء، فاختار رجالاً فيهم كثير بن أبي كثير وكان عربياً فصيحاً قال كثير: فقلت: بم أفلت من الحجاج ؟ ثم قلت في نفسي: باللحن؛ فلما دخلت عليه دعاني فقال: ما اسمك ؟ قلت: كثير. قال: ابن من ؟ فقلت: إن قلت: ابن أبو كثير خفت أن يتجاوزها. فقلت: ابن أبا كثير. فقال: اذهب فعليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جروا في عنقه ! فأخرجت.

وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه ؟ فقال: أغيلمة إن فهمناهم لم يفهموا، وإن علمناهم لم يعلموا، قل: ترك أباه وأخاه، فقال له: فما لأباه وأخاه ؟ فقال الحسن: قل لأبيه ولأخيه، قال: أرى كلما تابعتك خالفتني.

ولكل صناعة آلة، ولكل بضاعة حالة. وذم رجل رجلاً فقال: أقداحه محاجم ودعواته ملاوم، وكئوسه محابر، ونوادره بوارد.

وقال الزبير: رؤي الغاضري ينازع أشعب الطمع عند بعض الولاة فقال: أيها الأمير، إنه يريد أن يدخل علي في صناعتي، ويشاركني في بضاعتي، وهيئته هيأة قاض، والأمير يضحك.

وقال عمرو بن عثمان:

واشتياقي إلى أبي الخطـاب

 

وأحاديثه الرقاق الـعـذاب

وإشارته التي اسـتـعـارت

 

حركات المهجور عند العتاب

ويجب على اللبيب المطرب ألا يطيل فيمل، ولا يقصر فيخل، فللكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، قال أحمد بن الطيب السرخسي تلميذ أحمد بن إسحاق الكندي: كنت يوماً عند العباس بن خالد، وكان ممن حبب إليه أن يتحدث، فأقبل يحدثني، وينتقل من حديث إلى حديث، وكان في صحن منزله، فلما بلغتنا الشمس انتقلنا من موضع إلى موضع آخر حتى صار الظل فيئاً. فلما أكثر وأضجر، ومللت حسن الأدب في حسن الاستماع، وذكرت قول الأوزاعي: إن حسن الاستماع قوة للمحدث، فقلت له: إذا كنت وأنا أسمع قد عييت مما لا كلفة علي فيه؛ فكيف بك وأنت المتكلم ؟ فقال: إن الكلام يحلل الفضول الغليظة التي تعرض في اللهوات وأصل اللسان، ومنابت الأسنان؛ فوثبت وقلت: ما أراني معك في إلا أيارج الفيقرا إذ أنت تتغرغر بي منذ اليوم، والله لا أجلس، واجتهد بي فلم أفعل.

وقال أحمد بن الطيب: كنا مرة عند بعض إخواننا، فتكلم فأعجبه من نفسه الكلام، ومنا حسن الاستماع، حتى أفرط؛ فعرض لبعض من حضر ملل؛ فقال: إذا بارك الله في شيء لم يفن، وقد جعل الله في حديث أخينا هذه البركة.

وقال عبد الله بن سالم في رجل كثير الكلام:

لي صاحبٌ في حديثه بركه

 

يزيد هذا السكون والحركه

لو قال لا في قليل أحرفها

 

لردّها بالحروف مشتبكـه

والتحفظ في هذا الباب من أكبر الأسباب؛ لأن المنادر والمهاتر والمسامر قد تمر له النادرة المضحكة، والطيبة المحركة؛ فيستغرب المجلس، وتطرب الأنفس؛ فيدعوه ما استحسن منه، واستندر عنه، أن يعود إلى مثلها فينقص من حيث ظن أنه زاد، ويفسد عليه ما أراد. وقد كتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري لما استحضره عضد الدولة للمنادمة: وقفت على ما وصفته من بر الأمير بك، وتوفره عليك، وليس العجب أن يتناهى مثله في الكرم إلى أبعد غاياته؛ وإنما العجب أن يقصر في مساعيه عن نيل المجد كله، وحيازة الفضل بأجمعه؛ وقد رجوت أن يكون ما يغرسه أجدر غرس بالزكاء، وأضمنه للريع والنماء؛ فأرع ذلك، واركب في الخدمة طريقة تبعدك من الملال، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال، ولا تسترسل كل الاسترسال، فلأن تدعى من بعيد مرات، خير من أن تقصى من قريب مرة. وليكن كلامك جواباً تتحرز فيه من الخطل والإسهاب، ولا تعجبن بتأتي كلمة محمودة، فيلح بك الإطناب توقعاً لمثلها، فربما هدمت ما بنته الأولى.

وبضاعتك في الشرب مزجاة، وبالعقل يزم اللسان، ويلزم السداد؛ فلا تستفزنك طربة الكرم على ما يفسد تمييزك. والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه، فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها، وتطالع موضعها، فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى الإسعاف هشة، فأظهر ما في نفسك غير مخفف؛ ولا توهم أن في الرد عليك ما يوحشك، ولا في المنع ما يغيظك. وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك، أكثر منه عند نجاحها على يدك؛ ليخف كلامك ولا يثقل على مستمعيه منك، أقول ما أقوله غير واعظ ولا مرشد، فقد كمل الله خصالك، وفضلك على كل حالك، لكن أنبه تنبيه المشارك، وأعلم للذكرى موقعاً لطيفاً.

وذكر لعبد الله بن طاهر رجل يصلح للمنادمة، فأحضره فأقبل يأتي بالأشياء في غير مواضعها. فقال: يا هذا، إما أقللت فضولك أو دخولك.

الحاجة إلى الهزل

وهذه النوادر أكرمك الله وإن وقع عليها اسم الهزل، وأسقطت من عين العقل، عند من لا يعلم مواقع الكلم، ولا يفهم مواضع الحكم، فليس ذلك بمروجها، ولا بمبهرجها عند أهل العقول وأولي التحصيل العارفين بمعاقد المعاني، وقواعد المباني، وهل يستندر من المغمورين والمشهورين، ويستظرف من المغفلين والمعقلين، إلا ما خرج عن قدر أشكالهم، وبعد من فكر أمثالهم، وإنما يذكر ما يستظرف، لخروجه عما يعرف.

ومنها ما يدخل في باب الطيب والاستندار، وقد قال الجاحظ: ليس شيء من الكلام يسقط البتة، فسخيف الألفاظ يحتاج إلى سخيف المعاني. وقد قيل: لكل مقام مقال، وقيل لبشار بن برد، كم بين قولك:

أمن طللٍ بالجزع لن يتكلّما

 

وأقفر إلا أن ترى مذمما

في نظائر هذه القصيدة من شعرك، ومن قولك:

لبـابة ربّة الـبـيت

 

تبيع الخلّ بالـزيت

لها سبع دجـاجـاتٍ

 

وديكٌ حسن الصوت

فقال: إنما القدرة على الشعر أن يوضع الجد والهزل في موضعه، ولبابة هذه جارة لي تنفعني بما تبعث لي من بيض دجاجها، وهذا الشعر أحسن موضعاً عندها من:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ولما استقرت الخلافة للمعتز بالله شخص إليه أبو العبر من ولد عبد الصمد بن علي فهنأه بالخلافة وتعرض لصلته بالجد، وهجا المستعين كما فعل البحتري في قصيدته التي أولها:

يجانبنا في الحبّ من لا نجانبـه

 

ويبعد منّا في الهوى من نقاربه

فلم يقبل عليها، فعمل أبو العبر قصيدة مزدوجة كلها هزل من غير تقويم ولا إعراب منها قوله: أيا أحمد الرقيع، ومن أكلك الرجيع، أتنسى من كان، نصيرك قهرمان، فيأتيك بالسويق، من السوق والدقيق، فصرت الآن في الدار، على رتبة البزار، أما تعلم يا فار، بأن الله يختار، ويعطي غيرك الملك، عزيزاً يركب الفلك.

وفيها ما لا يذكر من حماقات واختلال، وبرد وانحلال، وكلام مرذول، غث مهزول؛ فضحك المعتز منها، وأمر له بألف دينار، فألح على جعفر بن محمود الإسكافي في الاقتضاء، وهو حينئذ وزير المعتز، فألط عليه. فقال له جعفر: عهدي ببني هاشم يأخذون الصلات بشرفهم وعلومهم وجدهم، وأنت تأخذ بالمحال والهزل؛ فأنت عجيب من بينهم !! فقال أبو العبر: صدقت أنا عجيب من بينهم، كما أنت عجيب في أهل إسكاف، كلهم نواصب وأنت من بينهم رافضي، وكان جعفر ينسب إلى ذلك. ثم أنشد أبو العبر قول جميل:

بثينة قالت يا جميل أربـتـنـا

 

فقلت كلانا يا بثـين مـريب

وأريبنا مـن لا يؤدّي أمـانةً

 

ومن لا يفي بالعهد حين يغيب

فدفع إليه الألف دينار، واستعفاه أن يعاود مثل هذا.

وكانت لأبي العبر مع موسى بن عبد الملك قصة مثل هذه في أيام المتوكل: رفع إليه كتاباً بأرزاقه وأرزاق جماعة من أهله ليوقع فيه ويختمه؛ فدافعه به موسى مدةً، فوقف له يوماً فلما ركب أنشده:

موسى إلى كم تتبرّد

 

وكم وكم تـتـردّد

موسى أجزني كتابي

 

بحقّ ربّك الأسـود

يريد محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، والإمامية تزعم أنه إمام وقته، فجزع موسى وسأله كتم ما كان عليه ومعاودة مثله: وأنشد أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري المتوكل قصيدته:

من أيّ ثغرٍ تبتـسـم

 

وبأيّ طرفٍ تحتكـم

حسن يضنّ بحسنـه

 

والحسن أشبه بالكرم

أفديه من ظلكم الوشا

 

ة وإن أساء وإن ظلم

وهي حلوة الروي، مليحة العروض، حسنة الطبع، فكان البحتري فيه كبر وإعجاب. فإذا أنشد، قال: ما لكم لا تعجبون، أما حسن ما تسمعون ؟! فقام إليه أبو العنبس الصيمري وقد قال ذلك فقال:

عن أيّ سلح تـلـتـقـم

 

وبأيّ كفّ تـلـتـطـم

ذقن الوليد البـحـتـريّ

 

أبي عبادة في الـرّحـم

أدخلت رأسك في الرحم

 

 

فولى البحتري مغضباً، فقال أبو العنبس: وعلمت أنك تنهزم.

فضحك المتوكل حتى فحص برجليه وأمر بالجائزة لأبي العنبس.

وقد يحتاج العاقل المميز، والفاضل المبرز، إلى الهزل كاحتياجه إلى الجد، ويفتقر إلى الجور كافتقاره إلى القصد؛ وعلم الفتى في غير موضعه جهل.

وصحب الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قوماً في سفره فكان يجاريهم على أخلاقهم، ويخالطهم في أحوالهم، وهم لا يعرفونه، فلما دخل مصر حضروا الجامع، فوجدوه يفتي في حلال الله وحرامه، ويقضي في شرائعه وأحكامه، والناس مطرقون لإجلاله، فرآهم فاستدعاهم، فلما انصرفوا سئل عنهم فأنشد:

وأنزلني طول النّوى دار غربةٍ

 

إذا شئت لاقيت امرأً لا أشاكله

أُحامقه حتى يقـال سـجـيّة

 

ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

وقد يخرج الفطن اللبيب، وينتج الطبن الأديب، من الهزل السخيف، غرائب الجد الشريف، فالنار قد تلتظى من ناضر السلم.

ولما قال بشار بن برد:

كأن فـؤاده كـرة تـنــزّى

 

حذار البين لو نفع الـحـذار

جفت عيني عن التغميض حتى

 

كأنّ جفونها عنهـا قـصـار

يروّعه السّرار بكـل شـيء

 

مخافة أن يكون به السّـرار

قيل له: من أين أخذت هذا ؟ قال: من قول أشعب الطماع: ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننتهم يأمران لي بشيء.

ومر مزيد المديني مزبد المدني بجرة مغطاة، فقال له بعض جيرانه: ما هذا ؟ فقال له: يا أحمق، فلم سترناه !! أخذه ابن الرومي، فقال لمن سأله: لم تلزم العمة ؟

يأيها السائلي لأُخـبـره

 

عني لم لا أزال معتجرا

أستر شيئاً لو كان يمكنني

 

تعريفه السائلين ما سترا

وكان ابن الرومي أقرع الرأس، وقد أخبر بعلة ذلك في قوله:

تعمّمت إحصاناً لرأسـي بـرهةً

 

من القرّ يوماً والحرور إذا سفع

فلما دهى طول التعمّم لّـمـتـي

 

فأزرى بها بعد الأصالة والفرع

عزمت على لبس العمامة حـيلةً

 

لتستر ما جرّت عليّ من الصّلع

فيا لك من جانٍ علـيّ جـنـايةً

 

جعلت إليه من جنايته الـفـزع

وأعجب شيء كان دائي جعلتـه

 

دوائي على عمدٍ وأعجب بأن نفع

الهزل من الجد

وقد يستجلب من الجديات الصريحة، ظرائف الهزليات المليحة، فقد قيل على وجه الذم: من حفر لأخيه حفرةً وقع فيها، وقيل: من سل سيف البغي قتل به، وقال ابن المعتز في الفصول القصار: لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. وأنشدوا لبعض الأعراب:

رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي

 

بريّاً ومن جال الطويّ رماني

والذي أنشده سيبويه: ومن أجل، والجال والجول: الناحية. والطوي: البئر. يريد رماني بما عاد عليه ضره وشره، كمن يرمي من بئر فيعود رميه عليه. فانظر إلى هذا المعنى كيف أخذه عبادة المخنث لما نكب المتوكل محمد بن عبد الملك الزيات ورماه في تنور كان ابن الزيات اتخذه لابن أسباط المصري، وجعله كله مسامير، فإذا وقف الواقف لم يقدر يتحرك إلى ناحية إلا ضربته المسامير، فلا يزال قائماً حتى يموت. فاطلع عليه عبادة المخنث فقال له: أردت أن تخبز في هذا التنور، فخبزت فيه، فضحك المتوكل. فقال عبادة: هذا يا أمير المؤمنين مثل رجل كان حفاراً للقبور مات، فمرت به واحدة من أصحابنا فقالت: أما علمت أنه من حفر لأخيه حفرةً يسقط فيها.

الظريف من الخطاب يخلص من الهلاك

وكم ظريفة من الخطاب، ومليحة من الجواب، خلصت من الهلاك، من نصبت له الأشراك، وسلمت من الحتوف، من أصلتت له السيوف.

قال الأصمعي: خرج الحجاج متصيداً، فوقف على أعرابي يرعى إبلاً وقد انقطع عن أصحابه، فقال: يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجاج ؟ فقال الأعرابي: غشوم ظلوم لا حياه الله ولا بياه. قال الحجاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين ؟ فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله ! قال: فبينا هو كذلك إذ أحاطت به جنوده، فأومأ إلى الأعرابي فأخذ وحمل، فلما صار معهم قال: من هذا ؟ قالوا: الأمير الحجاج، فعلم أنه قد أحيط به، فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير: قال: ما تشاء يا أعرابي ؟ قال: أحب أن يكون السر الذي بيني وبينك مكتوماً؛ فضحك الحجاج وخلى سبيله.

وخرج مرة أخرى فلقي رجلاً. فقال: كيف سيرة الحجاج فيكم ؟ فشتمه أقبح من شتم الأول حتى أغضبه، فقال: أتدري من أنا ؟ قال: ومن عسيت أن تكون ؟ قال: أنا الحجاج، قال: أوتدري من أنا ؟ قال: ومن أنت ؟ قال: أنا مولى بني عامر، أجن في الشهر مرتين هذه إحداهما. فضحك وتركه.

المهدي وأحد المصلين

وقدم المهدي المدينة، فخرج ليلةً إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ليصلي، فبينما هو كذلك إذ جاء مدني فقام إلى جانبه يصلي، فلما قضى صلاته قال للمدني: أقدم خليفتكم؟ قال: نعم ! فعل الله به وفعل وأراحنا منه، وجعل يدعو على المهدي وانصرف؛ فدخل عليه الربيع؛ فقال: يا ربيع؛ جلس إلى جانبي البارحة مدني فما ترك دعاءً إلا ودعا به علي. فقال: أتعرفه ؟ قال: نعم، إذا رأيته ! ثم ركب المهدي واجتمع أهل المدينة ينظرون، فوقعت عينه على الرجل؛ فقال: يا ربيع؛ ألا ترى الرجل الذي صفته كذا وكذا ! هو ذاك صاحبي، فأمر به الربيع فأخذ، فلما رجع المهدي دعا به. فقال: يا هذا، هل أسأت إليك قط ؟ قال: لا؛ قال: فهل لك مظلمة تطالبني بها ؟ قال: لا، قال: فما دعاؤك علي حين صليت إلى جانبي ؟ فقال المدني: فديتك والله ! وعتق ما أملك؛ وامرأتي طالق إن لم أكن أغير كنيتي في اليوم مرتين وثلاثاً للملال. فضحك المهدي وأحسن صلته.

حسن التخلص

وخرج ابن أحمد المدني أيام العصبية إلى أذربيجان، فلقيه فرسان، فسقط في يده، فقال: الساعة يسألونني من أنا ؟ وأخاف أن أقول مضري وهم يمانية، أو يماني وهم مضرية، فيقتلونني؛ فقربوا منه، وقالوا: يا فتى، ممن أنت ؟ قال: ولد زنا، عافاكم الله ! فضحكوا منه، وأعطوه الأمان، فأخبرهم بنفسه، فأرسلوا معه من يوصله إلى مقصده. وخرج الربيع من عند أبي جعفر عبد الله المنصور فقال: أمير المؤمنين يسأل من يعرف من يشبهه من خلفاء بني أمية أن يذكر ما عنده، فقال أبو بكر بن عياش المنتوف: أنا أعرف ذلك، ولكن لا أقول إلا مشافهة، فدخل ثم خرج فقال: أمير المؤمنين يقول لك: قد علمت أنك إنما تطلب الدخول لتتوسل إلى أموالنا، فأدخل. فدخل فقال له: من أشبه من خلفاء بني أمية ؟ فقال: عبد الملك بن مروان. قال: كيف قلت ذلك ؟ قال: لأن أول اسمك عين وهو أول اسمه عين، وأول اسم أبيه ميم، وأول اسم أبيك ميم، وقتل ثلاثة أول أسمائهم عين وكذلك أنت، قال: ومن قتل ؟ قال: عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعمرو بن سعيد بن العاص، وقتلت يا أمير المؤمنين عبد الرحمن بن مسلم يريد أبا مسلم الخراساني وعبد الجبار بن عبد الرحمن الخارجي، قال: وأردت أن أقول، وقتلت عبد الله بن علي عمك، فعرفت أنه يكره ذلك؛ لأنه أسقط عليه البيت الذي كان فيه، وادعى أن البيت سقط، وقد كان عيسى بن موسى يسام في نزع البيعة، وهو مضيق عليه، فقلت: وسقط الحائط على عبد الله بن علي. قال: فالحائط سقط عليه فما علينا ؟ فقلت: لا شيء يا أمير المؤمنين. وها هنا حائط آخر مائل على عين أخرى وهو عيسى بن موسى إن لم تدعموه بفضلكم خفت أن يسقط. فضحك ثم قال: أولى لك.

وخرج المأمون منفرداً فإذا بأعرابي فسلم عليه. فقال: ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال: الرجاء لهذا الخليفة، وقد قلت أبياتاً أستمطر بها فضله، قال: أنشدنيها، قال: يا ركيك، أويحسن أن أنشدك ما أنشد الملوك ؟ فقال: يا أعرابي، إنك لن تصل إليه ولن تقدر مع امتناع أبوابه وشدة حجابه، ولكن هل لك أن تنحلنيها، وهذه ألف دينار فخذها وانصرف ودعني أتوسل، لعلي أتوصل ؟ قال: لقد رضيت، فبينما هما في المراجعة إذ أحدقت الخيل به وسلم عليه بالخلافة، فعلم الأعرابي أنه قد وقع، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين؛ أتحفظ من لغات اليمن شيئاً ؟ قال: نعم! قال: فمن يبدل القاف كافاً ؟ قال: بنو الحارث بن كعب، قال: لعنها الله من لغة لا أعود إليها بعد اليوم. فضحك المأمون وأمر له بألف دينار.

المأمون ومخارق

وغنى مخارق بحضرة المأمون أبيات مسكين الدارمي وذهب عنه معناها وفيمن قيلت، وهي:

على الطائر الميمون والسعد إنّـه

 

لكلك أناسٍ أنـجـمٌ وسـعـود

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر

 

ومروان أم ماذا يقـول سـعـيد

إذا المنبر الغربيّ خلّى مكـانـه

 

فإنّ أمير الـمـؤمـنـين يزيد

وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز، ومروان بن الحكم بن أبي العاص، وسعيد بن العاص، وهؤلاء شيوخ بني أمية والمترشحون للخلافة بعد معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص هو الأشدق، وطلب الخروج على عبد الملك بن مروان فقتله. فلما بلغ مخارق إلى آخر البيت الأخير وهم أن يقول يزيد استيقظ، فقال: مخارق، فضحك المأمون وقال: لو قلت يزيد ما عشت.

الملح تصرف المخاوف وتنقذ الملهوف

وكم صرفت الملح من مخوف، وأنقذت من ملهوف. قال عيسى بن يزيد بن دأب: أرسل يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر في جارية له مغنية يسأله إياها؛ فقال له الرسول: أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: فلانة أعجبتني، ويجب أن تؤثرني بها. فقال عبد الله لمولاه بديح المليح: أي شيء يقول ؟ قال بديح: فقلت له: يقرئك السلام، ويقول: كيف بت في ليلتك هذه ؟ قال: يقول عبد الله: أقرئ أمير المؤمنين السلام. فقال الرسول: ليس كذا قلت ولا له جئت. فقال: ما يقول ؟ فأعاد بديح القول، فخرج الرسول مغضباً ومضى إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، بلغت ابن جعفر رسالتك وإلى جنبه رجل مجنون ما أدري كيف هو يحكي خلاف ما أقول ! فقال: علي به، قال بديح: فذهب بي إليه، فلما دخلت شتمني وقال: تصنع هذا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، متى عهدك بابن جعفر لا يسمع ؟ إقباله علي يسألني منع لجاريته وبخل بها؛ كره أن يعطيكها لمحبته لها فما ذنبي أنا ؟! فضحك يزيد وقال: لعل الشيخ ضنين بجاريته.

المأمون يشدد في الغناء

وكان المأمون قد حرم الغناء وشدد فيه فلقي علي بن هشام إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الجسر، فقال إسحاق لعلي بكلام يخفيه: قد زارتني اليوم فلانة، وهي أطيب الناس غناءً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي. فوعده بالحضور وتفرقا، وإذا بطفيلي يسمع كلامهما فمضى من وقته، فلبس ثياباً حسنة؛ واستعار من بعض إخوانه بغلة فارهة بسرجها ولجامها، فركبها وأتى باب علي بن هشام بعد أن نزل من الركوب بساعة، فقال للحاجب: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق بن إبراهيم بالباب؛ فدخل الحاجب وخرج مسرعاً وقال: ادخل جعلت فداك، فدخل على علي فرحب به، فقال له: يا سيدي يقول لك أخوك: تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني ؟ فقال له: الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فاستوى على دابته ووافى منزل إسحاق؛ فقال للحاجب: عرف الأمير أني رسول علي بن هشام؛ فدخل الحاجب وخرج فقال: ادخل ! جعلني الله فداك؛ فدخل فسلم وقال: أخوك يقرئك السلام ويقول لك: الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير فما ترى ؟ فقال: قل له يا سيدي قتلتنا جوعاً، فبحياتي إلا ما حضرت. فرجع إلى باب علي وقال للحاجب: تعرفه أن الأمير أمرني ألا أبرح أو يجيء معي.

فغير علي بن هشام ثيابه، وركب دابته، وتبعه الطفيلي حتى نزل بباب إسحاق بن إبراهيم، ونزل الطفيلي معه، ودخلا جميعاً فسلما وجلسا، وجيء بالطعام فأكلوا، وإسحاق لا يشك أنه أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أنه أخص الناس بإسحاق، ثم غسلوا أيديهم وقدموا الشراب، وخرجت جارية من أحسن الناس وجهاً وزياً، فجلست وأتيت بعود، فغنت أحسن غناء، ودارت الأقداح فلم يزالوا على ذلك إلى بعد العصر، وأخذ الطفيلي البول حتى كاد يأتي على ثيابه فصبر جهده؛ فلما عيل صبره قام فدخل الخلاء، فقال علي لإسحاق: يا سيدي، ما أخف روح هذا الفتى وأحل نوادره ! فمن أي وقع لك ؟ قال أوليس هو صاحبك ؟! قال: لا وحياتك ولا رأيته قبل يومي هذا، قال: فإنه جاءني برسالتك وقص قصته؛ وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه؛ وقال: طفيلي يستجرىء علي وعلى النظر إلى حرمي والدخول إلى داري ! يا غلمان: السياط والعقابين، المقارع والجلادين. فقامت في الدار جلبة، وأحضروا جميع ذلك، والطفيلي يسمع وهو في الخلاء، ثم إنه خرج رافعاً ثيابه غير مكترث بما فعلوه، وهو مقبل على تكة لباسه يشدها، ويتمشى في صحن الدار وهو يقول: جعلت فداك ! إيش بي من جهدك ! فهل عرفتني مع هذا كله ؟ فقال إسحاق: ومن أنت ؟ فقال: أنا صاحب خبر أمير المؤمنين، وعينه على سره، والله لولا تحرمي بطعامك وممالحتي لتركتكما في عمىً من أمري، حتى كنت تعرف عاقبة حالك وإقدامك على ما فيه هلاكك وفساد أمرك ! فقام إليه إسحاق وعلي يسكتانه وقالا له: يا هذا، إننا لم نعرفك ولم نعلم حالك، ولك الفضل علينا، وأنت المحسن المجمل إلينا؛ ولكن تمم إحسانك بسترك ما نحن عليه.

ثم قال إسحاق: يا غلام، الخلع ! فأتي بثياب فاخرة فصبت عليه، وتقدم بإسراج دابة هملاج بسرج مخفف ولجام حسن؛ ولم يزالا به حتى طابت نفسه، ووعدهما كتمان أمرهما، وحضر وقت الانصراف فودعهما وانصرف، فأتبعه إسحاق بخادمه معه صرة فيها ثلاثمائة دينار، فأخذها وركب الدابة ومضى.

فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون. فقال: يا علي؛ كيف كان خبرك أمس ؟ على حسب ما يجري السؤال عنه فتغير لونه، ولم يشك في أن الحديث رفع إليه؛ فأكب على البساط يقبله وقال: يا أمير المؤمنين، العفو، يا أمير المؤمنين، الأمان. قال: لك الأمان. فأخبره بالقصة من أولها إلى آخرها. فضحك المأمون حتى كاد يغشى عليه، وقال: ما في الدنيا أملح من هذا. ووجه خلف إسحاق، فلما حضر قال: هيه يا إسحاق ؟ كيف كان خبرك أمس ؟ فأخبره كخبر علي بن هشام والمأمون يضحك. ثم قال: يا إسحاق؛ بحياتي أطلب الرجل وجئني به، فلم يزل يطلبه حتى وجده، فكان أحد ندماء المأمون.

الجنابي وصاحب الأحمال

ولما ظفر سليمان بن حسن الجنابي يوم الهبير بالحجاج وقتلهم فأخذ أموالهم، كان في جملة ما أخذ أحمال فيها من رفيع البز والثقل وظريف الوشي والمصمت ما أعجبه وأبهته. فقال: علي بصاحب هذه الأحمال. قال صاحبها: فأتيته فقال: ما منعك أن يكون ما جئت به أكثر من هذا ؟ فقلت: لو علمت أن السوق بهذا النفاق لفعلت، فاستظرفني ودفع إلي مالاً وجميع ما أخذ لي، وأرسل معي من يحفظني حتى وصلت.

وكان أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير المعروف بابن حنزابة وحنزابة: أمه رومية، ولها من العقل والحزم ما نوه باسمها قد اقتطع في أيام الإخشيد قيمة مائة دينار في أمور تولاها له، فحاسب أبا زكريا النصراني، المعروف بحبوسة، وكان على الخراج، فألزمه عشرة آلاف دينار وطالبه بها، فقال: أعز الله الأمير ! وهل قامت علي حجة يلزمني بها الأداء؟ قال: هو ما أقول لك يا لص ! فقال: إنما هو لصيص، فضحك وتركه.

الملح تبلغ المطالب وترفع من لا قدم لقومه

وكم أفادت من الرغائب، وبلغت من المطالب، ورفعت من لا قدم لقومه، ولا أمس ليومه.

كما حكى أبو الحسن المدائني قال: كان بالبصرة ثلاثة إخوان يتعاشرون ولا يفترقون؛ اثنان شاعران والآخر منجم لا يحسن شيئاً، ففني ما بأيديهم، فخرج الشاعران إلى بغداد، فمدحا من بها من الأشراف؛ فرجعا وقد اعتقدا أموالاً نفيسة، وبقي صاحبهما في فقره؛ فقالا له: لو ذهبت فتسببت ؟ فقال: ما لي صناعة ولا عندي بضاعة. فقالا: على كل حال معك ظرف ولك لطف.

فخرج إلى بغداد واتصل بيقطين بن موسى وقال: ما أتيت إليك بشيء، غير أني أكذب الناس، فضحك وخف على قلبه؛ فكان في جملة حاشيته.

فغضب المهدي على عبد الله بن مالك الخزاعي؛ فأتاه الرجل وهو من المهدي في أشد السخط، وقد ألزمه داره؛ فقال للحاجب: استأذن على الأمير، وقل له: رسول الأمير يقطين بالباب، فدخل وخرج له بالإذن فدخل. وقال: الأمير يقول لك: اليوم كنت عند أمير المؤمنين فدكرته سالف حقوقك وقديم خدمتك؛ فعفا عنك، وأمرك بالركوب غداً ليخلع عليك ويجدد الرضا عنك بمحضر الناس.

فسر عبد الله بذلك، ودفع إلى الرجل مالاً، وبكر إلى دار المهدي، فاستأذن عليه. فلما دخل قال: ما جاء بك ؟ قبحك الله ! وقد أمرناك بلزوم دارك ؟ قال: أوما رضيت عني يا أمير المؤمنين، وأمرت يقطيناً بإحضاري ؟ فقال: إذاً لا رضي الله عني، ولا خطر هذا بقلبي. قال: فرسوله أتاني بذلك. قال: علي بيقطين: فأتي به فقال: أتكذب علي وتحكي علي ما لم أقله ؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال: زعمت أني رضيت عن هذا. فقال يقطين: وأيمان البيعة يا أمير المؤمنين إن كنت سمعت بشيء من هذا أو قلته. قال عبد الله: بل أتاني رسولك فلان. فبعث خلف الرجل بحضرة المهدي، فلما حضر قال: ما هذا الذي فعلت ؟ قال: يا سيدي، هذا بعض ذلك المتاع، بدأت في نشره خوفاً عليه من السوس. فقال المهدي: ما يقول ؟ فأخبره يقطين بأول أمره معه، فضحك المهدي وجدد الرضا عن عبد الله بن مالك، ووصل الرجل بصلة جزيلة، ووصله عبد الله بأوفر صلة؛ فانصرف إلى صاحبيه واسع النعمة عظيم المال.

حاجة أهل الأدب إلى ظريف المضحكات

وهل يستغني أهل الأدب وأولو الأرب عن معرفة ظريف المضحكات، وشريف المفاكهات، إذا لاطفوا ظريفاً، أو مازحوا شريفاً ؟ فقد قال الأصمعي: بالعلم وصلنا وبالملح نلنا.

وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس على يحيى بن خالد فقال له: يا أبا علي؛ أنشدني بعض ما قلت؛ فأنشده:

كم من حديثٍ معجب لي عندكـا

 

لو قد نبذت به إليك لـسـرّكـا

إني أنا الرجل الحكيم بطـبـعـه

 

ويزيد في علمي حكاية من حكى

أتتّبع الظرفاء أكتـب عـنـهـم

 

كيما أحدث من أحبّ فيضحكـا

فقال له يحيى: يا أبا علي؛ إن زندك ليوري بأول قدحة. فقال ارتجالاً في معنى قول يحيى:

أمـا زنـد أبـي عـلـيّ إنـه

 

زندٌ إذا استوريت سهل قد حكى

إنّ الإله لعـلـمـه بـعـبـاده

 

قد صاغ جدّك للسماح ومزحكا

تأبى الصنائع همّتي وقريحتـي

 

من أهلها وتعاف إلاّ منحـكـا

وحضر الجماز مع أبي نواس مجلس قينة، فأقبل الجماز يمالحها ويمازحها وأبو نواس ساكت؛ فمالت إليه، فقال الجماز:

أبو نواس جذره شعـره

 

وجذرنا حسن الحكايات

فجذرنا أكثر من جـذره

 

مدّاً على أهل المروءات

فقال أبو نواس:

صدقت لا ننكر هذا كما

 

أمّك رأس في المناحات

فأقبلت القينة على أبي نواس وغنت، فقال لها الجماز: ما سمعت والله أحسن من هذا، فقال أبو نواس: ولا نواح أمك إلا أن يكون عليك فإنه والله أحسن. وكان يصطحبان وهما حدثان، وأمه أذين النائحة وله يقول أبو نواس:

اسقـنـي يابـن أذين

 

من سلاف الزّرجون

وقال أبو ذؤيب في الملح:

وسرب يطلّى بالعبير كأنه

 

دماء ظباءٍ بالنّحور ذبيح

بذلت لهنّ القول إنك واجدٌ

 

لما شئته حلو الكلام مليح

فأمكنّه ممّا يقول وبعضهم

 

شقيّ لدى خيراتهن نطيح

يريد أن الملاحة نفعته عندهنّ حتى أمكنّه مما يريد: وقال أعرابي:

ألا زعمت عفراء بالشام أننـي

 

غلام جوارٍ لا غلام حـروب

وإني لأهدى بالأوانس كالدّمـى

 

وإني بأطراف القنا للـعـوب

وإني على ما كان من عنجهيّتي

 

ولـوثة أعـرابـيتـي لأديب

كأن الأدب غريبة عند العرب؛ فافتخر بما عنده منه، وأنه يرجو به القربى ويأمل به الزلفى.

من فقدت مؤانسته ثقل ظلمه

ورب مجلس فض فيه ختام النشاط، ونشر بساط الانبساط، وفيه بغيض لا يفيض، بقدح في مزح، قد ثقل ظله، وركد نسيمه، وجمد هواه، وغارت نجومه؛ فاستثقله من حضر، وعاد صفوهم إلى كدر، وأنكرت مجالسته؛ إذ فقدت مؤانسته، ولو كانت له دراية، أو معه رواية، أو عنده حكاية، ما كان كما قال الشاعر:

مشتمل بالبغض لا تنثنـي

 

إليه بغضاً لحظة الرّامق

يظلّ في مجلسنا جالـسـاً

 

أثقل من واشٍ على عاشق

ولا كما قال الحمدوني لبعض الثقلاء:

سألتك باللّه إلاّ صدقـت

 

وعلمي بأنّك لا تصـدق

أتبغض نفسك من بغضها

 

وإلاّ فأنت إذاً أحـمـق

وقال أبو علي العتابي: حدثني الحمدوني قال: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة مغطاة موضوعة، وقد وافت عجاب المغنية قبلي، فأكلنا جميعاً وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داق يقرع الباب. فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال لي: إنه فتى ظريف من آل المهلب؛ فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يخطر وقدامي قدح فيه شراب فكسره، وإذا رجل آدم أدلم ضخم، فتكلم فإذا به أعيا الناس، وتخطى وجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت:

كدّر اللّه عيش من كدّر العـي

 

ش وقد كان سائغاً مستطـابـا

جاءنا والسماء تؤذن بـالـغـي

 

ث وقد طابق السماع الشرابـا

كسر الكأس وهي كالكوكب الدرّ

 

ي ضمّت من المدام لـعـابـا

قلت لما رميت منـه بـمـا أك

 

ره والدّهر ما أفـاد أصـابـا

عجّل اللّه غارةً لابـن حـرب

 

تدع الدار بعد شهـرٍ خـرابـا

ودفعت لرقعة إلى أحمد، فقرأها وقال: ويحك ! هلا نفست ؟ فقلت: بعد حول ؟ قال: قلت: إنما أردت أن أقول بعد يوم، ولكن خلفت أن تلحقني مضرته. وفطن الثقيل فنهض. فقال لي: آذيته، فقلت: بل هو آذاني.

وهذا لعمري وإن أساء في قدومه وإقدامه، فقد أحسن في نهوضه وقيامه، وقد قال الشاعر:

ولما تخوفت ولا لـوم أن

 

تدبر من ودّك بالمقـبـل

أقللت من إتيانـكـم إنّـه

 

من خاف أن يثقل لم يثقل

وكان يجالس أبا عبيدة معمر بن المثنى رجل ثقيل اسمه زنباع، فكان كالشجا المعترض في حلقه يتناكده ويسيء خلقه؛ فلا يتكلم أبو عبيدة بكلمة إلا عارضه بكثرة جهله، وقلة عقله. فقال رجل لأبي عبيدة: مم اشتقت الزنبعة في كلام العرب ؟ فقال: من التثاقل والتباغض، ومنه سمي جليسنا هذا زنباعاً.

وامتحن أبو عبد الرحمن العتبي بمثل ذلك من رجل، فلما طال عليه أنشده:

أما والذي نادى من الطور عبده

 

وأنزل فرقاناً وأوحى إلى النّحل

لقد ولدت حوّاء مـنـك بـلـيّةً

 

عليّ أقاسيها وثقلاً من الثقـل

وانحدر خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة إلى البصرة، فلما اقتربا من البطيحة قال بلال لخالد: أتستثقل عكابة النميري ؟ قال: كدت والله أيها الأمير تصدع قلبي؛ حين دنونا من آجام البطيحة، وعكر البصرة، وغثاء البحر، ذكرت لي رجلاً هو أثقل على قلبي من شارب الأيارج بماء البحر بعقب التخمة، وساعة الحجامة.

وكان عكابة بن غيلة هذا أهوج جاهلاً، ودخل على بلال فرأى ثوراً مجللاً ناحية الدار فقال: ما أفره هذا البغل إلا أن حوافره مشققة.

وترك بعض الظرفاء النبيذ، فتحاماه معاشروه خوفاً أن يكون ما أحدث من الترك دعاه إلى زيادة النسك، وأوجب له الانقباض والإعراض عما كانوا معه فيه يفيضون ويخوضون فقال:

تحاموني لتركي شرب راحٍ

 

وقالوا يشرب الماء القراحا

وما انفردوا بها دوني لفضلٍ

 

إذا ما كنت أكثرهم مزاحـا

وأرقصهم على وترٍ وصنـجٍ

 

وأظرفهم وألطفهم مراحـا

إذا شقّوا الجيوب شققت جيبي

 

وإن صاحوا علوتهم صياحا

الفكاهة من أسباب الاقتراب

وقال الفتح بن خاقان: ما رأيت أحلى من ابن أبي دواد، كنت يوماً ألاعب المتوكل الشطرنج فاستؤذن له، وهو يومئذ قاضي القضاة، لم يتغير عما كان عليه أيام الواثق بعد، وله جلالة الشرف والعلم؛ فأمرنا بعض الغلمان برفعها استحياء منه، فقال له المتوكل: والله ما ترفع، وما كنت لأستتر من ابن أبي دواد بشيء لا أستتر به من الله عز وجل؛ فدخل وهي بين أيدينا، فقال له المتوكل: أيها القاضي؛ إن الفتح استحيا منك، فأراد رفع الشطرنج، فقال: ما استحيا مني؛ إنما كره أن أعلم عليه، فاستحلاه المتوكل، وخف على قلبه.

ورب مستثقل ازور له الجناب، وطال به الاجتناب، كانت له الفكاهة من أسباب الاقتراب. وذكر أن روح بن زنباع بعد ما بينه وبين عبد الملك بن مروان حتى استثقل جانبه؛ وأحس روح منه التغير؛ فقال لبعض جلساء عبد الملك: إذا حضرنا مجلس الأنس عند أمير المؤمنين فسلني: هل كان ابن عمر يسمع المزاح ؟ فلما اجتمعوا سأل الرجل روحاً فقال: نعم ! وإن أذن أمير المؤمنين تحدثت. فقال عبد الملك: قل، فقال: إن ابن أبي عتيق كان صاحب لهو وغزل وعلى عفافه وشرفه؛ وكانت له امرأة من أشراف قريش، فغاضبته في بعض الأمر، فقالت:

ذهب الإله بما تعيش بـه

 

وقمرت مالك أيّما قمـر

أنفقت مالك غير مـتّـئدٍ

 

في كل زانيةٍ وفي الخمر

فكتب ابن أبي عتيق الشعر وخرج به في يده، فلقي ابن عمر فقال: ما ترى فيمن هجاني في هذا الشعر ؟ فقال: أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله لئن لقيت قائلهما لأ... فأخذ ابن عمر الأفكل، ولبط به الأرض، وقال: لا أكلمك أبداً، ثم لقيه بد ذلك؛ فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه، فقال له: بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين، فولاه قفاه، وأنصت له، فقال: علمت يا أبا عبيد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر و... ؟ فصعق عبد الله وسقط على الأرض، فلما رأى ابن أبي عتيق ما حل به دنا من أذنه، فقال: إنها امرأتي أعزك الله. فقام ابن عمر فقبله بين عينيه. فقال عبد الملك: ما أملحك يا روح ! إنك كل يوم لتأتينا بطريفة.

جبن روح

وكان روح مفرطاً في الجبن، فلما ولى عبد الملك أخاه بشراً على الكوفة أصحبه روحاً، وقال له: يا بني، روح مثل عمك فلا تقطع أمراً دونه لصدقه وعفافه وصحبته لنا أهل البيت. وقال لروح: اخرج مع ابن أخيك. فخرج معه وكان بشر ظريفاً أديباً، يحب الشعر والسمر والسماع والشرب؛ فراقب روحاً، وقال لأصحابه: أخاف أن يكتب بأخبارنا إلى أمير المؤمنين، فضمن له بعض ندمائه أن يكفيه أمره من غير سخط ولا لائمة، وكان روح غيوراً إذا خرج من منزله أغلقه ثم ختمه بخاتمه حتى يعود فيفضه بيده، فأخذ الفتى دواة وقلماً، وأتى ممسياً فقعد بالقرب من دار روح مستخفياً، وخرج روح إلى الصلاة، فتوصل الفتى حتى دخل الدهليز وكمن تحت درجة فيه وكتب في الحائط:

يا روح من لـبـنـيّات وأرمـلة

 

إذا نعاك لأهل المشرق النـاعـي

إن ابن مروان قد حانت مـنـيّتـه

 

فاحتل لنفسك يا روح بن زنبـاع

فلا تغرنّـك أبـكـار مـنـعّـمة

 

فاسمع هديت مقال الناصح الداعي

ثم رجع إلى مكانه من الدهليز، فلما خرج روح من الغلس، وتبعه غلمانه خرج الفتى في جملتهم متنكراً وخلص.

فلما أسفر الصبح دخل روح فتأمل الكتابة فراعه وقال: ما كتب هذا إنسي، وما يدخل هذه الدار سواي، ولا حظ في المقام بالعراق؛ ثم نهض من ساعته ودخل على بشر وقال: يابن أخي، أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين. فقال له: هل رأيت منا ما تكره؛ أو أنكرت شيئاً من سيرتنا فلم يسعك المقام ؟ فقال: لا والله، جزاك الله عن نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكن حدث أمر لا بد لي من الشخوص فيه. فأقسم عليه ليخبرنه بالخبر. فقال: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت. فقال بشر: ومن أين علمت ذلك ؟ فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل داري أحد غيري، وما كتبه إلا الملائكة أو الجن. فقال بشر: أقم فإني لأرجو ألا يكون لهذا حقيقة. فأبى.

وقدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك ؟ أنكرت شيئاً من حال بشر ؟ قال: لا والله، وذكر حسن سيرته، وقال: إنما جئت في أمر لا يمكنني ذكره إلا خالياً. فقال عبد الملك: إن شئتم، وخلا بروح فأخبره القصة، وأنشد الأبيات؛ فضحك عبد الملك حتى فحص برجليه، وقال: ثقلت والله على بشر؛ فاحتال عليك ليخلوا له أمره.

من مزح الجادين

قال إسحاق: حدثني رجل من قريش قال: قال لي محمد بن خالد القرشي: ذكرت لي جارية عند أبي فلان القاضي، فامض بنا إليه. قال: فصرنا إليه واستأذنا فإذا هو يصلي؛ فلما فرغ من صلاته قال: لأمر ما جئتم ؟ قلت: فلانة. قال لغلامه: يا غلام، علي بفلانة لتخرج، فخرجت علينا جارية كأنها مها تتثنى في مشيتها؛ فلما قعدت وضع عود في حجرها، فجسته واندفعت تغني:

عوجي عليّ وسلّمي جبر

 

كيف الوقوف وأنتم سفر

ما نلتقي إلا ثلاث منـى

 

حتى يفرّق بيننا النّفـر

فقام القاضي على أربعة، قال: انحروني فإني بدنة، أهدوني فإني بدنة، والله لا أبيعها بمال يكال، ولا بمال يوزن، ولا بالخلافة، ولا بالدنيا، انصرفوا.

وأتى إسحاق بن إبراهيم الموصلي باب الفضل بن يحيى فحجبه خادم اسمه نافذ مرات؛ فلقيه الفضل فقال: ما لك لا تأتينا يا إسحاق ؟ فقال: أتيت أعز الله الأمير فحجبني نافذ. قال: ف ...، قال: لا يمكنني، فأتى بعد ذلك فحجبه فكتب إلى الفضل:

جعلت فداءك من كل سوءٍ

 

إلى حسن رأيك أشكو أناسا

يحولون بيني وبين السـلام

 

فلست أسلّم إلا اختـلاسـا

وأنفذت أمرك في نـافـذٍ

 

فما زاده ذاك إلاّ شماسـا

فلقيه بعد ذلك فقال: يا إسحاق، أكان ما ذكرت ؟ فقال: بعض ذلك أصلح الله الأمير، فضحك وتقدم ألا يحجبه أحد إن أراد الدخول، وإنما كان الفضل استثقل إسحاق لبأو كان فيه، وكان الفضل أكبر الناس كبراً، وأعظمهم تعاظماً. وقال بعض الشعراء:

وما على المرء ما لم يأت فاحشةً

 

في لذة العيش لا عارٌ ولا حرج

يأيها اللائمي فيما لـهـوت بـه

 

عرّج بلومك إني عنه منعـرج

بعض من كرهوا المزاح

فإن كره قوم المزاح فلقول أكثم بن صيفي: المزاح يزيح بهجة الأشراف.

وقال أبو سليمان الداراني: أنا أكره المزاح لأنه مزاح عن الحق.

وقال الحسن البصري: المزاح اختراع من الهواء.

وقال زياد: من كثر مزاحه قل إلى النباهة ارتياحه.

وقال عمر بن عبد العزيز: إياك والمزاح فإنه يجر القبيحة، ويورث الضغينة.

وقال الأحنف: لن يسود مزاح، ولن يعظم مفاكه.

وقال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترىء عليك.

وقال أبو نواس:

صار جدّاً ما مزحت به

 

رب جدّ ساقه اللعـب

متى يكون المزاح مكروهاً

وقال ابن المعتز: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به، أو حقد عليه. فإنما ذلك إذا كان المزاح غالباً على المرء، وكان المرء فيه غالباً يجريه في كل مكان ومع كل إنسان. وقد قال عمر رضي الله عنه للأحنف: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، وذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه.

أو ينزله الممازح تعريضاً بالمعايب، وتنبيهاً على المثالب؛ فذلك المكروه الذميم وصاحبه الملوم. وقد قال خالد بن صفوان: يسعط أحدكم أخاه بمثل الخردل، ويقرعه بمثل الجندل، ويفرغ عليه بمثل المرجل، ويقول: إنما كنت أمزح.

وقال محمود الوراق:

تلقى الفتى يلقى أخاه وخـدنـه

 

في لحن منطقه بما لا يذكـر

ويقول كنت ممازحاً ومداعـبـاً

 

هيهات نارك في الحشا تتسعّر

أوما علمت وكان جهلك غالبـاً

 

أنّ المزاح هو السباب الأصغر

وقال ابن الرومي:

حبذا حشـمة الـصـديق إذا مـا

 

حجزت بينه وبـين الـعـقـوق

حين لا حـبّـا انـبـسـاطٌ يؤدي

 

ه إلى ترك واجبات الـحـقـوق

أين منجاتـنـا إذا مـا لـقـينـا

 

من مسيغ الشجا شجىً في الحلوق

من حسنوا المزاح

وإلا فقد قالوا: لا بأس في المزاح بغير ريبة.

وكان يقال: المزاح من أخلاق ذوي الدماثة.

روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من كانت فيه دعاة فقد برىء من الكبر. وقد قيل: الممازح يقرب من ذي الحاجة إليه، ويمكن من الدالة عليه. وما زال الأشراف يمزحون ويسمحون بما لم يغض من دياناتهم، ولا يقدح من مروءاتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة. وقال عليه الصلاة والسلام: إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً.

من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم

فمن مزاحه صلى الله عليه وسلم ما روى أنس بن مالك قال: كان لنا أخ يكنى أبا عمير. وكان له نغر يلعب به. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً فقال: مال له ؟ قالوا: مات نغره، فكان إذا رآه بعد ذلك قال: يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ وكان رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام لا يزال يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالهدية من البادية والطرفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه. فبينما هو في بعض أسواق المدينة إذ أتاه النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه فاحتضنه وقال: من يشتري مني هذا العبد ؟ فالتفت الرجل فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبل يده وقال: تجدني كاسداً يا رسول الله. فقال: لا، لكنك عند الله ربيح.

وأتت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة فذكرت زوجها بشيء. فقال: زوجك الذي في عينه بياض. قال: فمضت فجعلت تتأمل زوجها فقال: ما لك ؟ قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن في عينك بياضاً. فقال: بياض عيني أكثر من سوادها.

سماع النبي صلى الله عليه وسلم للمزاح

وأما سماعه صلى الله عليه وسلم لذلك فقد روي: أن صهيباً دخل عليه وعينه وجعة وبين يديه تمر، فأقبل صهيب يأكل؛ فقال: أتأكل التمر وعينك وجعة ؟ فقال: إنما آكل بحذاء العين الصحيحة، فتبسم صلى الله عليه وسلم.

وذكروا أن أعرابياً أتاه فألفاه مغموماً ممتقع اللون؛ فقيل له: لا تكلمه وهو على هذه الحالة، فقال: لا أدعه أو يضحك. ثم جثا بين يديه فقال: يا رسول الله؛ بأبي أنت وأمي ! إن الدجال يخرج وقد هلك الناس جوعاً فيأتيهم بالثريد، فترى أن آكل من ثريده حتى إذا تضلعت كذبته ؟ فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: يغنيك الله بما يغني به المؤمنين حينئذ.

وقالت أم سلمة: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى البصرة، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه سويبط بن حرملة وكان قد شهد بدراً ونعيمان، وكان سويبط على الزاد، وكان نعيمان مزاحاً، فقال له نعيمان: أطعمني، فقال: حتى يجيء أبو بكر، فقال: أما لأغيظنك، فمروا بقوم فقال نعيمان: أتشترون مني عبداً ؟ فقالوا: نعم ! فقال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم: إنه حر، فإذا قال هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي. فقالوا: بل نشتريه. قال: فاشتروه مني بعشر قلائص، ثم أخذوه فوضعوا في عنقه حبلاً، فقال سويبط: إني حر ولست بعبد وهذا يستهزىء بكم. فقالوا له: قد خبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه الخبر، فاتبع القوم فرد عليهم القلائص وأخذ منهم سويبطاً. ولما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، ضحك صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله. وكان سويبط قد كف بصره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيمان في المسجد وهو يقول: من يخرجني حتى أبول ؟ قال: أنا، وأخذ بيده فمضى به إلى زاوية في المسجد عامرة بالناس، فقال له: بل ههنا، فلما كشف ثوبه صاح الناس عليه من كل ناحية. فقال: من غرني ؟ قالوا: نعيمان، فقال: لله علي لئن لقيته لأضربنه بعصاي؛ فلقيه بعد أيام فقال: أتحب أن أدلك على نعيمان لتوفي نذرك ؟ قال: نعم، لله أبوك ! فأخذ بيده حتى أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يصلي فقال: هذا هو. فرفع عصاه وضربه؛ فصاح به الناس وقالوا: أوجعت أمير المؤمنين، فقال: من قادني ؟ قالوا: نعيمان، قال: لا يغرني بعدها.

وابتاع عبد الله بن رواحة جاريةً وكتم ذلك امرأته؛ فبلغا ذلك فالتمست كونه عندها فأخبرت بذلك؛ فلما جاءها قالت له: بلغني أنك ابتعت جاريةً وأنك الساعة خرجت من عندها، وما أحسبك إلا جنباً ؟ قال: ما فعلت، قالت: فاقرأ آيات من القرآن فقال:

شهدت بأنّ وعد اللّـه حـقٌ

 

وأن النار مثوى الكافرينـا

وأن العرش فوق الماء طافٍ

 

وفوق العرش ربّ العالمينا

وتحمـلـه مـلائكةٌ شـدادٌ

 

ملائكة الإله مـقـربـينـا

فقالت: أما إذ قد قرأت القرآن فقد علمت أنك مكذوب عليك.

وافتقدته ليلةً أخرى فلم تجده على فراشها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت ما بلغني فجحدها. فقالت: اقرأ آيات من القرآن، فقال:

وفينا رسول اللّه يتـلـو كـتـابـه

 

كما انشقّ معروفٌ من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقـلـوبـنـا

 

به موقنـات أنّ مـا قـال واقـع

يبيت يجافي جنبـه عـن فـراشـه

 

إذا أثقلت بالمشركين المـضـاجـع

وأعلم علماً ليس بـالـظـنّ أنـنـي

 

إلى اللّه محشورٌ هنـاك فـراجـع

فقالت: آمنت بالله وكذبت ظني. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فضحك وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله يابن رواحة خياركم خيركم لنسائكم.

وقال العجاج: أنشدت أبا هريرة:

طاف الخيالان فهاجا سقمـاً

 

خيال سلمى وخيالٌ تكتّـمـا

قامت تريك رهبة أن تصرما

 

ساقاً بخنداةً وكعبـاً أدرمـا

فقال أبو هريرة: قد كان يحدي بها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكر.

زعم قوم أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء

وقيل لابن سيرين: إن قوماً يرون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء؛ فقال:

نبّثت أن فتاةً كـنـت أخـطـبـهـا

 

عرقوبها مثل شهر الصوم في الطّول

ثم قال: الله أكبر ودخل في الصلاة.

وسئل عن ذلك مرة أخرى وقد استفتح الصلاة فأنشد للأعشى:

وتسخـن لـيلة لا يسـتـطـيع

 

نباحاً بها الكـلـب إلاّ هـريرا

وتـبـرد بـرد رداء الـعـرو

 

س بالصيف رقرقت فيه العبيرا

ثم كبر وصلى.

وقال جرير بن حازم: كنت في مسجد الجهاضم فقرضت بيت شعر، فقالوا: ما نراك إلا قد أحدثت فتوضأ، فذعرني قولهم؛ فأتيت ابن سيرين وقد قام إلى الصلاة فقلت: رويدك يا أبا بكر! فقال: مهيم ؟ فعرفته، فقال: هلا رددت عليهم:

ديارٌ لرملة إذ عيشـنـا

 

بها عيشة الأنعم الأفضل

وإذ ودّها فارغٌ للصـدي

 

ق لم تتغيّر ولم تتبـدّل

كأنّ الثلوج وماء السحـا

 

ب والقرقفيّة بالفلـفـل

وماء القرنفل والزنجبي

 

ل شيب به ثمر السنبـل

يصبّ على برد أنيابهـا

 

قبيل الصباح ولم ينجـل

ثم قال: الله أكبر.

وقيل لابن سيرين: أنشد القذع من الشعر وأصلي ؟ فقال:

وأنت لو باكرت مشـمـولةً

 

صفراء مثل الفرس الأشقر

رحت وفي رجليك ما فيهما

 

وقد بدا هنك من المـئزر

مساجلة بين ابن الأنباري وابن المعتز

وها هنا مساجلة جرت بين أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري وأبي العباس عبد الله بن المعتز، لها في هذا الموضع موقع وهي طويلة اختصرت منها موضع الحاجة: كتب ابن الأنباري إليه: جرى في مجلس الأمير ذكر الحسن بن هانىء والشعر الذي قاله في المجون وأنشده وهو يؤم قوماً في صلاة؛ وهو إن لكل ساقطة لاقطة، وإن لكلام القوم رواة، وكل مقول محمول. فكان حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم؛ ولا يدونونه في كتبهم، ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم؛ لأن ذوي الأقدار والأسنان يجلون عن روايته، والأحداث يغشون بحفظه، ولا ينشد في المساجد، ولا يتحمل بذكره في المشاهد؛ فإن صنع فيه غناء كان أعظم لبليته؛ لأنه إنما يظهر في غلبة سلطان الهوى، فيهيج الدواعي الدنيئة، ويقوي الخواطر الرديئة؛ والإنسان ضعيف يتنازعه على ضعفه سلطان القوى؛ ونفسه الأمارة بالسوء، والنفس في انصبابها إلى لذاتها بمنزلة كوة منحدرة من رأس رابية إلى قرار فيه نار، إن لم تحبس بزواجر الدين والحياء أداها انحدارها إلى ما فيه هلكتها.

والحسن بن هانىء ومن سلك سبيله من الشعر الذي ذكرناه شطار كشفوا للناس عوارهم، وهتكوا عندهم أسرارهم، وأبدوا لهم مساويهم ومخازيهم، وحسنوا ركوب القبائح.

فعلى كل متدين أن يذم أخبارهم وأفعالهم، وعلى كل متصور أن يستقبح ما استحسنوه، ويتنزه من فعله وحكايته. وقول هذا الخليع: ترك ركوب المعاصي إزراء بعفو الله تعالى حض على المعاصي أن يتقرب إلى الله عز وجل بها تعظيماً للعفو، وكفى بهذا مجوناً وخلعاً داعياً إلى التهمة لقائله في عظم الدين، وأحسن من هذا وأوضح قول أبي العتاهية:

يخاف معاصيه مـن يتـوب

 

فكيف ترى حال من لا يتوب

جواب ابن المعتز

فأجابه ابن المعتز: لم يقل أبو نواس ترك المعاصي إزراء بعفو الله تعالى، وإنما حكى ذلك عن متكلم غيره، والبيت الذي أنشد له بحضرتنا:

لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً

 

فإن حظـركـه بـالـدين إزراء

وهذا بيت يجوز للناس جميعاً استحسانه والتمثل به، ولم يؤسس الشعر بانيه على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق ولم يغو بصبوة، ولم يرخص في هفوة، ولم ينطق بكذبة، ولم يغرق في ذم، ولم يتجاوز في مدح، ولم يزور الباطل ويكسبه معارض الحق؛ ولو سلك بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتقدمين أمية ابن أبي الصلت الثقفي، وعدي بن زيد العبادي؛ إذ كانا أكثر تذكيراً وتحذيراً ومواعظ في أشعارهما من امرىء القيس والنابغة. فقد قال امرؤ القيس:

سموت إليها بعدما نام أهلـهـا

 

سموّ حباب الماء حالاً على حال

فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها

 

عليه القتام سيّىء الظنّ والبـال

يغطّ غطيط البكر شدّ خنـاقـه

 

ليقتلني والمرء ليس بـقـتّـال

وقال النابغة:

وإذا لمست لمست أخثـم رابـياً

 

متحيّزاً بمكـانـه مـلء الـيد

وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ

 

وابي المجسّة بالعبير مقرمـد

وهل يتناشد الناس أشعار امرىء القيس والأعشى والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس على تعيهرهم، ومهاجاة جرير والفرزدق إلا على ملأ الناس وفي حلق المساجد ؟ وهل يروي ذلك إلا العلماء الموثوق بصدقهم. وقد نفى حسان بن ثابت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه في هجائه حيث يقول:

وأنت ربيط نيط فـي آل هـاشـمٍ

 

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وقد زعم بعض الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث: أنت من خير أهلي. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر.

ولقد أنشد سعيد بن المسيب وغيره من نظرائه تهاجي جرير وعمر بن لجأ فجعل يقول: أكله أكله. يعني أكله جرير ولم ينكر شيئاً مما سمعه.

رد ابن الأنباري

فأجابه ابن الأنباري: قد صدق سيدنا أيده الله في كل ما قاله من الأشعار التي عدل قائلوها عن سنن المؤمنين المتقين، ولم أكن أجهل أكثر ذلك، إلا أنه لم يخطر ببالي ذكر ما كنت أعرف منه في وقت كتابتي ما كتبت به، وما كل ما يعرف الإنسان يحضره، ولا تتواتى كل وقت خواطره؛ على أن الذي جرى في هذا الأمر إنما هو على سبيل التعلم والتفهم. يذكر الذاكر شيئاً قد تقدم صوابه. فيحتج له، وعليه فيه حجة قد تركها، فيكشف السامع لها غطاءه مستبصراً أو مذكراً، فإن كان الحق ضالته وجد ما ابتغى، وغنم ما وجد، وإن أنف من الرجوع، واشتد عليه النزوع، جحد ما علم، واحتج لما جهل؛ لأن كل مطالب بباطل لا يخلو من جهل بما يدعي، أو جهل بما يعرف، ولم يعقد أعز الله الأمير مجلس لمناظرة في علم يعطى النظر فيه حقه إلا فاز المرء فيه باستفادة صواب كان يجهله، ورجوع عن خطأ كان يعتقده.
ولست أعز الله الأمير بمعصوم، ومن لم يكن معصوماً لم يكن صوابه بمضمون، ولا زلله بمأمون، وعلى حسب ما جرى تعلق قلبي بمعرف ما تضمنته رقعتي هذه من الأمير، فإن كان لامتنانه بتعريفي ذلك في جواب عنها وجيه جرى فيه على عادة طوله وفضله إن شاء الله.

جواب ابن المعتز

فأجابه ابن المعتز: إنما أحببت أعزك الله أن تكون من الإخوان الذين يتجانون ثمر التناصح فيتذاكرون فيتذكرون، ويتدارسون فيفيدون ويستفيدون، ففتحت بيني وبينك هذا الباب آذناً بالولوج علي منه، واثقاً بكمال عقلك في المسارعة إليه، وصنت مودتنا على استحسان مزور، وتعمد الجحد في إقراره، وملق مكاشر يظهر التصديق بلا إنكار. ولا يزال الإخوان يسافرون في المودة حتى يلقوا الثقة فتلقى عصا التسيار، وتطمئن بهم الدار، وتقبل وفود النصائح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحل عقد التحفظ، وقد أبعدك الله تعالى من الخطأ لما أشرق نور الصواب، ولم لا وبلى يصطرعان على الحق، وبالتعب وطىء فراش الراحة، وبالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولا فرق بين إنسان يقاد وبهيمة تنقاد.

ولولا أن الناس اختلفوا متفرقين لاختلفوا متشاحين، ولما قصدوا بالسكنى إلا بقعةً من الدنيا يتنافسون فيها، ويتفانون عليها؛ وخير الاختلاف ما اجتنب معنى التمادي على الباطل فاهتدي فيه بالتبصير. كما روي أن علياً رضي الله عنه حاج عمر رضي الله عنه في المرأة التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فقال له: قد قال الله تعالى: "وَحَمْلُه وفِصَالُه ثلاثون شهراً". فرجع عن ذلك عمر وأمضاه.
وبالتقليد هلك مترفو الكفار القائلون: "إنّا وجَدْنَا آباءنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارهم مُقْتَدُون". وقال بعضهم: إذا سرك أن تعرف خطأ مؤدبك فجالس غيره. وقال عمر رضي الله عنه: ليس شيء أضر بالمرء من لجاجة في جهل. وإنما كان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل والبحث لشفقته على أمته من نزول معترض يثقل عليهم فيما يسألون عنه، ثم كره عمر وعلي رضوان الله عليهما ما كان يجري على سبيل التعنت، ويفارق سبيل التفقه. ولذلك قال علي رضي الله عنه لابن الكوا: سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً.

ظرف أهل المدينة

وقال مالك: ما رأيت أشبه بأهل المدينة من ابن سيرين، وأهل المدينة أرق الناس أدباً، وأحلاهم طرباً، وأبرعهم شيماً، وأطبعهم كرماً، ويقال: دل حجازي، وعشق يماني. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

إنّ قلبي بالتـلّ تـلّ عـزازٍ

 

مع ظبي من الظباء الجوازي

شادن لم ير الـعـراق وفـيه

 

مع ظرف العراق دلّ الحجا

وقال أبو تمام:

من شاعرٍ وقف الكلام ببابـه

 

واكتنّ في كنفي ذراه المنطق

قد ثقّفت منه الشآم وسهّـلـت

 

منه الحجاز ورقّقته المشرق

وكان عبد الملك بن الماجشون يقول: لقد كنا بالمدينة وإن الرجل يحدثني بالحديث من الفقه فيمله علي، ويذكر الخبر من الملح فأستعيده فلا يفعل. ويقول: لا أعطيك ملحي، وأهبك ظرفي وأدبي.

وقال ابن الماجشون: إني لأسمع الكلمة المليحة وما لي إلا قميص واحد فأدفعه إلى صاحبها وأستكسي الله عز وجل. وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يتمنى النسيب ؟ قال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.

أبو السائب وفكاهاته

وكان أبو السائب كثير الطرب، غزير الأدب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة. وكان جده يكنى أبا السائب أيضاً، وكان خليطاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام؛ وأقبل الإسلام فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: نعم الخليط كان أبو السائب لا يداري ولا يماري. واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف المدينة يقدمونه ويعظمونه لشرف منصبه، وحلاوة طربه. قال الزبير بن بكار: كانت سليمة المشاوبية عاشقة لأفلح مولى الزهريين، فأتاها يوماً أبو السائب المخزومي فقال: حدثيني، هل أتاك من حبيبك رسول ؟ قالت: لا. قال: فهل قلت في ذلك شعراً ؟ قالت: نعم، ثم أنشدته:

ألا ليت لي نحو الحبيب مبلّغـاً

 

يبلّغه التـسـلـيم ثـمّ يقـول

سليمة نضوٌ ما ترجّى حياتـهـا

 

من الشوق والشوق الشديد قتول

تعالج أحزاناً وتبكـي صـبـابةً

 

وأنت لما تلقاه فـيك جـهـول

فقال أبو السائب: أنا والله رسولك؛ فحفظ الشعر وتوجه نحو أفلح في يوم صائف شديد حره، فلقيه رجل من الأنصار فقال: يا أبا السائب؛ من أين أقبلت ؟ قال: من عند سليمة المشاوبية. قال: وإلى أين تريد ؟ قال: أريد أفلح مولى الزهريين أبلغه رسالتها. قال: أفي مثل هذا الوقت ؟ قال: إليك يابن أخي ؟ فإن الجنة حفت بالمكاره؛ وما عبد الله إلا بالصبر على ما ترى.

وقال الزبير: حدثني جدي قال: أتاني أبو السائب المخزومي في ليلة بعدما رقد الناس، فأشرفت عليه وقلت: هل من حاجة ؟ فقال: سهرت فذكرت أخاً لي أستمتع به فلم أجد أحداً سواك، فلو مضيت بنا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا ؟ قلت: نعم ! فنزلت فما زال في حديث إلى أن أنشدته في بعض ذلك بيتي العرجي:

باتا بأنعـم لـيلةٍ حـتـى بـدا

 

صبحٌ تلوّح كالأغرّ الأشـقـر

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فقال: أعده، فأعدته فقال: أحسنت والله ! وامرأتي طالق إن نطقت بحرف حتى أرجع إلى بيتي غيره، فمضينا فتلقانا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منصرف من ماله يريد المدينة. فقال: كيف أنت يا أبا السائب ؟ فقال:

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فالتفت إلي، وقال: متى أنكرت عقل صاحبك ؟ قلت: منذ الليلة، قال: لله أي كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة، وكان أثقل الناس جسماً، ومعه غلام له على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم عليه ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب ؟ فقال:

فتلازما عند الفراق صـبـابةً

 

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فالتفت إلي وقال: متى أنكرت عقل صابحك ؟ قلت: آنفاً؛ فتركني وانصرف، فقلت: أفتدعه هكذا؟ ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق، قال: صدقت، يا غلام، هات قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويدافع بيده؛ فلما أطال نزل الشيخ عن البغلة وقال: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه بأهله؛ فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته الخبر فضحك. وقال: قبحك الله ماجناً فضحت شيخاً من قريش وعذبتني وأنا لا أقدر أن أتحرك.

وروى مصعب بن الزبير عن عبد الله، قال: كان عروة بن أذينة نازلاً في دارى بالعقيق فسمعته ينشد لنفسه:

إنّ التي زعمت فؤادك مـلّـهـا

 

خلقت هواك كما خلقت هوىً لها

فيك الذي زعمت بها فكلاكـمـا

 

أبدى لصاحبه الصبابة كـلّـهـا

ولعمرها إن كان حبّك فوقـهـا

 

يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلّـهـا

فإذا وجدت لها وساوس سـلـوةٍ

 

شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّهـا

بيضاء باكرها النعيم فصاغـهـا

 

بلبـاقةٍ فـأدقّـهـا وأجـلّـهـا

لما عرضت مسلّماً لـي حـاجةً

 

أخشى صعوبتها وأرجو ذلّـهـا

منعت تحيّتها فقلت لصـاحـبـي

 

ما كان أكثرها لنـا وأقـلّـهـا

فدنا وقال لعـلّـهـا مـعـذورةٌ

 

في بعض رقبتها فقلت لعلّـهـا

فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب والبشر : ألك حاجة ؟ قال: نعم ! أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها ؟ فلما بلغت إلى قوله: فدنا وقال لعلها معذورة، طرب وصاح، وقال: هذا والله الصادق العهد، الدائم الود، لا الذي يقول:

إن كان أهلك يمنعونك رغـبةً

 

عني فأهلي بي أضنّ وأرغب

أوليس لي قربى إذا أقصيتنـي

 

حدبوا عليّ وعندي المستعتب

فلئن دنوت لأدنـونّ بـعـفّةٍ

 

ولئن نأيت لما ورائي أرحب

يأبى وعيشك أن أكون مقصّراً

 

رأيٌ أعيش به وقلب قـلّـب

لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وتجاوز قدره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب الأبيات الأولى لحسن الظن بها، وطلب العذر لها. فعرضت عليه الطعام فقال: سبحان الله ! أويحسن الظن بمثلي أن يأكل طعاماً بعد سماع هذه الأبيات ؟ والله ما كنت لأخلط بها طعاماً حتى الليل، وانصرف.

والأبيات التي أنشدها أبو السائب لبعض الهذليين هي من مليح الشعر أولها:

طرقتك زينب والركاب منـاخةٌ

 

بحطيم مكّة والنّدى يتـصـبّـب

بثنيّة العلمين وهـنـاً بـعـدمـا

 

خفق السّماك وعارضته العقرب

وتحية وكـرامة لـخـيالـهـا

 

ومع التحية والكرامة مرحـب

أنى اهتديت ومن هداك ودوننـا

 

حمل فقّلة عاذب فالـمـرقـب

ارتياح أهل المدينة إلى المزاح وانقطاعهم إلى السماع

ولأهل المدينة من الارتياح إلى المزاح، والانقطاع للسماع ما هو مشهور عندهم، مأثور منهم. قال عبد الله بن جعفر: أنا لي عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت معها لأبليت.

وقال أبو العيناء: قال الأصمعي: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا بشيخ من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب وعليه شملة تستره؛ فسلمت عليه وجلست إليه؛ فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا سوداء تحمل قربةً، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها وقال لها: غنني صوتاً، فقالت: إن موالي أعجلوني، قال: لا بد من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفي فلا، قال: فأنا أحملها: فأخذ القربة منها فحملها واندفعت تغني:

فؤادي أسيرٌ لا يفكّ ومهجتـي

 

تقضّى وأحزاني عليك تطـول

ولي مقلةٌ قرحى لطول اشتياقها

 

إليك وأجفاني عليك هـمـول

فديتك، أعدائي كثيرٌ وشقّـتـي

 

بعيد وأشياعي لـديك قـلـيل

وكنت إذا ما جئت جئت بعـلّة

 

فأفنيت علاّتي فكيف أقـول !

فطرب وصرخ، وضرب بالقربة فشقها؛ وقامت الجارية تبكي، وقالت: ما هذا بجزائي منك، شفعتك في حاجتك، فعرضتني لما أكره من موالي ! فقال: لا تغتمي فالمصيبة علي حصلت، ونزع الشملة، ووضع يداً من قدام ويداً من خلف، وباعها وابتاع لها قربة وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رجل من ولد علي رضي الله عنه، فعرف حاله فقال: يا أبا ريحانة؛ أحسبك من الذين قال الله عز وجل فيهم: "فما ربحَتْ تجارتهم وما كانوا مهتدين". قال: لا، يابن رسول الله، ولكني من الذين يقول الله لهم: "فبشِّرْ عبادي الذين يستمعون القولَ فيتبعونَ أحسنَه، أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم أولو الألباب". فضحك وأمر له بألف درهم.

وقال رجل لابن جعدبة: يا أبا الحكم؛ الرجل الذي يشدو بالأصوات ما ترى فيه ؟ قال: سبحان الله ! كنا إذا أتت على الرجل أربعون سنة لا يحسن عشرة أصوات عددناه من أهل بقيع الغرقد يعني الموتى.

ومر بالأوقص المخزومي وهو قاضي المدينة يتغنى بليل فأشرف عليه، وقال: يا هذا؛ شربت حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ، خذ عني وأصلح له الغناء.

غناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم

وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: حدثت أن مدنياً كان يصلي مذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجل يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل من الشرط قد قبض على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فأخذه؛ فانفتل المدني من صلاته، فلم يزل يطلب إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك ؟ قال: لا، ولكني إخالك رحمتني، قال: إذاً فلا رحمني الله. قال: فأحسبك عرفت قرابةً بيننا. قال: إذاً قطعها الله، قال: فليد تقدمت مني إليك، قال: والله ولا عرفتك قبلها. قال: فأخبرني. قال: سمعتك تغنيت آنفاً فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.

قال: والصوت الذي ينسب إلى واوات معبد شعر الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهر الشيباني وهو:

هريرة ودّعها وإن لام لائمٌ

 

غداة غدٍ أم أنت للبين واجم

لقد كان في حولٍ ثواء ثويته

 

تقضّى لباناتٌ ويسأم سـائم

ويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن؛ فقال: لقد غنيت بخمسة أصوات هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصوات قال المبرد: أحدها، للأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني: هريرة ودعها وإن لام لائم. فأنشد البيتين. والثاني: قوله يعاتبه:

ودّع هريرة إنّ الركـب مـرتـحـل

 

وهل تطيق وداعـاً أيهـا الـرّجـل

غيداء فرعاء مصقولٌ عـوارضـهـا

 

تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

والثالث، للشماخ بن ضرار بن مرة بن غطفان يقوله لعرابة بن أوس:

رأيت عرابة الأوسي ينمـى

 

إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما رايةٌ رفعت لمـجـدٍ

 

تلقّاها عـرابة بـالـيمـين

إذا بلّغتني وحملت رحـلـي

 

عرابة فاشرقي بدم الوتـين

والرابع، لعمر بن أبي ربيعة:

ودّع أمامة قبل أن تتـرحّـلا

 

واسأل فإنّ قليله أن تـسـألا

أمكث لعمرك ساعةً فتأنّـهـا

 

فعسى الذي بخلت به أن يبذلا

لسنا نبالي حين ندرك حـاجةً

 

إن بات أو ظلّ المطيّ معقّلا

قال أبو العباس: والشعر الخامس لا أعرف قائله. قلت: وهو لعروة بن أذينة الليثي:

غرابٌ وظبيٌ أعصب القرن نادباً

 

ببين وصردان العشيّ تـصـيح

لعمري لئن شطّت بعثمة دارهـا

 

لقد كنت من خوف الفراق أليح

وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان المرى: أحص المخنثين، فوقعت فوق الحاء نقطة فأخذهم وخصاهم وفيهم الدلال؛ فبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقد قام إلى الصلاة فقال: أوقد خصي الدلال ؟ إنا لله ! لقد كان يحسن أن يغني:

لمن طللٌ بذات الجي

 

ش أمسى دارساً خلقا

ثم دخل في الصلاة؛ فلما فرغ من قراءة أم الكتاب قال: السلام عليكم، وكان يحسن خفيف هذا الشعر ولا يحسن ثقيله.

من طرف ابن أبي عتيق

ولابن أبي عتيق عجائب ظريفة، أذكر لك منها ما يصلح ويملح؛ منها أنه سمع وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:

فما نلت منها محرماً غير أنّـنـا

 

كلانا من الثوب المطارف لابس

فقال: أبنا يلعب ابن أبي ربيعة ؟ فأي محرم بقي ؟ فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، ودخل أنصاب الحرم، وقيل له: أحرم ! قال: إن ذا الحاجة لا يحرم. فلقي ابن أبي ربيعة؛ فقال: أما زعمت أنك لم تركب محرماً قط ؟ قال: بلى ! قال: فما قولك: كلانا من الثوب... البيت ؟ فقال له: إني أخبرك؛ خرجت بعلة المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا، فصرنا إلى بعض الشعاب، فأخذتنا السماء، فأمرت بمطرفي فسترنا الغلمان لئلا يروا بها بلة فيقولوا لها: هلا استترت بسقائف المسجد ؟ فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر ! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة ؟ وابن أبي عتيق الذي سمع قول ابن أبي ربيعة:

قال لي صاحبي ليعلم ما بي

 

أتحبّ القتول أخت الرّبـاب

قلت وجدي بها كوجدك بالما

 

ء إذا ما فقدت برد الشراب

أزهقت أُمّ نوفلٍ إذ دعتـهـا

 

مهجتي، ما لقاتلي من متاب

أبرزوها مثل المهاة تهـادى

 

بين خمسٍ كواعبٍ أتـراب

وهي مكنونةٌ تحيّر مـنـهـا

 

في أديم الخدّين ماء الشبـاب

ثم قالوا تحبّها قلـت بـهـراً

 

عدد الرمل والحصى والتراب

من رسولي إلى الثريّا بـأنـي

 

ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب

فلما سمع هذا البيت قال: إياي أراد وبي هتف ونوه؛ والله لا ذقت طعاماً أو أشخص إليها وأصلح بينهما.

قال مولى لبني تميم: فنهض ونهضت معه حتى خرج إلى سوق الضمرتين، فأتى قوماً من بني الديل من حنيفة يكرون النجائب، فقال: بكم تكرونني راحلتين إلى مكة ؟ قالوا: بكذا وكذا، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئاً؛ فقال ابن أبي عتيق: ويحك ! إن المكاس ليس من أخلاق الناس، ثم ركب واحدة وركبت الأخرى وأجد السير، فقلت: ارفق بنفسك. فقال: ويحك: أبادر حبل الوصل أن يقتضبا وما أملح الدنيا إذا تم الوصل بين عمر والثريا. فقدمنا مكة، وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً. قال: أجل ! ولكني جئت برسالة؛ يقول لك ابن عمك عمر: ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب. فلامه عمر. فقال ابن أبي عتيق: إنما رأيتك مبادراً تلتمس رسولاً فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكر.

وسمع ابن أبي عتيق قول العرجي:

وما ليلةٌ عنـدي وإن قـيل لـيلة

 

ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر

معادلة الإثنين عندي وبالـحـري

 

يكون سواءً مثلها لـيلة الـقـدر

وما أنس م الأشياء لا أنس قولهـا

 

لخادمها قومي سلي لي عن الوتر

فجاءت تقول الناس في تسع عشرة

 

ولا تعجلي عنه فإنّك فـي أجـر

فقال: هذه أفقه من ابن شهاب، وهي حرة لله عز وجل من مالي إن أجاز أهلها ذلك.

مع الحسن بن علي

وقال له مروان بن الحكم يوماً: إني مشغوف ببغلة للحسن بن علي، قال له: فإن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجةً ؟ ومروان يومئذ أمير المدينة، قال: فإذا اجتمع الناس عندك في العشية فإني آخذ في مآثر قريش، فأمسك عن الحسن فلمني على ذلك. فلما أخذوا في مجالسهم أفاض في أولية قريش؛ فقال له مروان: أما تذكر أولية أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد ؟ فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. فلما خرج الحسن ليركب البغلة تبعه ابن أبي عتيق: فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة ؟ قال: نعم ! ذكرت البغلة ؟ فنزل الحسن ودفعها إليه.

ومن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار. فقالوا: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء. ففعل وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، فقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقالت: أو ما تدري ما حدث ؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، ولا بأس عليك. ثم مضى إلى عثمان بن حيان فاستأذن عليه، وأخبره أن أجل ما أقدمه حب التسليم عليه، وقال له: من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: كانت هذه صناعتي فبنت منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بيني وبين مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذاً أدعها لك. قال: إذاً لا تدعك الناس. ولكن تدعوها فتنظر إليها فإن كانت ممن يترك تركتها. قال: فادع بها. فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت وأخذت سبحة في يديها، وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها. فقال ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت فأعجب بذلك. فقال لها: فاحدي للأمير ففعلت، فأعجب بحدائها. ثم قال لها: غبري للأمير، فجعل يعجب بذلك، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعاتها؛ فقال: قل لها فلتقل ! فأمرها فغنت:

سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه

 

بكلّ بنانٍ واضـحٍ وجـبـين

فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال له ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة في المقام ومنع غيرها ! فقال عثمان: قد أذنت لهم جميعاً. وابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وكان أجل أهل زمانه، وذكر أنه دخل على عائشة وهي لم بها، فقال: كيف أنت يا أماه ؟ جعلت فداك ! قالت: في الموت، قال: فلا إذاً، إنما ظننت أن في الأمر فسحةً، فضحكت وقالت: ما تدع مزحك بحال !

معاوية يداوي أذنه بالغناء

وقال ابن جريج: كان عبد الله بن جعفر إذا قدم على معاوية أنزله داره وأظهر له من إكرامه وبره ما يستحقه؛ فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظة بن عبد بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوج معاوية، فسمعت ذات ليلة عند عبد الله غناء، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته مع حرمك ! قال: فجاء معاوية سمع وانصرف، فلما كان آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله، فجاء فأيقظ فاختة وقال: اسمعي مكان ما أسمعتني !! ثم إنه أرق ذات ليلة فقال لجريج خادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره أني في أثرك، فأتاه فأعلمه ذلك، فأقام عبد الله من عنده، ثم دخل معاوية فلم ير في المجلس أحداً، فقال لعبد الله: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه، ثم قال: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه؛ فرجعوا حتى لم يبق إلا مجلس واحد، قال: مجلس من هذا ؟ قال: مجلس واحد يداوي الآذان. قال: مره فليرجع فإن بأذني علةً، فأمر عبد الله بديحاً المليح فخرج؛ فأدناه معاوية منه وأراه أذنه. وقال: أنظر ما ترى فيها ؟ قال: هي مسدودة وتحتاج إلى فتح وتنقية، قال: شأنك أمكنتك منها، ولا تضع يدك عليها إن كنت غير حاذق بعلاجها. قال عبد الله: يا أمير المؤمنين؛ هو حاذق، ما يعالج في دارنا غيره. فقال معاوية: وشهد شاهد من أهلها، فاندفع يغني من شعر زهير بن أبي سلمى:

أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلّم

 

بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

فجعل عبد الله بن جعفر يلحظ معاوية وهو يحرك يديه ورجليه، فقال: يعيرك الجهل يا أمير المؤمنين، فقال: إن الجهل مني لعلى بعد يابن جعفر، قبح الله ضيافة يكون الضيف فيها بحيث لا يساعد المضيف على أخلاقه، ثم قال لبديح: لقد فتحت جارحة لا تألم أبداً؛ ثم نهض وخرج.

من طرف بديح

وكان بديح أحلى الناس وأذكاهم، وهو الذي قال له الوليد بن يزيد: يا بديح؛ خذ بنا في الأماني، فإني أغلبك فيها، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أغلبك لأني فقير وأنت خليفة، وإنما يتمنى المرء ما عسى أن يبلغ إليه وأنت قد بلغت الآمال. قال: لا تتمنى شيئاً إلا تمنيت ما هو أكثر منه. قال: فإني أتمنى كفلين من العذاب وأن يلعنني الله لعناً وبيلاً، فقال: اعزب لعنك الله دون خلقه.

ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وقد اشتى عرق النسا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن مولاي بديحاً أحذق الناس برقيته، قال: أتجيئني به ؟ فجاءه به فرقاً؛ فبات تلك الليلة هادئاً، فلما أصح سأله عبد الله بن جعفر عن حاله، فأخبره بما وجد من العافية؛ ثم قال لبديح: اكتب لنا هذه الرقية لتكون عندنا، قال: لا أفعل، قال: أقسمت عليك لتفعلن، قال اكتب:

ألا إنّ أيامـي وأيامـك الـتــي

 

مضين لنا لم أدر ما ألم الهـجـر

مضين وما شيء مضى لـك عـائدٌ

 

فهل لك فيها إن تولّين مـن عـذر

دعي ما مضى واستقبلي العيش إنني

 

رأيت لذيذ العيش مستقبل العـمـر

فما نازع الدهر امرأً في انقـلابـه

 

فأعتبه إلاّ بقـاصـمة الـظّـهـر

فقال عبد الملك: فأي شيء هذا ؟ قال: امرأتي طالق إن كنت رقيتك إلا بهذه ! قال: ويحك ! استر علينا، قال: كيف أستر ما سارت به الركبان !

يتغنى في مسجد الأحزاب

قال أبو مسلم الهلالي المكي: حدثني أبي عن أبيه قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الأحزاب وما كان بدؤها ؟ فوجدته مستلقياً يتغنى:

فما روضة بالحزن معشبة الـثـرى

 

يمجّ الندى جثجاثهـا وعـرارهـا

بأطيب من أردان عـزّة مـوهـنـاً

 

إذا أوقدت بالمندل الرطب نـارهـا

من الخفرات البيض لم تلق شـقـوة

 

وفي الحسب المكنون صافٍ نجارها

إذا خفيت كانت لعينك قـرّةً

 

وإن تبد يوماً لم يعمّك عارها

         

فقلت له: مثلك أصلحك الله يتغنى ؟ أما والله لأحدون بها ركبان نجد، فعاود يتغنى:

فما ظبيةٌ أدماء خفّاقة الحشـا

 

تجوب بطفليها متون الخمائل

بأحسن منها إذ تقول تـدلّـلاً

 

وأدمعها يجرين حشو المكاحل

تمتّع بذا اليوم القصير فـإنّـه

 

رهينٌ بأيام الشهور الأطـاول

فندمت على قولي وقلت: أتحدثني في هذا بشيء ؟ قال: نعم ! حدثني أبي أنه دخل على سالم بن عبد الله وأشعب الطماع يغنيه:

مغيريّة كالبدر سـنة وجـهـهـا

 

مطهرة الأثواب والـدين وافـر

من الخفرات البيض لم تلـق ريبةً

 

ولم يستزلها عن تقى اللّه شاعـر

لها حسبٌ زاكٍ وعرض مهـذّب

 

وعن كل مكروهٍ من الأمر زاجر

فقال سالم: زدني، فغنى:

ألّمت به والـلـيل داجٍ كـأنـه

 

جناح غرابٍ عندما نفض القطرا

فقلت أعطّار ثوى في رحالـنـا

 

وما حملت ليلى نشرها عطـرا

فقال له سالم: أما والله لولا أن تداوله الرواة لأحسنت جائزتك؛ لأنك من هذا الأمر بمكان.

غناء ومزاح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال إبراهيم الحراني: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينا أنا بين القبر والمنبر إذ أنا برجل حسن الهيئة خاضب، ومعه رجل في مثل حاله؛ فحانت مني التفاتة فإذا هو يقوس حاجبه ويفتح فاه، ويلوي عنقه ويشير بعينه، فتجوزت في صلاتي ثم سلمت فقلت: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتغنى ؟! فقال: قنعك الله خزية، ما أجهلك ! أما في الجنة غناء ؟ قلت: بلى لعمري فيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين، قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة ؟ قلت: لا ! قال: واحرباه ! أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ! فنحن في تلك الروضة. قلت: قبح الله شيخاً ما أسفهه ! قال: بالقبر والمنبر لما أنصت إلي ؟ فتخوفت ألا أنصت؛ فاندفع يغني بصوت يخفيه:

فليست عشيات الحمى برواجعٍ

 

إليك، ولكن خلّ عينيك تدمعـا

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها

 

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

الشعر للصمة بن عبد الله القشيري.

فوالله إن قمت إلى الصلاة لما دخل قلبي؛ فلما رأى ما نزل بي قال: يا بن أم، أرى نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة ؟ قلت: ويحك ! في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !! قال: أنا والله أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك؛ ثم تغنى:

فلـو كـان واشٍ بـالـمـدينة داره

 

وداري بأقصى حضرموت اهتدى ليا

وماذا لهم لا أحسن اللّه حفـظـهـم

 

من الشأن في تصريم ليلى حبـالـيا

الشعر لمجنون بني عامر الملوح.

فقال له صاحبه: يا بن أم؛ أحسنت والله، وعتق أهلك، لو كان أمير المؤمنين الرشيد في هذا الموضع لخلع عليك ثيابه طرباً. قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على أمير المؤمنين فأعلمته الخبر؛ فقال: أدركهما لا يفوتانك.

فوجهت من جاء بهما، فلما دخلا عليه دخلا بوجوه قد ذهب ماؤها، وأنا قائم على رأسه، فقال: يا إبراهيم؛ هذان هما ؟ قلت: نعم. فنظر إلي المغني منهما وقال: سعاية في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، وتبسم فقال: ما كنتما فيه ؟ قالا: في خير. قال: فماذا الخير ؟ فسكتا. فقال للمغني منهما: من أنت ؟ فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ابن جريج فقيه مكة، فقال: فقيه مكة يتغنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !! قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن ذلك مني بالقصد للغناء ولكني كنت أسمعت هذا المخزومي يعني صاحبه صوتين، فلم يزالا في قلبي حتى التقينا، فأحببت أن يأخذهما عني، فأخذهما، وحلف أني قد أحسنت، وأنه لو كان في الموضع أمير المؤمنين لخلع علي وسكت.

فقال الرشيد: تركت من الحديث شيئاً ؟ قال: ما تركت شيئاً يا أمير المؤمنين. قال: والله لتقولن. قال: يا أمير المؤمنين، زعم أنك لو كنت في موضعه لخلعت علي ثياباً مشقوقةً طرباً. فتبسم وقال: أما هذا فلا، ولكن نخلعها عليك صحيحةً فهي خير لك. ثم دعا بثياب فلبسها ونبذ ثيابه، وأمر له بعشرين ألف درهم ولصاحبه بعشرة آلاف درهم. وقال: لا تعودن لهذا. فقال صاحبه: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية. فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.

في سوق القسي

قال إبراهيم الحراني: ثم قدمنا مكة فإني لفي سوق القسي أساوم بقوس عربية بكنانتها، إذ بإنسان عن يميني يقول: نعم القوس في يدك. قلت: أريد أبسط منها قليلاً ؟ قال: فعندي بغيتك إئت المنزل، فصرت إليه، فأخرج إلي قوساً جيدةً لينةً حسنة الصنعة، قلت: نعم ! هذه أريد، فكم ثمنها ؟ قال: عشرة دنانير، قلت: يا هذا، أغرقت في النزع، قال: هذا سومي، فهات سومك أنت. قلت بدينارين. فأحد النظر، وقال: وآتيك؛ فالذي كان يجب للطبيعة أن تأتي به تحول فصار ضحكاً. فقلت: غضب الله عليك، تطلق لسانك في حرم الله وأمنه في أيام عظيمة؛ فأنت بمثل هذه السن تتكلم بهذا الكلام !! فقال: هو ما قلت لك، إنما هو بيع وشراء، فلا تغضب؛ فإني لم أغضب من عطيتك.

قال: ففارقته، ودخلت على أمير المؤمنين، فقلت: يا سيدي؛ ههنا خبر أعجب من خبر ابن جريج ! وحدثته الحديث، فقال: ارجع وجئني به، فوجهت غلاماً كان معي وأنا أساومه ومعه أعوان؛ فجاءوا به، فلما دخل عليه قال: هذا صاحبك يا إبراهيم ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين ! فقال الرشيد: ماذا قلت لهذا حين ساومك بالقوس ؟ قال: قد دار بيني وبينه كلام. قال: أخبرني به. قال: لست مني على سوم فأخبرك. قال: فماذا قال لك ؟ قال: هو أعلم بما قال. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين؛ أخرج إلي قوساً عربية بكنانتها، فقلت: بكم هذه ؟ قال: بعشرة دنانير. قلت: أسرفت فخذ مني دينارين. قال: وآتيك. قال الرشيد: كذا كان ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما هذا شراء وبيع ولم يتم لي بيعها بما أعطاني، وظننت أن بضاعته قليلة فقلت: آخذ دينارين وعروضاً بالباقي.

فضحك الرشيد حتى تبسط. ثم قال: قاتلك الله ! فما أقبح مجونك ! ووصله.

قال إبراهيم: فلما انصرفنا خارجين عن مكة مررت به، فوقفت عليه وسلمت عليه. فقال: ما ترى في تيك القوس ؟ ألك فيها رأي ؟ قلت: أما على شريطتك الأولى فلا. قال: فلا بأس فخذها مني بدينارين وغن لي ثلاثة أصوات، أو خذها بخمسة وأغنيك أربعة أصوات، ثلاثة لمعبد، وواحد لابن عائشة كان يفعل فيه ما أحل الله وحرم، قلت: هذا وحده. فاندفع يغني:

وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي

 

وردّا على عيني فضـل ردائيا

الشعر لمالك بن الريب المازني فأجاده ما شاء وحسنه. فقلت: لولا أن أمير المؤمنين قد قدمت له دابته لوقفت عليك. فقال: امض عليك السلام وإن كان في القلب ما فيه؛ إذ بخلت على أخيك بضمة أو ضمتين. قلت: ما لك لعنك الله ! وفارقته، وحدثت أمير المؤمنين بما قال فقال: يا إبراهيم، تجد بالعراق طولاً وعرضاً واحداً له ما لأهل الحرمين من الذكاء والظرف ؟ قلت: لا أعرف موضعه.

الأشراف تعجبهم الملح

وقال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:

يأيها السائل عن منـزلـي

 

نزلت بالخان على نفسـي

يغدو عليّ الخبز من خابـزٍ

 

لا يقبل الرهن ولا ينسـي

آكل من كيسي ومن كسوتي

 

حتى لقد أوجعني ضرسي

فقال: اكتب لي الأبيات. فقلت: أصلحك الله؛ هذا لا يشبه مثلك، إنما يروي مثل هذا الأحداث، قال: اكتبها لي، فالأشراف تعجبهم الملح.

وقد قال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي:

الجد شيمـتـه وفـيه فـكـاهة

 

سمحٌ ولا جدٌّ لمن لـم يلـعـب

شرسٌ ويتبع ذاك لـين خـلـيقةٍ

 

لا خير في الصهباء ما لم تقطب

وقال في الحسن بن وهب:

للّه أيامٌ خـطـبـنـا لـينـهـا

 

في ظله بالخندريس السلـسـل

بمدامةٍ نغم السماع خـفـيرهـا

 

لا خير في المعلول غير معلّـل

يعشو عليها وهو يجلو مقلـتـي

 

بازٍ ويغفل وهو غير مـغـفـل

لا طائشٌ تهـفـو خـلائقـه ولا

 

خشن الوقار كأنه في محـفـل

فكهٌ يجمّ الـجـدّ أحـيانـاً وقـد

 

ينضى ويهزل عيش من لم يهزل

وقال أبو الفتح علي بن محمد البستي:

أفد طبعك المكدود بالـهـمّ راحةً

 

براحٍ وعلّله بشيء من الـمـزح

ولكن إذا أعطيته ذاك فـلـيكـن

 

بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

بدء الكتاب

وهذا حين أبتدىء متصرفاً بك من بلاغة خطاب، إلى براعة جواب، وصريح منادرة، إلى مليح مهاترة، وغريب مراجعة، إلى عجيب منازعة، وتشبيه واقع، إلى مثل صادع، وغير ذلك مما يحي موات القلوب، ويشفي نجي الكروب، مما تجذل له الخواطر، وترتاح إليه السرائر، وتنفتح به الأسماع، وتنشرح له الطباع.

فما مر به من هذه النوادر فلا تنظر إليها نظر المنكر فتعرض عنها صفحاً، وتطوي دونها كشحاً، إذا وقعت فيها كلمة قذف، أو لفظة سخف. وتقول: قد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لغلامه ورأى روث دابة: نح ذلك النقيل تصوناً عن اسم الروث. وقال: عرضت لي دمل تحت يدي فآلمتني، ولم يقل تحت إبطي.

وكان الحجاج على قبح أفعاله، وسوء أحواله، يتنزه عن أن ينطق بلفظة سخيفة. وقد قال لمن اتهمه بمال ابن الأشعث: لو خبأته تحت، حتى قال: تحت ذيلك، لم يكن بد من إخراجه. وإنما أراد أن يقول تحت استك.

وأكثر القاذورات وردت بالكنايات؛ كالغائط وهو المطمئن من الأرض. وكانا إذا أرادوا قضاء الحاجة ذهبوا إلى ذلك الموضع؛ فسمي ما يخرج من الإنسان باسم موضعه. وكذلك الاستنجاء أيضاً مأخوذ من النجو، وهو المكان المرتفع؛ لاستتارهم وراءه. والحش: البستان. والعذرة: فناء الدار. وكذلك وصفهم لطيب الأردان، وهي الأكمام، وإنما يراد ما تحتها، وإنما ذلك كله للفرار من النطق بأسماء الأقذار.

وليس في كل موضع أعزك الله تحسن الكنايات عن لفظ فحش، ولا بكل مكان يجمل الإعراض عن معنى وحش. فيكون كما حكى الجاحظ: أن رجلاً بعث غلامه إلى غريم له، فأساء الغلام خطابه، فخرق الغريم ثيابه؛ فرجع إلى مولاه، فقال: ما لك ؟ قال: شتمك يا مولاي، فلم أحتمل الصبر، فرددت عله، فحل بي ما ترى، قال؛ وما كان شتمه ؟ قال: قال لي: أدخل هن الحمار في حر أم من أرسلك. فقال له مولاه: دعني عنك مما جرى، ولكن لم لم تجعل لي من الوقار ما جعلته لأير الحمار حين كنيت عن ذا ولم تكن عن ذا ! فلو صرح بالجميع لكان أسلم له من الذنب، وآمن من العتب.

وقد قال أبو فراس الحمداني لرسول أرسله إلى من يهواه، فجفا في جوابه، فلطف الرسول رسالته فتبين أبو فراس ذلك فأنشده:

وكنى الرسول عن الجواب تظرّفاً

 

ولئن كنى فلقد علمنا ما عـنـى

قل يا رسول ولا تحاش، فـإنّـه

 

لا بدّ منه أساء بي أم أحـسـنـا

الذنب لي فيما جـنـاه لأنـنـي

 

مكّنته من مهجتي فتـمـكّـنـا

أخذه بعض المتأخرين فقال:

يا رسولي خلّ عنك الظّ

 

رف إن كنت رسـولا

لا تقل ما لـم يقـلـه

 

واشف بالصدق الغليلا

وهذا وإن لم يكن من محض هذا الباب، إذ كان إنما يستطاب، لأنه من الأحباب، كقول الآخر:

أتاني عنك شتمك لي وسـبّـي

 

أليس جرى بفيك اسمي فحسبي

وكما قال منصور النمري:

لا يطيب الهوى ولا يحسن الح

 

بّ لخلقٍ إلاّ بخمس خصـال

بسماع الهوى وعذل نصـيحٍ

 

وعتابٍ وهجـرةٍ وتـقـال

وكقول الآخر:

دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه

 

فإنّ الأذى ممن يحـبّ سـرور

غبار قطيع الشاء في عين ربّها

 

إذا مـا تـلا آثـارهـن ذرور

وقول الآخر:

لولا طراد الخيل لم تـك لـذّةٌ

 

فتطاردي لي بالوصال قلـيلا

هذا الشراب أخو الحياة وما له

 

من لذةٍ حتى يصيب غـلـيلا

فهو يلم ببعض جهاته، ويتطرف بإحدى جنباته.

وفي مثل التهاتر يمكن قول العتبي فيما سهل سبيله من ترك الإعراض عما كان مثله بالقول لقائله كالولد لناجله: ما على مبصره أن يراه شريراً فاتكاً، دون أن يراه وقوراً ناسكاً. وإنما تلزم عمدته، وتعود عهدته، في سخفه وجهله، على نفسه وأهله. وقد قال بعض الظرفاء:

إنما للنـاس مـنّـا

 

حسن خلقٍ ومزاح

ولنا ما كـان فـيا

 

من فسادٍ أو صلاح

ولو كنت هنا إنما آتي بما فيه ركانة وأصالة، دون ما فيه سخافة ورذالة، لزال عن الملح اسمها، وارتفع عنها وسمها، وخرجت عن حدودها، وأفلتت من قيودها. ولا بد من توشيحه بلطئاف من الجد، وظرائف من القصد، تتعلق بأغصانه، وتتشبث بأفنانه؛ ليكون استراحة للناظر، وإجماماً للخاطر؛ وكما يمل الجد، فيدخل فيه الهزل؛ كذلك يمل الرقيق فيحتاج إلى الجزل. والله أستغفر مما شغل به الخاطر، وأتعب له الناظر، وصرف إليه الفكر، واستخدم فيه السر، مما غيره أعم فائدة، وأتم عائدة؛ فهو الرؤوف الرحيم، والجواد الكريم.