من ملح أشعب

قيل لأشعب الطماع: لقد لقيت التابعين وكثيراً من الصحابة، فهل رويت مع علو سنك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن. قيل: وما هما ؟ قال: نسيت واحدةً، ونسي عكرمة الأخرى.

وقيل له: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر رطلاً.

وهذا كما قيل لطفيلي: كم اثنين في اثنين ؟ قال: أربعة أرغفة.

وسألته صديقة له خاتماً وقالت له: أذكرك به. قال: اذكري أنك سألتني فمنعتك.

وساوم بقوس بندق، فقال صاحبها: بدينار، فقال: والله لو كنت إذا رميت بها طائراً وقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها بدينار.

وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج فالوذجة وأشعب حاضر فقال: كل يا أشعب، فأكل منها، فقال له: كيف تراها ؟ قال: الطلاق يلزمه إن لم تكن عملت قبل أن يوحي ربك إلى النحل، أي ليس فيها حلاوة.

وبأشعب هذا يضرب المثل في الطمع. قال الشاعر:

إني لأعجب من مطالك أعجب

 

من طول تردادي إليك وتكذب

وتقول لي تأتي وتحلف كاذبـاً

 

فأجيء من طمعٍ إليك وأذهب

فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ

 

قالوا مسيلمة وهذا أشـعـب

وقيل له: أرأيت أطمع منك ؟ قال: نعم كلبة آل أبي فلان، رأت شخصاً يمضغ علكاً، فتبعته فرسخاً تظن أنه يرمي لها بشيء من الخبز.

ومر أشعب برجل يعمل طبقاً من الخيزران؛ فقال له: أريد أن تزيد فيه طوقاً أو طوقين. قال: فما فائدتك ؟ قال: لعل أحداً من أشراف المدينة يهدي لنا فيه شيئاً.

وكان أشعب يعشق امرأة بالمدينة ويتحدث فيها حتى عرف بها، فقال لها جاراتها: لو سألته شيئاً ؟ فأتاها يوماً فقالت: إن جاراتي يقلن ما يصلك بشيء. فخرج عنها ولم يقربها شهرين. ثم أتاها فأخرجت له قدحاً فيه ماء، فقالت له: اشرب هذا للفزع ! فقال: بل أنت اشربيه للطمع، ومضى فلم يعد إليها.
وأشعب هذا: هو أشعب بن جبير مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس مفاكهةً.
قال الزبير بن بكار: أهل المدينة يقولون: تغير كل شيء من الدنيا إلا ملح أشعب، وخبز أبي الغيث، ومشية برة. وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة؛ وبرة بنت سعد بن الأسود؛ وكانت من أجمل النساء وأحسنهن مشية.

وكان أشعب قد نشأ في حجر عائشة بنت عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أبي الزناد. قال أشعب: فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا الغاية.

قال: وأسلمته عائشة إلى من يعلمه البز؛ فسألته بعد سنة أين بلغت ؟ قال: نصف العمل وبقي نصفه، قالت له: كيف ؟ قال: تعلمت النشر وبقي الطي.

وكان أشعب أطيب الناس غناء، وأكثرهم ملحاً، ونسك في آخر عمره ومات على ذلك رحمه الله تعالى. وكان يوم قتل عثمان غلاماً يسقي الماء وبقي إلى خلافة المهدي.

وخرج سالم بن عبد الله متنزهاً إلى ناحية من نواحي المدينة ومعه أهله وحرمه، فبلغ أشعب الخبر، فوافاهم يريد التطفيل؛ فصادف الباب مغلقاً، فتسور الحائط عليهم. فقال له سالم: ويلك يا أشعب ! معي بناتي وحرمي ! فقال له أشعب: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. فضحك منه وأمر له بطعام أكله وحمل منه إلى منزله.

وكان يقول: ما أحسست قط بجار لي يطبخ قدراً إلا غسلت الغضار، وكسرت الخبز، وانتظرته يحمل إلي قدره. وقال له بعض أصحابه: لو صرت إلي العشية نتحدث ؟ فقال: أخاف أن يجيء ثقيل، قال: ليس معنا ثالث فمضى معه. قال: فلما صلينا الظهر ودعونا بالطعام إذا بشخص يدق الباب، فقال أشعب: ترى أنا قد صرنا إلى ما نكره ؟ قال فقلت له: إنه صديق وفيه عشر خصال إن كرهت واحدةً منهن لم آذن له. قال: هات. قلت: الأولى أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: التسع لك، إئذن له.

وهذا نظير حديث الغاضري وقد أتى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة. فقال: جعلت فداك ! إني عصيت الله ورسوله، قال: بئس ما صنعت ! وكيف ذاك ؟ قال: لأن الله عز وجل يقول "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةً. وأنا أطعت امرأتي فاشتريت غلاماً فأبق، فقال الحسن: اختر واحدةً من ثلاث؛ إن شئت ثمن الغلام، فقال: بأبي أنت ! قف عند هذه فلا تجاوزها. قال: أعرض عليك الخصلتين ؟ قال: لا، حسبي هذه.

وغاضبت مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة، فاشتد ذلك عليه وشكا أمره إلى خاصته. فقال له أشعب: فما لي إذا هي كلمتك ؟ قال: عشرة آلاف درهم؛ فأتى إليها فقال: يابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفضلي بكلام الأمير؛ فقد استشفع بي عندك، وأجزل لي العطية إن أنت كلمته. قالت: لا سبيل إلى ذلك يا أشعب؛ وانتهرته. فقال: جعلت فداك ! كلميه حتى أقبض عشرة آلاف درهم، ثم ارجعي إلى ما عودك الله من سوء الخلق، فضحكت فقامت فصالحته.

عبد الملك بن مروان وعمر بن بلال

والشيء يذكر بالشيء، أي بما قاربه. كان عبد الملك بن مروان محباً لعاتكة بنت يزيد بن معاوية؛ فغاضبته يوماً، وسدت الباب الذي بينها وبينه؛ فساءه ذلك وتعاضله، وشكا إلى من يأنس به من خاصته، فقال له عمر بن بلال الأسدي: إن أنا أرضيتها لك حتى ترى فما الثواب؟ قال: حكمك. فأتى إلى بابها، وقد مزق ثوبه وسوده؛ فاستأذن عليها وقال: أعلموها أن الأمر الذي جئت فيه عظيم. فأذنت له؛ فلما دخل رمى بنفسه وبكى. فقالت: ما لك يا عم ؟ قال: لي ولدان هما من الإحسان إلي في الغاية، وقد عدا أحدهما على أخيه فقتله، وفجعني به؛ فاحتسبته وقلت: يبقى لي ولد أتسلى به؛ فأخذه أمير المؤمنين وقال: لا بد من القود، وإلا فالناس يجترئون على القتل، وهو قاتله إلا أن يغيثني الله بك ! ففتحت الباب ودخلت على عبد الملك وأكبت على البساط تقبله وتقول: يا أمير المؤمنين؛ قد تعلم فضل عمر بن بلال، وقد عزمت على قتل ابنه؛ فشفعني فيه ؟ فقال عبد الملك: ما كنت بالذي أفعل؛ فأخذت في التضرع والخضوع حتى وعدها العفو عنه وصلح ما بينهما؛ فوفى لعمر بما وعده به.

إفهام من الفتى وفهم من المنصور

وعلى ذكر عاتكة بنت يزيد، قال المدائني: لما حج أبو جعفر المنصور قال للربيع: ابغني فتى من أهل المدينة أديباً ظريفاً عالماً بقديم ديارها، ورسوم آثارها فقد بعد عهدي بديار قومي، وأريد الوقوف عليها؛ فالتمس له الربيع فتىً من أعلم الناس بالمدينة، وأعرفهم بظريف الأخبار، وشريف الأشعار؛ فعجب المنصور منه؛ وكان يسايره أحسن مسايرة، ويحاضره أزين محاضرة، ولا يبتدئه بخطاب إلا على وجه الجواب؛ فإذا سأله أتى بأوضح دلالة، وأفصح مقالة؛ فأعجب به المنصور غاية الإعجاب، وقال للربيع: ادفع إليه عشرة آلاف درهم؛ وكان الفتى مملقاً مضطراً؛ فتشاغل الربيع عنه واضطرته الحاجة إلى الاقتضاء، فاجتاز مع المنصور بدار عاتكة؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ هذا بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية الذي يقول فيه الأحوص بن محمد:

يا بيت عاتكة الذي أتعـزّل

 

حذر العدا وبه الفؤاد موكّل

فقال المنصور: ما هاج منه ما ليس هو طبعه: من أن يخبر بما لم يستخبر عنه، ويجيب بما لم يسأل عنه؟ ثم أقبل يردد أبيات القصيدة في نفسه إلى أن بلغ إلى آخرها وهو:

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم

 

مذق اللسان يقول ما لا يفعل

فدعا بالربيع وقال له: هل دفعت للمدني ما أمرنا له به ؟ فقال: أخرته علة كذا يا أمير المؤمنين، قال: أضعفها له وعجلها.

وهذا أحسن إفهام من الفتى، وأدق فهم من المنصور، ولم أسمع في التعريض بألطف منه. ولقول الأحوص هذا سبب ذكره عبد الله بن عبيدة بن عمار بن ياسر. قال: خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن إلى الحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي، فأنشدنا من رقيق شعره ؟ فأرسل إليه، فأنشدنا قصيدةً له يقول فيها:

يا بيت خنساء الذي أتـجـنّـب

 

ذهب الزمان وحبّها لا يذهـب

أصبحت أمنحت الصدود وإنمـا

 

قسماً إليك مع الصدود لأجنـب

ما لي أحنّ إذا جمالك قـرّبـت

 

وأصدّ عنك وأنت مني أقـرب

للّه درّك هـل إلـيك مـعـوّل

 

لمتيّم أم هل لودّك مطـلـب ؟

فلقد رأيتك قبـل ذاك وإنـنـي

 

لموكّل بهواك لـو يتـجـنّـب

إذ نحن في الزمن الرجيّ وأنتم

 

متجاورون، كلاكما لا يرقـب

تبكي الحمامة شجوها فتهيجنـي

 

ويروح عازب همّي وتخصب

وأرى السميّة باسمكم فيزيدنـي

 

شوقاً إليك سميّك المتـقـرب

وأرى الـعـدو يودّكـم فـأودّه

 

إن كان ينبىء عنك أو يتنسّـب

وأحالف الواشين فيك تجـمّـلاً

 

وهم عليّ ذوو ضغـائن دوّب

ثم اتخذتـهـم عـلـيّ ولـيجةً

 

حتى غضبت ومثل ذلك يغضب

فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز، فلما مر بالمدينة دخل عليه الأحوص بن محمد فاستصحبه ففعل. فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: ما تريد بنفسك ؟ تقدم الشام بالأحوص وفيها من تبعك من بني أبيك وهو من السفه على ما علمت ! فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص منتجزاً ما وعده من الصحابة، فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال: يا خال؛ إني نظرت فيما ضمنت لك من الصحابة، فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين. فقال الأحوص: لا حاجة لي بعطيتك، ولكني سعيت عندك، ثم خرج، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى الأحوص وهو أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثياباً، ثم قال له: يا خال؛ هب لي عرض أخي، قال: هو لك، ثم خرج الأحوص وهو يقول في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل يمدح عمر:

يا بيت عاتـكة الـذي أتـعـزّل

 

حذر العدا وبه الفـؤاد مـوكّـل

هل عيشنا بك في زمانك راجـعٌ

 

فلقد تفاحش بعدك المـتـعـلّـل

أصبحت أمنحك الصدود وإنـنـي

 

قسماً إليك مع الصـدود لأمـيل

فصددت عنك وما صددت لبغضة

 

أخشى مقالة كاشـحٍ لا يغـفـل

وتجنّبي بيت الـحـبـيب أزوره

 

أرضي البغيض به حديثٌ معضل

إنّ الزمان وعيشـنـا ذاك الـذي

 

كنّا بلـذّتـه نـسـرّ ونـجـذل

ذهبت بشاشته وأصـبـح ذكـره

 

أسفاً يعلّ به الـفـؤاد وينـهـل

حتى انتهى إلى قوله:

فسموت عن أخلاقهم وتركتهـم

 

لنداك، إنّ الحازم المتـوكّـل

ووعدتني في حاجتي فصدقتني

 

ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدّلوا

ولقد بدأت أريد ودّ مـعـاشـرٍ

 

وعدوا مواعد أُخلفت إذ حصّلوا

حتى إذا رجع اليقين مطامعـي

 

يأساً وأخلفنـي الـذين أؤمّـل

زايلت ما صنعوا إليك برحـلة

 

عجلى وعندك عنهم المتحـوّل

وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم

 

مذق الحديث يقول ما لا يفعل

فقال عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني مما استعفيك.

والأحوص وإن كان ممن أغار على قصيدة سليمان، فقد أربى عليه في الإحسان، وكان كما قال ابن المرزبان؛ وقد أنشد لابن المعتز قصيدته في مناقضة ابن طباطبا العلوي التي أولها:

دعوا الأُسد تكنس في غابها

 

ولا تدخلوا بين أنيابـهـا

قال: قد أخذه من قول بعض العباسيين:

دعوا الأسد تسكن أغيالها

 

ولا تقربوها وأشبالهـا

أخذ ساجاً ورده عاجاً، وغل قطيفة، ورد ديباجاً.

طرف مستملحة

قال سذابة المغني لأبي العباس المبرد: صر إلي اليوم لنأنس بك. قال: أي شيء عندك آكل ؟ قال: أنت وأنا عليك. يريد لحماً مبرداً وعليه سذاب. ولقي برد الخيار الكاتب أبا العباس المبرد على الجسر في يوم بارد. فقال: أنت المبرد، وأنا برد الخيار، واليوم بارد؛ اعبر بنا لئلا يصيب الناس الفالج.
وقال عون بن محمد: لقيت باذروجة المغني وسكباج الراقص بسر من رأى، فصحت: يا غلام، المائدة؛ فقد وافت الألوان، فضحكوا؛ وأقسم علينا باذروجة؛ فكنا يومنا عنده في أطيب عيش.

من طرف ابن جدار وشعره

وكان ابن جدار كاتب العباس بن أحمد بن طولون بارد المشاهدة، فعاد أبا حفص بن أبي أيوب ابن أخت الوزير، فوافاه وقد أصابته قشعريرة. فقال: ما تجد ؟ جعلت فداك ! قال: أجدك.
وكان أبو حفص أديباً شاعراً بليغاً ولهاً، وقد رأى ورداً قريباً من أقحوان فقال:

أرى أقحواناتٍ يطفن بناصـعٍ

 

من الورد مخضرّ النبات نضيد

يميّله ريح الصّبـا فـكـأنـه

 

ثغور دنت شوقاً للثـم خـدود

وكان ابن جدار ينقل أخبار أبي حفص إلى العباس بن أحمد بن طولون، فصار إليه يوماً فقال: أعزك الله؛ إنما مجلس المدام حرمة أنس، ومسرح لبانة، ومذاد هم، ومرتع لهو، ومهد سرور؛ وإنما توسطته عند من لا يتهم غيبه، وقد بلغني ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل من أخبار مجالسي. وأنشد:

ولقد قلت لـلأخـلاّء يومـاً

 

قول ساعٍ بالنصح لو سمعوه

إنّما مجلس المدام بـسـاطٌ

 

للمودّات بينهم وضـعـوه

فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا

 

من نعيمٍ ولـذةٍ رفـعـوه

فاعتذر إليه وحلف أنه ما فعل، وقام عن مجلسه. وأنشد:

كم من أخٍ أوجست منه خيفة

 

فأنست بعد وداده بفـراقـه

لم أحمد الأيّام منه خـلـيقةً

 

فتركته مستمتعاً بخـلاقـه

وكان ابن جدار قبل تعلقه بالعباس يتكسب بالشعر ويقنع باليسير، فصار إلى دار إسحاق بن دينار بن عبد الله وامتدحه، فلم يهب له شيئاً؛ فقال فيه:

عجب الناس أن مدحت ابن دينا

 

ر فلم يجزني على مـدحـيه

قلت لا تعجبوا فما قدم الـلّـؤ

 

م عجيباً منه ولا منـه أخـيه

إنّ ديناره أبـوه، ومـن جـا

 

د من الناس لامرىءٍ بأبيه ؟

وهو القائل في القلم:

وعاشقٍ تحت رواق الدجى

 

أغرى به الحيرة فقـدان

أهيف ممشوق بتحريكـه

 

يحلّ عقد السـرّ إعـلان

يحوك وشياً لم يحك مثلـه

 

بلاغةٌ تحكى وبـرهـان

وربّما أحيا وأهدى الـرّدى

 

ففيه ماذيٌّ وخـطـبـان

وفيه للناظـر أٌعـجـوبة

 

يكسو عراة وهو عـريان

تجري به خمسٌ مطايا لـه

 

مختلفات الـقـدّ أقـران

له لسانٌ مـرهـفٌ حـدّه

 

من ريقة الكرسـف ريّان

في دقّة المعنى إذا أغرقت

 

للقول في التدقيق أذهـان

إذا احتسى كأساً كلون الدّجا

 

حرّك منه الرأس نشـوان

كأنّما ينثر من لـفـظـه

 

درٌّ وياقوتٌ ومـرجـان

ترى بسيط الفكر في نظمه

 

شخصاً له حدٌّ وجثـمـان

كأنّما يسحـب فـي إثـره

 

ذيلاً من الحكمة سحبـان

لولا ما قام منار الـهـدى

 

ولا سما بالمـلـك ديوان

بين ابن مكرم وأبي العيناء

قدم محمد بن مكرم من الجبل؛ فقال له أبو العيناء: ما لك لم تهد إلينا شيئاً ؟ فقال: والله ما قدمت إلا في خف، قال: كذبت، ولو قدمت في خف خفت روحك. وأكثر عليه أبو العيناء من المهاترة، فقال: إن زدت علي قمت، قال: أراك تتهددنا بالعافية.

وكانا يشربان يوماً عند صديق لهما، فقال ابن مكرم لصاحب الدار: أقوم إلى الخلاء؛ فقال أبو العيناء: إذاً لا يعود إلينا منك شيء.

وولد لأبي العيناء مولود فأتاه ابن مكرم مهنئاً، فوضع بين يدي أبي العيناء حجراً وانصرف. فجسه أبو العيناء فوجده حجراً. فقال: من وضع هذا ؟ فقالوا: تركه ابن مكرم لما قدم، قال: لعنه الله؛ إنما عرض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وأتى محمد بن مكرم شاعر فقال: إني قد هجوتك بشعر ؟ فقال: قل، فوالله لئن أحسنت لأخلعن عليك خلعةً، فأنشده:

يا فتى مكرم تنحّ عن الفخ

 

ر فما مكرمٌ وما دينـار

لا تفاخر إذا فخرت بهذي

 

ن فذا كودن وذاك حمار

فقال: أحسنت، ولكني أكسوك من ثيابنا، يا غلام، ارم عليه جلاً وبرذعةً.

عود إلى الطرف المتفرقة

دخل بعض أبناء الملوك على المبرد وعنده سلة حلوى قد أعدها لبعض إخوانه، فوجد ابنه الفرصة في اشتغال أبيه فأقبل يأكل منها. فنظر إليه المبرد فأنشده:

الناس في غفلاتهـم

 

ورحى المنيّة تطحن

ودخل أبو الحارث حمير على بعض الملوك فرأى بين يديه سلة حلوى. فقال: ما في هذا أيها الأمير ؟ قال: باذنجان. وكان أبو الحارث يكره الباذنجان كراهية شديدة.

وأصلح محمد بن يحيى بن خالد دعوةً، وأمر الطباخ أن يجعل الباذنجان في جميع الطعام، وحضر أبو الحارث فكلما قدم لون وهم بالأكل منعه ما يراه إلى أن ضاق فأقبل يأكل بدقة المائدة فعطش فقال: اسقوني ماءً لا باذنجان فيه.

ودخل على محمد بن يحيى وبين يديه مزورات وكان محمياً، فأكل معه وخرج من عنده، فلقيه بعض إخوانه، فغطى رأسه منهم واستخفى فقالوا: ما لك يا أبا الحارث ؟ قال: أكلت عند محمد بن يحيى بقولاً كثيرة. قالوا: فما تخاف ؟ قال: أخاف أن يمر المساح فيمسحني خضراء فلا يقبلوا مني مظلمةً.
وهذا كما حكي عن الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل: أنه مر ببعض إخوانه بعقبة النجارين، وهو يعدو بأكثر مما يقدر عليه، فقال له: قف علي، فخاف أن تكون نزلت به نزلة، فأتاه إلى الدار فخرج مستخفياً. فقال: ما لك يا أبا عبد الله ؟ قال: أما علمت أن السخرة وقعت في الجمال ؟ فما يؤمنني أن يقال هذا الجمل، فأؤخذ فلا أتخلص إلا بشفاعة. وكان الجمل حلواً ظريفاً.

ابن المدبر يجيز بالصلاة

وكان أبو الحسن أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يحسن وكل به من يمضي معه إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةً؛ فتحاماه الشعراء، فأتاه الجمل فأنشده:

أردنا في أبي حسن مـديحـاً

 

كما بالمدح تنتـجـع الـولاة

فقلنا أكرم الثـفـلـين طـرّاً

 

ومن كفّاه دجلة والـفـرات

فقالوا يقبل المدحـات لـكـن

 

جوائزه إلى الناس الـصّـلاة

فقلت لهم: وما تغني صلاتـي

 

عيالي ! إنّما الشأن الـزكـاة

فأمّـا إذ أبـى إلاّ صـلاتـي

 

وعاقتني الهموم الشاغـلات

فيأمر لي بكسر الصاد منهـا

 

لعليّ أن تنشّطني الصّـلات

فيصلح لي على هذي حياتـي

 

ويصلح لي على هذي الممات

فأمر له بمائة دينار.

وقيل له: من أين اهتديت إلى هذا ؟ قال: من قول أبي تمام:

هنّ الحمام فإن كسرت عيافةً

 

من حائهنّ فإنّهـن حـمـام

برمكي بخيل

وكان محمد بن يحيى البرمكي يبخل، ولم يكن بخيلاً إلا بالإضافة إلى أخويه الفضل وجعفر؛ وكان أبو الحارث حمير يكثر وصفه بذلك، فقيل له يوماً: كيف مائدة محمد ؟ فقال: أما خوانه فعدسة، وأما صحافه فمنقورة من خشب الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف فترة. قيل: فمن يحضرها ؟ قال: أكرم الخلق وألأمهم يريد الملائكة عليهم السلام والذباب. وقد ذكر غير هذا والحكايات تختلف.
وقيل له: كيف كنت عنده ؟ قال: عليه الطلاق إن لم يكن أقام ثلاثة أيام وبطنه يظن أن رأسه قطع؛ لأنه لم يدخل إليه آثار طعام ولا شراب.

من مستجاد ما قيل في البخل

ومن مستجاد ما قيل في البخل مما جمع إلى الخلاعة براعة قول أبي نواس في إسماعيل بن نيبخت:

على خبز إسماعيل واقية البـخـل

 

فقد حلّ في دار الأمان من الأكـل

وما خبزه إلا كآوى يرى ابـنـهـا

 

ولسنا نراها في الحزون ولا السّهل

وما خبزه إلاّ كالعنقـاء مـغـرب

 

تصوّر في بسط الملوك وفي المثل

يحدّث عنها الناس من غـير رؤيةٍ

 

سوى صورة ما إن تمر ولا تجلي

وما خبـزه إلا كـلـيب بـن وائل

 

لبالي يحمي عزّه منبت الـبـقـل

وإذ هو لا يستبّ خصمان عـنـده

 

ولا الصوت مرفوع بجدٍّ ولا هزل

فإن خبز إسماعيل حلّ بـه الـذي

 

أصاب كليباً لم يكن ذاك عـن ذلّ

ولكن قضاءٌ ليس يسـطـاع ردّه

 

بحيلة ذي دهي ولا مكر ذي عقل

       

قال الجاحظ: وأبيات أبي نواس على أنه مولد شاطر أشعر من شعر المهلهل في إطراق المجلس بكليب أخيه إذ يقول:

نبّئت أنّ النار بـعـدك أوقـدت

 

واستبّ بعدك يا كليب المجلـس

وتحدّثوا في أمر كلّ عـظـيمةٍ

 

لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا

وكان كليب إذا جلس في ناديه لم يرفع أحد طرفه، ولا ينطق بكلمة إجلالاً له.
وقال أبو نواس:

رأيت قدور الناس سوداً من الصّلى

 

وقدر الرقاشيّين زهراء كالـبـدر

يضيق بحيزوم البعوضة صدرهـا

 

ويخرج ما فيها على طرف الظفر

يبيّنها للمعـتـفـي بـفـنـائهـم

 

ثلاثٌ كخطّ الثاء من نقط الحبـر

إذا ما تنادوا للرحيل سعـى بـهـا

 

أمامهم الحوليّ مـن ولـد الـذّرّ

وهذا القدر ضد قدر القائل:

وبوّأت قدري موضعاً فوضعتها

 

برابيةٍ ما بـين مـيثٍ وأجـرع

جعلت لها هضب الرّجام وطخفةً

 

وغولاً أثافيّ دونها لم تـنـزّع

بقدرٍ كأنّ الليل شحنة قعـرهـا

 

ترى الفيل فيها طافياً لم يقطّـع

ويجب أن يأكل ما في هذا القدر من ذكر الفرزدق في قوله:

لعمرك ما الأرزاق حين اكتيالها

 

بأكثر خيراً من خوان العذافـر

ولو ضافه الدّجّال يلتمس القرى

 

وحلّ على خبّازه بالعسـاكـر

بعدّة يأجوج ومأجوج كـلّـهـم

 

لأشبعهم يوماً غداء عـذافـر

طرف مليحة

ودخل رجل على المتوكل فقال له: ما اسمك ؟ قال: قطان. قال: وما صناعتك ؟ قال: حمدان. قال: لعل اسمك حمدان وصناعتك قطان ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكني دهشت لهيبتك.
وقال رجل لآخر معه كلب: ما اسمك ؟ قال: وثاب. قال: وما اسم كلبك ؟ قال: عروة، قال: واخلافاه ! وقال ابن قادم: كنا نماشي ابن المغتاب القاضي، فمررنا بمقبرة، فإذا عليها مكتوب: بركة من الله صاحبها. وكنا في إملاك فإذا على منارة مكتوب: كل نفس ذائقة الموت. فقلت: هذه بتلك.
وممن وقع له هذا على الغلط فأحسن الاستدراك مطيع بن إياس الحارثي، فإنه دخل على الهادي في حياة المهدي وهو ولي عهد، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقيل له: مه ! فقال: بعد أمير المؤمنين.

يتعمدان المقلوب

وأما أبو العبر ومحمد بن حكيم الكنتجي فقد كانا يتعمدان المقلوب رقاعةً ومجانةً، وأبو العبر هو الذي كتب لبعض أصحابه: أما قبل فأحكم بنيانك على الرمل، واحبس الماء في الهواء، حتى يغرق الناس من العطش؛ فإنك إذا فعلت ذلك أمرت لك كل يوم بسبعة آلاف درهم ينقص كل درهم سبعة دوانيق.
وكتب يوم إلا تسعاً لخمس وأربعين ليلةً خلت من شهر ربيع الأوسط سنة عشرين إلا مائتين. وله مثل هذا كثير من منظوم ومنثور. وهو القائل:

الخوخ يعشق وكنة الرّمّـان

 

والطيلسان قرابة الخـفّـان

يا من رمى قلبي فعرقب أذنه

 

فشممت منه حموضة الكتّان

وقال أبو العبر: كنا نختلف ونحن أحداث إلى رجل يعلمنا الهزل، فكان يقول: أول ما تريدون قلب الأشياء، فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيت ؟ وإذا أمسى: كيف أصبحت ؟ وإذا قال: تعال نتأخر إلى خلف؛ وكانت له أرزاق تعمل كتابتها في كل سنة، فعمل مرة وأن معه الكتاب، فلما فرغ من التوقيع وبقي الختم. قال: أتربه وجئني به، فمضيت فصببت عليه الماء فبطل، فقال: ويحك ! ما صنعت ؟ قلت: ما نحن فيه طول النهار من قلب الأشياء ! قال: والله لا تصحبني بعد اليوم فأنت أستاذ الأستاذين.

وكان نقش خاتم أبي العبر توفي جحا يوم الأربعاء.

وتعرض للمتوكل والمتوكل مشرف على مظهر في قصره الجعفري وقد جعل في رجليه قلنسوتين وعلى رأسه خفاًن وقد جعل سراويله قميصاً، وقميصه سراويل، فقال: علي بهذا المثلة؛ فدخل عليه فقال: أنت شارب ؟ قال: ما أنا إلا عنفقة. قال: إني أضع الأدهم في رجليك وأنفيك في فارس، قال: ضع في رجلي الأشهب وانفني إلى راجل ! قال: أتراني في قتلك مأثوم؟ قال: بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك ووصله. وأبو العبر القائل في الجد:

ليس لي مال ولـي كـرمٌ

 

فبه أقوى على عـدمـي

لا أقول اللّه يظلـمـنـي

 

كيف أشكو غير متّـهـم

قنعت نفسي بما رزقـت

 

وتمشّت في العلا هممي

ولبست الصبـر سـابـغةً

 

فهي من فرقي إلى قدمي

فإذا ما الدهر عاتـبـنـي

 

لم تجدني كافر الـنـعـم

وله في الرقيق:

رقّ حتى يكـاد خـدّك يجـري

 

رقةً والجفون ترنو بـسـحـر

يا قليل الشبه مستظرف الشـك

 

ل بديع الجمال مغرىً بهجـر

كفّ عني الصدود يا واحد الحس

 

ن فقد عيل من صدودك صبري

وله أيضاً:

أبكي إذا غضبت حـتـى إذا رضـيت

 

بكيت عند الرضا خوفاً من الغضـب

فالموت إن رضيت والموت إن غضبت

 

أنّى يرجّى سلوٌّ، عشت فـي تـعـب

وهذا قريب من قول فضل الشاعرة، وقيل سعيد بن حميد:

ما كنت أيام كنت راضـيةً

 

عني بذاك الرضا بمغتبط

علماً بأنّ الرضا سيتبـعـه

 

منك التجنّي وكثرة السّخط

فكلّ ما ساءني فعن خلـقٍ

 

منك وما سرّني فعن غلط

هذا البيت الأخير كقول أبي العيناء، وقد سأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان البريد وكان يبغضه فقال: يد تسرق، مثله مثل يهودي سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى، وإحجام بما بقي، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف.

أبو محجن الثقفي وطرف من أدبه

ولما مات أبو محجن الثقفي وقف رجل على قبره، فقال: رحمك الله أبا محجن ! فوالله لقد كنت قليل المراء، جيد الغناء، غير نعاس، ولا عباس، ولا حابس للكاس.

واسم أبي محجن عروة بن حبيب، وكان فارساً شاعراً، وكان مشتهراً بالشراب كثيراً يقول فيه؛ فحده عمر رضي الله عنه مرات، ثم أخرجه إلى العراق، فشرب، فحده سعد بن أبي وقاص وسجنه في قصر العذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، وأقام المسلمون في حرب القادسية أياماً، فوجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا من فيه، فاحتال أبو محجن حتى ركب فرس سعد من غير علمه فخر فأوقع بهم؛ فرآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلى سبيله. وقال: لا أضربك بعدها في الشرب، قال: فإني لا أذوقها أبداً.
ودخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له: أبوك الذي يقول ؟

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كـرمةٍ

 

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفننّي في الفـلاة فـإنـنـي

 

أخاف إذا ما مـتّ ألاّ أذوقـهـا

فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو شئت لذكرت من شعره ما هو أحسن من هذا وأنشد:

لا تسألي القوم عن مالي وكثـرتـه

 

وسائلي القوم عن بأسي وعن خلقي

القوم أعلم أنـي مـن سـراتـهـم

 

إذا تطيش يد الرّعـديدة الـفـرق

أُعطى السنان غداة الروع حصّتـه

 

وعامل الرمح أرويه من العـلـق

وأطعن الطعنة النّجلاء عن عرضٍ

 

وأكتم السرّ فيه ضربة الـعـنـق

فقال: لئن كنا أسأنا المقال، لا نسيء الفعال؛ وأمر له بصلة.

الحجاج يضحك في جنازة رجل من أهل الشام

وقال ابن عائشة: مات رجل من أهل الشام، فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم القدر، وله عز وجاه؛ فصلى عليه وجلس على شفير قبره، وقال: لينزل قبره بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي التراب عليه : رحمك الله يا أبا فلان؛ فإن كنت ما علمت لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، ولقد وقعت بموضع سوء لا تخرج منه إلا يوم الدكة.

قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، وكان لا يضحك في جد ولا في هزل، ثم قال للرجل: هذا موضع هذا الأمر. ويلك ؟ قال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس في سبيل الله لو سمعه الأمير يتغنى:

يا لبينى أوقدي الـنـارا

 

إنّ من تهوين قد جارا

ربّ نارٍ بتّ أرمقـهـا

 

تقضم الهنديّ والغـارا

عندها ظبيٌ يؤججـهـا

 

عاقدٌ في الخصر زنّارا

وكان الميت يسمى سعنة. فقال: أخرجوه من القبر يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم ! وكان الميت أقبح خلق الله وجهاً، فلم يبق أحد ممن حضر إلا استغرق ضحكاً.

أهل الشام

وأهل الشام غاية في الجهل والغباوة. ودخل رجل من أهل العراق الشام في أيام عبد الملك في حوائج له، فحجب عنه، فدخل في غمار الناس، فقال عبد الملك لجلسائه: ما معنى قول الشاعر:

إذا ما المواشط باكـرنـهـا

 

وأتبعن بالظّفر وحفاً طويلا

تخذن القرون فعقّـلـنـهـا

 

كعقل العسيف غرابيب ميلا

يصف شعر امرأة، والوحف: البشام، والعسيف: الأجير، والغرابيب الشديدة السواد؛ يريد عناقيد الكرم. وروي عراجين ميلاً فسكتوا عن آخرهم.

فقال العراقي لرجل من أهل الشام له بزة وهيئة: أرأيتك إن أخبرتك بمعناه وحصل لك الحظ عند أمير المؤمنين أتقربني منه حتى أسأله حاجتي ؟ قال: لك ذلك. قال: إنما يصف البطيخ، فوثب الشامي، وقال ذلك، فافتضح وانقلب المجلس ضحكاً. فقال له عبد الملك: من أين لك هذا العلم ؟ قال: هذا العراقي ابن اللخناء قال لي ذلك. فقال عبد الملك: ما أدخلك ؟ أذكر حاجتك ؟ فذكرها فقضاها له وقال: أخرج من الشام لا تفسدها علي بمجاورتك.

مما جمع التصرف في الإحسان

ومما جمع التصرف في الإحسان وبديع الافتنان، قول مسلم بن الوليد الأنصاري:

أجدّك ما تدرين أن ربّ لـيلةٍ

 

كأنّ دجاها من قرونك ينشر

نصبت لها حتى تجلّت بغـرّةٍ

 

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر

يريد يحيى بن خالد بن برمك وجعفراً ابنه. وقال ابن المعتز:

سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعـرهـا

 

شبيهة خدّيهـا بـغـير رقـيب

فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى

 

وشمسين من خمرٍ وخدّ حبـيب

وقال أبو الطيب:

نشرت ثلاث ذوائبٍ من شعرها

 

في ليلةٍ فأرت ليالي أربـعـا

واستقبلت قمر السماء بوجههـا

 

فأرتني القمرين في وقتٍ معا

من أعجب ما قيل في وصف الشعر

ومن أعجب ما قيل في وصف الشعر ما جمع فيه وصف سواده وتمامه، وأتى بالتشبيه الواقع، والوصف الرائع؛ قول أبي الحسن علي بن العباس الرومي:

وفاحـمٍ وارد يقـبّـل مـم

 

شاه إذا اختال مسبلاً غـدره

أقبل كاللّيل من مـفـارقـه

 

منحدراً لا يذمّ مـنـحـدره

حتى تناهى إلى مـواطـئه

 

يلثم من كلّ موطىءٍ عفره

كأنّه عاشقٌ دنـا شـغـفـاً

 

حتّى قضى من حبيبه وطره

يغشى غواشي قرونه قدمـاً

 

بيضاء للناظرين مقـتـدره

مثل الثرّيا إذا بدت سـحـراً

 

بعد غمامٍ وحاسرٍ حـسـره

وقد أخذه منه بعض أهل العصر وهو محمد بن مطران فقاربه في الإحسان:

ظباءٌ أعارتها المها حسن مشـيهـا

 

كما قد أعارتها العيون الـجـآذر

فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبّلت

 

مواطىء من أقدامهنّ الضـفـائر

بنو أمية وأهل العراق

وكان بنو أمية يكرهون أهل العراق لفطنتهم ورقتهم؛ إذ سياسة الأغبياء أسهل عليهم؛ فقد قال الإسكندر لأرسطا طاليس: قد أعياني أهل العراق، ما أجري عليهم حيلةً إلا وجدتهم قد سبقوني إلى الخلاص، فتخلصوا قبل إيقاعها بهم؛ وقد عزمت على قتلهم عن آخرهم. فقال: إذا قتلتهم فهل تقدر على قتل الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء ؟ فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم. فقال: ما الرأي ؟ قال: من كان فيه هذا العقل كانت فيه أنفة وحمية وشراسة خلق، وقلة رضاً بالضيم؛ فاقسمها طوائف، وول على كل طائفة أميراً، فإنهم يختلفون، فإذا اختلفوا فلت شوكتهم فغفلوا. فأقاموا مختلفين أربعمائة عام حتى جمعهم أردشير بن بابك وقال: إن كلمةً فرقت بيننا أربعمائة سنة لمشؤومة.

إياس بن معاوية أمام القاضي

ودخل إياس بن معاوية بن قرة الشام وهو صغير؛ فخاصم شيخاً إلى القاضي وأقبل يصول عليه، فقال القاضي: اسكت يا صبي. فقال: فمن ينطق بحجتي ؟ قال: إنه شيخ كبير، قال: إن الحق أكبر منه. قال القاضي: ما أراك تقول حقاً؛ فقال: لا إله إلا الله. فركب القاضي من وقته إلى عبد الملك فأخبره فقال: عجل بقضاء حاجته وأخرجه من الشام لئلا يفسدها.

وبإياس يضرب المثل في الذكاء قال الطائي:

إقدام عمروٍ في سماحة حاتـمٍ

 

في حلم أحنفي في ذكاء إياس

أحزم الملوك

خرج بعض ملوك الفرس متنزهاً، فلقيه بعض الحكماء فسأله عن أحزم الملوك ؟ فقال: من ملك جده وهزله، وقهر لبه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال له: أيها الملك؛ قد أجدت الفطنة، أهذا لك علم مستفاد أم غريزي ؟ قال: كان لي معلم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمه. قال: فهل علمك غير هذا ؟ قال: ومن أين يوجد هذا عند رجل واحد. ثم قال الملك: علمني من حكمتك أيها الحكيم. قال: نعم ! احفظ عني ثلاث كلمات؛ قال: صدقت، فهات، قال: صقلك لسيف ليس له جوهر من طبعه خطأ، وبذرك الحب في الأرض السبخة ترجو نباته جهل، وحملك الصعب السير على الرياضة عناء. ومن هنا أخذ أبو تمام قوله:

في دولة غرّاء معتصمـيّة

 

ميمونة الإدبار والإقـبـال

فتعمّق الوزراء يطفو فوقها

 

طفو القذى وتعقّب العـذّال

والسيف ما لم يلف فيه صقلٌ

 

من طبعه لم ينتفع بصقـال

من نوادر الملوك والعمال والقضاة

وكان القلهمان أحد حكماء الهند وفيلسوف أطبائهم وترجمان علومهم، وكان ترجمان ملك من ملوكهم يقال له ياكهثر بن شبرام، وكان ركيكاً إلا أنه من أهل بيت المملكة، فقال يوماً للقلهمان: ما العلم الأكبر؟ قال: معرفة الطب. قال: فإني أعلم من الطب أكثره. قال: فما دواء المبرسم أيها الملك ؟ قال: الموت حتى تقل حرارة صدره ثم يعالج بعد بالأدوية الباردة. قال القلهمان: أيها الملك، من يحييه بعد الموت ؟ قال: ليس هذا من الطب. هذا علم آخر يوجد في كتاب النجوم. ولم أنظر في شيء منه إلا في باب الحياة، فإني وجدتها خيراً للإنسان من الموت. قال القلهمان: أيها الملك، على كل حال خير للجاهل. قال: لو نظر الجاهل في باب الموت لعلم أني قلت الحق.

وسألت أبو عون رجلاً عن مسألة فقال: على الخبير سقطت، سألت عنها أبي فقال: سألت أبي فقال: لا أدري.

قال أزهر: استعدت امرأة على زوجها عند ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك وهو قاض فادعت مهرها ألف درهم، فقال: ألك بينة ؟ قالت: لا، قال: أفأحلفه لك ؟ قالت: إنه فاجر يحلف؛ ولكن ابعث إلى إسحاق بن سويد الفقيه فسله أن يحلف لي عنه. قال فأرسل إلى إسحاق بن سويد فلما حضر. قال له: احلف لهذه المرأة ما لها على زوجها ألف درهم ؟ قال إسحاق: ما أنا وهذا ! قال: فيبطل حق هذه المرأة ؟ لتحلفن لها أو لأحبسنك، فلم يحلف فحبسه. فأتاه ابن سيرين فقال: لا ألومك على حبسك إسحاق، ولكن لم وليت القضاء ؟ قال: أكرهني عليه السلطان. قال: كنت تعلمه أنك لا تحسنه. قال: كنت أنا أكذب ؟ وكان نصر بن مقبل بن الوزير على الرقة عاملاً لهارون الرشيد، فأخذ بعض أصحابه رجلاً ينكح شاة، وأجمعوا الذهاب به إلى نصر، وكان الرجل ظريفاً فقال: يا قوم؛ إنها والله ملك يميني. فضحوا منه وخلوا سبيله، وذهبوا بالشاة إلى نصر؛ فأمر أن تضرب الحد، فإن ماتت تصلب، قالوا: إنها بهيمة ؟ قال: وإن كانت بهيمة؛ فإن الحدود لا تعطل، وإن عطلتها فبئس الوالي أنا.

فانتهى حديثه إلى الرشيد ولم يكن رآه، وكان نبيل القد، حسن المنظر، جليل القدر؛ فدعا به فوقف بين يديه، فقال: من أنت ؟ قال: مولى لبني الكلب يا أمير المؤمنين، فضحك. ثم قال: كيف بصرك في الحكم ؟ قال: البهائم يا أمير المؤمنين والناس عندي سواء، ولو وجب الحكم على بهيمة وكانت أمي أم أختي لحددتها، ولم تأخذني في الله لومة لائم. فأمر هارون ألا يستعمل، فلم يزل معطلاً حتى ولي المأمون، فرفع يسأله الاستعانة به، فولاه طبرناباذ، وأمره أن يكون على العصير بها، فلم يزل على ذلك حتى مات.
وكان مقاتل بن حسان على قضاء البصرة، فسأله رجل عن مسألة. فقال: لا أعرف الجواب، فقال: أنت قاض ولا تحسن المسألة ؟ قال: نعم ! لأن الثور أعظم من الحمار ولا يحسن أن يركض ركض الحمار. قال: أيها القاضي؛ فهذا مثلك ؟ قال: بل هذا مثلي ومثلك. قال: فأيهما أنت ؟ قال: أنبلهما وأعظمهما يعني الثور.

حسن مظهر وسوء مخبر

قال أبو الهذيل العلاف: كان يختلف إلي فتىً من أهل الموصل حسن السمت، نير الوجه، تقي الثياب؛ فكان يصمت في المجلس، وإذا أتاه النهوض قال: أستغفر الله لي وللمتكلم، ثم يمضي. قال: فنبل في عيني، ولاط بقلبي، وحلا في صدري؛ فذكرت قول الحكيم في كتاب جاودان خرد: يحرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث هن غير الحق؛ صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبت كنة.

فقال الفتى: لولا حفظي لنظير هذه الكلمات وسماعهن من ثقة ! فاشرأببنا إليه وقلنا: ماذا ذاك ؟ يرحمك الله ! وظننا أنه سيأتي بأحسن منهن. فقال: حدثني أبي عن جدي أنه قرأ في بعض كتب الحكماء: ليس الجائع كالشبعان، ولا المكسي كالعريان، ولا النائم كاليقظان.

فطأطأت رأسي، وجعل أصحابي ينظرون إلي وإليه، وكرهت أن أسأله عن شيء بعد هذا. فقال له بعضهم: من أنت يا فتى ؟ قال: من فوق الأرض ومن تحت السماء. قال: فمن العرب أم من الموالي ؟ قال: من أوسطهما، قال: فما الاسم ؟ قال: لجام، قال: فما الكنية ؟ قال أبو السراج، قال: فما بالك لا تنهض ؟ فوالله ما أنت إلا حمار، فوثب قائماً. وقال: ليس البحث منكم، ولكن مني حيث أجلس إلى أمثالكم ولا تعرفون ما طحاها.

من كتب الفرس

وكتاب جاودان خرد من أجل كتب الفرس، وكان سببه على ما ذكر الجاحظ أن بعض الأكاسرة كان زاهداً في كتب الأدب، راغباً في التكبر عن النظر فيهما، والتعظم عن الاشتغال بشيء منها، وكان له وزير يقال له كنجور بن أسفنديار، فصنع ترجمة لكتاب لم يعلمها أحد، وجعلها في ورقة، وألقاها إلى الملك وكانت الترجمة: هذا كتاب تصفية الأذهان، ونقاء الفكر، وسراج القلوب، من كتاب واضح عمود الحكمة.
فلما نظر الملك إلى هذه الترجمة شغفه حسنها، فقال لكنجور: لقد غلبت هذه الترجمة على هواي، وقادت عزمي، وبعثت رأيي على هذا الكتاب؛ فسل عنه سؤالاً حفياً يرجع بجلية الخبر، وابعث الحكماء الأدلاء، على تفتيش منازل الحكماء، فإن وجدته في شيء من مملكتي، كنت أولى الناس باصطناع صاحبه، وإن وصف أنه في شيء من أقاليم الهند، كتبت إلى ملك ذلك الإقليم، وسألته المن علي بدفع نسخة منه، وكافأته بهدية مكافأة مثلي على وجود طلبته.

فقال كنجور: أيها الملك، لست أفزع باستفراغ مجهودي والله المعين. وصار إلى منزله ولم يخرج منه حتى صنع كتابه المعروف بجاودان خرد.

قال الجاحظ: حدثني الواقدي قال: قال الفضل بن سهل: لما دعي للمأمون بكور خراسان بالخلافة جاءتنا هدايا الملوك سروراً بمكانه من الخلافة، ووجه ملك كابلستان شيخاً يقال له ذوبان، وكتب يذكر أنه وجه بهدية ليس في الأرض أسنى ولا أرفع ولا أنبل ولا أفخر منها. فعجب المأمون وقال: سل الشيخ ما معه من الهدية ؟ فقال: ما معي شيء أكثر من علمي، فقلت: وأي شيء علمك ؟ قال: رأي ينفع، وتدبير يقطع، وجلالة تجمع. فسر المأمون به وأمر بإنزاله وإكرامه وكتمان أمره؛ فلما أجمع على التوجه إلى العراق لقتال محمد الأمين أخيه دعا بذوبان، فقال: ما ترى في التوجه إلى العراق ؟ قال: رأي دقيق، وحزم مصيب، وملك حريب، والسبب ماض، فاقض ما أنت قاض. قال: فمن نوجه ؟ قال: الفتى الأعور، الطاهر الأطهر، الظاهر الأظهر، يستر ولا يفتر؛ قوي مرهوب، مقاتل غير مغلوب.

قال: فمن نوجه معه من الجند ؟ قال: أربعة آلاف، صوارم الأسياف، لا ينقصن في العدد، ولا يحتجن إلى مدد. قال: فما رأيت المأمون سر كسروره ذلك اليوم.

فوجه بطاهر؛ فلما تهيأ له الخروج سأل ذوبان: في أي وقت يخرج من النهار ؟ قال: مع طلوع الفجر يجمع لك الأمر، وتصير إلى النصر.

فخرج في ذلك الوقت، فلما كتب بذكر مقدمه الري دعا المأمون بذوبان فقال: قد قرب صاحبنا من العدو وقربوا منه، فما عندك دلالة أبو بينة تكون لنا أو علينا ؟ قال: قد تعرفت شانه، إذ أتى فسطاطه، كان نصر سريع، وقتل ذريع، وتفرقت تلك الجموع، والنصر له لا عليه، ثم يرجع الأمر إليك وإليه. فكتب المأمون بذلك إلى طاهر ليقوي عزمه، فلما كتب بقتله علي بن عيسى ابن ماهان واستيلائه على عسكره وأمواله، وخبر ما أولى الله المأمون في أوليائه؛ من النصر والظفر بأعدائه، دعا ذوبان وأمر له بمائة ألف درهم فلم يقبلها. وقال: أيها الملك؛ إن ملكي لم يوجهني إليك هدية لينقصك مالك؛ فلا تجعل ردي نعمتك سخطاً؛ فليس عن استخفافٍ بقدرها؛ وسوف أقبل ما يفي بهذا المال ويزيد، وهو كتاب يوجد في العراق فيه مكارم الأخلاق، وعلوم الآفاق، وهو كتاب عظيم للفرس، فيه شفاء النفس، به من صنوف الآداب، ما لا يوجد في كتاب، عند عاقل لبيب، ولا فطن أريب، يوجد في خزائن، عند الإيوان بالمدائن.
فلما قدم المأمون بغداد، واستقر بها ملكه اقتضاه ذوبان حاجته، وأمر أن تكتب القصة والموضع الذي يشير إليه، فكتب: سر إلى وسط الإيوان، من غير زيادة ولا نقصان، واجعل القسمة بالذرعان، ثم احفر المدر، فاقلع الحجر؛ فإذا وصلت إلى الساجة، فاقتلعها تجد الحاجة، فخذها ولا تعرض لغيرها، فيلزمك غب ضيرها.

فوجه المأمون في ذلك رسولاً حصيفاً، فسار إلى الموضع، ففعل ما قيل له؛ فوجد صندوقاً صغيراً من زجاج أسود عليه قفل منه، فحمله ورد الحفرة إلى حالها الأول.

قال عمرو بن بحر: فحدثني الحسن بن سهل قال: إني لعند المأمون إذ وصل ذلك الصندوق، فجعل يتعجب منه، ثم دعا بذوبان فقال له: هذه بغيتك ؟ قال: نعم ! أيها الملك، لست ممن تنقض رغبته ذمام عهده، ولا يحل طمعه عقدة وفائه، ثم تكلم بلسانه، ونفخ في القفل فانفتح، فأدخل يده وأخرج منه خرقة ديباج فنشرها فسقط منها أوراق، فرد الأوراق في الخرقة ونهض. ثم قال: أيها الملك، هذا الصندوق يصلح لرفيع خبيات خزائنك، فأمر به فرفع.

قال الحسن بن سهيل: فقلت: ترى يا أمير المؤمنين أن أسأله ما في هذا الكتاب ؟ قال: يا حسن، أفر من اللؤم ثم أرجع إليه ؟ أمرته ألا يفتحه بين يدي قطعاً للطمع فيه، وصمتةً بالمسألة عنه، وتحرياً للرغبة فيه، والله لا كان هذا أبداً.

فلما خرج صرت إلى منزله فسألته عنه مسألة راغب فيه، فقال: هذا كتاب جاودان خرد تأليف كنجور ملك سبراشهرا، فقلت: أعطني ورقةً منه أنظر فيها. فأعطاني فوقعت عليها عيني. وأسرجت لها ذهني، وأجلت فيها فكري؛ فلم أزدد منه إلا بعداً؛ فدعوت بالخضر بن علي، وذلك في صدر النهار، فلم ينتصف حتى فرغ من قراءتها بينه وبين نفسه؛ ثم جعل يفسرها وأنا أكتب، ثم رددت الورقة وأخذت منه نحو ثلاثين ورقة، فدخلت عليه يوماً فقلت: يا ذوبان؛ يكون في الدنيا من يحسن مثل هذا الكتاب ؟ قال: يجوز أن يكون فيها من يحسن ترجمة هذا الكتاب، ولا يجوز أن يكون فيها من يحسن مثل هذا الكتاب. قلت: فهل تعرف من يترجمه ؟ قال: نعم، وأصفه لك، هو طوال أنزع، إن تكلم تتعتع، يفوق أهل زمانه، بما يكون من شأنه، اسمه خضير، يقوم بأمر خطر، لو كان له عمر، ولولا أن العلم سبيل الدنيا والآخرة، وهو الكرامة الفاخرة، ومن معرفة قدره الضن به، لرأيت أن أدفعه إليك بتمامه، ولكن لا سبيل إلى أكثر مما أخذت.
ولم تكن الأوراق التي أخذتها على التأليف؛ لأنا أصبنا ورقة فيها علامات فيها الكنوز، وآخر الورقة مكتوب: دليل هذا الباب في الورقة التي تليها؛ ولم نجد غير هذا بتاً؛ غير أنا وجدنا أبواباً من الحكمة تشهد لها القلوب بحقيقة الصحة، وتحلف طيها الألسن بغاية النهاية.

هذا من كلام الحسن بن سهل كقول أبي تمام يصف شعره:

ومحلفةٍ لمّا ترد أُذن سامـعٍ

 

فتصدر إلاّ عن يمينٍ وشاهد

قال الجاحظ: وحدثني الحسن بن سهل قال: قال لي المأمون: أي كتب العرب أنبل ؟ قال قلت المبتدأ ؟ قال: لا. قلت: فالتاريخ ؟ قال: لا، فسكت، فقال: تفسير القرآن، لأنه لا شبه له، وتفسيره لا شبه له. ثم قال: أي كتب العجم أنبل ؟ فاستعرضتها فقلت: هذا كتاب ذوبان، وقد كتبت بعضه، فقال: إيتني به معجلاً. فوجهت في حمله، فوافاني الرسول وقد نهض يريد الصلاة. فقال: فلما رآني مقبلاً والكتاب معي انحرف عن القبلة، وأخذ الكتاب وجعل ينظر فيه، فإذا فرغ من باب قال: لا إله إلا الله، فلما طال ذلك عليه قعد وجعل يقرأ؛ فقلت: الصلاة تفوت وهذا لا يفوت. قال: صدقت غير أني أخاف السهو في الصلاة لاشتغال قلبي بلذيذ ما في هذا الكتاب، وما أجد للسهو حائلاً غير ذكر الموت فجعل يقرأ: "إنك ميت وإنهم ميتون". ثم وضع الكتاب. وقام فكبر؛ فلما فرغ من صلاته نظر فيه حتى أتى على آخره. ثم قال: أين تمامه ؟ قلت: عند ذوبان لم يدفعه إلي. فقال: لولا أن العهد حبل أحد طرفيه بيد الله والآخر بأيدينا لأخذته منه، فهذا والله الكلام، لا ما نحن فيه من لي ألسنتنا في فجوات أشداقنا.

من الحكم

قال الحسن بن سهل: قرأت في هذا الكتاب: ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة في العلماء، والقنوع في المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاث لا يشبع منهن: الحياة، والعافية، والمال. وثلاث تبطل مع ثلاث: الشدة مع الحيلة، والعجلة مع التأني، والإسراف مع القصد.
وهذا كما قال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجراً مكتوباً عليه بالحميرية: يأيها الشديد؛ احذر الحيلة، ويأيها العجول؛ احذر التأني، ويأيها المحارب؛ لا تأمن من التفكر في العاقبة، ويأيها الرائد موجوداً لا تقطع أملك عن بلوغ مثله.

أما قوله للمحارب، فقد قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من فكر في العواقب لم يشجع.

شجاعة وحسن بلاء

وقال سعد بن ناشب الغنوي:

عليكم بداري فاهدموها فإنّـهـا

 

تراث كريم لا يخاف العواقـبـا

إذا همّ ألقى بين عينـيه هـمّـه

 

ونكّب عن ذكر العواقب جانبـا

ولم يستشر في رأيه غير نفسـه

 

ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا

وقد قال معاوية رضي الله عنه: هممت مرات كثيرةً بصفين أن أخيس فلم يردني إلا أبيات ابن الإطنابة:

أبت لي عفّتي وأبـى بـلائي

 

وأخذي المجد بالثمن الربـيح

وقولي كلّما جشأت وجاشـت

 

مكانك تحمدي أو تستريحـي

وإقدامي على المكروه نفسي

 

وضربي هامة البطل المشيح

لأدفع من مآثر صالـحـاتٍ

 

وأمنع بعد عن نسبٍ صريح

وابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك بن الأغر الخزرجي، وهو فارس مشهور معروف، والإطنابة أمه.
وقد أحسن قطري بن الفجاءة في هذا المعنى حيث قال:

وقولي كلّما جاشت لنفـسـي

 

من الأعداء ويحك لا تراعي

فإنك لو سـألـت مـزيد يومٍ

 

أبى الأجل المقدّر أن تطاعي

وقال بعض الغزاة: فتحنا حصناً من بلاد الروم، فرأينا فيه صورة أسد من حجر عليه مكتوب: الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل، والتفكر في العاقبة من أمارة الجزع.

ووجه ملك الروم إلى الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، على سيف منها مكتوب: أيها المقاتل؛ احمل تغنم، ولا تفكر في العاقبة تهزم. وعلى الثاني: التأني فيما لا تخاف عليه الفوت، أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل. وعلى الآخر: إن لم تصل ضربة سيفك، فصلها بإلقاء خوفك.

وهذا كقول كعب بن مالك الأنصاري:

نصل السيوف إذا قصرن بخطونا

 

قدماً ونحلقها إذا لم تـلـحـق

وكقول نهشل بن حري:

إذا الكماة تأبّوا أن ينالـهـم

 

حدّ السيوف وصلناها بأيدينا

وأعطى بعض الأمراء سيفاً لرجل فقال له: صله بخطواتك. فقال له: الصبر أقرب من تلك الخطوة.
وأعطى آخر لرجل سيفاً فسأله بدله، وقال: هو غير ماض. قال: خذه، فالسيوف مأمورة، قال: فهذا أمر ألا يقطع. وانهزم رجل، فدخل على أميره فشتمه وقال: أعطيت بيدك وهربت، ولم توغل ولا صبرت ! فقال: لئن تشتمني أصلحك الله وأنا حي خير من أن تترحم علي وأنا ميت.

وقيل لأعرابي: اخرج إلى الغزو ! فقال: أنا والله أكره الموت على فراشي، فكيف أمشي إليه ركضاً ؟!.
أخذ هذا المعنى أحمد بن أبي فنن فقال مستطرداً يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي والاستطراد أن يريك الفارس أنه ولى، وإنما ولى لتتبعه فيكر عليك كذلك الشاعر يريك أنه يصف شيئاً، ثم يعن له معنىً فيأتي به، وكأنه ليس من قصده ولم يقصد غيره:

ما لي وما لك قد كلّفتني شططـاً

 

حمل السلاح وقول الدارعين قف

أمن رجال المنايا خلتنـي رجـلاً

 

أُمسي وأُصبح مشتاقاً إلى التلـف

أرى المنايا على غيري فأكرههـا

 

فكيف أمشي إليها بارز الكتف ؟

أخلت أنّ سواد اللـيل غـيّرنـي

 

أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف ؟

لأنه كان شديد السواد.

ولما دخل على المعتز قال: هذا الشاعر الأسود ؟ قال: لا يضره سواده، أعزكم الله تعالى؛ فإن بيض أباديكم عنده.

وقال المنصور لبعض الخوارج وقد أتي به أسيرا : أخبرني أي أصحابي كان أشد إقداماً في مبارزتكم ؟ فقال: ما أعرف وجوههم مقبلين، وإنما أعرف أقفاءهم؛ فمرهم أن يدبروا لأعرفك أشدهم إدباراً.
أخذه ابن الرومي فقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد خرج في بعض الوجوه فهزم:

قرن سليمان قد أضـرّ بـه

 

شوقٌ إلى وجهه سيدنـفـه

أعرض عن قرنه وفرّ فمـا

 

أصبح شيءٌ عليه يعطفـه

كم يعد القرن باللقـاء وكـم

 

يكذب في وعده ويخلـفـه

لا يعرف القرن وجهه ويرى

 

قفاه من فرسخٍ فيعـرفـه

وله في هذا المعنى أهاج كثيرة فمن ظريفها:

سليمان ميمون النقـيبة حـازم

 

ولكنّه حتمٌ علـيه الـهـزائم

ألا عوّذوه من توالي فتـوحـه

 

عسى أن تردّ العين عنه التمائم

وقال:

جاء سليمان بني طـاهـر

 

فاجتاح معتزّ بني المعتصم

كأنّ بغداد لدن أبـصـرت

 

طلعته نـائحةٌ تـلـتـدم

مستقبل منه ومسـتـدبـر

 

وجه بخيلٌ وقفاً منـهـزم

من ملح أبي دلامة

وقال روح بن حاتم لأبي دلامة: اخرج معي وهذه عشرة آلاف درهم. فقال:

إني أعوذ بروحٍ أن يقـرّبـنـي

 

إلى الحمام فتشقى بي بنو أسـد

إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكـم

 

وما ورثت اختيار الموت من أحد

وكان أبو دلامة شاعراً فصيحاً، وماجناً مليحاً، واسمه زند بن الجون الأزدي.

ودخل على أبي جعفر المنصور فأنشده وذكر زوجته:

فاخرنطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ

 

أأنت تتلو كتاب اللّه يالـكـع ؟!

قم كي تبيع لنا نخلاً ومـزدرعـاً

 

كما لجارتنا نـخـلٌ ومـزدرع

خادع خليفتنا عنهـا بـمـسـألةٍ

 

إنّ الخليفة للـسـؤّال ينـخـدع

قال: قد أمرنا لك بمائة جريب عامر، ومائة جريب غامر. فقال: وما الغامر يا أمير المؤمنين ؟ قال: الذي لا ينبت، قال: فإني أقطعك عشرة آلاف جريب من فيافي بني أسد. فضحك وأمر له بالجميع عامراً، فقال: إئذن لي في تقبيل يدك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أما هذه فدعها، فقال: ما منعت عيالي شيئاً أسهل عليهم من هذه.

ودخل أبو دلامة يوماً على أبي جعفر المنصور فأنشده:

إنّي رأيتك في المـنـا

 

م وأنت تعطيني خياره

ممـلـوءةً بـدراهـم

 

وعليك تأويل العبـاره

فقال له المنصور: امض فأتني بخيارة أملؤها لك دراهم. فمضى فأتى بأعظم دباءة توجد. ما هذا ؟ قال: يلزمني الطلاق إن كنت رأيت إلا دباءة، ولكني نسيت، فلما رأيت الدباءة في السوق ذكرتها.
وهذا إنما أخذه من ابن عبدل الأسدي، وقد دخل على بعض بني مروان، فقال: تأذن لي أصلحك الله أن أقص عليك رؤيا رأيتها ؟ فقال: هات؛ فأنشد:

أغفيت قبل الصبح نوم مسهّدٍ

 

في ليلةٍ ما كنت قبل أنامها

فرأيت أنّك رعتني بولـيدةٍ

 

فتذانةٍ حسن عليّ قيامـهـا

وببدرةٍ حملت إلـيّ وبـغـلةٍ

 

دهماء ناجيةٍ يصلّ لجامـهـا

فدعوت ربي أن يثيبـك جـنّةً

 

عوضاً يصيبك بردها وسلامها

فقال: عندي كل شيء إلا البغلة فإنها عندنا شهباء. فقال: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهباء، ولكني غلطت.

ولابن عدل ظريفة مع بشر بن مروان: وذلك أنه كان متصلاً به، منقطعاً إليه، فأغفله، فغاب عنه أياماً ثم أتاه فقال: أين غبت، فقد طلبتك فلم أقدر عليك ؟ قال: خرجت أيها الأمير إلى البادية أطلب التزوج بابنة عم لي أيم فقالت: لي أموال متفرقة على الناس، وأنا امرأة لا قيم لي، فاقتضها لي وأنا أتزوجك؛ فاقتضيت لها جميع أموالها، فلما فرغت كتبت إلي:

سيخطئك الذي أمّلت مـنّـي

 

بقطع حبال وصلك من حبالي

كما أخطاك معروف ابن بشر

 

وكنت تعدّ ذلـك رأس مـال

فضحك وقال: ما أحسن ما تلطفت.

ودخل أبو دلامة يوماً على المنصور وبين أصبعيه خرقة، فقال له: ما هذا يا أبا دلامة ؟ فقال: ولدت لي الباحة صبية وقد قلت فيها:

فما ولدتك مريم أُمّ عسى

 

ولم يكفلك لقمان الحكيم

ولكن قد ولدت لأمّ سوءٍ

 

يقوم بأمرها بعلٌ لـئيم

فضحك المنصور وقال: ما تريد ؟ قال: ملء هذه الخرقة أستعين بها على تربيتها. فقال المنصور: أملأوها دراهم، ففتحوها فإذا هي رداء رقيق كبير، فملأوه؛ فأخذ عشرة آلاف درهم.

وكان المنصور بخيلاً، وإنما كان أبو دلامة يستنزله بالملح لشدة بخله، فقد كان يتجاوز الغاية في ذلك.

بخل المنصور

وكان المنصور قبل أن يلي الخلافة ينزل على أزهر السمان، فلما استخلف صار إليه أزهر. فقال: ما أقدمك ؟ قال: حاجة أمير المؤمنين؛ علي أربعة آلاف درهم، ولي دار متهدمة، وأريد البناء لابني محمد. فأمر له باثني عشر ألف درهم. وقال: يا أزهر؛ لا تأتنا طالب حاجة. قال: أفعل.
فلما كان بعد قليل عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك ؟ قال: جئت مسلماً على أمير المؤمنين، قال: إنه ليقع في نفسي أن ما أتيت إلا لما أتيت له في المرة الأولى، وأمر له باثني عشر ألف درهم. وقال: لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلماً. قال: نعم ! ثم ما لبث أن عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك؟ قال: دعاء كنت سمعت أمير المؤمنين يدعو به فجئت مستملياً لآخذه عن أمير المؤمنين. فقال: لا تكتبه فإن غير مستجاب، لأني دعوت الله به أن يرحني منك فلم يستجب لي. ثم صرفه ولم يعطه شيئاً.

ابن هرمة يمدح المنصور فيجيزه

ولما دخل عليه إبراهيم بن علي بن هرمة أنشده قصيدته التي يقول فيها:

له لحظاتٌ في حفافيّ سريره

 

إذا كرّها فيها عقابٌ ونـائل

فأمّ الذي أمّنت آمنة الـردى

 

وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل

فرفع الحجاب له، وأقبل عليه وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: يا إبراهيم: لا تتلفا طمعاً في مثلها، فما كل وقت تصل إلينا، ولا يصلك منا مثلها. فقال: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض بختم الجهبذ. فضحك. وقال: اذكر حوائجك ؟ فقال: تكتب لي إلى عامل المدينة ألا يحدني إذا أتي بي إليه وأنا سكران، فقال: هذا حد من حدود الله لا يمكن تعطيله. فقال: تحتال لي يا أمير المؤمنين، فكتب إلى عامر المدينة؛ من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاضربه الحد، واضرب الذي يأتيك به مائة. فتحاماه الشرط. فكانوا يمرون به مطروحاً في سكك المدينة فيقولون: من يشتري ثمانين بمائة ؟!

مدحة وعطاء

وقال المؤمل بن أميل: قدمت على المهدي وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه، فامتدحته فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب ذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم، وكتب إلى كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أن قد توجه إلى مدينة السلام. فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً، فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفحهم، فمرت القافلة التي فيها المؤمل، فقال له: من أنت ؟ قال: المؤمل بن أميل من زوار المهدي، قال: إياك أردت، قال المؤمل: فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض علي، وقال: سر، فسرت معه فسلمني إلى الربيع، فدخل الربيع على المنصور فقال له: هذا الشاعر قد ظفرنا به. قال: أدخلوه. قال: فدخلت عليه فسلمت فرد السلام. فقلت: ليس ههنا إلا الخير، فقال: أنت المؤمل بن أميل ؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أنا المؤمل، فقال: أتيت غلاماً غراً فجدعته فانخدع !! فقلت: بل أتيت كريماً فخدعته فانخدع، والكريم يخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:

هو الـمـهـديّ إلاّ أنّ فـيه

 

مشابه صورة القمر المنـير

تشابه ذا وذا فهـمـا إذا مـا

 

أنارا يشكلان على البصـير

فهذا في الضياء سراج عـدلٍ

 

وهذا في الظلام سراج نـور

ولكن فضّل الرحـمـن هـذا

 

على ذا بالمنابر والـسـرير

وبالملك العـزيز فـذا أمـيرٌ

 

وما ذا بالأمير ولا الـوزير

ونقص الشهر يخمد ذا، وهـذا

 

منيرٌ عند نقصان الشـهـور

فيابن خليفة اللّه المـصـفّـى

 

به تعلو مفاخرة الـفـخـور

لئن فتّ الملوك وقد تـوافـوا

 

إليك من السهولة والوعـور

لقد سبق الملوك أبوك حـتّـى

 

أتوا ما بين كابٍ أو حـسـير

وجئت وراءه تجري حثـيثـاً

 

وما بك حين تجري من فتور

فقال النـاس مـا هـذان إلاّ

 

كما بين الخليق من الجـدير

لئن فات الكبير مدى الصغـير

 

فذا فضل الكبير على الصغير

وإن بلغ الصغير مدى الكبـير

 

فقد خلق الصغير من الكبـير

فقال: والله لقد أحسنت، ولكن لا تساوي عشرين ألف درهم، فأين المال ؟ قلت: هوذا، قال: يا ربيع، انزل معه فأعطه عشرة آلاف درهم وخذ الباقي.

فلما صارت الخلافة إلى المهدي وولي ابن ثوبان المظالم، وكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ ثوبه رقاعاً دفعها إلى المهدي؛ فدفعت إليه رقعةً، فلما دخل بها ابن ثوبان وجعل المهدي ينظر في الرقاع حتى نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه الرقعة ؟ فقال: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا عليه العشرة آلاف، فردت.
أخذ قوله في القمر علي بن الجهم فقال:

رأيت الهلال على وجهـه

 

فلـم أدر أيّهـمـا أنـور

سوى أنّ ذاك بعيد المحـلّ

 

وهذا قريبٌ لمن ينـظـر

وذاك يغيب وذا حـاضـر

 

وما من يغيب كمن يحضر

وقال إبراهيم بن العباس:

وعابك أقوامٌ فـقـالـوا شـبـيهةً

 

لبدر الدجى حاشاك أن تشبهي البدرا

لئن شبّهوك الـبـدر لـيلة تـمّـه

 

لقد قارفوا الشّنعاء واقترفوا الوزرا

أيشبه بدرٌ آفلٌ نـصـف شـهـره

 

ضياءً منيراً يطلع الشهر والدهرا ؟

وإنما نقل المؤمل في موازنة المهدي بالمنصور قول زهير بن أبي سلمى: قال الربيع بن يونس الحاجب: كنا وقوفاً على رأس المنصور في يوم عيد وقد طرحت وسادةٌ بين يديه؛ فجلس المهدي عليها، والناس سماطان على مراتبهم، إذ أقبل صالح بن المنصور الملقب بالمسكين وهو حدث فوقف بين السماطين فسلم وأحسن ثم استأذن في الكلام فأذن له فتكلم. قال الربيع: فلم يبلغه ذلك اليوم خطيب؛ فمد المنصور يده فقال: إلي يا بني، فلما دنا منه اعتنقه وأقعده قدامه، ثم نظر في وجوه القوم هل منهم أحد يصف كلامه وما كان منه ! فكلهم هاب المهدي، فقال عقال بن شبة فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأبين بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأغمض عروقه، وأسهل طريقه ! وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:

هو الجواد فإن يلحق بشأوهما

 

على تكاليفه فمثله لـحـقـا

أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ

 

فبالذي قدّما من صالحٍ سبقـا

قال الربيع: فقال لي أبو عبد الله وكان إلى جانبي ما رأيت مثل عقال بن شبة قط؛ أرضى أمير المؤمنين، ومدح الغلام، وسلم من مذمة المهدي.

فقال المنصور للربيع: لا ينصرف التميمي إلا بثلاثين ألف درهم.

قال أبو بكر الصولي: وأبيات المؤمل حسان لا أعرف له خيراً منها، ولو قلت: إنه لا يعد شاعراً إلا بها ما أبعدت، وما كان يعرفها الناس، وإنما شهر بقصيدته التي أولها:

شفّ المؤمّل يوم الحيرة النظر

 

ليت المؤمّل لم يخلق له بصر

ويقال: إنه لما قال هذا عمي، فرأى في منامه إنساناً يقول له: هذا ما تمنيت في شعرك. ومن أحسن ما قاله المؤمل قوله:

أبهار قد هيجت لي أوجاعـاً

 

وتركتني صبّاً بكم مطواعـا

بحديثك الحسن الذي لو حدّثت

 

وحش الفلاة به لجئن سراعا

واللّه لو علم البهار بأنـهـا

 

أضحت سميّته لطال ذراعا

أبو دلامة والمنصور

وكان المنصور قد أخذ الناس بلباس قلانس طوال، وأن يكتبوا في ظهور ثيابهم: "فسيكفيكهم اللّه وهو السميع العليم"، وأن يطيلوا حمائل سيوفهم. فدخل أبو دلامة عليه في ذلك الزي، فقال: كيف حالك يا أبا دلامة ؟ فقال: ما حال من صار وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره !! فأمر المنصور بتغيير ذلك الزي.

ودخل أبو دلامة على أم سلمة بنت يعقوب بن مسلمة المخزومية زوجة أبي العباس السفاح يعزيها عنه فبكى وأنشد قصيدةً منها:

أمسيت بالأنبار يابـن مـحـمّـدٍ

 

لا تستطيع من الـبـلاد حـويلا

ويلي عليك وويل أهلي كـلّـهـم

 

ويلاً وهولاً في الحـياة طـويلا

فلتبكينّ لك النـسـاء بـعـبـرةٍ

 

وليبكينّ لـك الـرجـال عـويلا

مات النّدى إذ متّ يابن مـحـمـد

 

فجعلته لك في التـراب عـديلا

إن أجملوا في الصبر عنك فلم يكن

 

صبري ولا جلدي عليك جمـيلا

يجدون منك خلائفـاً وأنـا امـرؤٌ

 

لو عشت دهري ما وجدت بـديلا

إني سألت النّاس بعدك كـلّـهـم

 

فوجدت أسمح من وجدت بخـيلا

ألشقوتي أُخّرت بـعـدك لـلـذي

 

يدع العزيز من الرجـال ذلـيلا

ألشقوتي أُخّرت بـعـدك لـلـذي

 

يدع السمين من العـيال هـزيلا

فقالت له أم سلمة: يا زند، ما أصيب أحد بأمير المؤمنين غيري وغيرك ؟ قال: ولا سواي، أنت لك ولد منه تتسلين به، وأنا لا ولد لي مه. فضحكت أم سلمة ولم تكن ضحكت منذ مات أبو العباس، وقالت: يا زند، ما تدع أحداً إلا أضحكته !.

وأنشد أبو دلامة المنصور هذه القصيدة فأبكى الناس جميعاً، وغضب المنصور غضباً شديداً. وقال: لئن سمعتك بعد اليوم تنشدها لأقطعن لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أبا العباس كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء يوسف عليه السلام بإخوته، فقل كما قال الله عز وجل "لا تثريبَ عليكم اليوم يغفرُ اللّه لكم وهو أرحمُ الراحمين".

فسري عن المنصور وضحك، وقال: قد أقلناك فسل حاجتك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس قد كان أمر لي بعشرة آلاف درهم وهو مريض ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعلم ذلك ؟ قال: هؤلاء كلهم، وأشار إلى جماعة ممن حضر. فوثب سليمان بن مجاهد وأبو الجهم، فقالا: نحن نعلم ذلك. فقال المنصور لأبي أيوب المورياني: ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية يعني عبد الله بن علي، وكان قد خرج وأظهر الخلاف عليه بناحية الشام، وجمع جمعاً كثيراً من بقايا بني أمية وقوادهم، وأهل البأس والنجدة.
فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين؛ إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فإني والله مشؤوم. فقال المنصور: إن يمني يغلب شؤمك، فاخرج مع الجيش. فقال: والله ما أحب يا أمير المؤمنين، ولا أرى أن تجرب؛ فإني لا أدري على أي المنزلتين تكون. فقال: دعني فلا بد من مسيرك. فقال: يا أمير المؤمنين؛ والله لأصدقنك، إني حضرت تسعة عساكر هزمتها كلها، وإن شئت بينتها لك؛ فاستفرغ المنصور ضحكاً، وأمره بالتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة. وأراد موسى بن داود الخروج إلى الحج، فقال لأبي دلامة: تأهب حتى تخرج معي في هذا الوجه، وأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: خلف لعيالك ما يكفيهم واخرج؛ وإنما أراد أن يأنس به في طريقه بحديثه وأشعاره ونوادره.

فلما حضر خروج موسى هرب أبو دلامة إلى سواد الكوفة، فجعل يشرب من خمرها ويتمتع في نزهها، فسأل عنه فأخبروها باستتاره، فطلبه فلم يقدر عليه، وخاف أن يفوته الحج؛ فلما يئس منه قال: دعوه إلى النار وحر سقر وأليم عذابه. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد أخرى، فبصر به. فقال: ائتوني بعدو الله الكذاب، فر من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، قيدوه وألقوه في بعض المحامل. ففعل ذلك به، فلما ولت الإبل، صاح أبو دلامة بأعلى صوته:

يأيها الناس قولوا أجمعين معـي

 

صلّى الإله على موسى بن داود

كأنّ ديباجتي خدّيه مـن ذهـبٍ

 

إذا تشرّف في أثوابه الـسـود

أما أبوك فعين الجود نعـرفـه

 

وأنت أشبه خلق اللّه بالـجـود

نبّئت أنّ طريق الحجّ معطـشةٌ

 

من الطلاء وما شربي بتصريد

واللّه ما فيّ من خيرٍ فتطلـبـه

 

في المسلمين وما ديني بمحمود

إني أعـوذ بـداودٍ وتـربـتـه

 

من أن أحجّ بكـرهٍ يابـن داود

فقال موسى: ألقوه عن المحمل، فعليه لعنة الله، ودعوه يذهب إلى سقر وحر نارها، فألقوه.
ومضى موسى لوجهه، فما زال أبو دلامة يتمتع بالنزه، ويشرب الخمر حتى أتلف العشرة آلاف رهم، وانصرف موسى من حجه، فدخل أبو دلامة يهنئه، فلما رآه قال: أتدري ما فاتك من الخير ؟ فقال: والله ما فاتني خير ليلاً ولا نهاراً يريد الشرب والقصف فضحك ووصله.

ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى، والعباس بن محمد، وناس من بني هاشم، فقال المهدي: يا أبا دلامة. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: اهج من شئت ممن ضمه هذا المجلس ولك الجائزة؛ فنظر في القوم فلم ير إلا شريفاً قريباً من المهدي، فقال: أنا أحد من في المجلس ثم أنشده:

ألا أبلغ إلـيك أبـا دلامـه

 

فليس من الكرام ولا كرامه

إذا لبس العمامة قلت قـردٌ

 

وخنزيرٌ إذا نزع العمامـه

فإن تك قد أصبت نعيم دنـيا

 

فلا تفرح فقد دنت القيامه

قال: فضحك المهدي، وسر القوم، إذ لم يسود بأحد منهم، فقال له المهدي: تمن. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تأمر لي بكلب صيد، فقال: يابن الفاعلة؛ وما تصنع به ؟ فقال: إن كانت الحاجة لي فليس لك أن تعرض فيها. فقال: صدقت أعطوه كلباً، فأعطي. فقال: يا أمير المؤمنين: لا بد لهذا الكلب من كلاب. فأمر له بغلام مملوك، فقال: يا أمير المؤمنين، أو يتهيأ لي أن أصيد راجلاً ؟ فقال: أعطوه دابةً، فقال: ومن يسوس الدابة ؟ فقال: أعطوه غلاماً سائساً. فقال: ومن ينحر الصيد ويصلحه ؟ فقال: أعطوه طباخاً. فقال: ومن يأويهم ؟ فقال: أعطوه داراً، فبكى أبو دلامة وقال: ومن يمون هؤلاء كلهم ؟ فقال: يكتب له إلى البصرة بمائة جريب عامرة، ومائتي جريب غامرة. فقال: وما الغامرة ؟ قال: التي لا نبات فيها. قال: فأنا أعطيك مائتي ألف جريب من فيافي بني أسد، فضحك وقال: ما تريد ؟ قال: بيت المال. قال: على أن أخرج المال منه. قال: فإذاً يصير غامراً، فاستفرغ ضاحكاً وقال: اذهب فقد جعلناها لك كلها عامرة. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ائذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعا. فقال: والله ما تمنع عيالي شيئاً أهون عليهم من هذا، فناوله يده فقبلها. وقد تقدم له بعض هذا حكاية مع المنصور، والرواة يختلفون، وهو أدب لا يخطب أبكاره بالنسب.

وخرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فعن لهم ظبي؛ فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب الصيد، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل في هذا شيئاً فأنشد:

قد رمى المهديّ ظبياً

 

شكّ بالسهم فـؤاده

وعليّ بن سـلـيمـا

 

ن رمى كلباً فصاده

فهنـيئاً لـهـمـا ك

 

لّ امرىءٍ يأكل زاده

فاستفرغ المهدي ضحكاً وأمر له بجائزة. وكان أبو العباس السفاح مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لكثرة نوادره وجودةً شعره، ومعرفته بأيام الناس وأخبارهم؛ وكان أبو دلامة يهرب منه جهده، ويأتي حانات الخمارين فيشرب مع إخوانه من الشعراء، وكان يحب مجالستهم وتهرب من مؤانستنا ؟ فقال: والله يا أمر المؤمنين؛ إن الفضل والشرف والعز والخير كله في الوقوف ببابك ولزوم خدمتك، ولكن نكره كما ذكرت، ولا مللتك قط، وإنك لتعلم ذلك، ولكنك قد اعتدت حانات الخمارين، ومجالسة أهل المجون. ثم أمره بلزوم قصره، ووكل به من يمنعه الخروج، وأمره بملازمة المسجد الذي يصلي فيه السفاح، حتى أضر به فقال:

ألم تعلموا أنّ الـخـلـيفة لـزّنـي

 

بمسجده والقصر، ما لي وللقصر !

أُصلّي به الأولى مع العصـر آيسـاً

 

فويلي من الأولى وويلي من العصر

ويحبسني عن مجـلـسٍ أسـتـلـذّه

 

أعلّل فيه بالسمـاع وبـالـخـمـر

وواللّه ما لي نـيّةٌ فـي صـلاتـه

 

ولا البرّ والإحسان والخير من أمري

وما ضرّه، واللّـه يصـلـح أمـره

 

لو أنّ ذنوب العالمين على ظهـري

فلما بلغت الأبيات السفاح قال: دعوه وشأنه، فوالله ما أفلح قط.
وشرب أبو دلامة مع حماد عجرد، فأتى المهدي بأبي دلامة فقال: استنكهوه؛ ففعلوا فوجدوا رائحة الخمر، فأحب أن يعبث به؛ فأمر الربيع أن يحبسه في بيت الدجاج ويطين عليه الباب، ففعل؛ ثم أمر بعد يومين فأخرج ملبباً بطيلسانه، فأقيم بين يديه، فقال: يا عدو الله؛ أتشرب الخمر ؟ أما إني لأقيمن عليك الحد، ولا تأخذني فيك لومة لائم، فأنشأ أبو دلامة:

أمير المؤمنين، فدتك نفـسـي

 

علام حبستني وخرقت ساجـي

أُقاد إلى السجون بغـير جـرمٍ

 

كأني بعض عمّال الـخـراج

ولو معهم حبست لكـان خـيراً

 

ولكني حبست مـع الـدّجـاج

أمن صهباء ! ريح المسك فيها

 

ترقرق في الإناء لدى المزاج

عقار مثل عين الديك صـرفٌ

 

كأنّ شعاعها لهب الـسّـراج

وقد طبخت بنار اللّـه حـتـى

 

لقد صارت من النّطف النّضاج

وقد كانت تحدّثـنـي ذنـوبـي

 

بأنّي من عقابك غير نـاجـي

على أنـي وإن لاقـيت شـرّاً

 

لخيرك، بعد ذاك الشر، راجي

فأمر به فأقيم عليه الحد، ثم أمر له بأربعة آلاف درهم، فلما ولى قال الربيع: يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:

وقد طبخت بنار اللّـه حـتـى

 

لقد صارت من النّطف النّضاج

قال: بلى، فما يعني بذلك ؟ قال: يعني به الشمس. قال: ردوه نسأله عن ذلك. فلما حضر قال له المهدي: ما تعني بنار الله ؟ أتعني بها الشمس ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن: نار الله الموقدة، التي تطلع على فؤاد الربيع مؤصدة، وعلى من أخبرك أني عنيت بها الشمس مطبقة؛ فضح المهدي وجلساؤه وعفا عنه، فذهب.

وخرج الربيع إلى أصحاب المنصور وهم بالباب، وقد هرب منه سلم غلامه، فقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: إن غلامي سلماً قد هرب، ومحال أن يهرب أحد من غلماني إلا وقد أسند أمره إلى واحد منكم.

فقام أبو دلامة فقال: بلغ عنا أمير المؤمنين كما بلغتنا عنه. قال: نعم ! قال: أما سلم فلا نعرف خبره ولا قصته، ولكن هذا بديع يريد الهروب، فرأي أمير المؤمنين في أخذه، وكان بينه وبين بديع تباعد، فبلغ ذاك المنصور فهرب.

وماتت حمادة بنت علي بن عبد الله بن عباس، فصار المنصور إلى شفير قبرها ينتظر الجنازة، وكان أبو دلامة حاضراً فقال: ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة ؟ فقال: عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة.
أخذت امرأة في زنا وطيف بها على جمل، فمرت ببعض المجان فقال لها: كيف خلفت الحاج ؟ قالت: بخير، وقد كانت أمك معنا، فخرجت في النفر الأول.

من ملح الجماز

وقال رجل للجماز: أشتهي أن أرى الشيطان. فقال له: انظر في المرآة فإنك تراه.
وقال له رجل: أنا وجع من دمل فيّ. قال له: وأين هي ؟ قال: في أخس موضع مني. قال: كذبت؛ لأني لا أرى في وجهك شيئاً. وقال له رجل: يا أبا عبد الله؛ أنا رجل جامد العين، لو مات أبي ما بكيت، ولكن إذا سمعت الصوت الفريح من الوجه المليح، بكيت حتى أغمي علي. فعلام يدل هذا ؟ قال: على أنك لا تلفح أبداً.

وقال له رجل: أردت أن أحمل أمي إلى بغداد، فخفت إن حملتها في البحر أن تعطب، وإن حملتها في البر أن تتعب. قال: فخذها في سفتجة.

قال بعض جلساء المتوكل: كنا نكثر عنده ذكر الجماز حتى اشتاقه، فكتب في حمله من البصرة. فلما دخل عليه أفحم. فقال له المتوكل: تكلم فإني أحب أن أستبرئك. فقال: بحيضة أم بحيضتين يا أمير المؤمنين ؟ فضحك المتوكل. ثم قال له الفتح: قد ولاك أمير المؤمنين على الكلاب والقردة. قال: فاسمع لي وأطع، فأنت من رعيتي. فقال له: إذا وهب لك أمير المؤمنين جارية، فما تصنع بها ؟ فقال: أنا أعرف من نفسي ما تحتاج والله جارية إلا أن أقود عليها. فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فمات فرحاً ولم يصل إلى البصرة.

وكان الجماز لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه، فدعا ثلاثةً من إخوانه فأتاه ستة، ووقف كل واحد على رجل وقرعوا الباب، فنظر من كوة أسفل الباب وكذلك كان يعمل فعد ستة أرجل، فلما فتح الباب دخلوا؛ فقال: اخرجوا عني فإني دعوت أناساً ولم أدع كراكي.

والجماز هو أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون أنهم من حمير صليبة نالهم سباء في خلافة أبي بكر وهم مواليه، وسلم الخاسر عمه. وكان الجماز صاحباً لأبي نواس حتى ماتا. ووصف أبا نواس، فقال: كان أظرف الناس منطقاً، وأغزرهم أدباً، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جواباً، وأكثرهم حياءً؛ وكان أبيض اللون، جميل الوجه، مليح النغمة والشارة، ملتف الأعضاء، بين الطويل والقصير، مسنون الوجه، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك حلو الصورة، لطيف الكف والأطراف، وكان فصيح اللسان، جيد البيان، كثير النوادر؛ وكان راويةً للأشعار، وعلامة بالأخبار، وكان كلامه شعراً غير موزون.

وأقبل أبو شراعة والجماز في حديثه وكانت يد أبي شراعة كأنها كربة نخل وكان أقبح الناس وجهاً، فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتم حسنه.

فغضب أبو شراعة، فبصق الناس في وجهه.

من أدب أبي شراعة

وأبو شراعة شاعر مجيد وهو القائل:

بني رياح أعاد اللّه نعمتـكـم

 

خير المعاد وأسقى ربعكم ديما

فكم به من فتىً حلو شمـائلـه

 

يكاد ينهلّ من أعطافه كرمـا

لم يلبسوا نعمةً للّه مذ خلقـوا

 

إلا تلبّسها إخوانهم نـعـمـا

قال أبو العباس المبرد: وكان أبو شراعة حليماً مألوفاً، جميل الخلق، كريم العشرة، وكان يقول من الشعر ما يجانب به مذاهب المحدثين، ويقترف طريق الماضين وأهل البادية؛ فشعره عربي محض، واسمه أحمد بن محمد بن شراعة القيسي ومن شعره:

تقول ابنة البكريّ حين أؤوبهـا

 

هزيلاً وبعض الآيبين سمـين

لك الخير لا يدخل لأهلك رحله

 

فإنّك في القوم الكرام مكـين

ذريني أمت من قبل حلّي محلّة

 

لها في وجوه السائلين غضون

وأفدي بمالي ماء وجهي فإنني

 

بما فيه من ماء الحياة ضنـين

فقالت: لحاك اللّه لا تنأ جانبـاً

 

فقلت: لإخواني الكرام عيون

وله يهجو أحمد بن المدبر وأخاه إبراهيم:

حجاب ابن المدبّر كـسـرويٌّ

 

كذاك حجاب كسرى أردشـير

شهدت بأنّه مـن آل كـسـرى

 

سلوه هل شهدت لـه بـزور

كفاك شهادتي بالـحـقّ لـولا

 

تضاحك من أرى حول السرير

فإن يكن المدبّـر جـرمـقـيّاً

 

فلست بذاكرٍ أهل الـقـبـور

وكتب إلى سعيد بن موسى بن سيد بن سلم الباهلي، يستهديه نبيذاً، ووجه إليه بقرابة في غلاف:

إليك ابن موسى الخير أعملت ناقتي

 

مجلّلةً يضفو عليهـا جـلالـهـا

كتوم الوجى لا تشتكي ألم السـرى

 

سواء عليها موتها واعتـلالـهـا

إذا سقيت أبصرت ما جوف بطنها

 

وإن ظمئت لم يبد منها هزالـهـا

وإن حملت حملاً تكلّفت حملـهـا

 

وإن حطّ عنها لم أبل كيف حالهـا

بعثنا بها تسمو العيون وراءهـا

 

إليك وما يخشى عليها كلالهـا

وغنّى مغنّينا بصوتٍ فشاقـنـي

 

متى راجعٌ من أُمّ عمرو خيالها

أحب لكم قيس بن عيلان كلهـا

 

ويعجبني فرسانها ورجالـهـا

وما لي لا أهوى بقاء قـبـيلةٍ

 

أبوك لها بدرٌ وأنت هلالـهـا

من مليح شعر الجماز

وللجماز مقطعات ملاح، في ضروب الهجاء والامتداح، منها قوله في خصي كان يكايده على قينة؛ يسمى رباح:

ما للخصيّ رباح

 

وللغواني الملاح

أليس زانٍ خصيٌّ

 

غازٍ بغير سلاح

وفي مثله يقول ابن الرومي:

معشرٌ أشبهوا القرود ولكن

 

خالفوها في خفّة الأرواح

نمشة فوق صفرة فتـراه

 

كونيم الذباب في اللّفّـاح

قال الجاحظ: في الخصي عشرة أحوال متضادة: لم يخرج من ظهره مؤمن، ولا خرج من ظهر مؤمن، وهو أكثر الناس غيرة، وأشدهم قيادة، وهو أضعف الناس معدة، وأشرههم على طعام، وهو أسوأ الناس أدباً، وهو يعلم الأدب، وهو أغزر الناس دمعة، وأقساهم قلباً، وما خلا قط مع امرأة إلا حدثته نفسه أنه رجل، ولا خلا مع رجل إلا حدثته نفسه أنه امرأة.

وقال الجماز لبعض المسجديين:

تركت المسجد الجامع

 

والتّـرك لـه ريبـه

فلا نـافـلة تـأتـي

 

ولا تشهد مكتـوبـه

وأخبـارك تـأتـينـا

 

على الأعلام منصوبه

فإن زدت من الغـيب

 

زدناك من الغـيبـه

ومثله قول أبي القاسم إسماعيل بن عباد، في مغن يعرف بابن عذاب:

أقول قولاً بلا احتشام

 

يقبله كل من يعـيه

ابن عذابٍ إذا تغنّـى

 

فإنني منه في أبـيه

وقال الجماز في المتوكل:

قالوا امتدحت الإمام قلت لهم

 

أخاف ألا أحـدّه بـصـفـه

وكيف يعطي على المدائح من

 

كان أبو السّمط عنده طرفـه

كأنّ إنـشـادنـا مـدائحـه

 

أنصاف كتب ليست بمؤتلفـه

أخذه من قول أبي تمام:

أذكت عليك شهاب نارٍ في الحشا

 

بالعذل وهناً أخت آل شـهـاب

عذلاً شبيهاً بالجنـون كـأنّـمـا

 

قرأت به الورهاء نصف كتاب

بين علي بن الجهم وأبي السمط

وكان أبو السمط بن أبي حفصة أثيراً عند المتوكل؛ وكان علي بن الجهم يقع فيه لمنزلته عند المتوكل وحسده له؛ فأغرى بينهما يوماً فقال لحمدون النديم: أيهما أشعر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ طرحتني بين لحيي أسدين. قال: لتقولن. قال: أعرقهما بالشعر أشعرهما. فقال المتوكل: يا علي، قد حكم حمدون عليك. قال: علم رأيك فيه فساعدك. فقال المتوكل: تهاجيا. فقال علي: قد كظني الشراب، فإذا أفقت قلت؛ فقال أبو السمط بديهاً:

إنّ ابن جهمٍ في المغيب يسبّني

 

ويقول لي حسناً إذا لاقانـي

إنّ ابن جهمٍ ليس يرحم أمّـه

 

لو كان يرحمها لما عادانـي

فضحك المتوكل، وانخذل ابن الجهم؛ فقال أبو السمط:

لعمرك ما جهم بن بدرٍ بشاعرٍ

 

وهذا عليٌّ بعده يصنع الشّعرا

ولكن أبي قد كان جراً لإمّـه

 

فلما تعاطى الشعـر أمـرا

ولما أفاق عليّ بن الجهم من سكره قال:

بلاءٌ لـيس يشـبـهـه بـلاء

 

عداوة غير ذي حـسـبٍ ودين

يبيحك منه عرضاً لم يصـنـه

 

ويرتع منك في عرضٍ مصون

العجم والشعر

ودخل الضبي على عبد الله بن طاهر، فأنشد شعراً حسناً وبحضرته أعرابي؛ فقال الأعرابي: ممن تكون ؟ قال: من العجم. قال: وما للعجم والشعر وإنما الشعر للعرب، وكل من قاله من العجم فإنما نزا على أمه أعرابي. فقال: وكذلك من لا يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه أعجمي إذاً ؟ فأفحمه.

من شعر الجماز

ودخل الجماز على بعض ولاة البصرة فأنشده:

أثكلتني البرّ وعنّيتنـي

 

ما كان هذا أملي فيكا

لا تتفنّي بعد ما رشتني

 

فإنني بعض أياديكـا

فضحك، ثم قال: ثم ماذا ؟ فقال: ثوب سمرقندي هو، أنشدك إياه مزارعة. وقيل لعقيل بن علفة: لم تقصر شعرك ؟ فقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لآخر مثل ذلك. فقال: لم أر المثل السائر إلا بيتاً واحداً.

ولم يكن للجماز حظ في التطويل، وإنما كان يقول البيتين والثلاثة، وإنما قال بيتاً واحداً:

وقعنا من أبي خـزيٍ

 

على خزيٍ من الخزي

لم يقل غير هذا، وكذلك ابن بسام، ومنصور بن إسماعيل الفقيه. والمصريون يقولون: احذر منصوراً إذا رمح بالروح. وهو القائل لما ذهب بصره وجفاه الإخوان والرفقاء:

من قال مات ولم يستوف مـدّتـه

 

بعظم نازلةٍ نالتـه مـضـرور

وليس في الحقّ أن يحيا فتىً بلغت

 

به نهاية ما يخشى الـمـقـادير

فقل له غير مرتابٍ بفـعـلـتـه

 

أو سوء مذهبه قد عاش منصور

ومن ظريف شعره:

تكاد تضيق الأرض عنه برحبـهـا

 

إذا نحن قلنا خيرنا الباذل السّـمـح

فإن قيل من هذا البغيض أقل لكـم

 

على شرط كتمان الحديث هو الفتح

وقال منصور:

يا من يرى المتعة في دينه

 

جلاًّ وإن كانت بلا مهـر

ولا يرى تسعين تطـلـيقةً

 

تبين منهـا ربّة الـخـدر

من ههنا طابت موالـيكـم

 

فاجتهدوا في الحمد والشكر

وقال:

أبى الناس أن يدعوا موسراً

 

سليم الأديم سليم النـسـب

وقد خبّروك فإن لم تـطـب

 

بعرضك نفساً فطب بالذهب

وقال:

يا من تولّى فأبـدى

 

لنا الجفـا وتـبـدّل

أليس منك سمعـنـا

 

من لم يمت فسيعزل

وأتى باب بعض الأشراف الرئيسيين، فحجبه خادم اسمه شقيف فقال:

إذا وقع الضرير على خصـيّ

 

فقد وقع المصاب على مصاب

وكانت أم هذا الشريف أمةً ثمنها ثمانية عشر ديناراً؛ فعتب على منصور فقال:

من فاتـنـي بـأبـيه

 

ولم يفتـنـي بـأمّـه

ورام شتمي ظـلـمـاً

 

سكتّ عن نصف شتمه

فدفع إليه مائة دينار. وقال: اسكت عن الجميع.

فانظر أعزك الله البليغ إذا شاء كيف يجعل الجد هزلاً، والمعرى محلىً.

هذا المعنى إنما اهتدى إليه من قول عنترة بن شداد العبسي وأمه أمة سوداء اسمها زبيبة:

إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصبـاً

 

شطري وأحمي سائري بالمنصل

وسأستقل إن شاء الله، ذكر ابن بسام، ونقل ظريف ما له في غير هذا الموضع.