من مستطرف الأخبار

وقال رجل لغلامه: التمس لي داراً لا تكون بجوار مسجد فإني أحب الأفراح، فاكترى له داراً بين مسجدين. فقال له: ما هذا ؟! قال: يا مولاي، لا تدري المعنى؛ أهل هذا المسجد يظنونك في هذا، وأهل ذا يظنونك في ذا، وأنت قد ظفرت بما تحب.

وقال أبو الجهم أحمد بن بدر للمتوكل وذكر نجاح بن سلمة أو غيره:

إمام الهدى وابن الدعاة إلى الهـدى

 

ومنهج خير العالمـين مـحـمّـد

أعنّي على والٍ يجـوز تـعـبّـداً

 

عليّ عسوف الظلم غـير مـؤيّد

وما لي ذنبٌ عنـده غـير أنـنـي

 

عليم بما يختار لـلـيوم والـغـد

ولا خير للطّرار في قرب نـائب

 

ولا للمريب الفعل في قرب مسجد

صحب الغاضري رجلاً من قريش من مكة إلى المدينة فقال القرشي: يا غلام؛ أطعمنا دجاجةً، فأتى بها باردة، فقال: ويحك أسخنها. ورفع غداؤهم ولم يؤت بالدجاجة، فلما كان العشاء قال: يا غلام، عشاءنا. فلما أتاهم العشاء قال: هات تلك الدجاجة، فأتى بها باردة، فقال: أسخنها. فقال الغاضري: أخبروني عن دجاجتكم هذه أمن آل فرعون هي ؟ فإني أراها تعرض على النار غدوةً وعشياً.
فقال: ويحك يا غاضري اكتمها علي، ولك مني مائة دينار. فقال: والله مما كنت لأبيعها بشيء.

طيلسان ابن حرب

أخذه الحمدوني فقال في طيلسان ابن حرب:

يابن حرب أطلت ظلمي برفـوي

 

طيلساناً قد كنت عـنـه غـنـيّا

هو في الرّفو آل فرعون في العر

 

ض على النار بكـرةً وعـشـيّا

زرت فيه معاشراً فـازدرونـي

 

فتـغـنّـيت إذ رأونــي زريّا

جئت في زيّ سائلٍ كـي أراكـم

 

وعلى الباب قد وقفـت مـلـيّا

وكان أحمد بن حرب المهلبي من المحسنين إليه، المنعمين عليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهبه طيلساناً أخضر، فوجد فيه فزراً ولم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات ضمن أواخرها أبيات أغان ملاحاً، فاستحلينا مذهبه فيها فجعلها خمسين شعراً فطارت كل مطير، وسارت كل مسير، حتى قال:

طيلسان لابـن حـربٍ

 

ذو أيادٍ ليس تحـصـى

أنا فيه أشـعـر الـنّـا

 

س إذا ما الشعر نصّـا

وأراني صـرت أدنـى

 

بعد ما قد كنت أقصـى

واتقاني الـنّـاس وازدا

 

دوا على شعري حرصا

ولكـم قـد حـاز لـي

 

أردية تترى وقمـصـا

كان دهراً طيلـسـانـاً

 

ثم قد أصبـح شـصّـا

وقال ابن الرومي في هجائه عمراً الكاتب الملقب بخرطوم، وكان من خاصة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:

أغلقت حانوتـي لـطـو

 

ل كساده وفتحت عمـرا

يا طيلسـان الـحـمـدن

 

يّ شفعت فيّ وكنت وترا

عمرا أخوك جعـلـتـه

 

لي مكسباً فأفدت وفـرا

لا تبعدا من صـاحـبـي

 

ن لقيتما ضعةً وفـقـرا

قال ابن أبي عون: مر الحمدوني بابن حرب وهو جالس على باب داره وعلى كتفه وسادة. قال: لأي شيء هذه يا حمدوني ؟ قال: أرقع بها طيلسانك. قال: ما تزال تهجونا منثوراً وموزوناً !!.

ومن طريف شعره فيه:

يا طيلسان ابن حربٍ قد هممت بأن

 

تودي بجسمي كما أودي بك الزمن

ما فيك من حيلة تغني ولا ثـمـنٍ

 

قد أوهنت حيلتي أركانك الوهـن

فلو تراني لدى الرّفّاء مرتـبـطـاً

 

كأنني في يديه الدهر مـرتـهـن

أقول حين رآني النـاس ألـزمـه

 

كأنّما لي في حـانـوتـه وطـن

من كان يسأل عنّا أين منزلـنـا ؟

 

فالأقحوانة منّا مـنـزلٌ قـمـن

البيت للحارث بن خالد المخزومي.

وقال:

قل لابن حرب طـيلـسـا

 

نك قوم نوحٍ منـه أحـدث

أفنى الـقـرون ولـم يزل

 

عمّن مضى من قبل يورث

فإذا العـيون لـحـظـنـه

 

فكأنّه باللـحـظ يحـرث

يودي إذا لــم أرفـــه

 

وإذا رفوت فليس يلـبـث

كالكلب إن تحمـل عـلـي

 

ه الدهر أو تتركه يلهـث

وقال:

وهبت لنا ابن حرب طيلسانـاً

 

يزيد المرء في الضعة اتضاعا

يسلّم صاحبي فـيقـدّ شـبـراً

 

له وأقـدّ فـي ردّي ذراعـا

أجيل الطّرف في طرفيه طولاً

 

وعرضاً ما أرى إلاّ رقـاعـا

فلست أشكّ أن قد كان قـدمـاً

 

لنوحٍ في سفينتـه شـراعـا

فقد غنّيت إذ أبصـرت مـنـه

 

جوانبه على بدنـي تـداعـى

قفي قبل التفرّق يا ضبـاعـا

 

ولا يك موقفٌ منك الوداعـا

البيت للقطامي عمير بن شييم التغلبي: وقال فيه:

قل لابن حرب طيلسانك قد

 

أوهى قواي بكثرة الـقـدم

متبيّنٌ فـيه لـمـبـصـره

 

آثـار رفـو أوائل الأُمـم

فكأنّه الخمر التي وصفـت

 

في يا شقيق النفس من حكم

فإذا رممناه فـقـيل لـنـا

 

قد صح قال له البلى: انهدم

مثل السقيم بـرا فـعـاوده

 

نكسٌ فأسلمه إلـى سـقـم

أنشدت حين طغى فأعجزني

 

ومن العناء رياضة الهـرم

والخمرة التي وصفت فيما ذكر لأبي نواس:

يا شقيق النفس من حـكـم

 

نمت عن ليلـي ولـم أنـم

فاسقني الخمر التي اعتجرت

 

بخمار الشيب في الـرّحـم

ثمّت انصات الشباب لـهـا

 

بعد أن جازت مدى الهـرم

فهي لليوم الـذي بـزلـت

 

وهي تلو الدهر في القـدم

عتّقت حتى لو اتـصـلـت

 

بلـسـانٍ نـاطـقٍ وفـم

لاحتبت في الـقـوم مـائلة

 

ثم قصّـت قـصة الأمـم

فرعتـهـا بـالـمـزاج يدٌ

 

خلقت للكـأس والـقـلـم

في ندامـى سـادة نـجـب

 

أخذوا اللـذّات مـن أمـم

فتمشّت في مفـاصـلـهـم

 

كتمشّي البرء في السـقـم

صنعت في البيت إذ مزجت

 

كصنيع الصّبح في الظلـم

فاهتدى ساري الظلام بهـا

 

كاهتداء السفر بالـعـلـم

وزعم ابن قتيبة أن هذا الشعر لوالبة بن الحباب، وإنما يخاطب به أبا نواس الحكمي. وقال غيره: بل الشعر لأبي نواس وإنما أغار على والبة في قوله:

يا شقيق النفس من أسد

 

لم تنم عيني ولم تكـد

وقال الحمدوني:

طيلسانٌ لابن حرب جاءنـي

 

قد قضى التمزيق منه وطره

أنا من خوفي عـلـيه أبـداً

 

سامريٌّ ليس يألـو حـذره

يابن حربٍ خذه أو فابعث بما

 

يشتري عجلاً بصفر عشره

فلعلّ الـلّـه يحـييه لـنـا

 

إن ضربناه ببعض البـقـره

فهو قد أدرك نوحاً، فعسـى

 

عنده من علم نوحٍ خـبـره

أبـداً يقـرأُ مـن أبـصـره

 

أئذا كنّا عظـامـاً نـخـره

وكان يقول: أنا ابن قولي، يريد أنتسب إليه كما أنتسب إلى أبي. وقال:

يابن حرب كسوتني طيلسانـاً

 

ملّ من صحبة الزمان وصدّا

فحسبنا نسج العناكب إذ قـي

 

س إلى ضعف طيلسانك سدّا

إن تنسمت فيه ينجرّ جـرّاً

 

أو تبسمت منه ينقـدّ قـدّا

طال ترداده إلى الرّفو حتى

 

لو بعثناه وحده لتـهـدّى

وكان أبو تمام يقول: أنا ابن قولي:

نقّل فؤادك أين شئت من الهوى

 

ما الحبّ إلاّ للـحـبـيب الأوّل

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

 

وحنينـه أبـداً لأوّل مـنـزل

وقال الحمدوني في الطيلسان:

ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخـصـه

 

تيّقنت أنّ الدهر يفنى وينـقـرض

تصدّع حتّى قد أمنت انصـداعـه

 

وأظهرت الأيام من عمره الغرض

فلو أنّ أصحاب الـكـلام يرونـه

 

لماروك فيه وادّعوا أنه العـرض

وقال:

يابن حربٍ كسوتني طيلساناً

 

أمرضته الأوجاع فهو سقيم

فإذا ما لبست قلت سبـحـا

 

نك تحيي العظام وهي رميم

طيلسانٌ له إذا هبّت الـرّي

 

ح عليه بمنكبـيّ هـمـيم

لو يدبّ الحوليّ من ولد الـذ

 

رّ عليه لأندبته الـكـلـوم

وقال:

إن ابن حرب كساني

 

ثوباً يطيل انحرافه

أظلّ أدفـع عـنـه

 

وأتّقي كـلّ آفـه

فقد تعلمت من خش

 

يتي عليه الشقافـه

من الملح

وقف أبو العيناء على باب صاعد بن مخلد فقيل له: إنه يصلي فانصرف، ثم عاوده، فقيل له: إنه يصلي. فقال: لكل جديد لذة. وكان صاعد نصرانياً ثم ارتقت به الحال أن توزر للموفق بن أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتمد الخليفة ولم يكن له مع الموفق أمر ولا نهي، وقد قال المعتمد لما ملك عليه أخوه الأمر، أو قيل على لسانه:

أليس من العجائب أنّ مثلي

 

يرى ما قلّ ممتنعاً علـيه

وتؤخذ باسمه الدنيا جميعـاً

 

وما من ذاك شيءٌ في يديه

ولما أجاب الصولي أبا القاسم بن عبد الله ملك المغرب اقتضى ذكر ولد العباس والخلفاء خليفةً خليفةً حتى انتهى إلى المعتمد فقال:

ومعتمدٌ من بـعـدهـم ومـوفّـقٌ

 

يردّد من إرث الخلافة مـا ذهـب

موازٍ لهم في كل فـضـلٍ وسـؤددٍ

 

وإن لم يكن في العدّ منهم لمن حسب

ولما احتاج الصولي إلى ذكر الموفق لشهامته وحزامته، وكأن القصيدة إنما أجاب بها على المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن الموفق، فلو لم يذكره لانقطع عليه ما أراد.

وكان المعتمد مضعوفاً، وكان أمره قبل تمكن الموفق في يد وصيف حتى قال باذنجانة الكاتب:

يا دولة بــائرة

 

كاسفة ما تبتغى

خليفة مستضعف

 

بين وصيف وبغا

يقول ما قالا لـه

 

كما تقول الببّغا

ودخل أبو خالد يزيد المهلبي على المعتمد مرات، فأنشده قصائد على الدال؛ فقال: يا يزيد؛ ما أراك تعدو الدال ؟ فقال: وكيف أعزك الله يا أمير المؤمنين واسمي يزيد، وأبي محمد وأكنى بأبي خالد، وأنت المعتمد، وتسمى بأحمد، ومن صفاتك السيد والماجد والجواد، فأين أدع الدال؟ وهذا كقول أبي صدقة المدني وقد قيل له: ما أشد إلحافك ؟ فقال: تلومونني على ذلك وأنا اسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، واسم أبي صدقة، واسم امرأتي فاقة.

من طرف أبي العيناء

ووقف أبو العيناء على باب إبراهيم بن رباح فقيل: هو مشغول. فقال: إذا شغل بكأس يمناه، وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف أباه، لم يحفل بحجاب من أتاه. ودخل أبو العيناء على المتوكل؛ فقال: أي شيء تحسن ؟ قال: أفهم وأفهم، وآخذ من المجلس ما حوى، مرة أغلب ومرة أغلب. قال: كيف شربك للنبيذ ؟ قال: أعجز عن قليله وافتضح عند كثيره. قال: فما تقول في بلدك البصرة ؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: قد رفعتها إلى الله، فما أحب نجاحه فليس ينفعني شرحه. قال: نحب أن تلزم مجلسنا. قال: يا أمير المؤمنين، إن أجهل الناس من يجهل نفسه؛ أنا امرؤ محجوب والمحجوب تختلف إشارته، وقد يجوز قصده، فيصغي إلى غير من يحدثه، ويقبل بحديثه على غير من يسمع منه، وجائز أن يتكلم بكلام غير راض، ومتى لم أفرق بين هذين هلكت. وأخرى: كل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم، ولم أقل هذا جهلاً مني بما في هذا المجلس من الفائدة، ولكني اخترت العافية على التعرض للبلاء. قال الفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، هذا رجل عاقل عارف بنفسه وبحق الملوك. قال: فيلزمنا في كل الأوقات لزوم الفرض الواجب.
وبلغ أبا العيناء أن المتوكل قال: لولا أن أبا العيناء ضرير لنادمناه. فقال: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وإنما هذا تولع منه بلسانه؛ واقتدار على الكلام، وإلا فقد تعافى من ذلك المقام.

ودخل على إبراهيم بن المدبر وعنده الفضل اليزيدي معلم ولده وإبراهيم جالس. فقال للمعلم: في باب هذا ؟ قال في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة أعزها الله. فغضب اليزيدي ونهض.
أخذه البحتري فقال لإبراهيم بن المدبر:

أي شيءٍ ألهاك عن سرّ من را

 

ء وظلّ للعيش فيها ظـلـيل

إقتصار على أحاديث فـضـل

 

وهو مستكرهٌ كثير الفضـول

لم تكن نهزة الوضـيع ولا رو

 

حك كانت لفقاً لروح الثقـيل

فعلام اصطنعت منكسف البـا

 

ل معار الحذاق نزر القبـول

إن ترده تجده أخلق من شـي

 

ب الغواني ومن تعفّي الطلول

مسرجاً ملجماً وما متّع الصب

 

ح إدلاجاً للجسّ والتطـفـيل

غير أنّ المعلمين على حـال م

 

قليلي التمييز ضعفي العقـول

فإذا ما تذكّر الناس مـعـنـى

 

من مبين الأشعار أو مجهول

قال هذا لنا ونحن كشـفـنـا

 

غيبه للسؤال والـمـسـؤول

ضرب الأصمعي فيهم أم الأح

 

مر أم لحقـوا... الـخـلـيل

أبداً شأنه التـردّد فـي الـفـا

 

عل من والديه والمفـعـول

ظريف مملق

قال الصولي: كان بالبصرة رجل مهلبي ظريف مملق، وكان له إخوان فقالوا له: ألا تدعوننا ؟ فقال لهم: ألا تدعونني ؟ فألحوا عليه فارتهن قطيفةً له على دراهم، فاشترى لهم ما يصلحهم، ودعا مغنيةً فكان اقتراحهم عليها:

ليت الذين تحمّلوا أحنـوا

 

أمّا أنا فأضرّ بي الحزن

فقال المهلبي: أما هذا الذي تقولونه فما أدري ما هو ؟ أما أنا فقطيفتي رهن؛ فضحكوا وغرموا له ما أنفق.

ودعا رجل قوماً، فما كان مع المغرب أراد انصرافهم، وأرادوا المقام عده، فاقتضوه في السراج. فقال لهم: أما سمعتم قول الله تعالى: "وإذا أظلم عليهم قاموا".

من نوادر المتنبئين

وادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فأحضره المأمون وقال له: ما دليل نبوتك ؟ قال: أن أعلم ما انعقد عليه ضميرك. فقال: ما هو ؟ قال: في نفسك أصلحك الله أني كاذب؛ فضحك منه وتركه.
وأتي المعتصم برجل ادعى النبوة. فقال: ما آيتك ؟ قال: آية موسى. قال: فألق عصاك تكن ثعباناً مبيناً ؟ قال: حتى تقول: أنا ربكم الأعلى.

وادعى آخر النبوة بالكوفة، فأدخل على واليها. فقال: ما صناعتك ؟ قال: حائك، قال: نبي حائك؟! قال: فأردت نبياً صيرفياً ؟ الله يعلم حيث يجعل رسالته.

ومن نوادر الفقهاء والمغفلين والمرائين وغيرهم

وسأل رجل بعض الفقهاء عن القبلة للصائم في رمضان ؟ فقال: تكره للشاب ويرخص فيها للشيخ. قال: إنها في معشوقة ؟ قال: يابن أخي، هذا يكره في شوال.

قيل لمغفل: قد غلا الدقيق. فقال: وما أبالي؛ إني أشتري الخبز من السوق. قال حيان بن غضبان العجلي وقد ورث نصف دار أبيه : أريد أن أبيع نصف حصتي من الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.

وشكا أهل بدلة إلى المأمون والياً عليهم؛ فقال: كذبتم عليه، قد صح عندي عدله فيكم وإحسانه إليكم. فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين؛ فما هذه المحبة لنا دون سائر رعيتك، قد عدل فينا خمس سنين فانقله إلى غيرنا حتى يشمل عدله الجميع، وتريح معنا الكل؛ فضحك منهم وصرفه عنهم.
قال دعبل: ما غلبني إلا مخنث؛ قلت له: والله لأهجونك. قال: والله لئن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال.

ورئي بعض المرائين على باب بعض الملوك، وبين عينيه سجادة عظيمة، فقيل له: مثل هذا الدرهم بين عينيك، وأنت محتاج إلى أبواب الملوك ! فقال: إنه ضرب على غير السكة.

وعمل بعض المرائين بين عينيه سجادة دلكها بنواة وثوم، وعصب الثوم بين عينيه ونام؛ فتحركت العصابة؛ فصارت في ناحية صدغه سجادة كبيرة. فقال له ابنه: ما هذا يا أبت ؟ فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.

ومن أملح ما في هذا قول أبي نواس وقد نهاه الأمين عن الخمر:

عين الخليفة بـي مـوكّـلةٌ

 

عقد الحذار بطرفها طرفي

صحّت علانيتي لـه وأرى

 

دين الضمير له على حرف

ولئن وعدتك تركهـا عـدةً

 

إني عليك لخائفٌ خلـفـي

وقال ابن المعتز:

يأيها الجاني ويستخـفـي

 

ليس تجنّيك من الظـرف

إنّك والشوق إلينا كـمـن

 

يؤمن باللّه على حـرف

محوت آثارك عـن ودّنـا

 

غير آثارك في الصّحف

فإن تحاملت لـنـا زورةً

 

يوماً تحاملت على ضعف

وأتى ابن عائشة إلى بعض الملوك فأنشده:

اعطف عليّ فالكريم يعـطـف

 

قد غلق الرّهن وملّ المسلـف

وارتهني الدفّ وبيع المصحف

 

 

فقال: يا فاسق، أترهن دفاً وتبيع مصحفاً ! قال: اتكلت في المصحف أعزك الله تعالى وأجلك.

من نوادر بهلول

قال رجل لبهلول المجنون: قد أمر أمير المؤمنين لكل مجنون بدرهمين. فقال له بهلول: فهل أخذت نصيبك.

وأودع بهلول بعض الأفنية بالكوفة عشرين درهماً ورجل خياط ينظر إليه من حيث لا يعلم به بهلول؛ فلما انصرف أخذ الخياط الدراهم، فعاد بهلول يطلبها فلم يجدها، فعلم أنه لم يؤت إلا من الخياط. فمر به فقال: يا فلان؛ خذ بيدك عشرة دراهم وخذ ثلاثين وخذ كذا... حتى بلغ المائة. قال: وزدها عشرين كم يكون المال ؟ قال: مائةً وعشرين. قال: أصبت ومضى. فقال الخياط في نفسه: ما أظنه إلا يمضي بهذه الدراهم التي حسبها ليزيدها على العشرين فلأردنها إلى موضعها، فإذا زاد عليها أخذت الجميع ففعل؛ فكر بهلول إلى الموضع، فأخذ الدراهم وأحدث في موضعها ثم مضى؛ فقام الرجل مسرعاً، فلما أدخل يده امتلأت حدثاً، ولم يجد شيئاً؛ فعارضه بهلول، وقال: خذ في يدك كذا وكذا. كم في يدك ؟ قال: مائة وعشرون. قال: ما في يدك إلا حدث، فانتشر خبر الخياط، وولع الصبيان فيه حتى هرب من الكوفة.
ولبهلول هذا حكم؛ وكان يتشيع فقيل له يوماً: أيما أفضل أبو بكر أم علي رضي الله عنهما ؟ فقال له: أما وأنا في كندة فعلي، وأما وأنا في ضبة فأبو بكر. وكندة بالكوفة من غلاة الرافضة، وبنو ضبة أهل سنة.
ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس للنظر إليه، فناداه بهلول ثلاثاً. فقال: من المجترىء علي في هذا الموضع ؟ قيل: بهلول المجنون. فرفع السجافة وقال: بهلول ؟ قال: لبيك يا أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبد الله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك؛ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك. قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك الله. قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً فأنفق في ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في خالص ديوان الله من الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ردها على من أخذتها منه؛ فلا حاجة لي بها. فقال: يا بهلول؛ إن كان عليك دين قضيناه. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: فنجري عليك ما يكفيك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني؛ فأرسل الرشيد السجف وسار.

وقيل: إن بهلولاً كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه.

من نوادر المجانين

وقال هارون المخزومي: رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يقول أحدهما: هذا أنت تأكله، ويقول الآخر: بل أنت تأكله. قال: فقلت لهما وأنا أظن أن أربح عليهما : أنا آكله. فقالا: يا أحمق، إنه مع أدم. فقلت: وما أدمه ؟ قالا: وجء الحلق وصفع العنق. فوليت عنهما، فقالا: يا مجنون؛ لولا بشاعة الأدم لكنا أكلناه منذ حين.
وقيل لسعيد العامري وكان من أصحاب النوبهاري : لقد حظيت بكثرة المال. قال: فإني بعتك مالي كله بحبة من عقل غفار الموسوس. قلت: وأي شيء رأيت من عقله ؟ قال: رأيته يوماً وقد وقف عليه رجلان أحدهما سكران، فجعل السكران يفتري عليه وهو يفتري على الصاحي؛ فقلت له: لم لا تشتم الذي يشتمك ؟ قال: لأن معه شيطاناً لا أقوى عليه، فالتفت إلي السكران وقال: يابن الفاعلة؛ أتحرضه علي ؟ ورفع رجله من الأرض فشيعني بها موضحة ومر يعدو. فقال غفار: من هذا فررت.

من نوادر أبي نواس

ومر عثمان بن حفص الثقفي بأبي نواس وقد خرج من علة وهو مصفر الوجه، وكان عثمان أقبح الناس وجهاً. فقال له عثمان: ما لي أراك مصفراً ؟ فقال أبو نواس: رأيتك فذكرت ذنوبي. قال: وما ذكر ذنوبك عند رؤيتي ؟ فقال: خفت أن يعقابني الله فيمسخني قرداً مثلك.

ولما حبس الأمين أبا نواس دخل عليه خال الفضل بن الربيع، وكان يتعهد المحبوسين، ويسأل عنهم وكانت فيه غفلة، فأتى أبا نواس وقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة ؟ أزنديق أنت ؟ قال: معاذ الله. قال: أتعبد الكبش ؟ قال: ولكني آكله بصوفه. قال: أتعبد الشمس ؟ قال: والله ما أجلس فيها من بغضها، فكيف أعبدها ! قال: أفتعبد الديك ؟ قال: لا والله، بل آكله، ولقد ذبحت ألف ديك، لأن ديكاً نفرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكاً إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست ؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. قال: وأنا أيضاً أفعل ذلك، ثم خرج إلى الفضل فقال: ما تحسون جوار الله تحبسون من لا ذنب له، سألت رجلاً في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بكل ما جرى بينه وبين أبي نواس، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته للحال.

الأمين يحبس أبا نواس

وكان أبو نواس حبس في أيام الأمين مرتين؛ إحداهما أنه بلغ الأمين قوله:

ومسـتـعـبـد إخـوانـه بـثـرائه

 

لبست له كبراً أبرّ علـى الـكـبـر

إذا ضمّنـي يومـاً وإياه مـجـلـسٌ

 

رأى جانبي وعراً يزيد على الوعـر

أُخالـفـه فـي شـكـلـه وأجـرّه

 

على المنطق المنزور والنّظر الشّزر

فواللّه لا ألوي لـسـانـي بـحـاجةٍ

 

إلى أحدٍ حتى أُوسّـد فـي قـبـري

وقد زادني تيهاً على النـاس أنـنـي

 

أراني أغناهم وإن كنـت ذا فـقـر

فلو لم أنل فخراً لكانـت صـيانـتـي

 

فمي عن جميع الناس حسبي من فخر

فلا يطمعنّ في ذاك منّـي طـامـعٌ

 

ولا صاحب التاج المحجّب في القصر

فقال: وبلغ بك الأمر إلى أن تعرض بي في شعرك يابن اللخناء ! فقال سليمان بن أبي جعفر: هو والله يا أمير المؤمنين زنديق، وقد شهد عندي جماعة أنه شرب ماء مطر مع خمر، فقيل له: لم فعلت ذلك ؟ قال: لأشرب الملائكة فإنه كان مع كل قطرة ملك، فأمر بحبسه فقال:

يا ربّ إنّ القوم قد ظلمونـي

 

وبلا اقتراف خطيئةٍ حبسوني

وإلى الجحود بما عليه طوّيتي

 

بالزور والبهتان قد نسبونـي

أما الأمين فلست أرجو دفعه

 

عنّي فمن لي اليوم بالمأمون

فقال المأمون لما بلغه ذلك: والله لئن أدركته لأحسنن إليه، فمات قبل دخول المأمون بغداد.
ولما دخل بها سنة أربع ومائتين وأتاه الشعراء يمدحونه قال: ما فعل أبو علي الحسن بن هانىء؟ قالوا: توفي، فلم يسمع منهم شعراً وتوجع وقال: لقد ذهب ظرف الزمان بموته، وانحطت رتبة الشعر بذهابه.
وكان أبو نواس في آخر أيام الأمين مستخفياً فلم يظهر حتى قتل؛ لأنه كان أملح الناس وجهاً، وكان أبو نواس إذا نظر إليه بقي باهتاً فقال فيه:

عذّب قلـبـي ولا أقـول بـمـن

 

أخاف مـن لا يخـاف مـن أحـد

إذا تـفـكّـرت فـي هـواي لـه

 

مسست رأسي هل طار عن جسدي

إني على ما ذكرت مـن فـرقـي

 

لآمـل أن أنـالـــه بـــيدي

وقال:

يا قاتل الرجل البـريّ

 

وسالباً عزّ المـلـيك

كيف السبيل للثم سـا

 

لفتيك أو تقبيل فـيك

اللّه يعـلـم أنـنـي

 

أهوى هواك وأشتهيك

وأصدّ عنك حـذار أن

 

تقع الظنون عليّ فيك

فظهر الشعر، فلم يزل أبو نواس مستخفياً.

وحبسه الأمين قبل ذلك: وذلك لأن المأمون لما خلعه بخراسان ووجه طاهر بن الحسين إليه ليحاربه، كان يعمل بعيوب الأمين كتباً لتقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما عابه به أنه قال: احتبس شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، وهو القائل:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر

 

ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجـهـر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى

 

فلا خير في اللذّات من دونها ستـر

قال أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي: هذا معنى ظريف، يقول: إن الملاذ بالحواس الخمس وهي: النظر والسماع والشم والذوق واللمس؛ فقد استمتعت حاسة البصر بالنظر إليها، وحاسة الشم بتضوعها وطيب نكهتها، وحاسة الذوق بطعمها، وحاسة اللمس بلين اللمس، وبقي حاسة السمع معطلة. فقال: وقل لي هي الخمر؛ لتلتذ حاسة السماع فيكمل الاستمتاع.

ثم يذكر الأمين في خطبة العراق، فيقول: أهل فسق وخمور وفجور وماخور، ويقوم رجل بين يديه فينشد أعابيس أبي نواس كقوله:

يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ

 

قم سيدي نعص جبّار السموات

فقام والليل يجلوه النهار كمـا

 

يجلي التبسّم عن غرّ الثنـيّات

ومن هنا أخذ ابن الرومي، فجاء بأبدع عبارة، وأنصع استعارة، وأصح تشبيه، وأملح تنبيه. فقال يصف سوداء:

يفترّ ذاك السواد عن يقـقٍ

 

من ثغرها كاللآلىء اليقق

كأنّها والمزاح يضحكهـا

 

ليلٌ تعرّى دجاه عن فلق

فاتصل بالأمين خبر المأمون، فأغراه الفضل بن الربيع بأبي نواس فحبسه، فكتب أبو نواس إلى الفضل من الحبس:

أنت يابن الربيع علّمتني الخي

 

ر وعوّدتنيه والخـير عـاده

فارعوى باطلي وعاودني حل

 

مي وأحدثت رغبةً وزهـاده

لو تراني شبهتني الحسن البص

 

ريّ في حال نسكه أو قتـاده

المسابيح في ذراعي والمـص

 

حف في لبّي مكان القـلاده

فإذا شئت أن ترى طرفةً تـع

 

جب منها مليحةً مستـفـاده

فادع بي لا عدمت تقويم مثلي

 

فتأمّل بعينـك الـسّـجّـاده

ترى أثراً من الصلاة بوجهي

 

توقن النفس أنّها من عـبـاده

لو رآها بعض الرائين يومـاً

 

لاشتراها يعدّها للـشـهـاده

ولقد طالما شقـيت ولـكـن

 

أدركتني على يديك السعـاده

فلما بلغ الشعر الفضل ضحك، وقال: من علم أن السجادة تصلح للشهادة بعد؛ وكلم فيه الأمين فتركه بعد أن أخذ عليه ألا يشرب الخمر فقال:

ما من يدٍ في الناس واجدةٍ

 

كيدي أبي العباس مولاها

نام الثقات على مضاجعهم

 

وسرى إلى نفسي فأحياها

قد كنت خفتك ثم أمّننـي

 

من أن أخافك خوفك اللّه

فعفوت عنّي عفو مقتـدرٍ

 

وجبت له نقمٌ فألفـاهـا

ومن قوله في ترك الشرب:

أيّها الرائحان باللوم لوما

 

لا أذوق المدام إلاّ شميما

نالني بالـمـلام فـيهـا إمـامٌ

 

ما أرى لي خلافه مستقـيمـا

فاصرفاها إلى سواي فـإنّـي

 

لست إلاّ على الحديث نديمـا

فكأنـي ومـا أزيّن مـنـهـا

 

قعديٌّ يزيّن الـتّـحـكـيمـا

كلّ عن حمله السّلاح إلى الحر

 

ب فأوصى المطيق ألاّ يقيمـا

والقعد: فرقة من الخوارج يأمرون الناس بالخروج وهم لا يخرجون. وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال في ذلك أيضاً:

غنّنا بالطّلول كـيف بـلـينـا

 

واسقنا نعطك الثناء الثمـينـا

من سلافٍ كأنها كـلّ شـيءٍ

 

يتمنّى مخـيّر أن تـكـونـا

أكل الدهر ما تجسّم مـنـهـا

 

وتبقّى لبابها الـمـكـنـونـا

فإذا ما اجتليتـهـا فـهـبـاءٌ

 

يمنع الكفّ ما تبيح العـيونـا

ثم شجّت فاستضحكت عن لآلٍ

 

لو تجمّعن في يدٍ لاقتـنـينـا

في كئوسٍ كأنـهـنّ نـجـومٌ

 

دائراتٌ بـروجـهـا أيدينـا

طالعاتٌ مع السقاة عـلـينـا

 

فإذا ما غربن يغربن فـينـا

لو ترى الشّرب حولها من بعيد

 

قلت قومٌ من قرّةٍ يصطلونـا

وغـزال يديرهـا بـبـنـانٍ

 

ناعماتٍ يزيدها المزج لـينـا

كلما شئت علّنـي بـرضـابٍ

 

يترك القلب للسرور قـرينـا

ذاك عيشٌ لو دام لي غير أني

 

عفته مكرهاً وخفت الأمينـا

وقال أيضاً:

أعاذل أعتبت الإمـام وأعـتـبـا

 

وأعربت عمّا في الضمير وأعربا

وقلت لساقيها أجزها فلـم يكـن

 

ليأبى أمير المؤمنـين وأشـربـا

فجوّزها عني سلافاً ترى لـهـا

 

إلى الأفق الأعلى شعاعاً مطنّبـا

إذا عبّ منها شارب القوم خلتـه

 

يقبّل في داجٍ من الليل كوكـبـا

ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً

 

وما لم تكن فيه من البيت مغربـا

يدور بها رطب البنان تـرى لـه

 

على مستدار الخدّ صدغاً معقربا

سقاهم ومنّاني بعـينـيه مـنـيةً

 

فكانت إلى قلبي ألـذّ وأطـيبـا

بين أبي نواس والحسين بن الضحاك

قال الحسين بن الضحاك: أنشدت أبا نواس قولي:

وشاطريّ اللسان مختلف السّ

 

سكرة شاب المجون بالنسك

فلما بلغت فيه:

كأنّما نصب كأسه قـمـرٌ

 

يكرع في بعض أنجم الفلك

نعر نعرة منكرة. فقلت: ما لك فقد رعتني ! فقال: هذا المعنى أنا أحق به، ولكن سترى لمن يروى ثم أنشدني بعد أيام:

إذا عبّ منها شارب القوم خلته

 

يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا

فقلت: هذه مطالبة يا أبا علي. فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة ! وقال فيه ابن الرومي فجاء بأحسن منهما:

ومهفهف كملت ملاحتـه

 

حتى تجاوز منية النفـس

تصبو الكئوس إلى مراشفه

 

وتضجّ في يده من الحبس

أبصرته والكأس بين فـمٍ

 

منه وبين أناملٍ خـمـس

وكأنها وكأنّ شـاربـهـا

 

قمرٌ يقبّل عارض الشمس

من غزل بشار

وإنما اتبع أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشرب وطاعته لأمر الأمين مذهب أبي معاذ بشار بن برد وذلك أنه لما قال:

لا يؤيسنّك مـن مـخـبّـأةٍ

 

قولٌ تغلّظـه وإن جـرحـا

عسر النساء إلى مـياسـرةٍ

 

والصعب يركب بعدما جمحا

فبلغ ذلك المهدي فغاظه، وقال: يحرض الناس على الفجور، ويسهل لهم السبيل إليه. فقال له خالد بن يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، ق افتتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:

عجبت فطمة من نعتي لـهـا

 

هل يجيد النعت مكفوف البصر

بنت عشرٍ وثلاثٍ قـسّـمـت

 

بين غصن وكثـيب وقـمـر

درّة بـحـريّة مـكـنــونةٌ

 

مازها التّاجر من بين الـدّرر

أذرت الدّمع وقالـت ويلـتـي

 

من ولوع الكفّ ركّاب الخطر

أُمتي بـدّد هـذا لـعـبـي

 

ووشاحي حلّه حتى انتـثـر

فدعيني مـعـه يا أُمّـتـي

 

علّنا في خلوةٍ نقضي الوطر

أقبلت في خلوةٍ تضـربـهـا

 

واعتراها كجنون مستـعـر

بأبي واللّـه مـا أحـسـنـه

 

دمع عيني غسّل الكحل قطر

أيها النّوام هـبّـوا ويحـكـم

 

وسلوني اليوم ما طعم السهر

فأمره المهدي ألا يتغزل؛ فقال أشعاراً في ذلك منها:

يا منظراً حسنـاً رأيتـه

 

من وجه جاريةٍ فديتـه

واللّـه ربّ مـحـمـدٍ

 

ما أن غدرت ولا نويته

أعرضت عنك وربّـمـا

 

عرض البلاء وما اتّقيته

إنّ الخلـيفة قـد أبـى

 

وإذا أبى شـيئاً أبـيتـه

ويشوقني بيت الحـبـي

 

ب إذا غدوت وأين بيته

ومخضّبٍ رخص البنـا

 

ن بكى عليّ وما بكيتـه

قام الـخـلـيفة دونـه

 

فصبرت عنه وما قليته

ونهاني الملك الـهـمـا

 

م عن النساء فما عصيته

بل وقد وفيت فلم أضـع

 

عهـداً ولا وأياً وأيتـه

وأنا المطلّ على العـدا

 

وإذا غلا الحمد اشتريته

وقال:

واللّه لولا رضا الـخـلـيفة مـا

 

أعطيت ضيماً عليّ في شجـنـي

قد عشت بين الـنّـدمـان والـرّا

 

ح والمزهر في ظلّ مجلسٍ حسن

ثم نهاني المهديّ فـانـصـرفـت

 

نفسي صنيع الموفّـق الـلّـقـن

وقال:

أفنيت عمري وتقضّى الشباب

 

بين الحميّا والجواري الأواب

فالآن شفّعت إمـام الـهـدى

 

وربما طبت لحـبّ وطـاب

لهوتن حتى راعـنـي داعـياً

 

صوت أمير المؤمنين المجاب

لبيك لبيك ! هجرت الصّـبـا

 

ونام عذّالي ومات العـتـاب

أبصرت رشدي وتركت المنى

 

وربما ذلّت لهـنّ الـرقـاب

وفي هذه الكلمة يقول:

يا حامد الفـعـل ولـم يبـلـه

 

سبقت بالسّيل سيل السـحـاب

الفعل أولى بثـنـاء الـفـتـى

 

ما جاءه من خطأٍ أو صـواب

دع قول واءٍ وانتظر فـعـلـه

 

ينبي عن اللّقحة ما في الحلاب

إذا غدا المهـديّ فـي جـنـده

 

وراح في آل الرسول الغضاب

بدا لك المعروف في وجـهـه

 

كالظّلم يجري في الثنايا العذاب

ومن شعره المطرب في الغزل قوله:

أيّها السّاقيان صبّـا شـرابـي

 

واسقياني من ريق بيضاء رود

إن دائي الصّدى وإنّ شـفـائي

 

شربةٌ من رضاب ثغرٍ بـرود

عندها الصبر عن لقائي وعندي

 

زفراتٌ يأكلن قلب الـجـلـيد

ولها مبسمٌ كثغـر الأقـاحـي

 

وحديثٌ كالوشي وشي البـرود

نزلت في السواد من حبّة القـل

 

ب ونالت زيادة المـسـتـزيد

ثم قالت: نلقـاك بـعـد لـيالٍ

 

والليالي يبـلـين كـلّ جـديد

لا أبالي من ضنّ عنّي بوصـلٍ

 

إن قضى اللّه منك لي يوم جود

وقوله:

لو عاينوها لم يلوموا على البكا

 

كريماً سقاه الخمر بدرٌ محلّق

فكيف تناسى من يكون حديثه

 

بأذني وإني غيبت قرطٌ معلّق

وقوله:

كأنّها حين لاحت في مجاسـدهـا

 

فارتجّ أسفلها واهتزّ أعـلاهـا

حوراء جاءت من الفردوس تفتنه

 

كالشمس طلعتها والمسك ريّاهـا

من اللواتي غدت فرداً وشقّ لهـا

 

من ثوبه الحسن سربالاً فردّاهـا

راحت ولم تعطه برءاً لقرحـتـه

 

منها ولو سألته النفس أعطاهـا

تغمّه نفسه من طول صبوتـهـا

 

حتى لو اجتمعت في الكفّ ألقاها

ما شاهد القوم إلا ظلّ يذكـرهـا

 

ولا خلا ساعةً إلاّ تـمـنّـاهـا

وقول بشار: عجبت فطمة من نعتي لها قد احتذاه محمد بن مناذر:

قد جدّ بي في اللعب

 

ذو راحة من تعب

جسم من الفضة قد

 

أُشرب ماء الذهب

جارية صـغـــيرة

 

مشغولة بالـلـعـب

صاحت وقد روّعتهـا

 

بقـبـلة واحـربـي

أنت وربّي يا فـتـى

 

تريد أن تصنـع بـي

إيّاك أن يدعو عـلـي

 

ك اليوم أمّـي وأبـي

فلم أزل أخـتـلـهـا

 

حتى علوت مركبـي

وهي كغصن مالت الرّ

 

يح به مضـطـرب

تجود عيناهـا بـجـا

 

ري دمعها المنسكـب

من مليح ما قيل في الصغار

ومن مليح ما قيل في الصغار قول أبي نواس الحسن بن هانىء:

حين أوفى على ثلاث وعشر

 

لم يطل عهد أذنه بالشنوف

وبه غنّة الصبا تعتـلـيهـا

 

بحّة الاحتلام للتـشـريف

حين رام أنسنا منه بـعـين

 

وثنى أختها من التخـويف

وقال عبد الله بن الحسين الكاتب:

جاريةٌ أذهلها اللـعـب

 

عمّا يقول الهائم الصبّ

شكوت ما ألقاه من حبّها

 

فأقلت تسأل ما الحـبّ

وقال ابن المعتز:

الآن زاد على عشـر بـواحـدة

 

وزاد أخرى وشاب الحبّ بالخدع

وجاوب اللحظ منه لحظ عاشقـه

 

وجرّر الوعد بين اليأس والطمع

وكان غرّاً بقتلي ليس يحسـنـه

 

والآن بدّع في قتلي على البـدع

وقال غيره:

إني بليت بـطـفـلة

 

هيفاء جائلة الوشاح

وملـيحة يا ويلـتـي

 

ماذا لقيت من الملاح

ما جاز عشراً سنّهـا

 

بيضاء كالقمر اللّياح

وقال أعرابي في جارية صغيرة وعده أبوها أن يزوجها منه:

أعلقني بعشقها أبـوهـا

 

مليحة العينين عذبٌ فوها

قليلة الأيام إن عـدّوهـا

 

لا تحسن السبّ إذا سبّوها

وقال قيس بن الملوح:

وعلّقت ليلى وهي غرٌّ صغيرة

 

ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا

 

إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم

من نوادر مزيد المديني

مزيد المديني، قالت له امرأته يوماً ليس شيء أربح من عمل النبيذ، فعملته، فأتاها برجل معه درهم واحد. فقالت له: لا أبيعه إلا جملة، فأتى صاحب الشرطة فقال له: إن امرأتي عندها نبيذ؛ فوجه الحرس، وقال: كونوا معه، فإن كان في بيته نبيذ فاطرحوه وامرأته في الحبس، وإن لم يكن فيه شيء فردوه إلي.
فجاءوا فدخلوا منزله فوجدوا النبيذ. فقال لامرأته: قد جئتك بمن يأخذه جملةً، فكسروا جرار النبيذ وجلدوهما جميعاً، ومضوا بهما إلى الحبس، فلما حصلا فيه قال لامرأته: وأزيدك فائدة نحن فيه لم تخطر ببالك. قالت: وما هي يا مشؤوم ؟ قال: استرحنا من كرى البيت.

وزفت إليه امرأة فأتته الماشطة وهي تجلي، فقالت: انحلها شيئاً. قال: قد نحلتها تطليقة.
ودفع قميصه إلى الغسال، فرده إليه وقد نقص شبراً. فقال: ليس هذا قميصي؛ قميصي أتم من هذا شبراً. قال: جعلت فداك ! إنما تقلص في الغلس لأنه قطن. فقال له مزيد: اقعد حاسبني، في كم غسلة يرجع جرمازاً.

ودخل على بعض الموالي وكان المولى ذا مال كثير وهو على سرير ممتد، وبين يديه ولد من ولد أبي بكر الصدق وآخر من ولد عمر بن الخطاب وهما على الأرض. فتجهمه وقال: قبحك الله يا مزيد، فما أكثر إلحافك، وأشد إجحافك ! كل يوم تأتيني سائلاً ! قال: لم آتك في مسألة، وإنما أتيتك أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد المخزومي:

إنّي وما نحروا غداة منىً

 

عند الجمار تؤودها العقل

لو بدّلت أعلى منازلـهـا

 

سفلاً وأصبح سفلها يعلو

فلما رأيتك فوق ورأيت هذين تحتك عرفت معنى البيتين.

فقال: اعزب عليك لعنة الله، وارتج المجلس ضحكاً.

شعر ابن أبي ربيعة والحارث المخزومي

وذكر بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي؛ فقال رجل من ولد خالد بن العاص: صاحبنا أشعر يعني الحارث فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يابن أخي ! فلشعر ابن أبي ربيعة لوطةٌ بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، ليس لشعر الحارث، وما عصير الله قط بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك: أشعر قريش من رق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه. فقال الذي من ولد خالد بن العاص: صاحبنا يقول:

إنّي وما نحروا غداة منىً

 

عند الجمار تؤودها العقل

لو بدّلت أعلى منازلـهـا

 

سفلاً وأصبح سفلها يعلو

فيكاد يعرفها الخبير بهـا

 

فيردّه الإقواء والمـحـل

لعرفت مغناها بما احتملت

 

منّي الضلوع لأهلها قبل

فقال ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا؛ أما تطير عليها الحارث، حين قلب ربعها، فجعل عاليه سافله؛ ما بقي عليه إلا أن يسأل الله حجارةً من سجيل وعذاباً أليماً. ابن أبي ربيعة كان أحسن للربع مخاطبةً وأجمل مصاحبة حيث يقول:

سائلاً الربع بالبلـيّ وقـولاً

 

هجت شوقاً لنا الغداة طويلا

أين أهلٌ حلّوك إذ أنت مسرو

 

رٌ بهم آهلٌ أراك جـمـيلا

قال ساروا وأمعنوا واستقلّوا

 

وبكرهي لو استطعت سبيلا

سئمونا وما سئمت مقـامـاً

 

واستحبّوا دماثةً وسـهـولا

وإنما أخذ الحارث قوله: لعرفت مغناها بما احتملت... البيت من قول امرىء القيس.

قال علي بن الصباح وراق أبي محلم: قال لي أبو محلم: أتعرف لامرىء القيس أبياتاً سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير القصيدة التي أولها:

ألمّا على الربع القديم بعسعسا

 

كأني أنادي أو أكلّم أخرسـا

فقلت: لا أعرف غيرها. فقال: أنشدني جماعة من الرواة، وأنشد أبياتاً أولها:

لمن طلل درسـت آيه

 

وغيّره سالف الأحرس

تنكّره العين من حادثٍ

 

ويعرفه شغف الأنفس

حديث الأطلال والدمن

وأخذه طريح بن إسماعيل الثقفي فقال وأحسن:

تستخبر الدّمن القفار ولم تكن

 

لتردّ أخباراً على مستخبـر

فأخذه أبو نواس، إلا أنه قلبه فجعل الإنكار للقلب فقال:

ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم

 

تعرّفه عيني ويلفـظـه وهـمـي

أتت صور الأشياء بـينـي وبـينـه

 

فظنّي كلا ظنّ وعلمي كلا عـلـم

قال ولو قال: تنكره عينين ويعرفه وهمي، لكان كالأول وكان أجود فلعل أبا نواس قصد الخلاف وأعجبه قوله: ويلفظه وهمي؛ لأنها لفظة جرت ملحيةً.

وقد ملح الحسن بن وهب في هذا المعنى إلا أنه ألم به وأجمله ولم يذكر القلب فقال:

أبليت جسمي من بعد جدّته

 

فما تكاد العيون تبصـره

كأنّه رسم منزلٍ خـلـقٍ

 

تعرفه العين ثم تنـكـره

وزعم يحيى بن منصور الذهلي أنه يعرف معهد أحبابه بقلبه ويكتمه عينه فقال:

أما يستفيق القلب إلاّ انبرى لـه

 

تذكّر طيفٍ من سعاد ومربـع

أُخادع عن عرفانه العـين إنـه

 

متى تعرف الأطلال عيني تدمع

وقال غيره:

هي الدار التي تعـر

 

ف أم لا تعرف الدارا

ترى منها لأحـبـاب

 

ك أعلامـاً وآثـارا

فيبدي القلب عرفانـاً

 

وتبدي العين إنكـارا

من التقعير

وحصلت لأبي علقمة النحوي علة، فدخل عليه أعين الطبيب يعوده. فقال: ما تجد ؟ قال: أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة، فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فما زال يزيد وينمى حتى خالط الخلب والشراسف، فما ترى ؟ قال: خذ خربقاً وسلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه.

فقال: ما تقول ؟ فقال: وصفت لي من الداء ما لا أعرف، فوصلت لك من الدواء ما لا تعرف. قال: ويحك فما أفهمتني. قال: لعن الله اقلنا إفهاماً لصاحبه.

من نوادر النحويين

وقال رجل اسمه عمر لعلي بن سليمان الأخفش: علمني مسألةً من النحو ؟ قال: تعلم أن اسمك لا ينصرف. فأتاه يوماً وهو على شغل. فقال: من بالباب. قال: عمر. قال: عمر اليوم ينصرف. قال: أوليس قد زعمت أنه لا ينصرف ؟ قال: ذاك إذا كان معرفة وهو الآن نكرة ! وقال الصولي: سكر هارون النديم عند المعتضد سكراً شديداً، ونهض الجلساء كلهم سواه فقال له الخادم الموكل بالندماء: انصرف. فقال: أمير المؤمنين أمرني بالمبيت هاهنا. فقال: يا أمير المؤمنين؛ هارون ينصرف. قال: لا ينصرف.
فلما أصبح رآه المعتضد، فقال: من هذا ؟ قيل: هارون بن علي. فقال للخادم الموكل بالندماء: متى تقدم للجلساء المبيت هنا ؟ فقال: أنت أعزك الله قلت: هارون لا ينصرف، قال: إنا لله ! إنما أردت النحو.
قال أبو العبر: قال لي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الظبي معرفة أو نكرة ؟ فقلت: إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو.
أبو الحسن علي بن سليمان كتب إلى بعض إخوانه يستعير دابة ودابة لا تجيء بوزن الشعر؛ لأنه جمع بين ساكنين:

أردت الركوب إلى حاجةٍ

 

فجد لي بفاعلةٍ من دببت

فأجابه الفتى وكان ظريفاً:

زيد بـهـا وجـعٌ غـامــز

 

فكن أنت لي فاعلاً من عذرت

ومن ملح النحويين:

أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعـراً

 

ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي !!

كما سامحوا عـمـراً بـواوٍ مـزيدةٍ

 

وضويق باسم اللّه في ألف الوصـل

وقال أبو الفتح البستي:

حذفت وغيري مثبتٌ في مكانه

 

كأنّي نون الجمع حين تضاف

المتوكل وعبادة المخنث

وكن المتوكل قد بسط من عبادة المخنث للدخول معه على كل حال، فدخل عليه وهو نائم مع سواد كان يحبها؛ فلما رآه أمرها أن تغطي وجهها. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ومن معك ؟ قال: ويلك ! وبلغ فضولك إلى هذا الموضع !، ومدت الجارية رجلها فبانت سوداء. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تنام ورجلك في الخف. فقال المتوكل: قم عليك لعنة الله ! وضحك وأمر له بصلة فأخذها وانصرف.

وكان عبادة يشرب بين يديه ويترك في القدح فضلة. فقال: يا عبادة؛ ما تدري ما يقول الناس ؟ قال: وما هو ؟ قال: يقولنه إن شارب النبيذ إذا شرب وعبس وجهه وفضلت في القدح فضلة فإن إبليس يضرب قفاه ويقول: اشرب فضلة ما استطبت.

فمضت الأيام واصطبح المتوكل وعبادة حاضر، وشرب قدحاً كان في يديه وفضلت فضلة. فقال: يا أمير المؤمنين، جاءك الرجل.

وتجارى الجواري بحضرة المتوكل فسبقتهن جارية ممشوقة. فقال المتوكل لعبادة: اجر معها حتى ننظر من يسبق صاحبه. فقال عبادة: إن سبقتها فما لي ؟ قال: هي لك، وإن سبقتك صفعتك. فجرت معه الجارية فسبقته مرة بعد أخرى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ كيف لا تسبقني وهي تجري بمدادين وأنا أركض بخرجين؛ فضحك المتوكل ووهبها له.

وغفل عنه المتوكل مرة فكتب له رقعة يسأذنه في الحج فضحك. وقال: عبادة يحج ؟ علي به، فلما دخل عليه قال له: ما خبرك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين؛ لقد تواضعت حتى ما آكل إلا الخشكار، ولا أشرب إلا نبيذ الدردي، ولا أسمع إلا غناء حواء، فأمر له بصلة.

جحظة يصف ضيق العيش

ألم جحظة البرمكي بهذا المعنى فقال:

إنّي رضيت من الرحـيق

 

بشراب تمرٍ كالعـقـيق

ورضيت من أكل السمي

 

ذ بأكل مسودّ الـدقـيق

ورضيت من سعة الصحو

 

ن بمنزلٍ ضنكٍ وضـيق

وجعلت تغريد الـحـمـا

 

مة منزلي عند الشـروق

فغدوت كسرى صاحب ال

 

إيوان والعـيش الأنـيق

وحجبت نفسي عن حجـا

 

ب الباخلين ذوي الطريق

القاطعـين مـخـافة ال

 

إنفاق أسباب الـصّـديق

جيران يتشممون الأماني

قال ابن أبي عتيق لامرأته: تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ، فنتخذ من الطعام لون كذا ولون كذا، فسمعته جارة له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته، فانتظرت إلى وقت الطعام، ثم جاءت فقرعت الباب، وقالت: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها. فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إن أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.

التمني والحلم أخوان

ولبس مزيد جبة فقيل له: أتتمنى أن تكون لك ؟ قال: نعم ! وأضرب عشرين سوطاً. قيل: ولم؟ ويحك ؟ قال: لا يكون شيء إلا بشيء.

قال الأصمعي: طلب الحجاج رجلاً فهرب منه، فمر بساباط فيه كلب نائم في ظله. فقال: يا ليتني مثل هذا الكلب، فما أتت ساعة حتى مر به الكلب وفي عنقه حبل، فسأل عنه فقالوا: جاء كتاب الحجاج وبه يأمر بقتل الكلاب.

وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن وعسل في جرة؛ ففكر يوماً فقال: أبيع هذه الجرة بعشرة دارهم فأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأزرع وينمى المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد، ويولد لي ولد، فأسميه كذا وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، وكانت في يده عصا فرفعها كالضارب، فأصابت الجرة، فانكسرت وتبدد السمن والعسل.

قال يزيد بن معاوية: ثلاث يخلقن العقل، وفيهن دليل على الضعف: سرعة الجواب، وطول التمني، والاستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني والحلم أخوان. وقالوا في نقيض ذلك: الأمل رفيق مؤنس، إن لم يبلغك فقد ألهاك. وأنشدوا:

أتاني من ليلى جوابٌ كـأنّـمـا

 

سقتني به ليلى على ظمأٍ بـردا

منىً إن تكن حقّاً تكن أحسن المنى

 

وإلاّ فقد عشنا بها زمنـاً رغـدا

وقال أعرابي:

رفعت عن الدنيا المنى غير حبها

 

فما أسأل الدنيا ولا أستـزيدهـا

وتحت مجاري الصدر منّا مودّةٌ

 

تطلّع سرّاً لا ينـادى ولـيدهـا

وقيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا ؟ فقال: ممازحة الحبيب، ومغالطة الرقيب، وأمان تقطع بها أيامك، وأنشد:

علّلينـي بـمـوعـد

 

وامطلي ما حييت به

ودعيني أفـوز مـن

 

ك بنجوى تطلّـبـه

فعسى يعثر الـزمـا

 

ن بحظّي فينتـبـه

عزة توازن بين شعر الأحوص وكثير

ودخل كثير بن عبد الرحمن على عزة؛ فقالت: ما ينبغي أن نأذن لك في الجلوس. قال ولم ذلك؟ قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانباً عند القوافي منك في شعره، وأضرع خداً للنساء وأنه الذي يقول:

يأيها اللائمي فيها لأصـرمـهـا

 

أكثرت لو كان يغني عنك إكثار

أقصر فلست مطاعاً إذ وشيت بها

 

لا القلب سالٍ ولا في حبّها عار

ويعجبني قوله:

أدور ولولا أن أرى أمّ جعفـر

 

بأبياتكم ما درت حـيث أدور

وما كنت زوّاراً ولكنّ ذا الهوى

 

إذا لم يزر لا بدّ أن سـيزور

لقد منعت معروفا أمّ جعـفـر

 

وإني إلى معروفها لفـقـير

ويعجبني قوله:

كم من دنيٍّ لها قد صرت أتبـعـه

 

ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا

لا أستطيع نزوعاً عن محبّـتـهـا

 

أويصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعـنـي

 

حتى إذا قلت هذا صادقٌ نـزعـا

وزادني رغبة في الحب أن منعت

 

أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا

وقوله:

إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهـوى

 

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

وما العيش إلاّ ما تلذّ وتـشـتـهـي

 

وإن لام فيه ذو الشـنـان وفـنّـدا

وإني لأهواها وأهـوى لـقـاءهـا

 

كما يشتهي الصادي الشراب المبرّدا

علاقة حبٍّ لجّ في سنن الـصّـبـا

 

فأبـلـى ومـا يزداد إلا تـجـدّدا

هذان البيتان ألحقهما الضبي وغيره بهذا الموضع من شعر الأحوص، وأنشدهما أبو بكر بن دريد لأعرابي.

فقال لها كثير: والله لقد أجاد فما استجفيت من قولي ؟ قالت: فذلك قولك:

وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي

 

وأظهرن مني هيبة لا تجهّمـا

يحاذرن مني غيرةً قد عرفنهـا

 

قديماً فما يضحكن إلاّ تبسّـمـا

تراهـنّ إلاّ أن يؤدين نـظـرةً

 

بمؤخر عينٍ أو يقلّبن معصمـا

كواظم ما ينطقن إلا مـحـورة

 

رجيعة قول بعد أن تتفهـمـا

وكنّ إذا ما قلـن شـيئاً يسـرّه

 

أسرّ الرضا في نفسه وتجرّمـا

وقولك:

وددت وبيت اللّه أنك بـكـرة

 

هجان وأني مصعب ثم نهرب

كلانا به عرٌّ فـمـن يرنـا يقـل

 

على حسنها جرباء تعدي وأجرب

نكون لذي مالٍ كثـير مـغـفّـل

 

فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب

إذا ما وردا منهلاً صاحب أهلـه

 

علينا فما ننفكّ نجفى ونضـرب

ويحك ؟! لقد أردت بي الشنعاء، ما وجدت أمنية أوطأ من هذه ؟ فخرج من عندها خجلاً.

وكثير إن قبح في هذا فقد ملح في قوله:

فليت قلوصي عند عـزّة قـيّدت

 

بقيد ضعيفٍ غرّ منها فضلّـت

وغودر في الحيّ المقيمين رحلها

 

وكان لها بـاغٍ سـواي ونـدّت

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

 

وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت

وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملـت

 

على ظلعها بعد العثار استقلّـت

أريد ثواءً عنـدهـا وأظـنّـهـا

 

إذا ما أطلنا عنده المكث ملّـت

وكان كثير على حدة خارطه وجودة شعره أحمق الناس. ودخل عليه نفر من قريش يعودونه وهو عليل ويهزأون به؛ قال بعضهم فقلت له: كيف نجدك ؟ قال: بخير. ثم قال: هل سمعتم الناس يقولون شيئاً ؟ قلت: نعم سمعتهم يقولون: إنك الدجال. قال: أما لئن قالوا ذلك إني لأجد في عيني اليمنى ضعفاً مذ أيام.