من نوادر الحمقى والممرورين

قال الجاحظ: حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان ممرور يأتي ساقية لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر والبرد، فإذا أمسى توضأ وصلى وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً، ثم انصرف إلى بيته؛ فكان كذلك إلى أن مات.

قال وحدثني ثمامة قال: مررت في غب مطر، والأرض ندية، والسماء مغيمة، والريح شمالية، وإذا شيخ أصفر كأنه جرادة، وقد جلس على قارعة الطريق وحجام زنجي يحجمه، وقد وضع على كاهله وأخدعيه محجمة كأنها قعب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه. قال: فوقفت عليه وقلت: يا شيخ، لم تحتجم في مثل هذا اليوم ؟ فقال: لمكان الصفار الذي فيّ.

من علامات الحمق

قال الجاحظ: ما رأيت رجلاً عظيم اللحية إلا وجدته كوسج العقل.

وقالت أعرابية لقاض قضى عليها: عظم رأسك، فبعد فهمك؛ وانسدلت لحيتك، فانشمر عقلك، وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين قبلك.

وعاب كوسج ألحى، فقرأ: "البلد الطيب بخرج نباته بإذن ربه والذي خَبثُ لا يخرج إلا نكداً" فقرأ الكوسج: "قل لا يستَوِي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث".

قال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يعرف حمق الرجل بخصال أربع: بطول لحيته وشناعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط شهوته. ثم رمى بصره إلى رجل طويل اللحية في أقصى المجلس فدعا به. فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فقال: كنيتي أبو الياقوت الأحمر. فقال: وما نقش خاتمك ؟ قال: "وتفقّد الطير"، فقال: "ماليَ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين".

وخرج مهزم بن الفرج القبعسي فقال: أيها الأمير، إني قد قلت بيتاً، وأنشد:

كفى حزناً أن الفراء كـثـيرة

 

وأني بمرو الشاهجان بلا فرو

فقال طاهر: هذه والله قافية شرود، أجيزوا؛ فأرتج عليهم. فقال مهزم: أنا أولى بإجابة نفسي. وقال:

صدقت لعمري إنها لكثـيرة

 

ولكنها عند الكرام أولي الثرو

فضحك طاهر، وقال: أما لئن أغفلناك حتى حملناك على سوء القول لنفسك سنستدرك، وأمر له بعشر أثواب من وبر الخز والوشي؛ فباع منها تسعاً بتسعين ألف درهم وأمسك واحدة.

من الأجوبة المضحكة

قال الجاحظ: كان جعيفران الموسوس يماشي رجلاً من إخوانه على قارعة الطريق، فدفع الرجل جعيفران على كلب فقال: ما هذا ؟ قال: أردت أن أقرنك به. قال: فمع من أنا منذ الغداة؟ شرب طوقان المغني عند الشريف الرضي فسرق رداؤه، فلما أصبح افتقده؛ فقال: قد سرق ردائي. فقال له الشريف: سبحان الله ! من تتهم منا ؟ أما علمت أن النبيذ بساط يطوى عليه. فقال: انشروا بساطكم حتى آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.

ودخل رجل أكول على قوم، فأكل أكلاً ذريعاً. فقال أحدهم: عجبت من أكله وسرطه. وقال الآخر: وشقه دجاجة ببطة، وقال آخر: وأكله دجاجة وبطة. وقال آخر: كأن جالينوس تحت إبطه.

فقالوا له: أما الذي قلناه فمفهوم، فما معنى قولك: كأن جالينوس تحت إبطه ؟ قال: لكي يناوله الجوارشن لئلا يتخم. قيل لمخنث: كم ورثت أختك من زوجها ؟ قال: أربعة أشهر وعشراً يريد العدة.

قال بعض العلويين لأبي العيناء: يقتضي وقد أمرت بالصلاة علي أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. قال: نعم ! فإذا قلت: الطيبين الأخيار خرجت أنت منهم.

أخذه يزيد بن محمد المهلبي فقال في صاحب الزنج بالبصرة:

أيها الخائن الذي دمّر الـبـص

 

رة أبشر من بعدها بـدمـار

إن تقل جدّي النبـيّ فـمـا أن

 

ت من الطـيبـين والأخـيار

قد نفى اللّه في الكتاب ابن نوح

 

حين كان ابنه من الـكـفـار

وإنما قال المهلبي هذا له قبل أن ينكشف أمره أن دعي.

صاحب الزنج

قال أبو بكر الصولي: وحدثني محمد بن أبي الأزهر وقد أذكرته خبر علي ابن محمد صاحب الزنج، فقال: ادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم، فنظرت مولده ومولد محمد بن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه علي مات بعد هذا المدعي اسمه ونسبه بزمان، ثم رجع عن هذا النسب فادعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان من زيد بن علي. قال أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة: لم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره لأنه قتل ابن ثماني عشرة سنة ولا ولد له. وقال بشر بن محمد بن السري بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبي لحاً وهو علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من ضياع الري. وكانت مدته من حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف، وله شعر حسن مطبوع، وزعم أبو بكر بن دريد أنه عمل له أكثره وما أرى هذا يصح؛ لأنه لا يشاكل طريق ابن دريد: فمنه:

ما تغطّي عساكر اللـيل مـنّـي

 

ما تجلّي مضاحك الصبح عنّـي

جسم سيف في جوف غمد ثـيابٍ

 

صدر إنسٍ من تحته قلب جنـي

ميت حسٍّ وحيّ نفسٍ كما الـشـم

 

س يرى مشيها بعين التظـنّـي

شمّـريّ إذا اسـتـقـلّ بـعـزمٍ

 

لم يعرّج بلـيتـنـي ولـو أنّـي

ما ينـال الـكـرى سـويداه إلاّ

 

حسوة الطائر الـذي لا يثـنّـي

إن رماه خطب قرى الخطب رأيٌ

 

فيه روع النّجا وحكم الـتـأنّـي

كم ظلام جعلتـه طـيلـسـانـي

 

صاحبي همّتي وقلبي مجـنّـي

كم حبال قطعت في وصل أخرى

 

تاركاً ما أخاف من سوء ظنّـي

مسـتـخـفّ بـذا وذاك وهـذا

 

لم أُسمع ندامتي قـرع سـنّـي

أنا روض الرّبيع في كل زهـرٍ

 

فيلسوف الزّمان فـي كـل فـنّ

وقال:

لقد علمـت هـاشـمٌ أنّـنـا

 

صباح الوجوه غداة الصّـياح

وأنّا إذا زعزعت في الوغـى

 

ذيول الرّياح ذبول الـرمـاح

نسوق السّيوف بدفع الحتـوف

 

وننكي الجراح بكفّ الجراح

ونسمو سماحاً أكفّ السّمـاح

 

بقسم رماح وبيض صـفـاح

وقرم صبـحـنـاه فـي داره

 

بكل أقـبٍّ ونـهـدٍ وقـاح

فغودر بعد عنـاق الـمـلاح

 

ضجيع النّجيع مرح الجراح

كليل الأنين مذال الـجـبـين

 

مهين السّلاح مهيض الجناح

صلى نور عيني بنور الأقـاح

 

وراح الأكفّ بـمـاء وراح

فما طول عشقي مزاح الملاح

 

بمشتغل عن صياح الصبـاح

وقال:

أسمعاني الصـياح بـالإمـلـيس

 

وصياح العيرانة العيطـمـوس

واتركاني من قرع مـزهـر ريا

 

واختلاف الكئوس بالخـنـدريس

ليس تبنى الـعـلا بـذاك وهـذا

 

لكن الضرب عند أزم الضروس

عيّفت عن كل اللبانات نـفـسـي

 

وسمت نحو غير ذلك حدوسـي

وخلا من هواجس النأي قلـبـي

 

كخلوّ الطلـول بـعـد الأنـيس

واسبطّرت حمالق القوم لـلـمـو

 

ت وصارت نفوسهم في الرّؤوس

رب سيد يحمي الخميس بعضـبٍ

 

ويجلي ظلام لـيل الـخـمـيس

عمّمته يمنـى يديّ بـعـضـبٍ

 

تركت جنبه كجنب الـعـروس

تخبرنك الكماة عن غدواتي

 

في غداة الوغى أبا قابوس

فسلوا عامراً وعارض لمّا

 

أن لقوا بالفجور والتدليس

أتروني أقرّ بالنّوم غمضـاً

 

يا عبيد الصليب والناقوس

وقال:

وإنّا لـتـصـبـح أسـيافـنـا

 

إذا ما اصطبحنا بيوم سـفـوك

منا برهـنّ بـطـون الأكـف

 

وأغمادهنّ رؤوس الـمـلـوك

وما لي في الخلق من مشـبـهٍ

 

ولا في اكتساب العلا من شريك

وقال يخاطب بني العباس:

بني عمنا لا توقدوا نار فـتـنة

 

بطيء على مرّ الليالي خمودها

بني عمّنا إنا وأنـتـم أنـامـلٌ

 

تضمّنها من راحتيها عقودهـا

بني عمّنا ولّيتم التّرك أمـرنـا

 

بديئاً وأعقاباً ونحن شهـودهـا

فأُقسم لا ذقت القراح وإن أذق

 

فبلغه عيش أو يبار عمـيدهـا

وقال:

لهف نفسي على قصورٍ ببغـدا

 

د وما قد حوته من كلّ عـاص

وخمور هناك تشرب جـهـراً

 

ورجالٍ على المعاصي حراص

لست بابن الفواطم الزّهر إن لم

 

أُقحم الخيل بين تلك العـراص

وقتله الموفق بعد أن جرت له معه مواقعة عظيمة، وجرح الموفق جرحاً في صدره أشرف منه على الموت، ولذلك قال ابن المعتز:

شقّ الصفوف بسيفـه

 

وشفى حزازات الإحن

دامي الجراح كأنـهـا

 

وردٌ تفتّح في غصـن

ومن ملح النوادر

قال الجاحظ: سمعت رجلاً يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقاً. قال: وأي شيء الزنديق ؟ قال: الذي يقطع المزيقة. قلت: وكيف علمت أنه يقطع المزيقة ؟ قال: رأيته يأكل التين بالخل.
وهذا كما قال النظام لرجل: أتعرف فلاناً المجوسي ؟ قال: أعرفه، ذاك الذي يحلق وسط رأسه مثل اليهود. قال: لا مجوسياً عرفت ولا يهودياً وصفت.

باع مزيد المديني دابة، فلما كان من الغد أتاه النخاسون طمعاً، فلما نظر إليهم قد أقبلوا نحوه قام يصلي فأطال الصلاة، فقالوا له وهم لا يعفرونه : يا عبد الله؛ قد ذهب يومنا، فأطمعهم طول قيامه، وكان أحسن الناس سمتاً وأظهرهم هدياً، فانفتل من صلاته فقال: ما بالكم ؟ فقد قطعتم علي صلاتي. فقالوا له: قد ظهر بالدابة عيب. قال: وما عيبه قالوا: يخلع الرسن. قال: لا أعرفه بهذه الصفة؛ فماذا تريدون ؟ قالوا: خصلة من ثلاث؛ إما الحطيطة، وإما رد الثمن وأخذ الدابة، وإما اليمين بالله أنك ما تعرف هذا فيه.
فقال: أما الثمن فقد فرقناه، وأما الحطيطة فما تمكننا، وأما اليمين فإني ما حلفت قط على حق ولا على باطل، فاعفوني منها؛ فإنها أصعب الخطط عندي. قالوا: ما من ذلك بد؛ فانطلق بنا إلى الوالي. فقام معهم، فلما بصر به الوالي ضحك، وقال: ما جاء بك أبا إسحاق ؟ فقص عليه القصة. فقال: قد أنصفك القوم. فقال: أعز الله الأمير، أحلف وأنا في هذه السن، وضرب يده على لحيته وبكى. وقال: ما حلفت على حق ولا على باطل والتوى. قال: لا بد، فالتوى ساعة؛ ثم قال: أصلح الله الأمير فإن حملت نفسي على اليمين وحلفت وأعنتوني بعد ؟ قال: أوجعهم ضرباً، وأحبسهم. فلما سمع ذلك استقبل القبلة وقال: بلغت السماء، وكورت الشمس، ونثرت الكواكب، وشربت البحر، ولطعت ما في المصحف من الذكر الحكيم، وتوليت عاقر الناقة، وسرقت عصا موسى عليه السلام، ولقيت الله بذنب فرعون يوم قال: أنا ربكم الأعلى؛ وغير ذلك من محرج الأيمان، لقد كان عندي دواب كلها تخلع أرسانها، فكان هذا الحمار يقوم فيعديها عليها ويصلحها بفمه قليلاً قليلاً. فضحك الوالي حتى فحص برجليه، وبهت النخاسون، وعجبوا منه وانصرفوا عنه.

وقال بعض الشعراء:

سألوني اليمين فارتعت منها

 

كي يغرّوا بذلك الارتـياع

ثم أرسلتها كمنحدر السـي

 

ل تهادى من المحلّ اليفاع

قاض دفع مالاً لمن توجّه إليه باليمين

ومن ظريف ما في هذا الباب ما حكاه الصولي قال: كنت يوماً بين يدي أمير المؤمنين الراضي بالله إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي، يذكر أن رجلاً أحضر خصماً للقاضي، وادعى عليه مائة دينار؛ فألزم القاضي الغريم اليمين؛ إذ لم يجد الخصم بينة؛ فأخذ الدواة وكتب بيتين فدفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مائة دينار ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:

وإنـي لـذو حـلـفٍ كـــاذب

 

إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق

وهل من جناحٍ عـلـى مـسـلـمٍ

 

يدافـع بـالـلّـه مـا لا يطـيق

فعجب الراضي من الرجل وديانته، لخلاصه من الحكم؛ وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله، ثم أمرني بالركوب إلى القاضي ومسألته في البحث عن صاحب البيتين وإحضاره إليه. فلم نزل أياماً حتى حصل لنا، فجئنا به إلى دار السلطان، فمر له بألف دينار وخمس خلع ومركوب حسن، وأمره بملازمة الدار؛ ثم قلده الأهواز وأعمالها.

من نوادر اللصوص

وخرج أبو سعيد الحربي مرة وهو شارب، فجلس يبول وعليه طيلسان خلق إبريسمي، فمر به بعض المكارين في الليل، وتناول طيلسانه، فصاح به أبو سعيد: فقال له الفتى: ما تريد ؟ قال: أصرف الله عنك الأذى.
ودخل على أبي سعيد اللصوص فأخذوا كل ما في داره، فلما مضوا حمل أبو سعيد البارية ومضى في أثرهم فنظر إليه أحدهم فقال: أي شيء تصنع معنا ؟ قال: نطلب بيتاً نتحول فيه بمرة، فضحك اللصوص وردوا عليه ما أخذوه منه.

من نوادر الأطباء

وكان ببغداد طبيب اسمه نعمان لا ينجح مريض على يديه، فقال فيه بعض الشعراء:

أقول لنعمـانٍ وقـد سـاق طـبّـه

 

نفوساً نفيسات إلى داخـل الأرض

أبا منذر أفنيت فاستبق بـعـضـنـا

 

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال كشاجم لعيسى بن نوح النصراني:

عيسى الطبيب ترفّق

 

فأنت طوفان نـوح

يأبى عـلاجـك إلاّ

 

فراق جسمٍ لـروح

شتّان ما بين عيسى

 

وبين عيسى المسيح

هذاك محيٍ لمـيتٍ

 

وذا مميت صحـيح

هذا منقول من قول رجل من بني تميم، لما دخل هلال بن أحوز البصرة بعد إيقاعه بني المهلب، وقد أطافت به بنو تميم، فقال شيخ من الأزد: رجالهم يطيفون به كما يطيفون بعيسى ابن مريم. فقال التميمي: هذا ضد عيسى ابن مريم؛ فإن ذاك يحيي الموتى وهذا يميت الأحياء.

من نوادر الفقهاء

قال رجل للشعبي: ما تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليه دم، أترى له أن يحجم ؟ فقال: الحمد لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة.

وقال له رجل: ما تقول في رجل شتمني في أول يوم من شهر رمضان، أتراه يؤجر ؟ قال: إن قال لك يا أحمق رجوت له ذلك.

دخل زاهر بن العلاء على الحجاج فنسي التسليم، فقال: التحيات لله الطيبات الصلوات لله. ثم ذكر التسليم فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.

من طرف المعزين

ودخل بعض الهاشميين على الرشيد معزياً. فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن الله عزاك، وربك عزاك، وأحاله علينا وعليك بخير، ورحم فلاناً ولا عرفه قليلاً ولا كثيراً، تأمر بشيء يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم ! آمر أهلك أن يدفنوك؛ فإن موتك حياة وحياتك موت.

مات أخ لأبي علقمة النحوي، فأتى ابنه يعلم أبا علقمة بموت أخيه. فقال: ما كانت علته ؟ فقال الغلام: تورمت رجلاه فانتهى الورم إلى ركبتاه. فقال أبو علقمة: لحنت؛ فقل: إلى ركبتيه. فقال الغلام: لقد شق عليك موت أبي حيث لم تدع بغضك ساعة !

من نوادر المحبين

ومرت بداود بن المعتمر امرأة جميلة، فقام يتبعها حتى أدركها. فقال: لولا ما رأيت عليك من سيماء الخير لم أتبعك، فضحكت حتى استندت إلى الحائط. فقالت: إنما يمنع مثلك من الطمع في مثلي ما يرى من سيماء الخير، فإذا كان هذا هو الذي يطمع في النساء فإنا لله وإنا إليه راجعون. وتعشق أبو القماقم السقا قينة فبعث إليها: حضر عندي إخوان فابعثي إلي بجام لوزينج آكله على ذكرك. فبعثت إليه به. فلما كان من الغد بعث إليها: أرسل لي بطبق مازاورد آكله على ذكرك. فقالت: جعلت فداك، ذكروا أن منبع الحب من القلب، فإذا تناهى بلغ إلى الكبد، وأنا أرى حبك لا يتجاوز معدتك. فقال: إنما فعلت هذا لأقوى على محبتك، ألم تسمعي قول الشاعر:

إذا كان في قلبي طعـامٌ ذكـرتـهـا

 

وإن جعت لم تخطر ببالي ولا فكري

وإن كان هذا العام قد قـلّ بـقـلـه

 

فقبح مـن يهـواك يا ربّة الـخـدر

ويزداد حبّي إن شـبـعـت تـجـدّداً

 

وإن جعت يوماً لم تكوني على ذكري

ومن مليح ما في هذا الباب أن أبا مسعود الأعمى كان جالساً في صحن داره، فأشرفت عليه جارية ظريفة، فعضت تفاحة ورمت بها في حجره. فتناولها وقال:

أيا تـفـاحة رمّـت

 

فؤادي للهوى رمّـا

لقد أهـداك إنـسـان

 

وأهداك لأمـرٍ مـا

ليهدي لاعج الشـوق

 

إلى من عضّ أو شمّا

فلم تكن إلا ساعة حتى وافت جارية لها، معها جام لوزينج وهي تقول: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: قد سمعت شعرك، ورأيتك بدأت بالعض قبل الشم، فعلمت أنك جائع؛ فتبلغ بهذا الجام حتى يدرك طعامنا. قال: وكيف كنت أقول ؟ قالت: كنت تقول:

أيا تفّـاحة رضّـت

 

فؤادي للهوى رضّا

لقد أهداك إنـسـانٌ

 

وأهداك لما يرضى

ليهدي لاعج الشـوق

 

إلى من شمّ أو عضّا

وكان أحمد بن أبي طاهر قبيح الوجه، وكان له جارية من أحسن النساء، فضحك إليها يوماً فعبست في وجهه، فقال لها: أضحك في وجهك فتعبسين في وجهي ؟ فقالت: نظرت أنت إلى ما سرك فضحكت ونظرت إلى ما ساءني فعبست.

وليس هذا كقول حمرة امرأة عمران بن حطان وكان قبيحاً وكانت جميلة: إني لأرجو أن نكون جميعاً في الجنة. فقال: ولم ؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت أنا مثلك فصبرت؛ فالصابر والشاكر في الجنة.

وخطبت بعده فلبس بعض ثيابه وخرجت تتمثل بقوله:

تلبس يوماً عرسه من ثيابـه

 

إذا قيل هذا يا حميرة خاطب

فانصرفوا عنها.

وكان أبو الحسن جحظة البرمكي أطيب الناس غناء، وأحسنهم مجالسة، وأمتهم مؤانسة، وكان قبيح المنظر جداً جاحظ العينين وفيه يقول ابن الرومي:

نبئت جحظ يستعير جحوظـه

 

من فيل شطرنج ومن سرطان

يا رحمتي لمنادميه تحمـلـوا

 

ألم الـعـيون لـلـذّة الآذان

وعد بكفن بعد أيام !

قال المدائني: جاء رجل إلى جار له من الأشراف فقال له: جارك فلان توفي ولا كفن له فتأمر له بكفن، فقال: والله الآن ما عندي شيء، ولكن تعاودنا بعد أيام. قال: فنملحه أصلحك الله إلى أن يتيسر الكفن !

دينار يلد

وجدت امرأة أشعب ديناراً فأتته به، فقال: ادفعيه إلي حتى يلد لك في كل أسبوع درهمين، فدفعته إليه، فصار يدفع إليها في كل أسبوع درهمين؛ فلما كان في الأسبوع الرابع طلبته منه، فقال لها: مات في النفاس، فقالت: ويلي عليك ! كيف يموت الدينار ؟ فقال لها: الويل لك على أهلك ! كيف تصدقين بولادته وتنكرين موته في نفاسه.

سقط أحدب في بئر، فذهبت حدبته وصار آدر، فدخل إليه جيرانه يهنئونه، فقال: لا تفعلوا فالذي جاء شر من الأول.

قال ابن خالويه: استعرضت جارية فقلت لها: أبكر أنت أم أيش ؟ قالت: أيش، فاشتريتها.

من نوادر المعزين أيضاً

قال أبو العالية: لما مات سعيد بن مسلم الباهلي قال لي الرشيد: علم فلاناً تعزية يعزي بها ولد سعيد لفتى من بني هاشم. فقلت للفتى: إذا صرت للقوم فقل: عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، ورحم سعيداً. قال: هذا طويل. فقلت فقل: أعظم الله أجركم، وختم بالصبر على قلوبكم. قال: هذا أطول من ذاك. قال فقلت: أعظم الله أجركم وكررته عليه يومين، فلما كان اليوم الثالث ركب وركبنا معه، فلما قرب من باب القوم خرجوا إليه حفاةً إعظاماً له، فلما رآهم قال: ما فعل سعيد ؟ قالوا: مات، قال: جيد وما أظن ذلك، فإيش عملتم به ؟ قالوا: دفناه. قال: أحسنتم. ثم انصرف. لما مات سليمان بن وهب لقي الناس عبيد الله بن سليمان يعزونه، فأتاه بعض أولاد الأشراف؛ فقال: مات سليمان ؟ قال: نعم ! وقال: ومات أبو علي قبله ؟ قال: نعم ! قال: ومات أبوهما ؟ قال: نعم ! قال: هذا كما قال الله تعالى: "وإنْ منكم إلا وارِدُها كان على ربك حَتْماً مقضيّاً"؛ "فأوردهم النار"، "وبئس القَرار".

بنو وهب من الظرفاء والكتاب

وبنو وهب من ظرفاء الكتاب وأدبائهم، ولهم الرسائل الحسان، والشعر الجيد، وفيهم يقول أبو تمام:

كلّ شعب كنتم به آل وهـبٍ

 

فهو شعبي وشعب كلّ أديب

إنّ قلبي لكم كالكبد الـحـر

 

رى وقلبي لغيركم كالقلوب

وكان الحسن بن وهب يهوى بنان جارية ابن حماد، وكان من ظريف أخباره معها: أن الواثق تقدم إلى إيتاخ باتخاذ حلتين من رفيع الوشي على صفة دفعها إليه وأمره بتعجيلهما؛ فتقدم إيتاخ في ذلك إلى سليمان بن وبه كاتبه، فجد في الحلتين حتى فرغ منهما الصانع وأحضرتا، فعرضتا على الواثق فاستحسنهما وأمر بقطعهما، فتشاغل عن قطعهما، وسأل أخاه الحسن بالنيابة عنه في ذلك، فقطع الحسن منهما قميصاً لبنان وانصرف إلى منزله فأحضرها وخلعه عليها وجلس يشرب معها. واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلاً لهما فتعذر عليه، فابتاع حلةً تقاربهما بخمسة آلاف درهم وصدق إيتاخ عن خبره، فطلبهما الواثق فدافعه إيتاخ بهما، وتعلل عليه إلى أن فرغ الخياطون من الحلة التي ابتاعها سليمان بن وهب، وأحضرت للواثق، فلما لبسها أنكرها، ودعا إيتاخ فسأله عن السبب فصدقه، فضحك ضحكاً كثيراً، ودعا خادماً فأمره بإحضار الحس وبنان على الصورة التي يجدهما عليها، فأحضرهما في قبة، فلما رآهما الواثق قال للحسن: ويلك تأخذ ثوبي تقطعه لهذي بغير أمري؛ قال: أنت يا أمير المؤمنين تقدر على مثله، وأنا لا أقدر عليه، وأنا والله أحبها وأعجبني الثوب فتقربت منها به. فضحك ووصله وصرفهما.

وفيها يقول الحسن:

أقول وقد حاولت تقبيل كفّـهـا

 

وبي رعدةٌ أهتّزّ منها وأسكـن

ليهنئك أني أشجع الناس كلّهـم

 

لدى الحرب إلاّ أنني عنك أجبن

وحضرت عنده يوماً وقرب منها ناراً فتأذت منها؛ فقال الحسن:

بأبي كرهت النار حتى أُبـعـدت

 

فعلمت ما معناك في إبعـادهـا

هي ضرّةٌ لك في التماع بهائهـا

 

وهبوب نفحتها لـدى إيقـادهـا

وأرى صنيعك في القلوب صنيعها

 

بسيالها وأراكـهـا وعـرادهـا

شركتك في كل الأمور بفعلـهـا

 

وضيائها وصلاحها وفسـادهـا

قال أبو فراس: قال لي عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير: أنشدني مما تحفظه من شعر عمي أبي علي فأنشدته:

بنفسي وأهلي ساحر الطرف فاتره

 

محكّمة أجفانـه ومـحـاجـره

فقال عبيد الله: لقد كان رحمه الله كثيراً ما يضع خده على خدي وأنا غلام وينشد هذا الشعر ويبكي. فقلت: يا سيدي، كان يتعشقها ليقول شعراً. ومن طبع كلامه قوله: شربت البارحة على وجه الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما أفقت حتى لفحني قميص الشمس.

تضمين أبيات مالك بن الريب

وأنشدونا في تضمين أبيات مالك بن الريب المازني في قصيدته:

ألا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة

 

بذات الغضا أُزجي القلاص النواجيا

وسمعت من ينشدها لابن الرومي وأخلق بها أن تكون له:

تعرّض لي بعد القطيعة مالكي

 

وأظهر فضلاً بعد ما كان جافيا

وقد كدّر الإنبات ماء شبـابـه

 

فأصبح رنقاً بعد ما كان صافيا

فقلت له جرّعت بالشعر نسـوة

 

فقال أجل كلّ العيال رثى لـيا

فمنهن أختي وابنتاها وخالـتـي

 

وباكية أخرى تهيج البـواكـيا

فبينا يعاطيني الكـلام بـدا لـه

 

حريفان عن بعدٍ فصاح منـاديا

خذاني فجرّاني بدمعي إليكمـا

 

فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا

معاوية بن مروان وحمار الرحى

كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان مغفلاً؛ فبينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان إذ نظر إلى حمار يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل. فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار جلجلاً. قال: لربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت بأنه قد قام فصحت به. فقال له معاوية: أرأيت إن قام ومال برأسه هكذا وهكذا وحرك رأسه ما علمك أنه قائم ؟ فقال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير أعزه الله تعالى !

في مرض الجاحظ

قال بعض البرامكة: كنت بالسند، فاتصل بي أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار؛ فخفت أن يجفوني الصارف ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في حمل إهليلج، ولم أبعد أن جاء الصارف، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة؛ فأخبرت أن بها الجاحظ وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته؛ فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف؛ فقرعته، فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أنت ؟ قلت: شيخ غريب؛ أحب أن أدخل إلى الشيخ فأسر بالنظر إليه؛ فأدت الجارية ما قلت، وكانت المسافة قريبةً لقصر الدهليز والحجرة؛ فسمعته يقول: ما يصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل ؟ فأخبرتني، فقلت: لا بد من الوصول إليه. فقال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلتي، فقال: أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ.

فدخلت فسلمت، فرد رداً جميلاً، واستدناني وقال: من تكون أعزك الله ؟ فانتسبت إليه، فقال: رحم الله آباءك وقومك السمحاء الأجواد، الفصحاء الأمجاد، فلقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم قوم كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدني شيئاً من ألذ الشعر أذكره به، فأنشدني:

لئن قدّمت قبلي رجالٌ لطالـمـا

 

مشيت على رسلي فكنت المقدّما

ولكن رأيت الدهر تأتي صروفه

 

فتبرم منقوضاً وتنفض مبرمـا

ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بي: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج ؟ قلت: لا ! قال: أنا ينفعني الإهليلج الذي معك فأهد لنا منه. فقلت: السمع والطاعة. وخرجت مفرط التعجب من وقوفه على خبري حتى كأن بعض أحبابي كاتبه بحالي وقت أن صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
وهذا يدل على كثرة بحثه وتنقيره؛ إذ كان وهو في هذه السن العالية والفالج الشديد تنشر عنده الأخبار، ولا تطوى عنه الأسرار، فكيف كان قبل هذا ؟ ومن إحدى عجائبه أنه ألف كتاب الحيوان وهو على تلك الحال.

وقيل لأبي العيناء: ليت شعري؛ أي شيء كان الجاحظ يحسن ؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن ؟ وفيه يقول الشاعر:

ولقد رأيت العـلـم يو

 

ماً ما حواه الـلاّفـظ

حتى أقـام طـريقـه

 

عمرو بن بحر الجاحظ

وأتى أبو العيناء الجاحظ يسأله في رجل أن يكتب له كتاب عناية إلى صاحب البصرة. فقال: نعم ! لا تنصرف إلا به، وكتب له الجاحظ الكتاب وختمه ودفعه إليه، فأتى إلى أبي العيناء بالكتاب؛ فقال: افضضه واقرأه علي؛ لأرى ما كتب وأعيده إليه ليختمه، ففتحه فإذا فيه: كتابي إليك سألني فيه من أخافه لمن لا أعرفهن فافعل في أمره ما تراه، والسلام. فغضب ونهض إلى الجاحظ، فقال: أعرفك باعتنائي بهذا الرجل فكتبت له مثل هذا ! فقال: لا تنكر ذلك فإنها أمارة بيني وبينه إذا عنيت برجل. فقال: بل أنت ولد زنا لم تك قط لرشدة. قال: أتشتمني ؟ قال: لا، إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان.

ومن نوادر المتنبئين

ادعى رجل النبوة في زمن المهدي وأدخل عليه. فقال: أنت نبي ؟ قال: نعم ! قال: إلى من بعثت. قال: أوتركتموني أن أبعث إلى أحد ؟ بعثت بالغداة وحبست بالعشي. فقال: صدقت، أعجلناك ! وضحك منه ووصله وأطلقه.

طمع أشعب

قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما رأيت عروساً تزف إلا وظننتها لي، ولا رأيت جنازة إلا وظننت أن صاحبها أوصى لي بشيء. ولقد أطاف بي مرة صبيان فنادوا: يا أشعب ! يا أشعب ! فأضجروني، فدفعتهم عني بأن قلت لهم: دار فلان تهب، فبادروا. فلما ولوا ظننت أني صادق، فتبعتهم.

من نوادر الولاة

قال الشافعي: رأيت بالعراق أربعة أشياء لم أر مثلها؛ رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيت قلنسوة قاض وسعت ثمانية نوى، ورأيت شيخاً ابن نيف وتسعين سنة يمشي على القيان يعلمهن الغناء وضرب العود، وإذا صلى صلى قاعداً، ورأيت والياً سأل بعض من يلم به: لم لا يجتمع الناس على بابي ؟ فقال: لأنك عدل لا تضرب أحداً؛ فوجه إلى إمام مسجد الجامع، فأمر بضربه بالسياط؛ فاجتمع الناس على بابه وأقبلوا يتزاحمون، والرجل يقول: ما ذنبي، أيها الأمير؟ والأمير يقول له: جملني بنفسك قليلاً يا شيخ.

وولى الحجاج أعرابياً على تبالة فجمع أهلها وقال: إن الأمير أوصاني عليكم؛ ووالله لا أحسن أن أقضي بين خصمين مرتين، وواله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا وضربته حتى أقتله، فتناصف الناس بينهم.

من ملح أبي الأسود

قال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي دكان إلى صدر الرجل يجلس فيه وحده، ويضع بين يديه مائدة ويدعو إليها كل من يمر به، وليس لأحد أن يجلس؛ فينصرفون عنه.

وكان أبخل الناس، فمر به صبي من الأنصار؛ فقال له أبو الأسود: هلم إلى الغداء يا فتى؛ فأتى إليه، فلم ير موضعاً يجلس فيه، فتناول المائدة فوضعها في الأرض ثم قال: يا أبا الأسود، إن كان لك في الغداء حاجة فانزل؛ وأقبل الفتى يأكل حتى أتى على جميع ما في المائدة، وسقطت آخر الطعام من يده لقمة على الأرض فأخذها وقال: لا أدعها للشيطان. فقال أبو الأسود: والله ما تدعها للملائكة المقربين، فكيف تدعها للشياطين ! ثم قال له: ما اسمك ؟ قال: لقمان. فقال أبو الأسود: أهلك كانوا أعلم زمانهم إذ سموك بهذا الاسم، ولم يعد بعد إلى ما كان يصنع.

واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو من بني الدئل من كنانة، وكان قد أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسافر إلى البصرة على عهد عمر رضي الله عنه، واستعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة وكان شيعياً، وهو أول من وضع العربية وهو القائل:

أمنت على السرّ امرءاً غير حازم

 

ولكنه في الـودّ غـير مـريب

أذاع به في الناس حتـى كـأنـه

 

بعلياء نـار آذنـت بـثـقـوب

وما كلّ ذي لبٍ بمؤتيك نصحـه

 

وما كل مؤتٍ نصحه بـلـبـيب

ولكن متى ما جمعا عنـد واحـدٍ

 

فحقّ له من طاعة بـنـصـيب

وكان مجاوراً لبني قشير وهم عثمانية وكانوا يرجمونه، فإذا أصبح شكاهم؛ فيقولون: ما نحن رجمناك، الله تعالى رجمك. فيقول: كذبتم يا فعلاء، أنتم ترمون فتخطئون ولو كان الله رماني ما أخطأني؛ ثم باع داره وانتقل عنهم. فقيل له: أبعت دارك ؟ فقال: بل بعت جاري، وفيهم يقول:

يقول الأرذلون بنو قـشـير

 

طوال الدهر ما تنسى علـيّا

أحب محمداً حـبّـاً شـديداً

 

وعبّاساً وحمزة والـوصـيّا

فإن يك حبّهم رشداً أصـبـه

 

ولست بمخطىءٍ إن كان غيّا

فقالوا له: أشككت ؟ فقال: مما شك الله تعالى إذ يقول: "وإنا أو إياكم لعلى هُدَّى أو في ضلالٍ مبين".
وقال عمر بن شبة: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة مر أبو الأسود على مجلس ابن قشير، فقال: على ماذا أجمع أمركم في هذه الفتنة ؟ قالوا: لم تسألنا يا أبا الأسود ؟ قال: لأخالفكم، فإن الله لم يجمعكم على حق.

وأنشد ابن شبة في هذا المعنى لبعض المحدثين:

إذا أشبه الأمران يوماً وأشكـلا

 

عليّ فلم أعرف صواباً ولم أدر

سألت أبا بكر خلـيل مـحـمّـدٍ

 

فقلت له ما تستحبّ من الأمر ؟

فإن قال قولاً قلت شيئاً خلافـه

 

لأنّ خلاف الحقّ قول أبي بكر

رسالة أبي العيناء في أحمد بن الخصيب

ومن هنا أخذ أبو العيناء قوله في أحمد بن الخصيب: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب يطلبها. وهذا مما يقرأه أبو العيناء في كلام طويل عمله على ألسنة القواد والكتاب والرؤساء وغيرهم لما نكب أحمد. فقال: قال محمد بن عبد الله بن طاهر: غدر بمن آثرهن وتخطى ما لا يقدره، فحل به ما يحذره. وقال ابن طالون: تكبر وتجبر ودبر فدمر. وقال موسى بن بغا الكبير: لولا أن القدر يغشى البصر لما نهى ابن الخصيب فينا ولا أمر. وقال فارس بن بغا: لم تتم له نعمة، لأنه لم تكن له في الخير همة. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: كان يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا يزدجر، ويعبر ولا يعتبر. وقال جعفر أبو عبد الواحد: أحسن حسناته سيئة وأصغر سيئاته كبيرة. وقال مروان بن عيسى بن جعفر الهاشمي: كانت دولته دولة المجانين، خرجت من الدنيا والدين. وقال أبو عبد الله محمد بن زبيدة: بعد من الشرف؛ فتحامل عليه؛ وقرب من ضده فمال إليه. وقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: كان إذا دنوت منه غرك، وإذا بعدت عنه ضرك. وقال داود بن إسحاق بن محمد بن العباس: ما أحسن قط إلا أخطأ، ولا أصاب إلا تعدى. وقال ابن أيوب: نعمته أعجب من نكبته. وقال ميمون بن إبراهيم: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب أن يطلبها. وقال الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي: كان يحسد المحسنين ويجتنب أفعالهم، ويذم المسيئين ويعمل أعمالهم. وقال عيسى بن فرخان شاه: أعقل منه مجنون، وأجن منه لا يكون. وقال برد الخيار: ما كان أقرب وليه مما يكره وعدوه مما يحب ! وقال ابن حمدون: لئن منحته القدرة لقد حملته النكبة. وقال أحمد بن أبي الأصبغ: ما علمت أن خدمة الشياطين أيسر من خدمة المجانين؛ كان غضبه إذا أطعناه أكثر من غضبه إذا عصيناه. وقال إبراهيم بن رباح: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم. وقال سعيد بن حميد: كان يخافه الناصح ويأمنه الغاش، ولا يبالي أن يراه الله مسيئاً. وقال جعفر بن الفضل الجرجرائي: ما زال يستوحش من النعمة حتى أنس بالنقمة. وقال إبراهيم بن الجراح: كان إذا أحسن اعتذر، وإذا أساء امتن. وقال محمد بن مجمع: مجامعه ردية وأوانيه دنية، ضاعت بينهما الرعية. وقال عبد الله بن منصور: كنت أرثي للسلطان في قربه، كما أرثي للأمة من ظلمه. وقال إبراهيم بن المدبر: لئن كان حكمه بالخطإ نافذاً، لقد اصبح الحكم فيه بالصواب ماضياً. وقال عطية الكاتب: قد عرف غب ما صنع وما حصد إلا ما زرع. وقال سلمة بن سعيد: عرف نصيحتي فعاداني واجتهادي فنافاني. وقال ابن فراشة: كنت إذا نصحته زناني، وإذا أخشنته مناني. وقال محمد بن داود التستري: كان لا يرى درهماً في يد سواه إلا حسبه حقاً له تخطاه. وقال أيوب بن سليمان: كان لا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم. وقال يعقوب بن أحمد: كان وليه على وجل وعدوه على أمل. وقال ابن ثوابة الكاتب: أساء عشرة الأحرار فأصبح مقفر الديار. وقال عريب: لم يجاور النعمة بالشكر فحل به ما استحقه بالكفر. وقال شاربه: ما أنور بفقده الأيام وأسر بهلاكه الإسلام ! وقال محمد بن الزيات: قال المعتصم: لسان بذيء وخلق رديء وطبع مسيء. وقال سعيد بن هارون: لقد رحم الله عباده إذ طهر منه بلاده. وقال سليمان بن بشار: اشتد طغيانه فبعدت أوطانه. وقال ميمون بن هارون: كتب الله له البلاء صراحاً فأنبت له كالنملة جناحاً. وقال سليمان بن وهب: كان سفلة المحضر، سيىء المنظر، رديء المخبر. وقال حجاج بن هارون: والله ما كان له في الشرف أسباب متان، ولا في الخير عادات حسان. وقال بعض الندماء: ما رأيته سمى على طعام قط، ولا استثنى في يمين، ولا حمد الله على نعمة. وقال تمام بن كثير الهاشمي نديم المتوكل من ولد الحارث بن العباس: كان البذاء عنده عادة، والسخف مروءة، وقذف المحصنات فرض. وقال سعيد الصغير: حمل حتفه بكفه ورمى نفسه بسهمه. وقال صالح الحريري: لا يسعى إليه حر وإن مسه الضر. وقال إسحاق بن صالح بن مرشد: تعرض لسخط الله فأصبح في لعنة الله. وقال أبو الفرج بن نجاح: ما سمعته قط إلا زارياً على الزمان، عاتباً على الإخوان، آمناً من الحدثان. وقال محمد بن نصر بن منصور بن بسام: صار سلطان البغي إليه فحلت دائرة السوء عليه. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: جهله عامر الغفلة، وسفهه قاهر الحملة. وقال إبراهيم بن سعيد: إن من عجائب الدهر أن يكون له في الأمة نهي أو أمر. وقال نمرة الرائض: لو كان ابن الخصيب دابة لكدح بلجامه، وتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال ابن مزينة: كنت إذا وقع شعره على صدري أحسست النقصان في عقلي. وقال أبو عبد الله الصفار: ما أكثر خطإ ابن الخصيب، وأحوجه إلى ما نحن فيه حتى يصيب. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب وهو أطول من هذا.

الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر

وهذا ضد هذه الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر نبه بها حكماء زمانه، اخترت منها هنا قطعة: لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم فقال: كان الإسكندر يخبأ الذهب فقد صار الذهب الآن يخبؤه. وقال الآخر: انظر إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ودخل عليه آخر فقال: قد أمات هذا الميت كثيراً من الناس لئلا يموت، وقد مات الآن. وتقدم آخر فقال: ما لك لا تقل عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل بملك العباد. ودخل آخر فقال: ما لك لا ترغب بنفسك عن الجحر الضيق، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد ! ودخل آخر فقال: كان لا يقدر عنده على الكلام، فالآن لا يقدر عنده على السكوت. وقال آخر: كان غالباً فصار مغلوباً، وآكلاً فصار مأكولاً. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا بن دارا: ما ظننت غالب أبي يغلب. وقال رئيس الطباخين: نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. وقال آخر: حركنا الملك يسكونه. وقال آخر: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس.
أخذ قوله: حركنا بسكونه أبو إسحاق بن القاسم أبو العتاهية، فقال:

يا عليّ بن ثـابـت بـان مـنّـي

 

صاحبٌ جلّ قـدره يوم بـنـتـا

قد لعمري حكيت لي غصص المو

 

ت وحرّكتني لهـا وسـكـنـتـا

وأخذ قوله الآخر فقال:

كفى حزناً بموتك ثـمّ إنـي

 

نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت في حياتك لي عظاتٌ

 

وأنت اليوم أوعظ منك حيّا

أحمد بن الخصيب وبعض أخباره

وكان أحمد بن الخصيب القائم بأمر المنتصر بعد قتله أباه المتوكل واستيلائه على الخلافة، فلما مات المنتصر أقره المستعين أحمد بن المعتصم على ما كان، ولم يطل عمر المنتصر بعد أبيه.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه بعض أصحاب التواريخ: أن المنتصر لما أصبح في الخلافة وجلس للبيعة، فرش في الدار بساط جليل كسروي، فوقف أحد رجال المنتصر على بعض صنائعه، وقد نظر إلى دارة فيها صورة رجل ميت مسجى على سريره، وقدامه ملك منتصب على سرير الملك، على رأسه التاج، والمرازبة قيام بين يديه، وعلى رأسه سطور بالفارسية؛ فلما نظر الرجل إلى الصورة وقرأ ما عليها دمعت عيناه، فدعا به وقال له: ما هذا الذي تنظر إليه ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: فلم بكيت ؟ قال: طرفت عيني بثوبي. قال: لا بد من الصدق عما رأيت. قال: وقعت عيني يا أمير المؤمنين على هذه الصورة، فبقيت أعجب من حسن تصويرها، ثم قرأت ما عليها مكتوب فإذا هو: هذه صورة شيرويه بن كسرى قتل أباه فلم يعش بعده إلا تسعة شهور.

فانخذل المنتصر ووجم، ولم يعش إلا هذا القدر، فأقام أحمد بن الخصيب مع المستعين على ما كان عليه. وكانت حال أوتامش التركي قد توافت في أيام المستعين فاستخف به ابن الخصيب، وجاءه بعض كتابه فأسمعه ما كره فجاء إلى صاحبه فعرفه ما جرى، فكرب إلى المستعين، فحمله إلى مكروهه، فأمر بهدم داره واستصفاء أمواله وبعثه إلى أقريطش.

وكان ابن الخصيب غبياً جاهلاً. قال إبراهيم بن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكب عليه، فقلت: أراك راغباً في الهليون، فقال: بلغني أنه يزيد في السهاد، ويؤيد في الباه، ثم جلسنا للشرب فغنت بعض القيان:

إنّ العيون التي في طرفها حـور

 

قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا

يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به

 

وهنّ أضعف خلق اللّه أركـانـا

فقال: هذا الشعر لأبي. فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أسرقه لشعر أبيك ! وماتت له بنية، فخرج إلى جلسائه يعصر عينيه، وقال: قد قلت في هذه الصبية:

غيضن من عبراتهن وقلن لي

 

ماذا لقيت من الهوى ولقينـا

فقال له بعض جلسائه: أعز الله الوزير هذا مشهور في شعر جرير. فقال: لعله وافقه. وكان كاتب أوتامش شجاع بن القاسم، وابن الخصيب عنده سحبان وائل، وكان شجاع أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم، وإنما علم علامات يكتبها في التواقيع. قال الحسن بن مخلد: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر للمستعين وسأله أن يدخلني في جملة من ينادمه؛ فدعاني لمنادمته يوماً، فإنا لقعود بين يديه ومعنا أوتامش إذ دخل شجاع بن القاسم ومعه شيء يريد عرضهن فنظرت إليه، وقد أخرج سراويله من خفه، ووقع على قدميه، ودخل تحت عقبه من إحدى رجليه وهو يسحبه ويدوسه، فغمزت محمد بن عبد الله فضحك، ورأى المستعين ذلك؛ فسأله عن سبب ضحكه فدافعه. فقال له: بحياتي. فقال له: سل الحسن يا سيدي، فنظر إلي وقال: هيه يا حسن !! فأومأت إلى سراويل شجاع؛ فضحك حتى استلقى، وقال: ويلك يا شجاع !! ما هذا؟ قال: الساعة يا سيدي داسني كلب فخزقت سراويله وثيابه، فازداد ضحك المستعين وأهل المجلس، وضجر أوتامش من ضحكهم بكاتبه.

وسأل شجاعاً بعض الهاشميين حاجة؛ فقال لهم: ليس الأمر فيها إلي وهو للأمير يعني أوتامش وهو يجلس أول من أمس يعني بعد غد.

وكانت جميع أتباع شجاع تخاليط، وجملة كلامه أغاليط.

قال ابن عمار: عملت شعراً رائجياً لا معنى له، وواقفت سعيد بن عبيد على أن يروي الشعر رجلاً من الهاشميين، وكان لنا صديقاً، وكان جلداً شهماً، على أن ينشده شجاع بن القاسم ويعرفه أنه مدح له، وضمنا له على ذلك ألف درهم. والشعر:

شجاعٌ لجاعٌ كاتـبٌ لاتـبٌ مـعـاً

 

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

خبيصٌ لبيصٌ مستـمـرٌ مـقـوّم

 

كثيرٌ أثيرٌ ذو شـمـال مـهـذّب

بليغٌ لبيغٌ كلّـمـا شـئت قـلـتـه

 

فإن كنت مسكاتاً عن القول فاسكت

فطينٌ لطـينٌ آمـرٌ لـك زاجـرٌ

 

حصيفٌ لصيفٌ كل ذلـك يعـلـم

أريب لبـيب فـيه فـهـم وعـفّة

 

عليم بشعر حين أنـشـد يشـهـد

كريم حليم قابـض مـتـبـاسـط

 

إذا جئته يوماً إلى البـذل يسـمـح

فوقف إليه. وقال: أيها الوزير؛ ليس العشر من صناعتي، ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب شكرك، فتكلفت أبياتاً مدحتك فيها، فتفضل بسماعها. فقال: قد أغناك شرفك وحالك عن الشعر. فقال: لا بد أن يتفضل الأمير بسماعها، فأنشد الأبيات فشكره عليها وسر بها سروراً زائداً؛ ودخل إلى المستعين فأخرج له صلة عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر. فقال لهما الطالبي: أنتما أوصلتما ذلك إلي، والله لا أخذت منكما شيئاً، ولولا اتساعكما لوصلتكما بما وصلت به.
وقدم إليه شاعر محسن فقال له: قد سبق إلي من الوزير وعد وتلاه شكر، والوزير حقيق بإنجاز وعده وقبول شكري وأنشده:

أبو حسن يزيد الملك حسنـاً

 

ويصدق في المواعد والمقال

جبانٌ عـن مـذمّة آمـلـيه

 

جريءٌ في العطّية والنّـوال

أجلّ اللّه في سرٍّ وجـهـرٍ

 

فأعطاه المهابة بالـجـلال

فقال له: وما يدريك أني جبان ! ولم يفهم معناه. فقال. أعزك الله، إنما قلت إنك تجبن عن البخل ولا تبخل بشيء، وإلا فأنت شجاع كاسمك. فقال: ما أعطيك على هذا الشعر شيئاً، ولكن على ميلك وشكرك، ووقع له بألف دينار، ولو فهم ما قال لجعل مكان الألف ألوفاً.
وفي المستعين يقول البحتري من قصيدة طويلة:

وما لحية القصّار حين تنفّشـت

 

بجالبة خيراً على من يناسـبـه

يجوز ابن جلاّد على الشعر عنده

 

ويغدو شجاعٌ وهو للجهل كاتبه

الحسين بن مخلد لم يكن كاتباً ولا منادماً

وكان الحسن بن مخلد مضطلعاً بأمر الدواوين عالماً بالدخل والخرج، ولم تكن له صناعة في الكتابة ولا استحقاق للمنادمة.

قال أبو الفضل أحمد بن سليمان: جمعني والحسن بن مخلد مجلس فيه أبي، فسألني عن سني فأخبرته وأخبرني عن سنه، فرأيته أكبر مني بعشر سنين. فقلت له: قال لي الزبير بن بكار: كانت العرب تقول العشرة بين المشايخ لدة. فغضب وظن أني قد شتمته، والتفت إلى أبي فقال: يا أبا أيوب، ليس كل من علم شيئاً من العربية يطلق لسانه في الناس بالشتم. فقال له أبي: إنه لم يرد مكروهاً، وإنما أراد التقرب منك، ومعنى لدة ترب؛ فلم يسكن إلى أن افترقنا.

من نوادر أبي الحارث

سقط أبو الحارث حمير من سطح؛ فقيل له: أكان السطح مرتفعاً ؟ قال: لا تسأل عن شيء ؟ استطبت برد الهواء قبل الوصول إلى الأرض.

وقال رجل: أشتهي أن أرى خلفي. فجاءه أبو الحارث بمرآة فجعلها تلقاء وجهه.

وتشهى قوم ضروباً من الطعام. فقالوا: ما تشتهي يا أبا الحارث ؟ فقال: الوفاء بهذا.

وأكل يوماً مع قوم رؤوساً، فتبادروا إلى الأعين ليقتلعوها فتنحى ناحية. فقالوا: مالك ؟ قال: ظننتكم ناساً فإذا أنتم نسور.

وجلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما. وقال: يا غلام، فرسي ! ففزع الرشيد وقال: ويلك ! مالك ؟ قال: أريد أن أركب إلى ذلك الرغيف الذي بين يديك، فضحك الرشيد وأمر له بجائزة.

ومال أبو الحارث على زفر بن الحارث وعنده جوار يغنين وأبو الحارث جائع. فقال: اسقوا أبا الحارث وغنينه ما يقترح. فقال: بحياتي غنين:

خليليّ داويتما ظاهراً

 

فمن ذا يداوي باطنا

فقال زفر: غنين:

من يسأل الناس يحرموه

 

وسائل اللّه لا يخـيب

ونظر أبو الحارث إلى برذون يستسقى عليه الماء فقال:

وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسـه

 

ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل

لو أن هذا البرذون هملج لما فعل به هذا.

ونصب مع رفقاء له قدراً وجعل فيها لحماً. فلما تلهوجت نشل بعضهم قطعةً وقال: تحتاج إلى ملح، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى أبزار، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى بصل، فرفع أبو الحارث القدر وقال: والله تحتاج هذه القدر إلى لحم.