طرف متفرقة

وسرق مدني قميصاً فبعثه مع ابنه يبيعه، فسرق منه في الطريق، فلما رجع قال أبوه: بعت القميص. قال: نعم ! قال: بكم ؟ قال: برأس المال.

دعا بعض الملوك بأبي علقمة الممرور وآخر مجنون ليضحك منهما، فشتماه فغضب. وقال: السياط يا جلادين. فقالا: كنا مجنونين فصرنا ثلاثة، فضحك وأجزل صلتهما.

وطبخ بعض البخلاء قدراً فقعد هو وامرأته يأكلان. فقال: ما أطيب هذا القدر لولا الزحام ! قالت: أي زحام ها هنا إنما أنا وأنت ! قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر.

أبو الأغر يظن الكلب لصاً

نزل شيخ أعرابي من بني نهشل يكنى أبا الأغر على بنت أخت له من قريش بالبصرة، وذلك في شهر رمضان؛ فخرج الناس إلى ضياعهم؛ وخرج النساء يصلين في المسجد، ولم يبق في الدار إلا الإماء؛ فدخل كلب فرأى بيتاً فدخله وانصفق الباب، فسمع الإماء الحركة فظنن لصاً دخل الدار؛ فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته، فأخذ عصاً ووقف على باب البيت. فقال: إيها والله ! إني بك لعارف، فهل أنت من لصوص بني مازن، وشربت نبيذاً حامضاً خبيثاً حتى إذا دارت الأقداح في رأسك منتك نفسك الأماني، فقلت: أطرق دور بني عمرو، والرجال خلوف، والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهن، سوءةً لك ! والله ما يفعل هذا حر، بئسما منتك نفسك ! فاخرج بالعفو عنك، وإلا دخلت بالعقوبة عليك، وأيم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفةً يلتقي فيها الحيان عمرو وحنظلة، ويصير زيد زيداً، وتجيء سعد بعدد الحصى وتسيل عليك الرجال من هاهنا وهناها؛ ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود في بني تميم.

فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين، فقال: اخرج بأبي أنت منصوراً مستوراً، إني والله ما أراك تعرفني، ولئن عرفتني لوثقت بقولي، واطمأننت إلي، أنا أبو الأغر النهشلي، وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم، لا يعصون لي رأياً، وأنا خفير كفيل أجعلك شحمة بين أذني وعاتقي، فاخرج أنت في ذمتي، وإلا فعندي قوصرتان أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله. وكان الكلب إذا سمع هذا الكلام أطرق، وإذا سكت وثب يريد الخروج، فتهافت أبو الأغر ثم قال: يا ألأم الناس، أراني بك الليلة في واد وأنت في آخر، وأنت في داري أقلب البيضاء والصفراء، فتصيح وتطرق، وإذا سكت عنك وثبت تريد الخروج، والله لتخرجن أو لألجن عليك.

فلما طال وقوفه جاءت جارية وقالت: أعرابي مجنون ! والله ما أرى في البيت أحداً، ودفعت الباب، فخرج الكلب مبادراً، ووقع أبو الأغر مستلقياًن فقلن له: قم ويحك ! فإنه كلب. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً وكفى العرب حرباً.

أبو حية النميري يتوهم البرذون لصاً

وقد روى ابن قتيبة وغيره هذا المقام لأبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وعليه عول أبو علي محمد بن الحسن المظفر الحاتمي في الحكاية التي وضعها على أستاذه علي بن هارون وأتى فيها بكل مليحة نادرة. وزعم أنه أحس حس برذون في إصطبله فراعه وتوهمه لصاً وهي طويلة في نحو أربعة أجلاد وقال في أولها: هذه حكاية أبي الحسن علي بن هارون مع اللص الذي تخيل أنه دخل داره، أخبرني بها أبو القاسم القنطري وغيره من حاشية أبي الحسن، ولفظ بعضهم يزيد على بعض؛ فجمعت الروايات على اختلافها، ونظمت شتيتها، وهذبت العبارة عنها، وأوردت المعاني مكسوةً من النثر الرائع، والتشبيه الواقع، مما يطرب سامعه، ويروق متصفحه؛ ليكون وروده أغرب وحفظه أقرب. ونحلت أبا الحسن وجماعة ولده قطعاً من بارع الشعر، تناسب قطع الرياض بنت القطر، صنعتها على ألسنتهم، ونسبتها إلى ارتجازاتهم، وتمثلت عنهم بفقر من أشعار العرب أسميت قائلها؛ لئلا تلتبس بما اختصصت في نظمه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وقال في آخرها: لقد كان في نبأ هذه الكريمة تبصرة لمستبصر، وتذكرة لمتذكر. هذا ولم تقترح فيها الأقران، ولا تنازلت فيها الفرسان، ولا استبهمت فيها البهم، ولا أريق فيها ملء محجم دم؛ وإنما هو تخييل جبان، وتسويل جنان. ولقد عزونا إلى هذه الطائفة من التشبيهات الباهرة والأمثال النادرة ما يبعد جداً عن مثلها؛ وإنما بعثنا على ذلك أشر الشبيبة، ومرح الصبا، ولين الغصن، وفضل القدرة، واستجابة لما تدعيه من أفانين الكلام؛ ونستغفر الله من فضول العمل.

من شعر أبي حية النميري

وأبو حية النميري من أحسن الناس شعراً وأرقهم فيه طبعاً، على لوثة كانت به؛ وهو القائل:

ألا أيّها الربع الـقـواء ألا انـطـق

 

سقتك الغوادي من أهاضـيب فـوّق

مرابيع وسميّ تـسـوق نـشـاطـه

 

جرار الصّبا في العارض المتـألّـق

وما أنت إلاّ ما أرى بـعـد مـا أرى

 

يد الحي في زي بعـينـي مـونـق

غراب ينادي يوم لا القلب عـقـلـه

 

صحيح ولا الشعب الذي انصاع ملتقي

جزيت غراب البين شرّاً لطـالـمـا

 

شقيت بتحجال الغراب الـمـنـعّـق

ورقراقة تفـتـرّ عـن مـتـبـسّـم

 

كنور الأقاحي طـيّب الـمـتـذوّق

إذا امتضغت بعد امتناع من الضحـى

 

أنابيب من عود الأراك المـخـلّـق

سقت شعث المسواك مـاء غـمـامة

 

فضيضاً بخرطوم العراق المصفّـق

فإن ذقت فاها بعدما سقـط الـنّـدى

 

بعطفي بخنداة رداح الـمـنـطـق

شممت العرار الغضّ غبّ هـمـيمة

 

ونور الأقاحي في الندى المترقـرق

شرقت بريّا عارضـيهـا كـأنـمـا

 

شرقت بدار... العراق المـعـتـق

هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك؛ وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى حسن جميل.

أحسن ما قيل في وصف الثغر

قال أبو العباس بن الفرج الرياشي سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة:

وتجلو بفرعٍ مـن أراكٍ كـأنـه

 

من العنبر الهندي والمسك يصبح

ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى

 

إليه الندى من راحة المتـروّح

هجان الثنايا مغربٌ لو تبسّمـت

 

لأخرس عنه كاد بالقول يفصـح

وكتب كشاجم إلى بعض القينات وأهدى إليها سواكاً:

قد بعثناه لكـي تـجـلـي بـه

 

واضحاً كاللؤلؤ الرطب الأغـر

طاب منه العرف حتى خلـتـه

 

كان من ريقك يسقى في الشجر

ليتني المهدى فيروي عطـشـي

 

برد أنيابك فـي كـلّ سـحـر

وأما والـلّـه لـو يعـلـم مـا

 

حظّه منك لأثـنـى وشـكـر

وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول:

وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي

 

أخشى عقوبة مالـك الأمـلاك

ماذا عليك دفعت قبلك للـثّـرى

 

من أن أكون خليفة المسـواك

أيجوز عندك أن يكـون مـتـيّم

 

صبٌّ بحبـك دون عـود أراك

وقال ابن الرومي:

ألا طالما سؤت الغيور ساءنـي

 

وبات كلانا من أخيه على وحر

وقبّلت أفواهاً عذاباً كـأنـهـا

 

ينابيع خمرٍ حصّبت لؤلؤ البحر

وقال:

تعلك ريقاً يطرد الـنـوم بـرده

 

ويشفي القلوب الحائمات الصواديا

وهل ثغبٌ حصباؤه مثل ثغرهـا

 

يصادف إلاّ طيّب الطعم صافـيا

وقال:

وما تعتريها علّة بـشـريّةٌ

 

من النوم إلا أنها تتخـثّـر

كذلك أنفاس الرياض بسحرةٍ

 

تطيب وأنفاس الورى تتغيّر

وقال ابن المعتز:

بأبي حبيبٌ كنت أعـهـده

 

لي واصلاً فازورّ جانبه

عبق الكلام كمسكةٍ نفحت

 

من فيه ترضي من يعاتبه

وقال العطري:

ذات خدين ناعمين ضـنـي

 

نين بما فيهما من التـفـاح

وثـنـايا وريقةٍ كـغــدير

 

من عقارٍ وروضةٍ من أقاح

طرف وملح متفرقة

أكل الحجاج مع رجل بيضاً، فأقبل يأكل المح ويرمي إليه بالبياض؛ فقال الرجل: أيها الأمير؛ عدل العجة.
وكان بعض الأكاسرة يتطير، فلقيه رجل أعور، فأمر بحبسه، فأقام مدة ثم أطلقه فتعرض له فقال: لم حبستني ؟ قال: تشاءمت بك. قال: فأنت أشأم مني؛ خرجت من قصرك فلقيتني فلم تر إلا خيراً؛ وخرجت أنا فلقيتك فحبستني. فقال الملك: صدق وأمر له بصلة.

قال رجل لأحدب: لئن رفستك لأقيمن حدبتك ! قال: إنك إذاً لعظيم البركة علي.

قال الفضل اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام أشد الناس همة وآلة وغناء، وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده علي يقرأ علي الشعر؛ فدخلت يوماً وهو يشرب وعنده عبد الله بن محمد بن إسحاق، وكان مثله في الجهل، وقد مدت الستارة فغنت القينة:

ألا حيّ الديار بسـعـد إنـي

 

أُحبّ لحبّ من سكن الديارا

أراد الظاعنون ليحزنـونـي

 

فهاجوا صدع قلبي فاستطارا

فقال عبد الله بن محمد بن إسحاق لمحمد: لولا جهل الأعراب ما جرى ذكر السعد هاهنا. فقال له محمد: لا تفعل، فإنه يقوي معدهم ويصلح أسنانهم.

وكان علي بن محمد مليح المقطعات، حلو الشعر، خبيث الهجاء، وليس له حظ في التطويل، إنما يسنح له المعنى، فإذا أراد أن يركب عليه معنى آخر استهدم بناؤه، وهو القائل في أبي يحيى المنجم يرثيه:

قد زرت قبرك يا عليّ مسلّـمـاً

 

ولك الزيارة من أقلّ الـواجـب

ولو استطعت حملت عنك ترابـه

 

فلطالما عنّي حملـت نـوائبـي

ودمي فلو أني علـمـت بـأنـه

 

يسقي ثراك سقاه صوب الصائب

لسكبته أسفاً عـلـيك وحـسـرة

 

وجعلت ذاك مكان دمعٍ ساكـب

ولئن ذهبت بملء قبرك سـؤدداً

 

لجميل ما أبقيت ليس بـذاهـب

وقد أنشد هذه الأبيات أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري لغيره. وقال:

كم قد قطعت إليك من ديمومةٍ

 

نطف المياه بها سواد النّاظر

في ليلة فيها السّمـاء مـرذّة

 

سوداء مظلمةٌ كقلب الكافـر

وقال في جحظة البرمكي:

يا من هجوناه فغنّـانـا

 

أنت، وبيت اللّه، أهجانا

سيّان إن غنّى لنا جحظةٌ

 

أو مرّ مجنونٌ بنا فزنّانا

وقال في المعتضد وقد ختن ولده:

انصرف الناس من خـتـانٍ

 

يرعون من جوعهم خزامى

فقلت لا تعجـبـوا لـهـذا

 

فهكذا تختـن الـيتـامـى

وقال يستطرد بالمعتضد:

وعدت بوعدٍ فأخلفـتـه

 

وما كان ضرّك ألاّ تعد

تحبّ الثّناء وتأبى العطاء

 

وما تمّ ذلك للمعتضـد

وقال في العباس بن الحسن لما ولي الوزارة:

وزارة العباس من نحسها

 

تستقلع الدّولة من أُسّهـا

شبّهته حين بدا مقـبـلاً

 

في خلعٍ يخجل من لبسها

خازنة الكسوة قد قـدّرت

 

ثياب مولاها على نفسها

وقال ابن بسام في أبيه، وكان مولعاً بهجائه:

خبيصةٌ تعقد من سكّـره

 

وبرمة تطبخ من قنبـره

عند فتى أسمح من حاتـمٍ

 

يطبخ قدرين على مجمره

وليس ذا في كلّ أوقاتـه

 

لكنه في الدعوة المنكره

مهاجاة بين ابن المعتز وابن بسام

وكان ابن المعتز يهاجيه، فمن ذلك قوله فيه:

يا ثقيلاً على القـلـوب إذا ع

 

نّ لها أيقنت بطول الجـهـاد

يا قذىً في العيون يا حرقةً بي

 

ن التّراقي حزازةً في الفؤاد

يا طلوع العذول ما بين إلـفٍ

 

يا غريماً وافى على ميعـاد

يا ركوداً في يوم غيمٍ وصيفٍ

 

يا وجوه التّجار يوم الكسـاد

خلّ عنّا فإنمـا أنـت فـينـا

 

واو عمرٍو أو كالحديث المعاد

فأجابه ابن بسام بقوله:

فقدتك يا قـذاةً فـي شـرابٍ

 

دخلت من الدناءة كـلّ بـاب

لئيم الفعل أشأم مـن غـرابٍ

 

وضيع القدر أطفل من ذباب

وأثقل حين تبدو مـن رقـيبٍ

 

وأكذب حين تنطق من سراب

وأغدر للصديق من اللـيالـي

 

وأنكى للقلوب من العـتـاب

من ملح المهاجاة

ومن ملح هذا الباب قول جحظة:

يا لفظة النعيّ بموت الخلـيل

 

يا وقفة التوديع بين الحمول

يا شربة اليارج يا أجـرة ال

 

منزل يا وجه العذول الثقيل

يا طلعة النعش ويا مـنـزلاً

 

أقفر من بعد الأنيس الحلول

يا نهضة المحبوب عن غضبةٍ

 

يا نعمةً قد آذنت بالـرّحـيل

ويا كتاباً جاء من مـخـلـفٍ

 

للوعد مملوءاً بعذرٍ طـويل

يا بكرة الثكلى إلى حـفـرةٍ

 

مستودع فيها عزيز الثكـول

يا وثبة الحافظ مستـعـجـلاً

 

لصرفه القينات عند الأصيل

ويا طبيباً قـد أتـى بـاكـراً

 

على أخي سقمٍ بماء البقـول

يا شوكةً في قـدمٍ رخـصةٍ

 

ليس إلى إخراجها من سبيل

يا عثرة المجذوم في رجلـه

 

ويا صعود السّعر عند المعيل

يا ردّة الحاجب عن قـسـوةٍ

 

ونكسةً من بعد برء العلـيل

وجحظة هذا أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك.

قال أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة الوزير: سألت جحظة من لقبك بهذا اللقب ؟ فقال: أبو العبر لقيني فقال: ما هو حيوان إن نكسوه أتانا آلة للمراكب البحرية. فقلت: علق إذا نكسوه صار قلعاً. فقال: أحسنت يا جحظة؛ فلزمني هذا اللقب. وكان طيب الغناء حسن المسموع؛ إلا أنه ثقيل اليد في الضرب. وكان حلو النادرة كثير الحكاية صالح الشعر، ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة.

أنشدت سكينة بنت الحسين رضي الله عنها قول الشاعر:

فما للنّوى لا بارك اللّه في النّوى

 

وعهد النّوى يوم الفراق ذمـيم

من ملح النحويين المتقعرين

قال أبو علقمة النحوي لجارية كان يهواها: يا خريدة؛ أخالك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا ؟ فقال: ما رأيت أحداً يحب أحداً ويشتمه سواك.

الخريدة: الناعمة اللينة، والعروبة: المتحببة إلى زوجها.

وقال بلال بن أبي بردة لجلسائه: ما العروب من النساء ؟ فماجوا، وأقبل إسحاق بن عبد الله بن الحارث فقالوا: قد جاءكم فسلوه. فقال: هي الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد:

يعربن عند بعولهنّ إذا خلوا

 

فإذا خرجن فإنهنّ خفـار

والمقة: المحبة.

وقد حكى قول أبي علقمة عبد الرحمن الطلحي.

وأتي الهيثم بن العريان بغريم قد مطلب غريمه ديناراً؛ فقال: ما تقول ؟ قال: إنه ابتاعني عنجراً واستنسأته حولاً فصار لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني. فقال الهيثم: أمن بني أمية أنت ؟ قال: لا. قال: فمن أكفائهم من بني هاشم ؟ قال: لا. قال: ويلي على ابن الفاعلة، فعلى من تتكلم بهذا الكلام ؟ السياط ! فلما جرد قال: أصلحك الله؛ إن إزاري مرعبلة. فقال: دعوه، فلو ترك التثاقل بالغريب في وقت لتركه الآن.

العنجر: عجم الزبيب. واللقم: الطريق، والمرعبلة: الخلقة.

ابن منارة وأبو العيناء

دخل أبو العيناء على ابن منارة الكاتب وعنده أبو عبد الله بن المرزبان. فقال لابن منارة: أحب أن أعبث بأبي العيناء. فقال له: لا تقوم به. فأبى إلا العبث به، فلما جلس أبو العيناء قال له: يا أبا عبد الله؛ لم لبست جباعة ؟ قال: وما الجباعة ؟ قال: التي ما بين جبة ودراعة. قال أبو العيناء: لأنك صفديم. قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو ما بين صفعان ونديم.

سيبويه المصري وبعض ندماء كافور

ودخل أبو بكر سيبويه المصري نافلة البصرة على كافور الإخشيدي وعنده بعض ندمائه. فقال: أيها الاستاذ، دعني أهاتره. فقال: إنك لا تطيقه. قال: لا بد من ذلك. قال: شأنك. قال: يا أبا بكر، ما حد الرأس ؟ قال: ما أحاط به جربانك، وأدبك عليه سلطانك، ولاعبك فيه إخوانك. فخجل الرجل، وضحك كل من حضر.

وكان سيبويه هذا يشبه بأبي العيناء في سرعة جوابه، وجودة بديهته، وكثرة روايته. وكان الناس يتبعونه ويكتبون ما يقول، وكان قد شرب البلاذر فعرضت له حدة مفرطة.

وأحضره أبو بكر محمد بن الخازن، فقال: بلغي بلاء لسانك، وكثرة أذاك للناس، وقبيح معاملتك للأشراف؛ فاحذر أن تعود؛ فينالك مني أشد العقوبة، وصال عليه بالكلام.

وكان الصبيان يتولعون به إذا مر ويصيحون: يا خازن ! يا خازن ! اخرج عليه فيغضب؛ فقال له ذلك يوماً صبي وأبو بكر المعيطي حاضر فضحك المعيطي؛ فقال للصبي: ضرب الله عنق الخازن كما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنق عقبة بن أبي معيط يوم يدر على الكفر، وضرب ظهر أبيك بالسوط كما ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر الوليد بن عقبة على شرب الخمر، وألحقك يا صبي بالصبية. فقام المعيطي كأنما نشر من قبر.

يريد بقوله للصبي: وألحقك بالصبية قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن أبي معيط وقد قال له: فمن للصبية يا محمد ؟ قال: النار والعياذ بالله منها.

سيبويه يريد دخول الحمام

دخل مفلح الحسني الحمام وكان من جملة أصحاب الحسن بن عبد الله بن طغج بن جف الفرغاني، وإليه ينسب، فأتى سيبويه ليدخل فقيل له: الأمير مفلح أخلاه فاصبر ساعة. فقال: أومثلي يمنع الدخول ؟ لا أنقى الله مغسوله، ولا بلغه سوله، ولا وقاه من العذاب مهوله. وجلس حتى خرج. فقال له: إن الحمام لا يخلى إلا لأحد ثلاثة: مبتلى في قله، أو مبتلى في دبره، أو سلطان يخاف من شره، فأي الثلاثة أنت ؟ قال: أنا المغروم أعزك الله.

مجاورة

وهذا كجواب أشمول الإخشيدي، وكانت له دار مشرفة على النيل يتنزه إليها في زمان المد وطيب الهواء، وكان يجاوره العباس بن البصري في راقوبة له، فاحتسبت في تلك الدور، وقيل لكافور: إنها مبنية في فناء النيل فأمر بهدمها، فدخل ابن البصري على كافور فأنشده:

يأيهـا الأسـتـاذ يا ذا الّـذي

 

همّته أعلى من الـكـوكـب

انظر إليّ وإلـى فـاقـتـي

 

وارث لضعفي ولما حلّ بـي

فإنّ لي بـالـشـطّ راقـوبةً

 

أضيق من قارورة المحلـب

صغيرةً ضـيقةً عـرضـهـا

 

عرض سرير جاء في مركب

كأنـهـا رجـلٌ سـمــاريّةٌ

 

أخـرجـهــا... أو زيزب

لو رأيت الزنج في شـطّـنـا

 

وقد أحاطوا بأبي تـغـلـب

عمّة ذا حمراء مـصـقـولةٌ

 

وفاس ذا معتدل المـحـرب

في يد ذا حـلـب هـــائلٌ

 

يا ربّ سلّمني من المحـلـب

إن أخذتني ضـربةٌ مـنـهـم

 

رأيتني أرقـص كـالأحـدب

قد أحدق الصّفع بجـيرانـنـا

 

بالشطّ بالأقـرب فـالأقـرب

وإن تمـاديت وخـلّـيتـنـي

 

خشيت أن أدخل في اللولـب

فضحك كافور، والتفت إلى أشمول: وقال: أنت بجواره ؟ قال: أنا ما لي دار أعز الله الأستاذ قد سلمت.

تيه وكبر

وكان أبو الفضل بن حنزابة ربما رفع أنفه تيهاً؛ فقال له وقد رآه فعل ذلك: أشم الوزير أيده الله رائحة كريهةً فشمر أنفه ؟ فخجل فأطرق.

واستعمل أبو بكر النهوض فلقيه رجل فقال: من أين يا أبا بكر ؟ فقال: من عند الزاهي بنفسه المدل بعرسه، التائه على أبناء جنسه. وكانت بنت الإخشيد تحته، فلذلك قال: المدل بعرسه.

وأتى مسلم بن عبد الله الحسيني وهو من أهل الحجاز وأوطن مصر فحجب عنه. فقال: قولوا له يرجع إلى لبس العبا، ومص النوى، وسكنى الفلا، فهو أشبه به من نعيم الدنيا.

دار شؤم

وكانت دار أبي جعفر أحمد بن نصر التاجر المغربي بمصر معروفة بالشؤم من قبل أبي جعفر، فكان أبو بكر يمر بها فيقول: يا سيدتي تعودين إلى عادتك الجميلة. وأخباره كثيرة.

من نوادر المخنثين

لما جعل عيسى بن موسى ولي العهد بعد المهدي وكان ولي عهد المنصور، قال لمخنث قدم إليه وقد جنى جناية: ما أراك تعرفني فكنت تفعل هذا الفعل ؟ قال: بلى والله أيها الأمير، إني بك لعارف؛ فأنت الذي كنت غداً فصرت بعد غد.

خرج مخنث في شدة الهاجرة ببغداد وهو وقت لا يتصرف فيه أحد، فلقيه رجل فقال: لكم الليل ولنا النهار. فقال: صدقت، ولكن رأيت وجهك فظننته قطعةً من الليل.

أبو العبر وامرأته

مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي ؟ قال: فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي ؟ ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية.

عجوز وشابة

وبينا ابن أبي ليلى في مجلس القضاء إذ تقدم إليه امرأتان عجوز وشابة. فقالت الشابة: أنا أصلح الله القاضي امرأة مبدنة، وقد بهرني النفس؛ فإن رأى القاضي أن يأذن لي فأحسر عن وجهي فليفعل. فقالت العجوز: أصلح الله القاضي، إنها من أحسن الناس وجهاً، وإنما تريد أن تخدع القاضي، لا أمتعها الله بما وهبها من الجمال. فقال لها ابن أبي ليلى: إذا أنت شددت قناعك فشأنك ووجهك.

فحسرت الفتاة عن وجه جميل. ثم قالت: أصلح الله القاضي، إن هذه عمتي وأنا أسميها أمي لكبر سنها، وإن أبي مات وخلف مالاً، وخلفني في حجرها؛ فجعلت تمونني وتحسن التدبير في المال وتوفيره علي، إلى أن بلغت مبلغ النساء فخطبني ابن عم لي فزوجتني منه، فكان بي وبه من الحب ما لا يوقف على صفته، ثم إن ابنةً لعمتي أدركت، فجعلت هذه ترغب زوجي فيها؛ فتاقت نفسه إليها فخطبها. فقالت: لست أزوجكها حتى تجعل أمر بنت أخي في يدي. فقال لها: قد فعلت ! فلم أشعر حتى أتاني رسولها فقال: عمتك تقرئك السلام وتقول لك: إن زوجك خطب ابنتي، وإني أبيت أن أزوجها منه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل ذلك فأنت طالق، فحمد الله تعالى على ما بليت به.

وإن زوج عمتي هذه قدم من سفر، فسألني عن قصتي فأخبرته فقال: تزوجيني نفسك ؟ فقلت: نعم ! على أن تجعل أمر عمتي في يدي. قال لي: فما تصنعين إذاً ؟ قلت: ذلك إلي؛ إما أن أعفو وإما أن أقتص. قال: قد فعلت، فأرسلت إلى عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي، ففعل؛ فأنت طالق ! فضحك ابن أبي ليلى ! فقالت العجوز: لا تضحك أيها القاضي، فالذي بقي أكثر وأعظم. فقالت الشابة: ثم إن زوج عمتي مات فجعلت تخاصمني في ميراثه، فقلت لها: هو زوجي وأنا أحق بميراثه، فأغرت ابن عمي ووكلته بخصومتي ففعل.

فقلت: يابن العم؛ إن الحق لا يستحى منه وقد صلحت لك إذ نكحت زوجا غيرك، فهل لك في مراجعتي ؟ فقال: كان ما كان ولا ذنب لي فيه، بل كنا على أشد رغبة وأعظم محبة. ثم قال: أوتفعلين ؟ قلت: على أن تجعل أمر بنت عمتي بيدي. قال: قد فعلت. فأرست إلى بنت عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، فأنت طالق.

فقالت العجوز: أصلح الله القاضي؛ أيحل هذا، أطلق أنا وابنتي ؟ فقال ابن أبي ليلى: نعم، التعس والنكس لك.

ثم ركب إلى المنصور فأخبره حتى ضحك وفحص برجليه، وقال: أبعد الله العجوز ولا فرج عنها.

حمار عاقل

أتى رجل نخاساً فقال: اشتر لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر، إن أشبعته شكر، وإن أجعته صبر، وإن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخل بي تحت البواري، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: أنظرني قليلاً، فإن مسخ الله ابن أبي ليلى القاضي حماراً اشتريته لك.

جارية

وكتب بعض الكتاب إلى محمد بن منصور: وإن بين كل أمر يطالبه الرجاء وبين المطلوب إليه ذريعةً يتوصل بها إلى معروفه، ولي بارتجائك لمعرفتي بفضلك، وكذا الوسيلة، وما كنت متوسلاً إليك بشيء هو أرجى في حاجتي، ولا أصلح لطلبتي من التوسل إليك بحسن الظن فيك، وحاجتي أكرمك الله ظريفة من الجواري لم تتداولها أيدي التجار، ولا تبذلها معاودة العرض، ولي فيها شريطة أعرضها عليك لترى رأيك فيها، أحبرها فرعاء فإنه يقال: إذا اتخذت الجارية فاستجد شعرها؛ فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائقة البياض، تامة القوام؛ فإن البياض والطول نصف الحسن؛ وتكون مليحة المضحك، فإنه أول ما يجلب المحبة، ويكسب الحظوة، ولست أكره الانكسار في الثدي، لأنه ليس للناهد عندي سوى لذة النظر. ولست من قول الشاعر:

جال الوشاح عن قضيبٍ زانه

 

رمّان ثدي ليس يقطف ناهد

في شيء. وأكره العجيزة العظيمة وأريدها وسطاً؛ لأن خير الأمور أوسطها، لها طرف أدعج، وحاجب أزج، وكفل مرتج، وما وافقت هذه الصفة، وكانت رخيمة الكلام، شهية النغمة، فهي حرة قبل أن ترسلها، وحاجتي أبقاك الله يحملها قدرك ويستحقها شكرك. وأنا بالإضعاف حري، وأنت بالإسعاف قمين.
فأنفذ إليه محمد بن منصور خمسمائة دينار، وكتب إليه: قد سألت أكرمك الله عن هذه الصفة فلم أجدها، فالتمسها أنت؛ فإن وجدتها فهذه خمسمائة دينار تدفعها عربوناً حتى أبعث إليك بالثمن، والسلام.

خطبة النكاح

قال أبو سودة لابنه: يا بني، تعلم خطبة النكاح، فإني أريد أن أنكح أخاك، قال: نعم ! فلما كان من الليل قال: أتعلمت شيئاً ؟ قال: نعم ! قال: هات. قال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال أبوه: يا بني، لا تقم الصلاة حتى أذهب وأجيء، فإني على غير وضوء.

وهذا كقول ابن أبي حفصة لما قال علي بن الجهم قصيدته التي أولها:

اللّه أكبر والخليفة جعـفـر

 

أراد عليٌّ أن يقول قصيدة

 

بمدح أمير المؤمنين فـأذّنـا

فقلت له لا تعجـلـنّ إقـامةً

 

فلست على طهرٍ فقال: ولا أنا

قال يزيد بن أبي حبيب لرجل: من أين أقبلت ؟ قال: من أسفل الأرض. فقال له: كيف خلفت قارون ؟ وقال عبد الله بن خزيمة لصاحب شرطته: أين تذهب يا هامان ؟ قال: أبني لك صرحاً.

صبي يتعلم الهجاء

أسلم رجل ابنه إلى المعلم وقال له: علمه الهجاء، ولا تشغله بغيره، فطال ترداده إلى المكتب؛ فقال أبوه: تعلمت الهجاء ؟ قال: نعم ! قال: ما هجاء طير ؟ قال: ط أ س ر أ أ ح ألا ي أ، قال: ما هجاء سمكة ؟ فقال: س م ك أ ه أ خ ح د د، فأرسل إلى المعلم فحضر. فقال له: ويحك ! تقدمت إليك أن تعلم هذا الصبي الهجاء، وقد سألته عن هجاء طير، فقال كذا وكذا، وسألته عن هجاء سمكة، فقال: كذا وكذا. فقال المعلم: تجيء إلى صبي صغير تهجيه شيئاً يطير في الهواء وشيئاً يغوص في قعر البحر كيف يتهجاه ! فقال: هجه أنت. فقال المعلم: أهجي لك حماد ؟ قال: هج. فقال: ح م د ك س، فانتهره أبو الولد وانصرف.

أبو محمد النوبهاري أتاه رجل فقال: وضعت رأسي في حجر امرأتي فقالت: ما أثقل رأسك! فقلت: أنت طالق إن كان رأسي أثقل من رأسك. فقال: تطلق عليك، فقيل له: ولم ؟ فقال: لأن القصابين أجمعوا على أن رأس الكبش أثقل من رأس النعجة.

وكان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أصيبت عينه عام غزوة مسلمة القسطنطينية، وكان يطعم الطعام حيث نزل. فجاء أعرابي فجعل يديم النظر إلى المغيرة ولا يأكل. فقال له: ما لك يا أعرابي ؟ فقال: إنه ليعجبني كثرة طعامك، وتريبني عينك. قال: وما يريبك منها ؟ فقال: أراك أعور تطعم الطعام، وهذه صفة الدجال. فضحك المغيرة وقال: كل يا أعرابي فإن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله.

من شعر أبي العتاهية

حضر يعقوب بن إسحاق الكندي مجلساً فيه قينة، فقالت له: اقترح. فقال لها غني:

لو تجسّين يا عتيبة عرقي

 

لوجدت الفؤاد قرحاً تفقّا

فقالت: إن أردت جسّ العروق والنظر إلى الأبوال فعليك بالبيمارستان.

هذا البيت في أبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم ويكنى بأبي إسحاق وأبو العتاهية لقب وفيها:  

قال لي أحمدٌ لـيعـلـم مـا بـي

 

أتحبّ الـغـداة عـتـبة حـقّـا

فتـألّـمـت ثـم قـلـت نـعـم

 

ها جرى في العروق عرقاً فعرقا

قد لعمري ملّ الطبـيب ومـلّ ال

 

عواد مني ممّا أُعنّـى وأشـقـى

ليتني متّ فاستـرحـت فـإنـي

 

أبداً ما حييت منـهـا مـلـقّـى

وكان أبو العتاهية سهل الشعر لينه، وتندر له الأبيات على صحة شعره فتحسن، وكان يقال: شعر أبي العتاهية سباطة الملوك تجد فيها الدرة والخرفة، وأنشد الجاحظ شعره فمجه فقال: ألفيته أملس المتون ليس له عيون.

وقد قال ابن الرومي لرجل أنشده شعراً سليماً من العيوب مطبوعاً عارياً من تدقيق المعاني: نحن أعزك الله نحب مع السلامة الغنيمة.

وكان الرشيد مغرماً بشعره مستظرفاً له. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ذكرت عند الرشيد بذم، وكان فيه أن قيل: هو يا أمير المؤمنين على حداثة سنه وقصر معرفته يخالفك؛ فيقدم العباس بن الأحنف على أبي العتاهية، فاستحضرني وقال: من أشعر عندك أبو العتاهية أم العباس ؟ فعرفت ما أراد فقلت: أبو العتاهية: فقال: أنشدني للعباس فأنشدته أحسن ما أعرف له:

أُحرم منكم بما أقـول وقـد

 

نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالةٌ نصبـت

 

تضيء للناس وهي تحترق

فقال: فأنشدني لأبي العتاهية فأنشدته أحسن ما أعرف له:

كأنّ عتّابة من حسـنـهـا

 

دمية قسٍّ فتنت قـسّـهـا

يا ربّ لو أنسيتنيها بـمـا

 

في جنّة الفردوس لم أنسها

إني إذاً مثل التي لم تـزل

 

دائرةً في طحنها كدسهـا

حتى إذا لم يبق منه سـوى

 

حفنة برٍّ خنقت نفسـهـا

فقال: هذا الذي أنشدت لأبي العتاهية من أعابيثه التي لا يلقى بها بالاً، ولكن هلا أنشدتني قوله:

قال لي أحمد ولم يدر ما بي

 

أتحبّ الغداة عتبة حـقّـا

وأشد الأبيات، ثم قال: أيحسن أحد أن يقول: فتنفست ثم قلت: نعم. قلت: لا يا أمير المؤمنين وما أحفظ الشعر. قال: احفظه ! وكنت أعرف به منه.

من جيد شعره

ومن جيد شعر أبي العتاهية قوله لأحمد بن يوسف، وكان له صديقاً قبل الوزارة، فلما وزر للمأمون جفاه:

أبا جعفر إنّ الشـريف يهـينـه

 

تناهيه من دون الأخلاّء بالوفـر

فإن تهت يوماً بالذي نلت من غنىً

 

فإنّ عزائي بالتّجمّل والصـبـر

ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنـى

 

وأن الغنى يخشى عليه من الفقر

وقوله له وقد أتاه فقيل له إنه نائم:

لئن عدت بعد اليوم إنّـي لـظـالـم

 

سأصرف وجهي حين تبغى المكارم

متى يظفر الغادي إلـيك بـحـاجةٍ

 

ونصفك محجوبٌ ونصـفـك نـائم

وقوله:

ميّت مات وهو في وارف العي

 

ش مقيمٌ في ظل عيش ظـلـيل

في عداد الموتى وفي ساكني الدّن

 

يا أبو جعفر أخي وخـلـيلـي

لم يمت ميتة الـوفـاء ولـكـن

 

مات عن كلّ صالحٍ وجـمـيل

وهذا القول لعمرو بن مسعدة:

عييت عن العهد الـقـديم عـييتـا

 

وضيعت عهداً كان لي ونسـيتـا

وقد كنت في أيام ضعفٍ من القوى

 

أبرّ وأوفى منـك حـين قـويتـا

تجاهلت عمّا كنت تحسن وصفـه

 

ومتّ عن الإحسان حين حـييتـا

وكان عمرو بن مسعدة صديقاً له قبل ارتقاء حاله، فلما بلغ في أيام المأمون إلى رتبة الوزارة ساله حاجةً فلم يقضها، فتأخر عنه فغضب عمرو وحجبه فكتب إليه:

بلوت إخاء النّاس يا عمرو كلّـهـم

 

وجرّبت حتى أحكمتني تجـاربـي

فلم أر ودّ الـنـاس إلاّ رضـاهـم

 

فمن يزر أو يغضب فليس بصاحب

وانحدر إلى واسط فلم يعد حتى تغيرت حال عمرو.

فأما شعره في الزهد فقد فاق فيه الشعراء وبز النظراء؛ وغزله يلين كثيراً ويشاكل كلام النساء، كقوله:

لجّت عتيبة في هجري فقلت لهـا

 

تبارك اللّه ما أجفاك يا مـلـكـه

إن كنت أزمعت يا سؤلي ويا أملي

 

حقّاً على عبدك المسكين بالهلكـه

فقد رضيت بما أصبحـت راضـيةً

 

ها قد هلكت على اسم اللّه والبركه

وربما بلغ بلينه إلى الإضحاك كقوله:

عتّابة النّفس كاعبٌ شكـلـه

 

كحلاء بالحسن غير مكتحله

باللّه هل تذكرين يا سكـنـي

 

وأنت لا تقصرين في الحجله

أيام كنّا ونحن فـي صـغـر

 

نلعب هالا مهلهلا هلـلـه

وهذا وإن قصد به الهزل فليس في حلاوة قول العباس:

لست أنسى مقالها لرسولـي

 

أبداً أو تضمّني أرمـاسـي

هات قل لي كتاب من ذا فإني

 

من في خيفةٍ وفي إيجـاس

فنبذت الكتاب سـرّاً إلـيهـا

 

فتبدّى العنوان من عـبّـاس

فرمت بالكتاب زهواً وقالـت

 

ما بقى للقرود إلاّ الكراسـي

ولا كملاحة قوله:

جارية أعجبها حسـنـهـا

 

ومثلها في الخلق لم يخلق

عرّفتها أنّي محـبٌّ لـهـا

 

فأقبلت تضحك من منطقي

وانصرفت نحو فتاةٍ لـهـا

 

كالرشأ الأغيد في قرطق

قالت لها قولي لهذا الفتـى

 

انظر إلى وجهك ثم اعشق

من نوادر الجهلاء واللكن

وكان بالرملة شيخ نظير لأبي بكر النابلسي في طريق الزهد، وكان ألكن اللسان؛ فنزل بعض الجند دار صديق له، فخاف طول مكثه، وأن تصير الدار نزلاً للجند، وسار بذلك إلى الشيخ، وسأله أن يبعث إليه من يعرفه بالرجل أنه من خاصته لينتقل عنها؛ فأنفذ معه رسولاً، ثم رأى الشيخ أن قيامه آكد فنهض فلحقه. فقام الجندي إليه؛ فقال: أيها الشيخ الجليل سيدي؛ أتاني رسولك، ولا والله أقيم أكثر من يومين ألتمس منزلاً وأنتقل. فقال الشيخ: نعم ! يا سيدي وشهرين إذا شئت، وما هذا التضييق على نفسك ؟ فقال صاحب الدار: والله أعزك الله لئن أقام بها عشرة أيام لتصيرن داري نزلاً. فقال: يا هذا، إنك إن تقول، إن هؤلاء، إنما أحب إليك أن يأتوا إلى دارك، لسبب ما، فليس الأمر كما زعمت. فقال: فسر لي أكرمك الله هذا الكلام، وأنا أهب له الدار.

وكان بالرملة أيضاً كاتب جاهل ألكن، فأرسل غلامه إلى الصوارف يبتاع له شراباً، فاشترى له ركوة شراب، وحملها على حمار وأتى الرملة. فقبض عليه أصحاب المصالح، فقالوا: زن درهماً، فامتنع، فأرجلوه عن الحمار فضربوه خمسين مقرعة، وأخذوا الشراب والحمار؛ فأتى مولاه فأخبره. فكتب إلى متولي النظر في أمرهم: أما بعد، فإن غلاماً، وإن حماراً، ألبسبله، فضرباه خمسين رطلاً في ركوة، فرأيك في إطلاق الحمار، وأبقاك.

وقال بعض إخوانه: كنت عند فاحتجم، فقال: ما عندي اليوم شراب نبيذ، فاجلس حتى أكتب إلى صديقي فلان يبعث لي بقنينة أشربها معك. فقلت له: أنت مطول في كتبك فاعمل على الاختصار. فكتب: أما بعد احتجمت قنينة والسلام، فقلت له: ولا هذا كله ! ومثل هذا في الاختصار، قيل إن شاعراً مدح نصر بن سيار بقصيدة فيها مائة بيت كلها نسيب، وإنما المدح منها في بيتين. فقال له نصر: ما تركت معنى ظريفاً ولا نسيباً مليحاً إلا أوردته في نسيبك دون مدحك. فقال: غداً أغدو عليك بغير هذا؛ فغدا عليه بقصيدة أولها:

هل تعرف الدار لأم الغمـر

 

دع ذا وحبّر مدحةً في نصر

وكتب هذا الكاتب كتاباً إلى بعض إخوانه: اشتهيت وليس عندي إلا، وليس يحلو إلا من عندك، وهو الدمكسك أصلحك الله، يطرح الحشمة، فأرسل إلى ممسا منفصلاً والسلام.

أراد النمكسود وهو لحم يقطع طوابيق ويشد بالملح في ألواح وينشر حتى يذهب ماؤه وينشف؛ فإذا احتيج إلى شيء منه بل بالماء وأصلح؛ وإنما يستعمل كذا ليسافر به ولا يفسد. ولذا قال أبو العيناء: الزينبي نمكسود الخمر.

وكتب رجل إلى قاض في أمر قوم من جيرانه اختصموا: إن الذي لم يجر بينهما غير مفهوم، وقد أردت الاستصلاح فعاد استفساداً؛ فإن رأى القاضي أدام الله عزله أن يصفح عن كتابي فإن فيه نقصاً. فقال القاضي. لا، بل فيه زيادة لام، كفانا الله شرها.

من معاريض الكلام

ورثي قبران مكتوب على أحدهما: من رآني فلا يغتر بالدنيا، فإني كنت من ملوكها، أصرف الريح كيف شئت. وعلى الآخر مكتوب: كذب، إنما كان حداداً ينفخ بالزق.

وكان بالكوفة رجل باقلاني، فخرج الطائف ليلاً فأخذه سكران؛ فقال: من أنت ؟ فقال:

أنا ابن الذي لا تنزل الدّهر قدره

 

وإن نزلت يوماً فسوف تعـود

ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره

 

فمنهم قيامٌ حولـهـا وقـعـود

فقال الطائف: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تجاوزوا عن ذوي الهيئات؛ خلوا سبيله. فلما أصبح سأل عنه فإذا هو ابن باقلاني. فقال: إن لم يترك لنسبه فقد ترك لأدبه.

ومثله من المعاريض قول ابن شبرمة؛ وقد سئل عن رجل، فقال: إن له شرفاً وقدماً وبيتاً، فنظر فإذا هو ساقط. فقيل له في ذلك. فقال: ما كذبت: شرفه: أذناه وقدمه التي يمشي عليها، ولا بد أن يكون له بيت يأوي إليه.

وسئل آخر عن رجل؛ فقال: رزين المجلس، نافذ الطعنة؛ فحسبوه سيداً، فإذا هو خياط طويل الجلوس نافذ الإبرة.

من طرف النوادر

طلب العتبي بعد ثمانين سنة أن يتزوج، فقيل له في ذلك. فقال: أولاد الزمان فسدوا فأردت أن أذلهم باليتم، قبل أن يذلوني بالعقوق.

بعث بعض ولد عيسى بن جعفر إلى جماعة من المخنثين فأتوه، فجعلوا يلعبون ويرقصون وبقي مخنث منهم لا يتحرك. فقال: ما لك ؟ قال: لا أحسن شيئاً. قال: فلم دخلت يابن الفاعلة ؟ يا غلام ائتني بسكرجة مملوءة روثاً وأخرى مملوءة جمراً، فأتاه بهما. فقال: والله لتأكلن من أحدهما أو لأضربنك حتى تموت. قال: يا مولاي؛ دعني أصلي ركعتين. قال: قم فصل؛ فقام يصلي فأطال. فقال له: يابن الفاعلة، إلى كم تصلي ؟ قد صليت أكثر من عشرين ركعة ! فقال: يا سيدي؛ أنا دائب أدعو الله أن يمسخني نعامةً فأقوى على أكل الجمر، أو خنزيراً فأقوى على أكل الخرا، فلم يستجب لي بعد؛ فدعني أصلي وأدعو، فلعله يستجاب لي؛ فضحك منه ووصله.

هبت ريح شديدة، فقال الناس: قامت القيامة. فقال ربدة المخنث: يا حمقاء؛ القيامة هكذا على البارد بلا دابة ولا دجال ولا دخان ولا يأجوج ولا مأجوج.

ورأى مخنث شيخاً هرماً، فقال: عدمته، كأنه قصر ابن هبيرة ذهب رسمه وبقي اسمه.