قدم قوم لأعرابي قريساً فأمعن في أكله. فقيل له: يا أعرابي ؟ ما هذا ؟ قال: فالوذج؛ إلا أنكم أحمضتموه.
وابتاع أعرابي غلاماً؛ فقالوا له: إنا نبرأ إليك من عيب فيه. قال: ما هو ؟ قالوا: يبول في الفراش: قال: إن وجد فراشاً فليفعل.
وقيل لأعرابي: لم إذا غضبنا على غلام لنا قلنا له: أباعك الله في الأعراب قال: لأنا نطيل كده، ونعري جلده، ونجيع كبده.
وقال أبو تمام لرجل سرق شعره:
إنما الضّيغم الهصور أبـو الأش |
|
بال رئبال كـلّ خـيسٍ وغـاب |
من عدت خيله على سرح شعري |
|
وهو للحين راتعٌ في كـتـابـي |
غارة أسخنت عيون الـقـوافـي |
|
فاستحـلّـت مـحـارم الآداب |
يا عذارى الكلام صرتنّ من بـع |
|
دي سبايا تبعن فـي الأعـراب |
ورأى أعرابي سراويل في فلاة، فأخذه يظنه قميصاً لم يعرف كيف يلبسه !! فمر يعدو ورماه؛ فلقيه رجل فقال: ما لك يا أعرابي ؟ قال: أصبت قميصاً للشيطان، وأخاف أن يلحقني فيقول: لم أخذت قميصي ؟
أعرابي في عرس
وقال الهيثم بن عدي: سمعت أعرابياً يقول: دخلت حضرتكم بعد عيد الأضحى، فإذا أنا بجمع عظيم عليهم أنواع الثياب من بيض وحمر وصفر، فكأنها زهر البستان. فقلت في نفسي: هذا العيد الذي يذكر أصحابنا الحضر يتزينون فيه، ثم رجعت إلى عقلي فقلت: وأي عيد هو ؟ وقد خرجت بعد الأضحى، فبينا أنا باهت أفكر في أمري إذ أخذ بيدي رجل منهم. فقال: ادخل يا أعرابي. فدخلت فإذا بمجلس منضد بالنضائد، موسد بالوسائد، وفي صدره سرير، وعليه رجل جالس، والناس صموت عن يمينه وشماله. فقلت في نفسي: هذا الخليفة الذي يذكرون، فقبل الأرض وقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقيل: اسكت يا أعرابي، هذا عروس ونحن في عرسه؛ فهيىء لي موضع في المجلس، فجلست فيه. فقدمت هنات مدورات من خشب عليها ثياب متلاحمة النسج، فهممت أن أسند في ثوب منها أرقع به إزاري. فقيل لي: مد يدك يا أعرابي وكل، فإذا هو ضرب من الخبز لا أعرفه، ثم قدمت أنواع من الطعام حلوة وحامضة وحارة وباردة، فأكلت؛ ثم أتي بأوان فيها ماء أحمر فجعلوا يصبون في أقداح ويشربون، فناولني منه قدحاً؛ فقلت: أخاف أن يقتلني. فقالوا: يا أعرابي؛ إنه يهضم ما في بطنك، فشربته فحدث في قلبي طرب لا أعرفه، وهممت أن أهشم الذي بجانبي، وأن أقول للآخر: يابن الزانية ! فأقبلوا يسألون رجلاً، ويقولون: أمتعنا بنفسك، فأتى بهنات لها رأسان مشدودان بالخيوط المحصدة؛ فأقبل يضرب رأسه، فيخرج منها رعد كهزيم الرعد وزئير الأسد. وأخرج رجل من كمه شيئاً كفيشلة الحمار، فأقبل يردد عليه به. وأقبل آخر ينتخ حتى كبح به الأرض. فقلت: مجنون ورب الكعبة !! ثم أقبلوا يضرعون إلى آخر ويرغبون إليه؛ فأتاهم بدابة من خشب عينها ف صدرها إذا فتلت أذنها تكلم فوها؛ فطرب كل من حضر وطربت حتى تقدمت إليه، وقلت: يا سيدي؛ ما هذه الدابة ؟ فقال: يا أعرابي؛ هذه يقال لها البربط. فقلت: آمنت بالله وبالبربط، ثم سقوني قدحاً آخر، فأخذتني نومة لم يوقظني منها إلا حر الشمس من الغد.
البحتري يهجو علي بن يحيى
وفي علي بن يحيى يقول البحتري يهجوه:
وأكثرت غشيان المقابـر زائراً |
|
عليّ بن يحيى جار أهل المقابر |
فإلاّ يكن ميت الـحـياة فـإنّـه |
|
من اللؤم ميت الجود ميت المآثر |
قال أبو العيناء: محمد بن مكرم والعباس بن رستم تعجلا الجنة في الدنيا، يشربان الخمر ولا يصليان.
من مكارم أبي الصقر
ومما يعد من مكارم أبي الصقر أنه لما ولي الوزارة بعد صاعد دخل عليه ابن ثوابة فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليك يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.
ولما ولي أبو الصقر الوزارة خير أبا العيناء فيما يحب حتى يفعله به. فقال: أريد أن يكتب لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرفه مكاني، ويلزمه قضاء حق مثلي من خدمه. فكتب إليه كتاباً بخطه فأوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف دينار، وعاشره أجمل عشرة؛ فانصرف بأجمل ما يحب.
كتاب أبي العيناء إلى أبي الصقر
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً متضمنه: أنا أعز الله الوزير طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي من عثرة الدهر، وكبوة الفقر؛ وعلى أية حال حين نفدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذي يفهمون في غير تعب؛ وهم الناس كانوا غياثاً للناس، فحللت عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت إلى الطائي كتاباً، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علي الأمور، وأحاطت بي النوائب، فكثر من بشره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن بر أحكمه، ولم يزل مكرماً لي مدة ما أقمت، ومثقلاً لي من فوائده لما ودعت؛ حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، وزادني من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك وحمامك، وقد أنفقت علي ما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسر الله لي. والله عز وجل يقول: "لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سعته"؛ فالحمد لله الذي جعلك اليد العليا، والرتبة السامية؛ لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك.
أبو العيناء أول من أظهر العقوق لوالديه
قال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة لوالديه. قال أبي: إن الله قد قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: "اشكر لي ولوالديك". فقلت: يا أبت؛ إن الله أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: "ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إمْلاَق نحن نرزقكم وإياهم".
وقال أعرابي لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به إلي أمت بمثله، ولست أزعم أنا سواء ولكن لا يحل الاعتداء.
ابناك كعينيك
وحكى أبو الحسن محمد بن جعفر بن لنكك البصري عن أبيه أنه جاور ببغداد في أيام المقتدر رجلاً من جلة الكتاب، ونشأ له ولدان فتنا بغداد بحسنهما، فبلغ الأكبر منهما، فنقله من المكتب إلى الديوان، وأراد أن يحصنه بجارية فابتاعها له بألف دينار، وقال: لا تعلم أخاك فإنه يصغر عن ذلك، فنمت داية الأصغر الأمر إليه، وقالت: إن أباك خص أخاك بشيء دونك. فقال لها: بم خصه ؟ قالت: بجارية. قال: هو إليها أحوج وأنا عنها أغنى، غير أني أشفق أن يتسع الخرق، وما علمت أنه فضل مذ نشأ علي بشيء، وأنا أجله عن المشافهة، ولكن هاتي دواة، فكتب إليه:
ليس لي بعد إلـهـي |
|
مشتكـى إلاّ إلـيكـا |
وأخي في الفضل مثلي |
|
وكلانـا فـي يديكـا |
لا تفضّـلـه عـلـيّ |
|
بالحبا من ناظـريكـا |
إنما ابناك كـعـينـي |
|
ك فداوي مقلتـيكـا |
إن أذقت العين كحـلاً |
|
هاجت الأخرى عليكا |
فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه وأنفذها إليه.
بخور غير طائل
وحضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبزأرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:
تبصّر في فؤادي فضل حبٍّ |
|
يفوق به على كلّ الصحاب |
أتيناه فبخّـرنـا بـشـيءٍ |
|
من السقف المدخّن بالتهاب |
فقمت مبادراً وحسبت نصراً |
|
يريد بذاك طردي أو غيابي |
فقال متى أراك أبا حسين ؟ |
|
فقلت له إذا اتّسخت ثيابـي |
بين أبي علي البصير وأبي العيناء
قال أبو علي البصير لأبي العيناء: في أي وقت ولدت من النهار ؟ قال: طلوع الشمس. قال: فلذلك خرجت مكدياً؛ لأنه وقت انتشار المساكين. فقال له أبو العيناء: بيني وبينك مناسبة العمى، قال: كلا ! إني من عميان الدواب، وأنت من عميان العصا.
بلغت أبا علي البصير عن أبي العيناء قوارص بظهر الغيب؛ فكتب إليه: أستزيد الله في بقائك؛ وأستمتعه بإخائك، وأستحفظه النعمى عندك. رب مزح أعزك الله قد بعث جداً، وجور قد أحدث قصداً، ورب أمر صغير خطره، قد أعقب أمراً كبيراً آخرهن ونحن باستزادتنا بعهدك، ومحاماتنا على ودك، وتمسكنا بعرى الأسباب التي بيننا وبينك، واحتراسنا من جناية الدهر علينا فيك، لا نقتصر على الاستظهار بالحجة، والإبلاغ في المعذرة، دون استفراغ المجهود، وبلوغ الغاية في التأني، والحيلة في استرجاع ما شذ عنا منك، وإبطال ما نمت به الأخبار إلينا عنك، من تحليك بنا في العيب، وتناولت إيانا في الغيب، فلا يزال أخ لك مد الله في عمرك تعد له، على نفسك، وثوقه لك وعليك، قد ساقط إلي أحاديث عنك بطبائعها صلاح القلوب قليلاً بها بقاء المودة، سريعة في حل عقدتها وقطع مودتها، أحاديث، أكره لنفسي بدأها ولك عاقبتها، وكنت لا أزال أرد ما يرد علي منها بتأول لفظك وحسن الظن بمعناك، والتماس العذر لك على ضيق مخرجه، وصعوبة مطلبه؛ وأغلب رأيي لهواك، وأقف غضبي على عتباك، وأحفظ قصدك إلي متنصلاً بما بلغني عنك؛ إلى حرم بيني وبينك، لا يجب حفظها علي دونك، حتى عاد تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً، وفي نسبته في صحتي إلى العمى، وفي حلمي إلى الضعف، إلى أن يئس الصديق من نصري، لما رأى من إغضائي في أمر نفسي، وقد بقي مع فضلة من أداتي أنت تملكها دوني، فإن صنتها لي ووفرتها على من أساء الاختيار؛ ولا أعدم أنصاراً من الأحرار، أسعد بمؤازرتهم ومكاشفتهم، وأستغني بنفسي عنهم.
وقد كتبت في هذا المعنى بأبيات هي لما قبلها ولما يكون بعدها، فرأيك في تفهمها نفعك الله بها:
أبلغ أبا العيناء إن لاقـيتـه |
|
قولاً يكون لدائه حسـمـا |
نبئت أنّك في المغيب تسبّني |
|
وإذا التقينا كنت لي سلمـا |
فتروم هجوي جاهداً ونقيصتي |
|
سفهاً أراه بـادياً حـلـمـا |
لا تغتنم لحمي فليس بـأكـلة |
|
واعلم بأنك واجدٌ لـحـمـا |
إني أُعيذك أن تكـون رمـيّةً |
|
لسهام رامٍ إن رمى أصمـى |
شتم ورد
وشتم أبا علي البصير بعض الطالبيين، فقال: إنا والله ما نعيا من جوابك، ولا نعجز عن مساءتك، ولكنا نكون خيراً لنسبك منك، ونحفظ ما أضعفت، فاشكر توفير ما وفرنا منك، ولا يغرنك بالجهل علينا حلمنا عنك.
من شعر أبي علي البصير
وأبو علي هو القائل:
ألّمت بنا يوم الـرحـيل اخـتـلاسة |
|
فأضرم نيران الجوى النظر الخلس |
تأبّت قليلاً وهـي تـرعـد خـيفةً |
|
كما تتأبّى حين ترتعد الـشـمـس |
فخاطبها صمتي بما أنا مـضـمـرٌ |
|
وأبلست حتى لست يسمع لي حـسّ |
وولّت كما ولّى الشـبـاب لـطـيّة |
|
طوت دونها كشحاً على يأسها النّفس |
وقال يمدح الفتح بن خاقان:
سمعنا بأشعار الملوك فكـلّـهـا |
|
إذا عضّ متنيه الثـقـاف تـأوّدا |
سوى ما سمعنا لامرىء القيس إنه |
|
يكون إذا لم يشعر الفتح أوحـدا |
أقام زماناً يسمع القول صامـتـاً |
|
ونحسبه إن رام أكدى وأصـلـدا |
فلما امتطاه راكباً ذلّ صـعـبـه |
|
وسار فأضحى قد أغار وأنجـدا |
وقال يصف ليلة مطر:
وليلة عارض لا نوم فـيهـا |
|
أرقت لها إلى الصبح الفتيق |
حمى فيها الكرى عيني ببيتٍ |
|
كأنّ سماءها عين المشـوق |
تواصلت السحائب وهو بـيتٌ |
|
وصدّت وهو قارعة الطريق |
وهذا كقول ابن المعتز:
روينا فما نزداد يا ربّ مـن حـياً |
|
وأنت على ما في الضمير شهيد |
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها |
|
وحيطان داري ركّعٌ وسـجـود |
من نوادر اللصوص
ذهبت ثياب رجل في الحمام، فجعل يقول: أنا أعلم، أنا أعلم، واللص يسمعه؛ ففزع وظن أنه قد فطن به؛ فردها. وقال له: إني سمعتك تقول: أنا أعلم، فما الذي تعلم ؟ قال: أعلم أنه إن عدمت ثيابي مت من البرد.
مستميح ولص
زار رجل الخصيب بن عبد الحميد وهو أمير على مصر مستميحاً فلم يعطه شيئاً فانصرف. فأخذه أبو الندى اللص وكان يقطع الطريق فقال: هات ما أعطاك الخصيب. قال: لم يعطني شيئاً، فضربه مائتي مقرعة يقرره على ما ظن أنه ستره عنه. ثم قدم على الخصيب بعد ذلك زائراً فلم يعطه شيئاً: فقال: جعلت فداك ! تكتب إلى أبي الندى أنك لم تعطني شيئاً لئلا يضربني، فضحك ووصله.
من طرائف الأجوبة
ومر سالم بن أبي العقار بمحمد بن عمران الطلحي وكان سالم أحد المجان فقال له سالم: هذه الشيبة والهيئة الحسنة والخضاب، ولا تنزع عما أنت فيه !! فقال: يا أبا سليمان؛ إني لأهم بذلك، فإذا مررت بمنزل ابن عمك طلحة بن بلال فرأيت على حاله لم يخسف به علمت أن في الأمر فسحة بعد.
ولما مرض أبو نواس دخل عليه الجماز يعوده. فقال: اتق الله، فكم من محصنة قد قذفت، ومن سيئة قد اقترفت، وأنت على هذه الحال؛ فتب قبل الموت. فقال: صدقت. ولكن لا أفعل ! قال: ولم ؟ قال: مخافة أن تكون توبتي على يد واحد مثلك.
وقال الجماز: أراد أن يكتب أبو نواس إلى إخوان له دعاهم، فلم يجد قرطاساً يكتب فيه ! فكتب في رأس غلام له أصلع ما أراد، ثم قال فيه: فإذا قرأت كتابي، فأحرقوا القرطاس. فضحكوا منه وتركوا للغلام جلدة رأسه.
نوادر لابن الجصاص
تقدم الوزير علي بن عيسى إلى ابن أبي عبد الله بن الجصاص في البكور، فأتاه نصف النهار. فقال: ما أخرك يا أبا عبد الله ؟ قال بمحلتي أعز الله الأمير كلاب تنبح الليل أجمع، فأسهرتني البارحة، فلما كان مع وجه السحر سكن نباحها، فنمت فغلبتني عيني إلى الآن، فقال له: وما لك يا أبا عبد الله لا تتقدم في قتلها ؟ قال: ومن يستطيعها أيها الوزير ؟ وكل واحد منها مثلي ومثل أبيك رحمه الله. وخرجت يده من الفراش في ليلة باردة، فأعادها إلى جسده بثقل النوم فأيقظته، فقبض عليها بيده الأخرى، وصاح: اللصوص اللصوص ! هذا اللص جاء ينازعني وقد قبضت عليه، أدركوني لئلا يكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قد قبض بيده على يده.
ودخل على ابن له وقد احتضر، فبكى عند رأسه، وقال: كفاك الله يا بني الليلة مؤنة هاروت وماروت. قالوا: وما هاروت وماروت ؟ قال: لعن الله النسيان، إنما أردت يأجوج ومأجوج. قالوا: وما يأجوج ومأجوج ؟ قال: فطالوت وجالوت. قالوا: فلعلك أردت منكراً ونكيراً. قال: والله ما أردت إلا غيرهما !! يريد ما أردت غيرهما.
وغفل عنه أهله يوماً فسمعوا صياحه؛ فأتوه فوجدوه في بيت كالميت. فقالوا: ما لك ؟ قال؛ فكرت في كثرة مالي وشدة مصادرة السلطان للتجار في هذا الوقت وتعذيبه لهم بالتعليق، فعلقت نفسي ونظرت كيف صبري، فزحلت فلم أتخلص حتى كدت أموت.
وهذه الحكايات عن ابن الجصاص تنسب إلى غيره، والمحدثون مختلفون في حكاياتهم ومضطربون في رواياتهم.
وكان المعتضد إذا رأى ابن الجصاص يقول: هذا الأحمق المرزوق ! وكان أوسع الناس دنيا، له من المال ما لا ينتهى إلى عده، ولا يوقف على حده. وبلغ من جده أنه قال: تمنيت أن أخسر، فقيل لي: اشتر التمر من الكوفة وبعه بالبصرة، ففعلت ذلك؛ فاتفق أن نخل البصرة لم يحمل في ذلك العام؛ فربحت ربحاً واسعاً.
وكان المعتضد لما زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون بعث أبوها إلى ابن الجصاص مائتي ألف دينار، وكتب إليه قد جهزناها بما قدرنا عليه، وبالعراق طرائف لم تصل إلى أيدينا، فاشتر ما تراه؛ فاحتجز المال ولم يسأل عنه.
وكان ابن المعتز لما خلع المقتدر لم يقم في الخلافة إلا يومين غير تامين، ثم اضطرب حبله، فهرب إلى دار بن الجصاص فأخرج منها، أخرجه المقتدر بعد أيام إلى القضاة والعدول ميتاً.
سبب طلب ابن المعتز للخلافة
وكان سبب طلب ابن المعتز للخلافة: أن المقتدر وهو جعفر بن المعتضد وأمه أمة سوداء واسمها شعب لما استخلف أرجف الناس فيه وتكلموا في أمره. وقالوا: كيف يلي الخلافة من لم يبلغ الحلم ؟ وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة وشهراً وعشرين يوماً، وقالوا: لا بد من خلعه لأنه سادس.
قال الصولي: وقد جرى في السادس أمر طريف من الاتفاق؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى أورث الأرض سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعه أربعة. واستخلف بعد علي رضي الله عنه الحسن ابنه وهو السادس فخلع. وسلم الأمر إلى معاوية ثم إلى يزيد بن معاوية ثم إلى معاوية بن يزيد ثم مروان بن عبد الحكم ثم عبد الملك بن مروان ثم بويع ابن الزبير في أيامه أو بعدها وهو السادس فخلع، ثم انقضت دولة بني أمية ولم يكمل بعد الوليد ستة، وإنما ولي يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم بن الوليد بن مروان ومروان بن محمد وهو آخر ملوك بني أمية. ثم استفتح ملك بني العباس بأبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور ومحمد بن المنصور المهدي وموسى الهادي بن المهدي وهارون الرشيد بن المهدي والأمين بن الرشيد بن المهدي وهو السادس فخلع، ثم ولي المأمون بن الرشيد والمعتصم أخوه والواثق بن المعتصم والمتوكل بن المعتصم والمنتصر بن المتوكل والمستعين أحمد بن المعتصم فخلع وهو السادس. قلت أنا: وولي القاهر محمد بن المعتضد والراضي أبو العباس بن المقتدر والمتقي أبو إسحاق بن المقتدر والمستكفي والمطيع الفضل بن جعفر المقتدر والطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع وهو السادس فخلع. وولي بعده أبو العباس القادر وهو الخليفة في هذا الزمان، وكان الإرجاف في أول ولاية المقتدر شديداً من الخاصة والعامة، فلما قتل العباس وزيره أخذ محمد بن داود بن الجراح البيعة على الناس لعبد الله بن المعتز، ووجه إلى القضاة والعدول، فاجتمع من القواد وغيره زهاء خمسة آلاف سوى الأتباع، فأظهر لهم محمد بن داود عبد الله بن المعتز، وكتب كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز ولقبوه المنتصف، ويقال الراضي، ويقال القائم بالحق، وتقلد ابن الجراح الوزارة، وتكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو. وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، وقام وكيع فقرظه وذكر محاسنه وذكر شعر أبي العتاهية في هارون الرشيد وهو:
أتته الخلافة مـنـقـادةً |
|
إليه تـجـرّر أذيالـهـا |
فلم تك تصـلـح إلاّ لـه |
|
ولم يك يصلح إلاّ لـهـا |
ولو رامها أحـدٌ غـيره |
|
لزلزلت الأرض زلزالها |
ولم يبق في دار المقتدر حينئذ إلا نفر يسير، وهر بعضهم إلى ابن المعتز، فسعى مؤنس الخازن وسوسن في نقض هذا العقد في اليوم الثاني، وجددا للناس بيعة المقتدر، وأخرجا الأموال فزادا في الأعطية، فانجفل الناس إليهما، ولم يبق مع ابن المعتز أحد؛ فهرب إلى دار ابن الجصاص، وهذا خبر طويل ليس هذا موضع استقصائه. ثم خلع المقتدر بعد ذلك وقتل في الحرب، ولم يقتل في الإسلام خليفة بين الصفين غيره.
ولما ظهر ابن المعتز ميتاً رثاه الناس؛ فقال ابن بسام:
للّه درّك من ميت بـمـضـيعة |
|
ناهيك في العلم والآداب والحسب |
ما فيه لوٌّ ولا ليت فتـنـقـصـه |
|
وإنما أدركـتـه جـرفة الأدب |
وطولب ابن الجصاص بالتجائه إليه، وأراد المقتدر قتله. فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ابن عمك، وقد لجأ إلى داري، وأنا غائب عنها، فكتمت أمره لعل رأيك يحسن فيه، ولست بمضاد في خلافة ولا قادح في مملكة، وقتلي لا ينفعك؛ وفي حياتي لك فائدة. قال: وما فائدة حياتك ؟ قال: أدفع إليك كل يوم ألف دينار؛ فترك ووفى في ذلك مدة.
رثاء ابن بسام لابن المعتز
وقد استحسن لابن بسام رثاؤه لابن المعتز على سوء رأيه فيه ومهاجاته له.
كتاب للبديع في مرض الخوارزمي
وقد أحسن بديع الزمان في هذا المعنى كل الإحسان، وقد كتب إليه إبراهيم بن أحمد بن حمزة يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكان بينهما من المهاجاة والمهاترة والمنازعة والمنافرة ما يطول به الشرح: الحر أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإذا وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت فتستنفد، وإن لم تصب فكأن قد؛ فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه. والشامت إن أفلت فليس يفوت. وإن لم يمت فسوف يموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقيب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أو يسر العاقل بسلاح قاتله ؟ وهو الفاضل شفاه الله، وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد؛ فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني الله سماع المكروه فيه.
الخوارزمي رافضي
وكان الخوارزمي رافضياً غالياً؛ أخبرني من رآه بنيسابور وقد خرج سكران وقد كظه الشراب فطلب فقاعاً فلم يجده، فقال: أيعوزني الفقاع لما طلبته. فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تفزيع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه في سره. وكان فاحشاً بذيئاً، مستخفاً جريئاً على ذوي الإنعام عليه، والإحسان إليه، قال إسماعيل بن عباد لما بلغه موته:
سألت بريداً من خراسان مـقـبـلاً |
|
أمات خوارزميكم ؟ قال لي: نعم ! |
فقلت اكتبوا بالجصّ من فوق قبره |
|
ألا لعن الرحمن من يكفر النّـعـم |
وسع قبيح في جبهة الخوارزمي
وكان هجا بعض الملوك فظفر به فوسمه في جبهته سطرين فيهما شطران بأقبح هجاء، فكان يشد العمامة على حاجبيه ستراً عليهما. ولذلك قال البديع في مناظرته إياه وقد ذكر مجلساً طويلاً غنى المغني بحضرتنا:
وشبهنا بنفسج عـارضـيه |
|
بقايا اللطم في الخدّ الرقيق |
فقال للحاضرين: أنا أروي الشعر الذي منه هذا البيت وهذا لا يرويه. فقلت: روايتي تخالف روايتك، وإذا أنشدتكها على روايتي ساءتك في استماعها، ولم يسرك مصنوعها. قال: وكيف روايتك ؟ قال قلت:
وشبهنا بنفسـج عـارضـيه |
|
بقايا الوسم في الوجه الصفيق |
فلما أضجرته النكتة، أخذته السكتة، فخمدت ناره، ووقف حماره.
بين البديع والخوارزمي
وكان البديع رحمه الله، وهو أبو الفضل أحمد بن الحسين: قد أشرقه بريقه، ووعر عليه ما سهل من طريقه. وكان الخوارزمي يرميه ببغض علي رضوان الله عليه، ويشنع علي بذلك ويغري به الطالبيين:
يقولون لي لا تحبّ الوصـيّ ؟ |
|
فقلت الثّرى بـفـم الـكـاذب |
أُحبّ النـبـيّ وآل الـنـبـيّ |
|
وأختـص آل أبـي طـالـب |
وأُعطي الصحابة حقّ الـولاء |
|
وأجري على سنن الـواجـب |
فإن كان نصباً ولاء الجـمـيع |
|
فإني كما زعموا نـاصـبـي |
وإن كان رفضاً ولاء الوصـيّ |
|
فلا برح الرّفض من جانبـي |
فللّه أنـتـم وبـهـتـانـكـم |
|
وللّه من عـجـب عـاجـب |
وإن كنتم مـن ولاء الـوصـيّ |
|
على العجب كنت على الغارب |
يرى اللّه سرّي إذا لـم تـروه |
|
فلم تحكمون علـى الـغـائب |
ألا تبصرون لـرشـدٍ مـعـي |
|
ولا تهتدون إلـى الـلّـه بـي |
أعزّ الـنـبـيّ وأصـحـابـه |
|
فما المرء إلاّ مع الصـاحـب |
أيرجو الشفاعة من سبّـهـم ؟ |
|
بل المثل السوء لـلـضـارب |
حنانـيك مـن طـمـع بـاردٍ |
|
ولـبـيك مـن أمـلٍ كـاذب |
له في المكاره قلب الجـبـان |
|
وفي الشبهات يد الـحـاطـب |
كتاب البديع إلى بعض الرؤساء
وكتب البديع إلى بعض الرؤساء وذكر الخوارزمي: ما ألوم هذا الفاضل على نشر شر طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكني ألومه على ما نواه، ولم يتبع فيه هواه، ورامه، ولم يبلغ تمامه. وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع ؟ وأنذر فأين الإيقاع ؟ وهذه بوارقه، فأين صواعقه ؟ وذاك وعيده، فأين عديده ؟ وتلك بنوده، فأين جنوده ؟ وأنشد:
هذي معاهده فأين عهود |
ما أهول رعده، لو أمطر بعده ! اللهم لا كفران، أراه أشفق لغريب أن يظهر عواره، وإن طار طواره، فإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إلي، وأجحف بفضله من حيث أبقى علي، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجعني عن لقائه، بعد أن فزعن بإيمائه، فبينا كنت أنشد: إن جنبي عن الفراش لنابي إذ أنشدت: طاب ليلي وطاب فيه شرابي، وبينا كنت أقول: ما لقلبي كأنه ليس مني إذ قلت: أين من كان موعداً لي بأني.
من مساجلات البديع والخوارزمي
وبين البديع والخوارزمي مراسلات ومساجلات، ومجالس ظريفة ومقامات، في ابتداء وجواب، أخذت بوصل الحكمة وفصل الخطاب، ومن الهزل والجد. فمن ظريف ما لأبي بكر من رسالة طويلة يهزأ بها بالبديع: تواضع لنا رحمك الله، فإن التواضع خلق من أخلاق السلف، وشبكة من شباك الشرف، وتصدق علينا ببشرك، فإن الله يجزي المتصدقين، وأحسن فإن الله يحب المحسنين، ولاين إخوانك في قولك وفعلك، ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك. ولولا أني رحمك الله لا أقول بالرجعة، ولا أذهب مذهب التناسخية، لظننت أنك يونس بن فروة إذ قيل فيه:
أمّا ابن فروة يونـس فـكـأنـه |
|
من كبره ذاك الحمار الـقـائم |
ما الناس عندك غير نفسك وحدها |
|
والناس عندك ما عداك بـهـائم |
فلقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب، وأحببت ما لا يساوي الحب، حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأن قارون وكيل نفقتك، وحتى كأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وشدت ملعب سليمان من بقايا رخام صحنك؛ وكأن خاتم الدنيا في خصرك، وحساب خرجها ودخلها في بنصرك، وحتى كأن الشمس تطلع من جبينك، والغمام يندى من يمينك، وكأن كسرى أنو شروان صاحب نفقة إصطبل دوابك، ونمرود بن كنعان قهرمانك على ولدك وأهلك، وحتى كأن الكبريت الأحمر خزف دارك، والدرة اليتيمة في أخس سوارك.
رحمك الله ! دع لليونانية من الحكمة ما ينفق به سوقهم، واترك لبني العباس من التملك ما تمشي به أمورهم، وأبق للشمس والقمر من الحسن بمقدار ما يلوحان به، ويطلعان فيه؛ وانظر إلى النساء من وراء حجاب، ومن خلف برقع، وإلا خرجن في عشقك من ستر الله، وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله، ولا تحمل الحرائر على خشونة الطلاق، ولا تذق المماليك مرارة العناق.
رحمك الله ! لي حوائج إن قضيتها فقد تسلفت شكري وثنائي، وإن رددتني عنها فقد رأيت أنموذج سخطي وشكواي، قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأملها علينا رحمك الله ! والكيمياء فقد أنفقت فيها الأموال، وتعب فيها الرجال، ثم لم يحصوا منها إلا على مواعيد مزخرفة، وأماني مسوفة، فما عليك لو علمتناها، وأغنيت الفقراء، وزدت الأغنياء، وأرحت الناس من الضرب في البلاد، ومن الكد والاجتهاد، ومن أن يخدم فقير غنياً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
والزيج الأكبر فقد انقطع أصله، ومات أهله، وهو من مفاخر الروم علينا، ومن محاسنهم دوننا. فاعمل على إصلاحه، ولا تدع النصارى يفضلون المسلمين في إبداعه. ومسجد دمشق فهو حسنة يباهي أهل المغرب أهل المشرق، فابن لنا مثله، ولا تثبت علينا فضله؛ فإنما هي ساعة من هندستك، وجزء نستعمله من أجزاء حكمتك.
أنا لو سلمت أنك إنسان لنفيت عن نفسي الإنسانية، وقضيت عليها بالبهيمية، وصرت أعلى منك في النقص حكمة، وفي الجهل طبقة. وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك لاعب، وفي الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت كلامي إذا لاينتك وجاملتك، وإصابتي الغرض وحزي المفصل إذا كاشفتك وباينتك، وذلك أن الصادق معان مأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه، وما كان الله ليوفقني وأنا أجامل من لا يعرف قط إجمالاً ولا تجميلاً، وأفضل من لم يناسب مذ كان إفضالاً ولا تفضيلاً.
وليس يخفى عليك أكرمك الله تطاول أهل العراق بعبد الله بن هلال الهجري صديق إبليس؛ فأرنا رحمك الله من عجائب صنعتك، ولطائف شعبذتك، وأظهر من كتبك ما تحاكي به كتب اليونانية، وتكسد شعرهم وتهدم فخرهم؛ فإن إبليس تلميذ لك، تعلم منك وأخذ عنك؛ وشتان بين من يدعي أن إبليس من أعوانه، وبين من يدعي أنه من غلمانه. وهل استنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إلا ليدرك زمانك، ويرى برهانك، أي وفقدك فلا شيء أعز علي منه ! ولا أحسن في عني، أما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدّنيا أبو دلـفٍ |
|
بين بادية ومحتضره |
فإذا ولّى أبو دلـفٍ |
|
ولّت الدّنيا على أثره |
إلا غضبت عليه، واعتقدت أنه أخذ صفتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قوله:
إما الدّنيا حـمـيدٌ |
|
وعطاياه الجسـام |
فإذا ولّى حـمـيدٌ |
|
فعلى الدنيا السلام |
إلا تمنيت لو عرفت قبره فرجمته، أو عرفت بيته فهدمته، ولا سمعت قول ليلى الأخيلية:
فتى كان أحيى من فتاة حيّية |
|
وأشجع من ليث بخفّان خادر |
إلا قلت: كيف لو رأت ليلى أخانا، فتعلم أين دعواها من دعوانا. ولا أنشدت قول أبي السعلاء في الرشيد:
أغيثاً تحمل النـاق |
|
ة أم تحمل هارونا |
أم الشمس أم البدر |
|
أم الدنيا أم الدينـا |
فإني والله أتعجب حين قاله في غيرك، كيف لم ترم جهنم بشرارها، والشياطين بأحجارها، وأعجب من قول من قال في معن بن زائدة:
مسحت معدّ وجه معنٍ سابـقـاً |
|
لما جرى وجرى ذوو الأحساب |
كيف يسبق غيرك في حلبة وأنت في عدادها، أم كيف يكون غيرك سابق جيادها ؟ أنت أيدك الله بين هؤلاء الشعراء مرحوم مظلوم، سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم.
وهي طويلة جداً، مر له فيها إحسان كثير. وإنما احتذى في أثرها مثال رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لأحمد بن عبد الوهاب المعروفة برسالة الطول والعرض وتعرف برسالة التوسع والتدوير ورسالة المفاكهات، واتبع أيضاً طريق أبي الفضل بن العميد في رسالته لابن سمكة النحوي.
بين الخوارزمي والبديع
وقد جمع بديع الزمان جوامع ما جرى بينه وبينه في كتاب أنفذه إلى بعض الأشراف، أنا أكتب منه ها هنا قطعة على اختصار، وهو وإن كان طويلاً فليس مملولاً، لما ألبسه من حلل البلاغة، وحلل البراعة، وجدته في الآذان، وحلاوته في الأذهان؛ وفيه أنواع تنفتح لها الأسماع، وتنشرح لها الطباع، مما ألف هذا الكتاب له من الملح الظريفة، والفكاهات الشريفة.
وأولها: سأل السيد أمتع الله ببقائه إخوانه أن أملي جوامع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرة، ومنافرة أخرى، وموادعة أولاً، ومنازعة ثانياً، إملاء يجعل الأسماع له عياناً؛ فتلقيته بالطاعة، على حسب الاستطاعة، ولكن للقضية سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها، وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى النجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز: وأولها: إنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، وإلا جوار السادة جواراً، لا جرم إنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبر به ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة على القشرة، وفي المودة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع.
أجارتنا إنّا غريبان ها هنـا |
|
وكلّ غريبٍ للغريب نسيب |
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في ذلك الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به. ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه، سقانا الدردي من أول دنه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جاذب؛ وواصلناه إذ جانب، ولبسناه على خشونته، وشربناه على كدورته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم مناده، بما هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة؛ فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام.
وقد قبلت ترتيبه صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإنما المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقذر صف النعال. فلو أني صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم |
|
وأنديةٌ ينتابها القول والفعـل |
فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوائح الغربة لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً.
ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه موفق إن شاء الله تعالى.
فأجاب بما في نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه، إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما شكاة سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه كما زعم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله سلاماً وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا البركات العلوي، وما كنت لأوثر أحداً على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهده التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل. فأما القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:
فإن أك قد فارقت نجداً وأهله |
|
فما عهد نجدٍ عندنا بـذمـيم |
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على بعض ما في نفسي بلغت له بعض ما فيه النية، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
وما النفس إلاّ نطفةٌ بـقـرارةٍ |
|
إذا لم تكدّر كان صفواً غديرها |
وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله؛ ولست أسومه أن يقول: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. ولكني أسأله أن يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
فحين ورد الجواب، وعين العذر رائدة تركناه بعره، وطويناه على غره وعمدنا لذكره فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه؛ وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وربكنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه ولا طرنا به. ومضى على ذلك الأسبوع ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأيام ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه، وتوردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها علي، فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه شرعة وده وإن لم تصف، وألبس حلة بره وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد؛ فإني وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف السبب، سيىء المنقلب: ضيق المضطرب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد، إن زرت زار، وإن عدت عاد. وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولاً، وصارفني في الإقبال ثانياً. فأما حديث الإقبال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد، فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم أختار قعود التغالي مركباً، وصعود التعالي مذهباً، وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله تعالى أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً إلى برح، ونكأه قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة ونفس حرة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أعره من نفسي، وأنا أعلم لو أني أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه:
أحبّك يا شمس المعالي وبدرها |
|
وإن لامني فيك السّها والفراقد |
وذاك لأنّ الفضل عندك باهـرٌ |
|
وليس لأنّ العيش عندك بـارد |
فلما وردت عليه الرقعة؛ حشد تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وحبس للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا. ونظمت حاشيتنا دار الإمام أبي الطيب. فقلت: الآن تشرق الحشمة وتنور، وتنجد في العشرة وتغور، وقصدناه شاكرين لمأتاه؛ وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلباً شمناه، وآلاً وردناه، وصرفنا الأمر في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قال عبد الله بن المعتز:
إّنا على البعاد والتفـرّق |
|
لنلتقي بالذكر إن لم نلتق |
وقول آخر وقد أحسن وزاد:
أحبّك في البتول وفي أبيها |
|
ولكنّي أحبّك من بـعـيد |
وبقينا نلتقي خيالاً، ونقنع بالذكر وصالاً، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن، وأفضت الحال به وبنا معه إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه هزة الهمم، وتملكه أريحية الكرم، لجمع بيني وبين فلان يعنيني:
ثم أرى إذا انجلى الغبار |
|
أفرس تحتي أم حمار |
وود فلان بوسطاه، بل بيمناه، لو رحلنا وقلنا في المناخ له، وأتى بكلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا النحو، وألفاظ أتتنا من علو، فكان من جوابنا: بعض الوعيد يذهب في البيد. وقلنا: الصدق ينبىء عنك لا الوعيد. وقلنا: إن أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
وقد قال بعض أصحابنا: قلت لفلان: لا تناظر فلاناً فإنه يغلبك. قال: أمثلي يغب وعندي دفتر مجلد، ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجودة، وأنشدناه قول حجل بن نضلة:
جاء شقيقٌ عارضناه رمحه |
|
إنّ بني عمّك فيهم رمـاح |
هل أحدث الدهر لنـا تـوبة |
|
أم هل رفت أم شقيق سلاح |
وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونوسط الحرب، فنردها مفحمين ونصدر بلغاء:
وألسننا قبل النزيل قـصـيرة |
|
ولكنّها بعد النّـزال تـطـول |
فمن ظنّ أن قد يلاقي الحـرو |
|
ب وألاّ يصاب فقد ظنّ عجزا |
فإنك متى شئت لقيت منا خصماً ضخماً، ينهشك قضماً، ويأكلك خضماً، وحملناه على قول القائل:
السلم تأخذ منها ما رضيت بـه |
|
والحرب تأخذ من أنفاسها جزع |
وقلنا له:
نصحتك فالتمس يأويك غيري |
|
طعاماً إنّ لحمي كان مـرّا |
ألم يبلغك ما فعلت ظـبـاه |
|
بكاظمةٍ غداة لقيت عمـرا |
وجعل الشيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه:
وحتى ظنّ أنّ الغشّ نصحي |
|
وخالفني كأنّي قلت هجرا |
واتفق أن السيد أبا علي أدام الله عزه نشط للجمع بيننا؛ فدعاني فأجبت، وعرض علي حضور أبي بكر فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أتنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها.
فتجشم السيد أبو الحسن أعزه الله مكاتبته يستدعيه، فاعتذر أبو بكر بعذر في التأخر. فقلت: لا ولا كرامة للدهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه. وكتبت أنا له أشحذ عزمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرفه ما في ذلك من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتناذير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوباً لنكون قد ألزمناه الحج، وأعطيناه الراحلة؛ فجاءنا بطبقة أف، وعدد تف:
كل بغيض طوله أصبع |
|
وأنفه خمس أشـبـار |
مع أصحاب عانات، وأرباب جربانات، وسرحنا الطرف منه ومنهم في أحمى من است النمر، وأعطس من أنف النغر، فرأينا رجالاً جوفاً، قد حلقوا صوفاً، فأمنا المعرة، ولم نخش المضرة.
والمناظرة بينهما يطول ذكرها، ويعظم قدرها، ويخرج بها الكتاب عن حده؛ ولكني ألمع منها باليسير، إذ لو ذكرت جميع المعارضات والمناقضات، والمبادهة والمواجهة، لأضعفت على ما كتبت.
فمن ذلك أن البديع قال قلت له: اقترح علي غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، حتى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، فلك فيها السبق.
مثال ذلك، أن أقول لك: اكتب كتاباً يقرأ جوابه منه؛ هل يمكنك أن تكتب ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، وانظم شعراً وافرغ منهما فراغاً واحداً؛ هل كنت تمد لهذا ساعداً ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً في المعنى الذي أقول وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت ذلك قرىء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرىء من أسفله؛ هل كنت تفوق لهذا الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحاً ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرىء من أوله إلى آخره كان كاتباً، وإذا عكست سطوره مخالفة كان جواباً؛ هل كنت في هذا العمل واري الزند، قاصد القصد ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، لا يكون فيه معنى متصل من واو تتقدم الكلمة، أو منفصل عنها بديهة، هل كنت تفعل ؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً خالياً من الألف واللام، لا تصب معانيه إلا على قالب ألفاظه، ولا تخرجه من جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفاً مشهوراً ؟ أو يبعك ربك مقاماً محموداً؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم، وآخرها جيم، على المعنى الذي أريد، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منها بطائل ؟ أو تبل لهاتك بناطل ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا قرىء معوجاً، أو سرد معرجاً، كان شعراً، هل كنت تقطع في ذلك شعراً ؟ بلى، والله تصيب ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك.
أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا فسر من وجه كان مدحاً، وإذا فسر من وجه آخر كان قدحاً، هل كنت تقدر على هذه العمدة ؟ أو تخرج من هذه العهدة ؟ أو أقول لك: اكتب كتاباً كنت قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به ؟ بل است البائن أعلم.
فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة فقلت: وهذا القول طرمذة، فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتى أباحثك عن مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأثير فيها قلمك، وأسبر لسانك وفمك. فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس.
فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة.
فقال: نعم ! فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأنابلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفظاك، ويعارض إنشائي بإنشائك؛ فأقترح كتاباً يكتب في النقود وفسادها، وفي التجارات وكسادها ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها.
فكتب أبو بكر بما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الدرهم والدينار ثمن الدنيا والآخرة؛ بهما يتوصل إلى جنات النعيم، ويخلد في نار الجحيم، قال الله تعالى: "خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكّيهم بها وصَلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميع عليم". وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار؛ وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرفنا في ذلك بما يربح الناس في الزرع والضرع إلى كلمات لم تعلق بحفظنا.
فقلت: إن الإنكار والإكبار، والبلاد والعباد، وجنات النعيم ونار الجحيم، والزرع والضرع، قد نبت عن العد، وزلت عن اليد، وقد كتبت كما ترى بما ساوق فيه اللسان القلم، وسابقت اليد الفم، ولا أطالبك بمثل ما أنشأت. فاقرأه ولك اليد، وناولته الرقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة.
وهذا ما كتب البديع ارتجالاً: بسم الله الرحمن الرحيم: الله شاء أن المحاضر صدور بها وتملأ المنابر، ظهور لها وتفرع الدفاتر، وجوه بها وتمشق المحابر، بطون لها ترشق آثاراً، كانت فيه، آمالنا مقتضى على أياديه، في تأييده الله أدام الأمير جرى، وإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين، أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه نتضرع، ونحن واقفة، والتجارات زائفة، والنقود صيارفة، أجمع الناس صار فقد كريماً نظراً إلينا لينظر شيمه، مصاب وانتجعنا كرمه، بارقة وشمنا هممه، على آمالنا رقاب وعلقنا أحوالنا، وجوه له وكشفنا آمالنا، وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن ونعماءه تأييده وأدام بقاءه الله أدام الحال الجليل الأمير رأى أن وصلى الله على النبي محمد وآله وصحبه وسلم. فجعلت أقرؤه منكوساً، وأسرده معكوساً، والعيون تبرق وتحار. فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين. وقال الناس: قد عرفنا الفاضل من المفضول، ثم ملنا إلى اللغة والعروض والنحو والشعر والحفظ، فلما برد ضجر الناس وقاموا يفدونني بالأمهات، ويشتمون الفرس المنبت؛ وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه فقلت:
يعزّ عليّ في المـيدان أنّـي |
|
قتلت مناسبي جلداً وقـهـرا |
ولكن رمت شيئاً لـم يرمـه |
|
سواك فلم أطق يا ليث صبرا |
وخرجت وقد اجتمع الناس؛ فتلقوني بالشفاه تقبيلاً، وبالأفواه تبجيلاً، وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس فلم يظهر أبو بكر، حتى خفره الليل بجنوده، وخلع عليه الظلام خلع بروده.
عود إلى النوادر مع الشق
كان بمصر شريف من ولد أبي العباس يعرف بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة والجد والنعمة. قال أبو القاسم بن محمد التنوخي: بعثني أبي إليه من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرداب قمحاً وثلاثين زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة؛ فأتيت إليه وسلمت عليه ودفعت إليه الرقعة. فقال: ذكرت أباك بخير وحرس وأسعده، فهو صاحبي وصديقي وخليطي، وأين هو الآن ؟ قلت: بقرية تلا أعز الله سيدي الشريف. قال: نعم ! حفظه الله ه بالفسطاط معنا؛ وقد انقطع عنا كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً. قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: فما لك ما قلت لي ؟ فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله. قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته. قال: وأين هي ؟ قلت: تحت البساط، فأخذها وقرأها وقال: قل لي الآن؛ كان لك أخ أعرفه حار الرأس حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به ؟ قلت: أنا هو أعزك الله. قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه وأنت بزقة مخطة لعقة قردلاش. قلت: نعم! أيد الله الشريف. قال: وما الذي جئت به ؟ قلت له: والدي بعثني إليك برقعة يسألك فيها قرض عشرة أرادب قمحاً وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط ؟ قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: نعم ! وإنما ذاك الفتى أخوك ؟ قلت: لا، أنا هو، فهو يراجعني الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته وكثرة نسيانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين، فقال: سل هذا الفت ما أراد. فسألني فعرفته فأخبره فقال له: نفذ له حاجته، فوقع لي الكتاب بما أراد. وقال: تلقاني للقبض بالديوان، فشكرت الشريف ونهضت.
فقال: اصبر يا بني فقد حضر طعامنا. وقدم الطعام وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده وقال: مثل مطبخي يكون فيه مثل هذه ! علي بالطباخ، فأتى، فقال له: ما هذا العمل ؟ فقال: يا سيدي؛ إنما أنا صانعٌ وعلى قدر ما أعطى أعمل، وقد سألت المنفق يشتري لي ما أحتاج إليه فتأخر عني فعملت على غير تمكن؛ فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق فأحضر. فقال: مالي قليل ؟ قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة. قال: فما لك تضايقنا في النفقة ولا توسع كما وسع الله علينا ؟ قال: يا سيدي، إنما أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي فتأخر عني. فقال: علي بالجهبذ فأتي به. فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً ؟ قال: لم يوقع لي الكاتب. فقال للكاتب: لم لم تدفع إليه شيئاً ؟ فتلعثم في الكلام ولم يكن عنده جواب. فقال للكاتب: قف ها هنا فوقف، ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ. وقال: نفيت من العباس إن لم يصفع كل واحد منكم من يليه بأكثر ما يقدر عليه، فتصافعوا.
قال: فخرجت وأنا متعجب من غباوته ودقته في هذا الحكم.
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
وقال أبو الحسين كاتبه: وأتيت إليه يوماً وقد مات والدتي فعرفته فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو كان أكبر منها بأربعين سنة. ثم قال لغلامه: يا بشرى، قم فجئني بعشرين ديناراً فأتاه بها. فقال: خذها فاشتر بعشرة دنانير كفناً وتصدق بخمسة دنانير على القبر، وأقبل يصرف الخمسة الباقية فيما يحتاج إليه من تجيزها. ثم قال لغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ إلى فلان صاحبنا لا يفوتك يغسلها، فاستحييت منه. وقلت: يا سيدي، ابعث خلفك فلانة جارة لنا تغسلها. قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي ! كيف يدخل عليها من لا نعرفه. قلت: نعم ! تأذن لي بذلك. قال: لا والله ما يغسلها إلا فلان ! فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة ؟ قال: وإنما أمك امرأة، والله لقد أنسيت !
خدعنا عابر الرؤيا !
وكان يوماً عند أبي بكر المادراني ثم خرج وهو طيب الخلق، فاجتاز بابن زنبور فسمع خفق أوتار وغناء في داخل الدار، فوقف يسمع؛ فرآه غلام لابن زنبور فدخل فأعلم مولاه فخرج حافياً. وقال: يا مولاي الشريف، تشرفني بالدخول ! قال: نعم، فدخل فقدم له طعاماً فأكل وشرب ثلاثة أقداح وغنى ثلاثة أصوات وانصرف، فنام ليلته فلما أصبح قال: يا بشرى؛ جئني الساعة بأبي شامة العابر، فأتاه به فقال: رأيت البارحة كأني خرجت من دار إخواني فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني فأفضيت إلى بستان في الساحة، أمامه نهر جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت ستارة فيها غرائب الصور وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان وهن يغنين أحسن الأغاني؛ فقدم لي خوان عليه من كل الألوان فأكلت وشرب وغنيت وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره؛ فأمر له بخمسة دنانير، ثم مر بعد أيام بابن زنبور وهو جالس على باب داره. فقال له: يا سيدي الشريف، ما تشرفني بعودة. قال: إذا ماذا ؟ قال: تثني إلى عادة حضورك. قال: ومتى تقدم إلى ذلك ؟ قال: ليلة كذا. قال: وإنما خدعنا العابر وأخذ متاعنا بالباطل ! امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه؛ ثم فكر ساعة، وقال: دعوه لعله أنفقها وهو فقير !
تشتمني غائباً وحاضراً
وشرب مرةً أخرى عند ابن زنبور الكاتب ومعه ابن المادراني، وحضر القيان فغنين أطيب غناء؛ فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادراني فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته وعاد إلى موضعه، وكان ابن زنبور لما انصرف أبو بكر رجع في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر؛ هذا الكلب ابن زنبور عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت إنما يدعونا من مدة إلى مدة. فقال له ابن زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ وهو مشتغل مع سلطانه في أكثر أيامه. قال: لا والله ! ما هو إلا كلب تجلب فاعل صانع. فقال له: أعز الله الشريف؛ أبو بكر انصرف وأنا ابن زنبور ! فقال له: اعذرني والله ما ظننتك إلا ابن المادراني ؟ فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً !
أنا أبكر إليك
وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة في حاجة للأمير، أيده الله، وذكر الحاجة. فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم، فمضى وأكل وشرب أقداحاً، ونام القائلة فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً؛ فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس؛ فاستأذن عليه فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله فقد ضربني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عليها؛ فضحك حتى استلقى. وقال له: قد احتجنا إلى تأخير الأمر إلى الغد إن شاء الله. قال: فأنا أبكر إليك على كل حال، وانصرف.
من ملح الأعراب
قال بعض الرواة: خرجنا نريد البصرة فنزلنا على ماء لبني سعد، فإذا أعرابية نائمة فأنبهناها للصلاة؛ فأتت الماء فوجدته بارداً فتوجهت إلى القبلة قاعدة ولم تمس الماء، فكبرت ثم قالت: اللهم قمت وأنا عجلى، وصليت وأنا كلى؛ فاغفر لي عدد الثرى. قال: فعجبنا وقلنا: ما تجوز لك الصلاة وما هذه بقراءة ! قالت: والله إن هذه لصلاتي منذ أربعين سنة. وقام أعرابي وقد حضرت الصلاة فقال: حي على العمل الصالح، قد قامت بالفلاح. ثم تقدم فكبر. وقال: اللهم احفظ لي حسبي ونسبي، واردد علي ضالتي، واحفظ هملي، والسلام عليكم.
وصلت أعرابية في شهر رمضان فقرأ الإمام السجدة فسجد وسجدت الناس؛ فخرجت تحضر وتنادي، صعق الناس ورب الكعبة، وقامت القيامة ! وقام أعرابي يصلي وحلفه قوم جلوس، فقال: الله أكبر ! أفلح من هب إلى صلاته، وأخرج الواجب من زكاته، وأطعم المسكين من نخلاته، وحافظ على بعيره وشاته؛ فضحك القوم. فقال: أمن هينمتي ضحكتم ؟ أشهد عند الله على عمتي أنها سمعت ذلك من فيّ مسيلمة.
وقف أعرابي يسأل فقال له رجل: يا أعرابي؛ هل لك في خير مما تطلب ؟ قال: ما هو ؟ قال: أعلمك سورة من القرآن. فقال: لا والله؛ إني لأحسن ما إن عملت به لكفاني !؟ أحسن منه خمس سور، فاستقرأته فقرأ: الحمد، والنصر، والكوثر وسكت. فقلت: هذه ثلاث، فأين الاثنتان؟ قال: إني وهبتهما لابن عمي وعلمته إياهما، ولا والله لا أرجع في شيء أبداً.
دخل أعرابي الحمام فلما أحس بوهجه أنشأ يقول:
أُدخلت في بيت لهم مهنـدس |
|
قد ضربوه بالرخام الأملـس |
فسكّ سمعي واستطار نفسـي |
|
وقلت في نفسي بالتوسـوس |
أدخلت في النار ولما أُرمس |
|
|
لأعرابي في الطلاء بالنورة
وقال أعرابي في الطلاء بالنورة:
أناسٌ عليهم كسوة لا تجنّـهـم |
|
سرابيل خضر ليس فيها بنائق |
يبيعهموها تاجرٌ لا يقـيلـهـم |
|
ببيعهم تلك السرابيل حـاذق |
ولكشاجم في ذلك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومجرّد كالسيف أسلم نفـسـه |
|
بمجرد يكسوه ما لا ينـسـج |
ثوباً تمـزّقـه الأنـامـل رقةً |
|
ويذوب من نظر العيون وينهج |
فكأنه لما استقلّ بـجـسـمـه |
|
نصفان ذا عاجٌ وذا فـيروزج |
ومن نوادر الأعراب
وهب سليمان بن أبي جعفر لأعرابي كساء شامية؛ فلما أتى أهله وأبصره صبيانه تطايروا فزعاً من بين يديه، وقالوا: لقد أصابت أبانا داهية، فأنشد:
طرحت عمامتي ولبست تاجاً |
|
على عنقي له ذنبٌ طـويل |
تصايح صبيتي لـمّـا رأوه |
|
وقالوا جاء سعلاةٌ وغـول |
قيل لأعرابي: أتعرف أبا عمرة يريد الجوع ؟ قال: وكيف لا أعرفه وهو متربع على كبدي؟ وقيل لآخر: أتتخمون ؟ قال: وما التخمة ؟ إن كانت التي يدور منها الرأس فما تفارقنا يريد الجوع.
ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة، فنظر وجهه فيها، فإذا هو سمج بغيض، فرمى بها وقال: ما طرحك أهلك من خير.
ونظر مزيد وجهه في المرآة فرآه قبيحاً. فقال: الحمد لله الذي لم يحمد على المكروه سواه.
والشيء يذكر بما قاربه.
من هجاء الحطيئة
رأى الحطيئة وجهه في بئر فقال:
أرى لي وجهاً قبّح الّله خلقه |
|
فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله |
ولهذا خبر؛ ذكرت الرواة: أن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا |
|
واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي |
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال: علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفـراخٍ بـذي مـرخ |
|
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر |
غادرت كاسبهم في قعر مظلـمةٍ |
|
فاغفر هداك مليك الناس يا عمر |
أنت الإمام الذي من بعد صاحبـه |
|
ألقت إليك مقاليد النهى البـشـر |
لم يؤثروك بها إذ قدّمـوك لـهـا |
|
لكن لأنفسهم كانت لهـا الأُثـر |
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟ قال قلت لأبي:
ولقد رأيتك في المنام فسؤتني |
|
وأبا بنيك فساءني في المجلس |
وقلت لأمي:
تنحّي فاجلسي مني بعيداً |
|
أراح اللّه منك العالمينـا |
أغربالاً إذا استودعت سرّاً |
|
وكانوناً على المتحدّثينـا |
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أُطوّف ثم آوي |
|
إلى بيت قعيدته لكـاع |
واطلعت في بئر فرأيت وجهي قبيحاً فقلت:
أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلّـمـا |
|
بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله |
أرى لي وجهاً قبّح اللّه خلقه |
|
فقبّح من وجهٍ وقبّح حاملـه |
فتبسم عمر، وقال: فإن عفونا عنك، أتهجو بعدها أحداً ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، وعلي بذلك عهد الله ! فقال: لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.
قال بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر، فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. وقال: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته !
من مليح ما قيل في المرآة
ومن مليح ما قيل في مرآة، قول كشاجم يصف مرآة أهداها:
أخت شمس الضحى في الشكل والإش |
|
راق غير الإعـشـاء لـلأجـفـان |
ذات طوق مـشـرّف مـن لـجـينٍ |
|
أجريت فيه صـفـرة الـعـقـيان |
فهو كالهالة الـمـحـيطة بـالـبـد |
|
ر لستّ مـضـين بـعـد ثـمـان |
وعلى ظهرهـا فـوارس تـلـهـو |
|
ببـزاةٍ تـعـدو عـلـى غــزلان |
لك فـيهـا إذا تـأمّـلـت فـــألٌ |
|
حسن مخـبـر بـنـيل الأمـانـي |
لم يكن قبلهـا فـي الـمـاء جـرم |
|
حاصـرٌ نـفـسة بـغـــير أوان |
هي شمـسٌ فـإن مـثـالـك يومـاً |
|
لاح فيها فـأنـتـمـا شـمـسـان |
فالقـهـا مـنـك بـالّـذي مـا رآه |
|
خائفٌ فـانـثـنـى بـغـير أمـان |
وقال ابن المعتز:
مبيّنتي لي كلّما رمت نظـرةً |
|
وناصحتي مع فقد كلّ صديق |
يقابلني منها الذي لا عدمتـه |
|
بلجّة ماءٍ وهو غير غـريق |
أشار في البيت الأول إلى قول ذي الرمة وذكر ناقته:
لها أذنٌ حشرٌ وذفرى أسيلةٌ |
|
وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجح |
يريد أن الغريبة لا ناصح لها، فهي تجلو مرآتها وتحافظ عليها.
ابن يونس يصف غلاماً
وقال أبو الحسن بن يونس المصري يصف غلاماً:
يجري النسيم على غلالة خدّه |
|
وأرقّ منه ما يمرّ عـلـيه |
ناولته المرآة ينظر وجـهـه |
|
فعكست فتنة ناظريه إلـيه |
وأهدى بعض الكتاب إلى رئيسه مرآة؛ فقال: من أين وقع اختيارك عليها ؟ قال: لتذكرني بها كلما نظرت إلى وجهك الحسن.
بين سقراط وامرأته
وقالت امرأة سقراط له: ما أقبح وجهك ! قال: لولا أنك من المرايا الصدئة لتبين لك حسن وجهي.
وكانت امرأته كثيرة الأذى له؛ أقبلت يوماً تشتمه وهو ملح ينظر في كتاب ولا يلتفت إليها، وهي تغسل ثوباً، فأخذت الغسالة وأراقتها عليه. فقال: ما زلت تبرقين وترعدين حتى أمطرت.
ولما مضي به ليقتل أقبلت تبكي وتصيح: وامظلوماه. فقال: أكان يسرك أن أقتل ظالماً ؟ ومر هو وغيره من الحكماء بامرأة مصلوبة، فقال: ليت يثمر لنا مثل هذا الثمر.
من ملح أبي العيناء
سرق حمر أبي العيناء فتخلف عن أبي الصقر. فقال له: ما خلفك عنا يا أبا عبد الله ؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف سرق ؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك ! قال: ما منعك أن تأتينا على غيره. قال: أقعدني عن الشراء قلة ذات يساري، وعن الكراء دالة المكاري، وعن الإعارة منة العواري.
وقيل له: ما بقي أحد يحب أن يلقى، قال: إلا في بئر !
الأنوف الكبيرة
وذكر له ولد عيسى بن موسى، وكانت أنوفهم كباراً معوجة فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير القبلة.
ونظر مخنث رجلاً كبير الأنف فيه شعر. فقال: كأن أنفه كنيف مملوء شسوعاً.
قال أبو حاتم السجستاني: قدم علينا أعرابي كأن أنفه كوز في عظمه، فضحكنا منه. فقال: أتضحكون من أنفي ؟ وأنا ولله ما اسمي في قومي إلا الأفطس.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات في عيسى بن زينب:
إنّ عيسى أنف أنـفـه |
|
أنفه ضعفٌ لضعفـه |
لو تراه وهو في السر |
|
ج وقد مال بعطـفـه |
لحسبت الأنف في السر |
|
ج وعيسى مثل ردفه |
رجع إلى ملح أبي العيناء
قال أبو العيناء لابنه وهو مريض: أي شيء تشتهي ؟ قال: اليتم. وكان في مجلس إسماعيل بن إسحاق القاضي، فدخل رجل ومشى على رجله فصاح؛ فقال: بسم الله ! قال: القصاب يذبح ويقول: بسم الله.
وكان يوماً على بابه فمر به رجل فسلم عليه وقام يمشي معه. فقال: لا تعن يا أبا عبد الله. فقال: ما عنى من أبعدك عن داره ! وقال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس. قال: إن لي في بصري لشغلاً. قال: ذاك أشد لحنقك على أهل العافية.
وقال له المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط حسن الوجه ؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً يسأل أعمى عن هذا ! قال: لم تكن ضريراً فيما سلف، وإنما سألتك عما تقدم. قال: نعم ! رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، ولا ألطف شمائل. فقال المتوكل: نجده كان مؤاجراً وكنت تقود عليه. فقال أبو العيناء: معاذ الله يا أمير المؤمنين أتراني أترك موالي، وأقود على الغرباء ! فقال له المتوكل: اسكت يا مأبون. فقال له: مولى القوم منهم.
وكان ولاء أبي العيناء لأبي العباس، فقال المتوكل: قاتله الله ! أردت أن أشتفي منه فاشتفى مني.
وقال له مرة: كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال: في داء يتمناه الناس.
قيل له: وكم سنك ؟ قال: قبضة. يريد ثلاثاً وتسعين سنة.
ويقال: إن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء مخاطبته، فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمي منهم فهو صحيح النسب. وكان قبل العمى أحول.
قال: ذكرت لبعض القينات فاستظرفتني واستحسنتني على السماع؛ فلما رأتني استقبحتني فقلت لها:
وشاطرة لما رأتني تنكّـرت |
|
وقالت قبيح أحولٌ ما له جسم |
فإن تنكري مني احولالاً فإنني |
|
أريبٌ أديب لا غبيٌّ ولا فدم |
فقالت: أنا لم أردك لأوليك ديوان الزمام.
أبو العيناء مع المتوكل
وهذا مجلس له مع المتوكل من طريق الصولي، وله مجالس يدخل الرواة بعضها في بعض. قال الصولي: حدثني أبو العيناء قال: أدخلت على المتوكل، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي، وقال: بلغني أن فيك بذاء. قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله تعالى وذم؛ فقال: نعم العبد إنه أواب. وقال: هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله |
|
ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما |
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه |
|
وشقّ لي اللّه المسامع والفما |
وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. قال: بلغني أنك رافضي. قال: وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي. وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا ديناً أو دنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم، ولا دنيا إلا معكم. قال: فكيف ترى داري هذه؟ قال: رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. قال: فما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ قال: نعم العبد لله ولك، مقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة. قال: قد أردتك لمجالستي. قال: أنا رجل محجوب وقد تقدم هذا قال: فوصلني بعشرة آلاف درهم.
وكان نجاح بن سلمة قد ضمن الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك بمال عظيم للمتوكل؛ فاحتال عبيد الله بن يحيى حتى يضمناه بذلك وعاد عليه الأمر، ثم اغتال موسى بن عبد الملك فقتله، فبلغ الأمر المتوكل، فأكبره وهم بالإيقاع بموسى، فتلطف عبيد الله بن يحيى وعمه الفتح بن خاقان حتى سكن غضبه، واتفق ذلك في ولادة المعتز فاشتغل باللهو والسرور بذلك، فدخل أبو العيناء بعد ذلك على المتوكل، وكان واجداً على موسى بن عبد الملك ؟ فقال: ما تقول في نجاح بن سلمة ؟ قال: ما قاله الله عز وجل: فوكزه موسى فقضى عليه. واتصل بذلك بموسى فلقيه عبيد الله بن يحيى. فقال: أيها الوزير، أردت قتلي فلم تجد حيلةً إلا إدخال أبي العيناء على أمير المؤمنين مع عداوته لي؛ فعاتب عبيد الله أبا العيناء على ذلك فقال: ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته فيك، فأمسك عنه. ثم دخل بعد ذلك على المتوكل. فقال له: كيف كنت بعدي ؟ فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك، وشرها غيبتك. فقال: قد والله اشتقتك. قال: إنما يشتاق العبد ربه؛ لأنه يعتذر عليه لقاء مولاه، وأما السيد فمتى أراد عبده دعاه. فقال له: من أسخى من رأيت ؟ قال ابن أبي دواد. فقال له المتوكل: تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في موضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود؛ لأن البرامكة منسوب إلى الرشيد، وجود الحسن والفضل ابني سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبي دواد منسوب إلى المعتصم، وإذا نسبت الناس الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فذاك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت ! فمن أبخل من رأيت ؟ قال: موسى بن عبد الملك. قال: وما رأيت من بخله ؟ قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد، ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة. قال: قد وقعت فيه عندي مرتين، وما أحب ذلك لك؛ فالقه واعتذر إليه، ولا يعلم أني وجهت بك. قال: يا أمير المؤمنين؛ تستكتمني بحضرة ألف. قال: لن تخاف. قال: علي الاحتراس من الخوف. وسار إلى موسى، فاعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه وافترقا عن صلح، فلقيه بعد أيام بالجعفري فقال له: يا أبا عبد الله؛ قد اصطلحنا، فما لك لا تأتينا ؟ قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. قال موسى: ما أرانا إلا كما كنا.
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وقال له: إن جماعة الكتاب يلومونك. فقال:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي |
|
فلا زال غضباناً عليّ لئامهـا |
ومن نوادره
ووقف به رجل من العامة فأحس به. فقال: من هذا ؟ قال: رجل من بني آدم، قال: مرحباً بك، أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا، ما أظن هذا النسل إلا قد انقطع.
وزحمه رجل على حمار بالجسر، فضرب بيده على أذن الحمار. وقال: يا إنسان، قل للحمار الذي فوقك يقول: الطريق ! وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره. قيل: فأخوه عمر ؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قيل: فما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم ؟ قال: هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال له ابن مكرم: إن ابن الكلبي تعجبه الرائحة الخبيثة، قال: يا سيدي؛ لو وجدك لترشفك.
ودعا ضريراً يعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله. فقال له: يا هذا؛ دعوتك رحمة، فصيرتني رحمة.
وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباجة، فجعل لا تقع يده إلا على عظم. فقال: جعلت فداك، هذه قدر أو قبر ؟
قصيدة لابن طباطبا في دعوة
وهذا كلما ذكر ابن طباطبا العلوي وقد دعاه بعض إخوانه فتأخر عنه الطعام إلى أن اشتد به الجوع، ثم قدم إليه جدياً هزيلاً فقال:
يا دعوة مغـبّـرةً قـاتـمة |
|
كأنها من سفـرة قـادمـه |
قد قدّموا فيها مـسـيحـيةً |
|
أضحت على إسلامها نادمه |
وبعد شطرنجية لـم تـزل |
|
أيدٍ وأيدٍ حولهـا حـائمـه |
فلم نزل في لعبهـا سـاعةً |
|
ثم رفعناها على قـائمـه |
وكرر الأرز، فقال:
أرزٌّ جاء يتـبـعـه أرزّ |
|
هو الإيطاء يتّخذ اتخـاذا |
فإيطاء القريض كما علمنا |
|
وإيطاء الطعام يكون هذا |
فدعا الرجل جماعةً من الشطرنجيين، وقال: تعالوا حتى تروا الشطرنجية، فكتب إليه:
ورقعةٍ كنّا رفعـنـاهـا |
|
نشرتها لمّا طوينـاهـا |
أعددت للعاب شطرنجها |
|
لو أمكن القمر قمرناها |
واللّه لو أحضرتها زيريا |
|
ما ميّز الفرزان والشّاها |
الإيطاء
والإيطاء تكرار القوافي بتكرار معانيها، كقول امرىء القيس:
عظيم طويل مطمـئنٌّ كـأنّـه |
|
بأسفل ذي ماوان سرحة مرقب |
وليس بإيطاء قول الأمير أبي الفضل عبيد الله الميكالي:
وكل غـنـىً يتـيه بـه غـنـيٌّ |
|
فمـرتـجـع بـمـوتٍ أو زوال |
وهب جدّي طوى لي الأرض طرّاً |
|
أليس الموت يزوي ما زوى لـي |
وقوله:
أخوك من إن كنت في |
|
بؤسى ونعمى عادلك |
وإن بداك منعماً |
|
بالبرّ منه عادلك |
وقوله:
جامل الناس في المزا |
|
ح وخلّ المزاحمـه |
وتفاصح وقل لـمـن |
|
يتعاطى المزاح مه ؟ |
الطعام والموائد
وعلى ذكر الطعام. قال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنها زمن البرامكة على العفاة؛ ثم جاءنا بشراب كأنه دمعة اليتيم على باب القاضي:
قد جنّ أضيافك من جوعهم |
|
فاقرأ عليهم سورة المائده |
وقال ابن الرومي يصف طعاماً أكله عند أبي بكر الباقطاني:
وسـمـيطة صـفـراء دينـاريّة |
|
ثمناً ولوناً زفّـهـا لـك حـزور |
عظمت فكادت أن تـكـون أوزّة |
|
وهوت فكاد إهابهـا يتـفـطّـر |
ظلنا نقشّر جلدها عن لحـمـهـا |
|
وكأنّ تبراً عن لـجـين يقـشـر |
وتقدّمـتـهـا قـبـل ذاك ثـرائدٌ |
|
مثل الرياض بمثلـهـن يصـدّر |
ومرقّقات كلّـهـنّ مـزخـرفٌ |
|
بالبيض منها ملـبـس ومـدثّـر |
وأتت قطائف بعد ذاك لـطـائفٌ |
|
ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر |
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها |
|
دمع العيون من الدهان يعـصّـر |
ومن ملح ما قيل في القطائف، قول علي بن يحيى بن منصور بن المنجم:
قطائف قد حشيت بـالـلّـوز |
|
والسكر الماذيّ حشو المـوز |
تسبح في آذيّ دهن الـجـوز |
|
سررت لمّا وقعت في حوزي |
سرور عبّاس بقـرب فـوز |
|
|
ولم يقل أحد في اللوزينج أحسن من قول ابن الرومي:
لا يخطئني منـك لـوزينـجٌ |
|
إذا بدا أعجب أو عـجّـبـا |
لم تغلق الشهوة أبـوابـهـا |
|
إلا أبت زلفاه أن يحـجـبـا |
لو شاء أن يذهب في صخرة |
|
لسهّل الطيّب له مـذهـبـا |
يدور بالنّفخة فـي جـامـه |
|
دوراً ترى الدّهن له لولـبـا |
عاون فيه منظرٌ مـخـبـراً |
|
مستحسنٌ ساعد مستعـذبـا |
مستكثف الحشـو ولـكـنّـه |
|
أرقّ قشراً من نسيم الصّبـا |
كأنمـا قـدّت جـلابـيبـه |
|
من أعين القطر إذا قبّـبـا |
يخال مـن رقة خـرشـائه |
|
شارك في الأجنحة الجندبـا |
لو أنه صوّر مـن خـبـزه |
|
ثغرٌ لكان الواضح الأشنـبـا |
من كل بيضاء يودّ الفـتـى |
|
أن يجعل الكفّ لها مركبـا |
مدهونة زرقـاء مـدفـونة |
|
شهباء تحكي الأزرق الأشهبا |
ملذّ عـين وفـم حـسّـنـت |
|
وطيّبت حتى صبا من صبـا |
ذيق له اللّـوز فـمـا مـرّة |
|
مرّت على الذائق إلاّ أبـى |
وانتقـد الـسـكّـر نـقّـاده |
|
وشاوروا في نقده المذهبـا |
فلا إذا العين رأتـه نـبـت |
|
ولا إذا الضرس علاه نـبـا |
لا تنكروا الإدلال من وامـق |
|
وجّه تلقاءكم المـطـلـبـا |
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح بها أبا العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن بشر المرثدي ويهنيه بابن له ولد، أولها:
بدرٌ وشمس ولدا كوكبا |
|
أقسمت باللّه لقد أنجبا |
وقال أبو عثمان الناجم: دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة؛ فقلت له: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد؛ لأن عباس يجيء منكوساً سابع، فلو تصور ذلك لجاء المعنى ظريفاً؛ فقال بديهاً:
وقد تفـاءلـت لـه زاجـراً |
|
كنيته لا زاجراً ثـعـلـبـا |
إنّي تـأمّـلـت لـه كـنـيةً |
|
إذا بدا مقلوبهـا أعـجـبـا |
يصوغها العكس أبا سـابـع |
|
وذاك فأل لم يعد معـطـبـا |
وقـد أتـاه مـنـهـم واحـدٌ |
|
فلننتظـرهـم سـتّة غـيّبـا |
في مدةٍ تغمـرهـا نـعـمة |
|
يجعلها اللّـه لـه تـرتـبـا |
حتى تراه جالسـاً بـينـهـم |
|
أجلّ من رضوى ومن كبكبا |
كالبدر وافى الأرض من نوره |
|
بين نجوم سبعة فـاخـتـبـا |
وليشكر الناجـم عـن هـذه |
|
فإنّها من بعض مـا بـوّبـا |
أسدى وألحمت فتىً لـم أزل |
|
أشكر ما أسدى وما سبّـبـا |
وقال يصف الرؤوس والرغفان:
ما إن رأينا من طعامٍ حاضر |
|
نعتدّه لفـجـاءة الـزوّار |
كمهيئين من الطعام أصبحـا |
|
شبهاً من الأبرار والفجّـار |
روس وأرغفة ضخام فخمة |
|
قد أخرجت من جاحم فوّار |
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا |
|
مقرونة بوجوه أهل النـار |
ومن تشابيهه العقم:
ما أنس لا أنس خبّازاً مـررت بـه |
|
يدحو الرقاقة وشك اللّمع بالبصـر |
ما بين رؤيتها فـي كـفّـه كـرةً |
|
وبين رؤيته قوراء كـالـقـمـر |
إلاّ بمـقـدار مـا تـنـداح دائرةٌ |
|
في صحفة الماء يرمى فيه بالحجر |
وكان ابن الرومي منهوماً في المآكل وهي التي قتلته، وكان معجباً بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة لا يقطعها، فبعث إليه منه يوم سبت ثم قطعه، فكتب إليه:
ما لحيتاننا جفـتـنـا وأنّـى |
|
أخلف الزائرون منتظريهـم |
جاء في السبت زورهم فأتينا |
|
من حفاظٍ عليه ما يكفيهـم |
وجعلناه يوم عـيد عـظـيمٍ |
|
فكأنّا اليهود أو نحـكـيهـم |
وأرهم مصمّمين على الهـج |
|
ر فلم يسخطون من يرضيهم |
قد سبتنا فما أتتنـا وكـانـوا |
|
يوم لا يسبتون لا تـأتـيهـم |
فاتصل ذلك بالناجم فكتب إليه:
أبا حسنٍ أنـت مـن لا تـزا |
|
ل يحمد في الفضل رجحانـه |
فكم تحسن الظنّ بالمـرثـديّ |
|
وقد قلّل الـلّـه إحـسـانـه |
ألم تدر أن الفتى كالسـراب م |
|
إذا وعد الـخـير إخـوانـه |
وبحر السراب يفوت الطلوب م |
|
فقل في طلابـك حـيتـانـه |
وخرج ابن الرومي مع بعض إخوانه في حداثته إلى بعض المتنزهات، وقصدوا كرماً رازقياً، فشربوا هناك عامة يومهم، وكانوا يتهمونه في الشعر. فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئاً. فقال: لا تريموا حتى أقول، ثم أنشد بديهاً:
ورازقيّ مخطف الخـصـور |
|
كأنّه مـخـازن الـبـلّـور |
قد ضمّنت مسكاً إلى الشطور |
|
وفي الأعالي ماء وردٍ جوري |
لم يبق من وهـج الـحـرور |
|
إلاّ ضياء في ظروف نـور |
لو أنه يبقى علـى الـدهـور |
|
قرّط آذان الحسان الـحـور |
بلا مـزيد وبـلا شـــذور |
|
له مذاق العسل الـمـشـور |
وبرد مسّ الخصر المقـرور |
|
ونكهة المسك مع الكـافـور |
ورقة الماء على الـصـدور |
|
باكرته والطير في الوكـور |
بفتيةٍ من ولد الـمـنـصـور |
|
أملأُ للعـين مـن الـبـدور |
حتى أتينا خيمة الـنـاطـور |
|
قبل ارتفاع الشمس للـذرور |
فانحطّ كالطاوي من الصقـور |
|
بطاعة الراغب لا المقهـور |
والحرّ عبد الحلب المشطـور |
|
حتى أتانا بـضـروع حـور |
مملوءة من عسلٍ محـصـور |
|
والطّلّ مثل اللؤلؤ المنـثـور |
ينساب مثل الحية المـذعـور |
|
بين سماطي شجرٍ مسطـور |
ناهيك للعنقود مـن ظـهـور |
|
فنيلت الأوطار فـي سـرور |
وكل ما يقضى مـن الأمـور |
|
تعلّةٌ من يومنا المـنـظـور |
ومتعةٌ من متع الـغـرور |
|
|
استوت بديهته وفكرته
قال الناجم: جلست معه على باب داره وقد أبل من علة، فمر بنا الحاجب، فقال: قوما عندي نتحدث اليوم، وعندي مصوص وأشياء لطيفة لا تضرك؛ وأشرب مع أبي عثمان بحضرتك ونتآنس يومنا.
فقال: إنا نأتيك الساعة وأبو عثمان فامض ونحن في أثرك؛ فمضى ولحقناه فحجب عنا، فانصرفنا وأبو الحسن مغضب، فدخلت على أبي الحسن في ذلك اليوم، فوجدت بين يديه قصيدة طويلة جداً أولها:
نجذاك يابن الحاجب الحاجب |
|
وأين ينجو منّي الـهـارب |
فعجبت من سرعة عمله. وقلت: أعزك الله؛ متى عملتها ؟ قال: الساعة. قلت: وأين مسودتها ؟ قال: هي هذه. قلت: وما فيها حرف مصلح. قال: قد استوت بديهتي وفكرتي، فما أعمل شيئاً فأكاد أصلحه.
سبب موته
وكان سبب موته أنه كان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله بن وهب؛ وكان القاسم مغرماً بشعرهن مستظرفاً له، محسناً إليه. فقال له أبوه: قد أردت أن أرى من روميك هذا ؟ فأحضره وحضر أبوه، فلما انفض المجلس قال له: كيف رأيته ؟ قال: أرى ما يسوءني ولا يسرني، أرى رجلاً صحيح الشعر، سقيم العقل، ومثل هذا لا تؤمن بوادره؛ وأقل غضبة يغضبها تبقي في أعراضنا ما لا يغسله الدهر، والرأي إبعاده، قال: وكيف ذلك بعد اتصاله ؟ أخاف أن يظهر ما أضمره، قال: يا بني؛ اتبع فيه قول أبي حية:
يقلن لها في السرّ هديك لا يرح |
|
صحيحاً وإلاّ تقتليه فـألـمـم |
فأخبر القاسم بقول أبيه ابن فراس، وكان أشد الناس عداوةً لابن الرومي. فقال: إنما أشار عليك باغتياله، وأنا أكفيك أمره، فسم له لوزينجة وقدم له الجام وهي في أعلاه، فلما تناولها أحس بالموت ونهض قائماً. فقال له: إلى أين يا أبا الحسن ؟ قال: إلى حيث أرسلتني. قال: اصرفوه، فقد غلب عليه السكر؛ فخرج وهو لما به؛ فلقي الناجم فقال:
أبا عثمان أنت عميد قومـك |
|
وجودك للعشيرة دون لؤمك |
تمتّع من أخيك فـمـا أراه |
|
يراك ولا تراه بعد يومـك |
وكان شديد التغير، سريع الانقلاب، ضيق الصدر، قليل الصبر، مفرط الطيرة غالياً فيها، وكان عظيم التخوف، كثير التجسس؛ يراه من يلقاه كالمتوجس المذعور.
شدة خوفه
ذكر بعض أصحابه قال: كنت أسايره ونحن سائرون، فلم أنشب أن تراءيته قد ترجل عن دابته بسرعة، ولجأ إلى بعض الدكاكين وأسلم الدابة؛ فأمرت من أمسكها وأتيت إليه فقلت: ما بالك يا أبا الحسن ؟ وإذا هو يضطرب اضطراباً شديداً؛ فأمسكت عنه حتى سكن وقام فركب الدابة. فقلت له: ما الذي هاجك ؟ قال: أما ترى ذاك ؟ وإذا برجل من العامة يحمل ذوبينا وهي عصا في طرفها حديد بشعبتين. فقلت: أراه. فقال: أوما ترى البركار الذي بيده، ما يؤمنني أن يلويه على عنقي فيفتله.
وحكي عنه: أنه سأل الموفق أو غيره في قدح محكم رآه فأعجبه فوهبه إياه. قال بعض إخوانه: وكنت معه، وقد خرج من دار السلطان، فوضعه على رأسه ثم أزاله بسرعة ثم وضعه على ركبته، ثم رمى به فكسره. فقلت له: ما هذا الخاطر الفاسد ؟ قال: وصل إلي هذا القدح وما على وجه الأرض أحب إلي منه، فوضعته على أشرف أعضائي ! ثم ذكرت قول بعض الحكماء: إن الصاعقة إذا قابلت الشيء الشفاف انحدرت إليه، فخفت أن تقع علي صاعقة فتهلكني، ثم وضعته على ركبتي، فخفت أن تصدمني دابة فينكسر فيدخل في جسمي فيكون سبب علة مزمنة، وخفت أن يكون الذي دعاني إلى طلبه ما أراده الله بي، فرأيت الراحة في كسره.
حكايات عن تطيره
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في أيام ابن أبي أوفى شاباً مترفاً، وأديباً مستظرفاً، وكان يعبث به فيقرع عليه الباب. فيقال له: من بالباب ؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن حنظلة؛ فيتطير لقوله ويقيم أياماً لا يخرج من داره، وكان ذلك سبب هجائه إياه.
وقرع عليه الباب يوماً وقيل: إن البحتري وجه إليه من قرع عليه بابه فقال: من هذا ؟ فقال: سخطة الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، والشيطان الرجيم، وكل بلاء كان أو يكون، إلى يوم الدين؛ فأقام مدةً لم يخرج، فسأل عنه الموفق، فقيل: هو في حبس البحتري ! وتخلف أياماً عن بعض الأشراف بسبب طيرة عرضت له، فبعث إليه غلاماً جميلاً فقرع الباب. فقيل: من ؟ قال: إقبال؛ فخرج فرأى وجهاً مستحسن الصورة حسن الهيئة. فقال له: مولاي يرغب في حضورك، فمشى معه ثم توجس وبقي باهتاً مطرقاً لا ينصرف، ثم مشى قليلاً؛ فلما قارب الجسر انفتل بسرعة شديدة، ثم مضى على وجهه إلى داره، فأغلق الباب على نفسه، وكتب إلى الرجل: تخلفت أطال الله بقاءك عن حظي من لقائك، لاعدمته لي أياماً، وأنا أتقلى على جماجم الضجر، بما جرى به القدر، من كلام سمعته وأمر توقعته؛ فأتاني غلام جميل اسمه إقبال؛ فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا من ذاك؛ فمشيت معه مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى حتى صرت بالجسر، فرأيت حبالاً مفتولة قد التوت، فصار كل واحد منها في صورة لام ألف، فقلت: هذه تحقق ما ظننت من لا بقاء بقولها: لا لا، فما حصلت في الدار، إلا بعد خوف مضي المقدار، فابسط العذر في التأخر، والسلام.
وقال علي بن إبراهيم كاتب مسرور البلخي: كنت بداري جالساً بباب الشعير على أسرة نصبت لي في صحن الدار؛ فإذا حجارة قد سقطت علي، فبادرت هارباً، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا ؟ فقال لي: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد أشرفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرةً من الماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشاً؛ فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة بأن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت. وبادرت بالجرة وأتبعتها بشيء من المأكول. ثم عادت وقالت: ذكرت المرأة أن الباب مقفل عليها منذ ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وأنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح بيده، ثم يضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع على جار له كان نازلاً بإزائه، وكان أعور يقعد كل غداة على بابه؛ فإذا رآه رجع وخلع ثيابه. وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت من حديثها؛ وبعثت بخادم لي كان يعرفه فأمرته بأن يجلس بإزاء بابه، وكانت العين تميل إليه. وتقدمت إلى بعض غلماني أن يدعو الجار الأعور؛ فلما حضر عندي أدى الغلام إلى ابن الرومي رسالتي يستدعيه الحضور، فإني لجالس وعندي الأعور إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة المسوس صاحب المعتضد؛ ودخل ابن الرومي فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعوراً، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغير حاله، فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه. فقلت له: يا أبا الحسن، ما لك ؟ أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل ؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهةً وهي قطع أنثييه. فقال برذعة: وشيخنا يتطير ؟ قلت: نعم ! ويفرط. قال: ومن هو؟ قلت: أبو الحسن بن الرومي. قال: الشاعر ؟ قلت: نعم ! فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهـر يؤذن صـرفـه |
|
بتفريق ما بيني وبـين الـحـبـائب |
رجعت على نفسي فوطّنتها عـلـى |
|
ركوب جميل الصّبر عند النـوائب |
ومن صحب الدنيا على جور حكمها |
|
فأيامه محفـوفةٌ بـالـمـصـائب |
فخذ خلسةً من كـل يوم تـعـيشـه |
|
وكن حذراً من كامنات العـواقـب |
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح |
|
تطيّر دارٍ أو تـفـاؤل صـاحـب |
فبقي ابن الرومي باهتاً؛ ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي ألا يتطير أبداً من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره. فقلت: وهذا الفكر أيضاً من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه في حسن مأتاه. فقلت له: ليتنا كتبناه. فقال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علي.
ومن الدليل على شدة حذره وعظم تطيره
ومن الدليل على شدة حذره، وعظم تطير، قوله لأبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع، |
|
لك الخير، تحذيري شرار المحاطب |
|
||
ومن يلق ما لاقيت من كلّ مجتـنـى |
|
من الشوك يزهد في الثمار الأطايب |
|
||
أذاقتني الأسفار ما كـرّه الـغـنـى |
|
إليّ وأغراني برفض المـطـالـب |
|
||
ومن نكبةٍ لاقـيتـهـا بـعـد نـكـبةٍ |
|
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكـب |
|||
وصبري على الإقتار أيسر مـحـمـلاً |
|
عليّ من التغرير بـعـد الـتـجـارب |
|||
لقيت من البرّ الـتـبـاريح بـعـدمـا |
|
لقيت من البحر ابـيضـاض الـذوائب |
|||
سقيت علـى ريٍّ بـه ألـف مـطـرةٍ |
|
شغفت لبغضيها بحـبّ الـمـجـادب |
|||
ولم أسقها بل ساقـهـا لـمـكـيدتـي |
|
تحامق دهرٍ جدّ بـي كـالـمـلاعـب |
|||
أبي أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمـت |
|
برحلي أتاها بالغـيوث الـسـواكـب |
|||
سقى الأرض من أجلي فأضحت مـزلّة |
|
تمايل صاحـبـهـا تـمـايل شـارب |
|||
فمـلـت إلـى خـانٍ مـرثٍّ بـنـاؤه |
|
مميل غريق الثوب لـهـفـان لاغـب |
|||
فما زلت في خـوف وجـوع ووحـشة |
|
وفي سهرٍ يستغرق الـلـيل واصـب |
|||
يؤرّقنـي سـقـفٌ كـأنـي تـحـتـه |
|
من الوكف تحت المدجنات الهواضـب |
|||
تراه إذا ما الـطـين أثـقـل مـتـنـه |
|
تصرّ نواحـيه صـرير الـجـنـادب |
|||
وكم خان سفرٍ خان فانقضّ فـوقـهـم |
|
كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانـب |
|||
وما زال ضاحي البرّ يضـرب أهـلـه |
|
بسوطي عـذابٍ جـامـدٍ بـعـد ذائب |
|||
ألا ربّ نارٍ بالفضاء اصـطـلـيتـهـا |
|
من الضّحّ يودي لفحها بالـحـواجـب |
|||
فدع عنك ذكـر الـبـرّ، إنّـي رأيتـه |
|
لمن خاف هول البحر شرّ المـهـاوب |
|||
وما زال يبغيني الحـتـوف مـواربـاً |
|
يحوم على قـتـلـي وغـير مـوارب |
|||
فطوراً يغادينـي بـلـصّ مـصـلّـت |
|
وطوراً يمسّيني بـورد الـمـشـارب |
|||
وأما بلاء الـبـحـر عـنـدي فـإنـه |
|
طواني على روع مع الـرّوح واقـب |
|||
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بـعـضـه |
|
ولكـنّـه مـن هـولـه غـير ثـائب |
|||
ولم لا ولو أُلـقـيت فـيه وصـخـرةً |
|
لوافيت منـه الـقـعـر أول راسـب |
|||
ولم أتعـلّـم قـطّ مـن ذي سـبـاحةٍ |
|
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب |
|||
فأيسر إشفاقـي مـن الـمـاء أنـنـي |
|
أمرّ به في الكوز مرّ الـمـجـانـب |
|||
وأخشى الرّدى منه على نفـس شـاربٍ |
|
فكيف بأمنيه عـلـى نـفـس راكـب |
|||
أظـلّ إذا هـــزّتـــه ريحٌ ولألأت |
|
له الشمس أمواجاً طـوال الـغـوارب |
|||
كأني أرى فـيهـنّ فـرسـان بـهـمة |
|
يليحون نحوي بالسيوف الـقـواضـب |
|||
فإن قلت لي قد يركـب الـيمّ طـامـياً |
|
ودجلة عند اليمّ بـعـض الـمـذانـب |
|||
لدجـلة خـبٌّ لـيس لـلـيمّ، إنـهــا |
|
ترائي بحلم تـحـتـه جـهـل واثـب |
|||
وللبحـر إنـذار بـعـرض مـتـونـه |
|
وما فـيه مـن آذيّه الـمـتـراكـب |