من الطرائف

قيل لقينة: صوم يوم عرفة كفارة ذنوب سنة؛ فصامت إلى الظهر وأفطرت. فقيل لها: ما هذا ؟ قالت: يكفيني ستة أشهر.

قعد رجل على باب داره، فأتاه سائل يسأله. فقال له: اجلس، ثم صاح بجارية عند فقال: ادفعي إلى هذا مكوكاً من حنطة. قالت: ما بقي عندنا حنطة. قال: فأعطيه درهماً. قالت: ما بقي عندنا دراهم. قال: فأطعميه رغيفاً. قالت: وما عندنا رغيف، فالتفت إليه وقال: انصرف يابن الفاعلة. فقال السائل: سبحان الله تحرمني وتشتمني ! قال: أحببت أن تنصرف وأنت مأجور.

ورأى أعرابي الناس بمكة وكل واحد يتصدق ويعتق ما أمكنه. فقال: يا رب، أنت تعلم أنه لا مال لي، وأشهدك أن امرأتي طالق لوجهك يا أرحم الراحمين ! وكان في زمن المهدي رجل ادعى النبوة فأحضروه إلى المهدي. فقال له: ما أنت ؟ قال: نبي. قال: إلى من بعثت ؟ فقال له: ما أكثر فضولك ! إيش عليك ؟ قال: قل، وإلا أمرت بقتلك. قال: بعثت إلى أهل خراسان. قال: ولم لم تسافر إليهم ؟ قال: ما معي نفقة، فضحك منه وأمر له بنفقة، وقال: هذا قد غلبت عليه المرة.

وجاء رجل إلى أبي ضمضم يستعدي على رجل في دابة اشتراها منه، وظهر بها عيب. فقال له أبو ضمضم: وما عيبها ؟ قال: في أصل ذنبها مثل الرمانة، وفي ظهرها مثل التفاحة، وفي عجيزتها مثل الجوزة، وفي بطنها مثل الموزة، وفي حلقها مثل الأترنجة. فقال له أبو ضمضم: مر عنا يا بارد، هذه صفة بستان ليست بصفة دابة. شرب ابن حمدون النديم مع المتوكل وبحضرته غلام مليح الوجه؛ فتأمله ابن حمدون تأملاً شديداً، وقد حمل الشراب إليه. فقال المتوكل: يابن حمدون، ما الحكم في الرجل إذا نظر إلى غلام فتى ؟ قال: أن تقطع أذنه. قال: ليحكم عليك بحكمك، فأمر أن تعرك أذنه حتى تخضر ثم تقطع، وأمر بنفيه إلى بغداد. فلقيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بها فسأله عن حاله، وعمن ينادم المتوكل معه. فقال: أحد ندمائه ابن عمرو البازيار؛ فسأله إسحاق عن محله من العلم والفهم. فقال له: أكثر ما يقول للخليفة؛ أبقاك الله يا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال له إسحاق: اعمل على أنه كان لك كر آذان فقطعت؛ أليس ذلك أسهل من حضور مجلس تقاسي فيه ابن عمرو البازيار.

وكان ابن حمدون أخف الناس روحاً وأحلاهم دعابةً، وكان المتوكل يستملحه. فقال يوماً: الزئبق من أين يجاء به ؟ فقال ابن حمدون: من الشيز، وأنا أعرف الناس بها. قال: قد وليتك إياها فاخرج إليها، فضاقت به الدنيا، وأنشده:

ولاية الشيز عـزلٌ

 

والعزل عنها ولايه

فولّني العزل عنهـا

 

إن كنت بي ذا عنايه

فضحك المتوكل وأعفاه. وذكر الصولي أن أخاه أحمد عمل له البيتين.

بين أبي العيناء وابن الزيات

دخل أبو العيناء على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه. فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما قد أهلك له في هذه الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك؛ فبقضاء الحاجات تدوم النعم.

فقال محمد: أما إني أعرفك فضولياً كثير الكلام، أوترى أن طول لسانك يمنع مع أن أؤدبك إذا زللت؛ وأمر به إلى الحبس.

فكتب إليه من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن تقدم إليك، ولكنك أحببت أن تريني مقدار قدرتك علي؛ لأن كل جديد يستلذ؛ ولا بأس أن تريني من عفوك مثلما أريتنا من قدرتك، فأمر بإطلاقه.
وانقطع عنه مدةً فلقيه، فحبس محمد بن عبد الملك دابته عليه. فقال: ما لي لا أراك يا أبا عبد الله تواصلنا حسب إيجابنا لك ؟ فقال له أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمناكرة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك فراغ حبسك ممن كان فيه، فأحببت أن تغمرني فيه.

لؤم ابن الزيات

وكان محمد بن عبد الملك على علمه وأدبه ألأم الناس، فمن عجيب لؤمه أنه كان له جار في انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد؛ فلما بلغ محمد ما بلغ شخص الرجل إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا يرفع طرفه إليه، فلما فرغ من أكله قال: ما خبرك ؟ قال: قد أصارك الله أيها الوزير إلى أجل الآمال فيك، وصرف أعناق الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي، وقد غير الدهر حالي؛ فوردت إليك مستقيلاً عثراتي، مستعطفاً على خلاتي.

فقال له: قد علمت هذا، فانصرف وعد إلي في غد. فولى الرجل؛ فلما صار في صحن الدار دعا به، فلما صار بين قال له: والله ما لك عندي شيء، ثم أقبل على بعض من كان بين يديه، فقال: إنما رددته وآيسته بخلاً عليه بفسحة الأمل بقية يومه.

وهذا كقول بعضهم:

إن قلت إنّك كالسحاب لكان ذا

 

وصفاً لمثلك زائداً في الحال

إنّ السحاب لذو مواعد جـمّةٍ

 

وبخلت بالموعود والأفعـال

وكان محمد بن عبد الملك واحداً في صناعته، مفرداً في براعته.

بين أبي السمراء وعبد الله بن طاهر

وكان أبو السمراء العلاء بن عاصم بن عصمة العسكري نديم عبد الله بن طاهر يأنس به، ويجاريه الشعر، فكتب إليه:

تقول لمّا جعلت أبـكـي

 

سلوه باللّه ممّ يبـكـي ؟

فقلت أبكـي لـمـا أراه

 

عمّا قليلٍ يكون مـنـك

قالت فلا تخش قلت ما لي

 

قلبٌ على الدهر يأتمنـك

لا غرّني الدهر منـك ودٌّ

 

قالت ولا غرّني التبكّـي

فوقع ابن طاهر في ظاهرها بديهاً:

لا أشتكي من هـواك إلاّ

 

إليك لو ينفع التشـكـي

حلفت جهد اليمـين أن لا

 

أزول إلاّ إليك عـنـك

كلفتني السعي في طريقٍ

 

وعرٍ قليل الأنيس ضنك

فرحت بي في إسار قلبي

 

ثم تشاغلت عند فـكّـي

ومن جيد شعره في جارية له توفيت:

يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها

 

فقلت: وهل غير الفؤاد له قبر

على حين لم أحدث فأجهل فقدها

 

ولم أبلغ السنّ التي معها صبر

وهذا مأخوذ من قول أبي مسلم عبد الرحمن بن سلم، في فصل من كتاب كتبه إلى عبد الله بن علي عند محاربته إياه، لما خلع أبا جعفر المنصور: لأنزلنك موارد ضيقة، حتى أبدلك بالحلاوة علقماً، تمج من تمطقها دماً؛ أمنت صولتي، وقد كبرت عن صغر، وصغرت عن كبر، فأنا كما قال الأول:

وهل يخشى وعيد النـاس إلاّ

 

كبير السنّ والضّرع الصغير

شراب عتيق من محمد بن عبد الملك

قال ابن حمدون النديم: أهدى إلينا محمد بن عبد الملك ونحن بالبدندون شراباً عتيقاً وكتب رقعة فيها:

ما إن ترى مثلي أخـاً

 

أنـدى يداً وأدرّ جـودا

أسقي الصديق ببـلـدةٍ

 

لم يسق فيها الماء عودا

صفراء صـافـية كـأ

 

نّ على جوانبها العقودا

فإن استقلّ بشكـرهـا

 

أوجبت بالشكر المزيدا

فإذا خشيت على الصني

 

عة بالتقادم أن تـبـيدا

أنشأت أخرى غيرهـا

 

فتركتها غضّاً جـديدا

خذها إلـيك كـأنـمـا

 

كسيت زجاجتها فريدا

واجعل عليك بأن تقـي

 

م بشكرها أبداً عهـودا

الملك مضطر إلى كفاية منه

وكان المعتصم أمر بأن يعطى الواثق عشرة آلاف درهم، يستعين بها على أمره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك مدافعةً متصلة أحوجته إلى شكايته إلى المعتصم؛ فأنكر عليه تأخر المال. فقال: يا أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بقولك وفعلك، ولك عدة أولاد أنت في أمرهم بين خلتين؛ إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف على الباقين. فقال: قد رهنت لساني فما تصنع ؟ قال: تأمر لباقي ولدك بإقطاعات وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال، فأدافعه بباقيه ويتسع الأمير قليلاً، وتدبر الأمر بعد ذلك بما تراه.

فقال له: وفقك الله فما زلت أعرف الصواب في مشورتك؛ وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف بعتق عبيده ومماليكه، وبحبس عدة خيل ووقف عدة ضياع، وصدقة مال جليل، لئن ظفر بمحمد ليقتلنه؛ وكتب اليمين بخطه وجعلها في درج وأودعها دابته.

ومرت مدة وأفضى الأمر إلى هارون، وكان ذا أنات وعقل. وكره أن يعاجله فيقول الناس بادر بشفاء غيظه؛ ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه الكتاب من يصلح لولاية الدواوين والوزارة فجمعوا، ودعا بواحد منهم؛ وقال له: اكتب كذا في أمر رسمه له. فاعتزل وكتب وعرض الكتاب عليه فلم يرضه حتى امتحن الجميع، فأمر حاجبه فقال: أدخل من الملك مضطر إليه: محمد ابن عبد الملك، فجيء به وهو واجم مضطرب؛ فلما وقف قال له: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا وكذا. فأخرج من كمه نصفاً ومن خفه دواةً، وابتدأ يكتب بين يديه حتى فرغ من الكتاب، ثم أخرج خريطةً فيها حصى فأترب الكتاب وأصلحه وتقدم فناوله إياه، فوجده قد أتى على جميع ما في نفسه؛ فأعجب به جداً. وقال: اختمه فأخرج من الخريطة طيناً فوضعه عليه وتناوله فختمه وأنفذه من ساعته.

فقال هارون لخادم له: امض إلى دابتي وقل لها: توجه إلي بالدرج الفلاني؛ فمضى الخادم فجاء به، فأخرج الرقعة فدفعها إليه. فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا عبد من عبيدك، إن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن كفرت وصفحت كان أشبه بك. قال: لا والله ! ما يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة على أن يخلو الملك من مثلك، وأمر بعتق من حلف بعتقه، ووقف الضياع، وحبس الخيل، وأنفذ صدقة المال. وقد فعل أبو شجاع فناخسرو قريباً من هذا بأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وذلك أنه كان كاتب بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وبين أبي شجاع وبين بختيار منافسة بالرياسة، فلما خلع الفضل بن جعفر وهو المطيع لله، وأقيم ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع لله سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى على جميع أموره فناخسرو، وصار إليه تدبير المملكة، وليس للخليفة سوى الاسم، وقتل بختيار ومحي أمره، فأحضر أبو شجاع عضد الدولة أبا إسحاق. وقال: قد علمت ما كنت تعاملني به من قبيح المكاتبة، وقد أحفظني ذلك ودعاني إلى قتلك، فرأيت قتلك من الفساد في الأرض إذ كنت مقدماً في صناعتك، ولكن لا تعمل لي عملاً، واستصفى أمواله وحبسه، وولى ديوان الإنشاء مكانه أبا منصور بن المرزبان الشيرازي، وكان غايةً في البلاغة والفصاحة وحسن آلات الكتابة.

الصابي في حبسه

وكتب أبو إسحاق من الحبس إلى بعض إخوانه: نحن في الصحبة كالنسرين لكني واقع، وأنت طائر، وعلى الطائر أن يغشى ويراجع.

وزاره أبو الفرج الببغاء الشاعر زورة ثم قطعه، فكتب إليه:

أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تـزل

 

يزيدك صرف الدهر حظّاً إذا نقص

مضت مـدة أسـتـام ودك غـالـياً

 

فأرخصته والبيع غالٍ ومرتـخـص

وآنستني في مـحـبـسـي بـزيارةٍ

 

شفت قرماً من صاحبٍ لك قد خلص

ولكنّها كـانـت كـحـسـوة طـائرٍ

 

فواقاً كما يستفرض السادة الفـرص

وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي

 

وعادك عيد من تذكّرك الـقـفـص

من المنسر الأشفى ومن حزّة المـدى

 

ومن بندق الرامي ومن قصّة المقص

ومن صعدة فيها من الدّبـق لـهـذم

 

لفرسانكم عند الطعان بها قـعـص

فهذي دواهي الطير، وقّيت شـرّهـا

 

إذا الدهر من أحداثه جرّع الغصص

فأجابه أبو الفرج:

أيا ماجداً قد يمّم المجد ما نـكـص

 

وبدر تمام مذ تكامل مـا نـقـص

ستخلص من هذا الـسّـرار وأيّمـا

 

هلال توارى في السرار فما خلص

بدولة تاج المـلّة الـمـلـك الـذي

 

له في أعالي قبّة المشتري خصص

تقنّصت أنصافي وما كنت قـبـل ذا

 

أظنّ بأنّ المرء بالبرّ يقـتـنـص

وبعد فلا أخشى تقـنّـص جـارح

 

وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفـص

من شعر الصابئ

وقال أبو إسحاق الصابىء:

جملة الإنسان جيفه

 

وهيولاه سخيفـه

فلماذا ليت شعـري

 

قيل للنفس الشريفه

إنمـا ذلـك فـيه

 

قدرة اللّه اللطيفه

وقال:

وأحقّ من نكسـتـه

 

بالصفع من درجاته

من مجده من غيره

 

وسفاله مـن ذاتـه

من النقد

أخذه من سقراط، وقد مر به بعض الملوك فركله برجله. وقال: قم ! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه. فقال الملك: أما عرفتني ؟ قال: لا ! ولكن أرى فيك طبع الكلاب فهي تركل بأرجلها، فغضب، وقال: أتقول لي هذا وأنت عبدي. فقال: لا ! بل أنت عبدي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن شهواتك ملكتك وأنا ملكتها. قال: فإني الملك ابن الأملاق السادة، ولنا كذا وكذا ألف فيل، وكذا وكذا ألف مركوب، وأقبل يعدد عليه ما يملكه من العروض والجواهر والعقار. فقال: أراك تفخر علي بما ليس من جنسك، وإنما سبيلك أن تفخر علي بنفسك، ولكن تعالى نخلع ثيابنا ونلبس جميعاً ثوباً من ماء في هذا اليم ونتكلم، فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول؛ فانصرف خجلاً.

الصابي وعضد الدولة

وأهدى الصابىء إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً بقدر الدرهم، وكتب معه، وكان حينئذ معتقلاً:

أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا

 

في مهرجانٍ جديدٍ أنت تبـلـيه

لكنّ عبدك إبراهـيم حـين رأى

 

سموّ قدرك عن شيءٍ يسـامـيه

لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد

 

أهدى لك الفلك الأعلى بما فـيه

فرضي عنه وأخرجه من السجن.

وقال الصابىء لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب:

اللّه حسبي فيك من كلّ ما

 

يعوّذ العبد به المـولـى

واسلم وعش لا زلت في نعمةٍ

 

أنت بها من غيرك الأولـى

من ملح مزيد

قال مزيد لامرأته: أنت غير شفيقة علي، ولا راعية لي. فقالت: والله لأنا أرعى بك من التي كانت قبلي وأشفق. قال: أنت طالق ثلاثاً، لقد كنت آتيها بالجرادة فتطبخ لي منها أربعة ألوان وتشوي جنينها. فدعته إلى القاضي، فجعل القاضي يطلب له المخرج فقال: أصلحك الله ! لا عليك إن أشكلت المسألة فهي طالق ثلاثين.

قال محمد بن حرب: أتيت بمزيد وامرأة ورجل أصيبا في بيته وأنا على شرطة المدينة، فحبسته وخليت سبيلهما، ثم دعوت به وقلت: ما خبرك ؟ قال: أطلقتم الزوج حمام وحبستم الزاجل.
وكان أبو حبيب مضحك المهدي يحفظ نوادر مزيد ويحكيها له فيصله. فقال له مزيد: بأبي أنت! أنا أزرع وأنت تحصد.

ولقي مزيد رجلاً كان صديقاً لأبيه. فقال: يا بني، كان أبوك عظيم اللحية، فما بالك أجرودي ؟ فقال مزيد: أنا خرجت لأمي.

وكسا امرأته قميصاً فشكت إليه غلظه وخشونته، فقال: أترينه أخشن من الطلاق ؟

من الأجوبة الطريفة

ناظر سعيد بن حميد الدهقان بعض آل أبي لهب؛ فقال: من فضلنا نحن الفرس أن لنا بيوت النيران. فقال اللهبي: وجهنم قطيعة لجدي.

رمي فضولي في النار؛ فقال: الحطب رطب !

من ملح البخلاء

وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب. فقال: يا مولاي؛ هذا خطأ، إنما يقال: أغلق الباب وهات الطعام. فقال له: أنت حر لوجه الله لمعرفتك بالحزم.

قال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمراً. ثم قال لغلامه: خذ هذا الفلس فاشتر به زيتاً، فأتى الغلام به. فقال له: خنتني. فقال: وكيف أخونك في فلس ؟ قال: أخذته لنفسك واستوهبت الزيت.

وقال الأحنف بن قيس: يا بني تميم، أتبخلونني وربما أشرت عليكم برأي خير من مائة ألف درهم ؟ فقال بعض من سمعه: تقويمك الرأي عليه غاية البخل.

من أظرف ما قيل في بخيل

ومن أظرف ما قيل في بخيل:

وأخٍ مسّه نـزولـي بـقـرحٍ

 

مثلما مسّني من الجوع قـرح

قال إذ زرت وهو في شدة السك

 

رة بالهمّ طافح ليس يصـحـو

لم تغرّبت قلت قال رسول الـل

 

ه والقول منه نصـحٌ ونـجـح

سافروا تغنموا فقـال وقـد قـا

 

ل تمام الحديث جوعوا تصحّوا

غفلة

مر رجل بإنسان وعلى عاتقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه، في أحدهما بر وفي الآخر تراب. فقال: لم فعلت هذا ؟ قال: عدلت البر بالتراب، لأنه كان قد أمالني إلى أحد جنبي؛ فأخذ الرجل زنبيل التراب وقلبه وقسم البر نصفاً في الزنبيلين. وقال: الآن فاحمل، فحمله فخف عليه؛ فقال: ما أعقلك من شيخ !.

يتماوت ليسأل الكفن

وشرب أحمد بن أبي طاهر مع أبي هفان حتى فني ما معهما، وكانا بجوار المعلى ابن أيوب؛ فقال ابن أبي طاهر لأبي هفان: تماوت حتى اسأل المعلى في كفنك. فسجاه ومضى إلى المعلى فقال: أصلحك الله، نزلنا في جوارك فوجب عليك حقنا، وقد مات أبو هفان وليس له كفن. فقال لوكيله: أمض إليه لتشاهده وادفع له كفناً. فأتى فوجده مسجى فنقر أنفه فضرط، فقال له: ما هذا؟ قال ابن أبي طاهر: أصلحك الله بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من دبره، فأخبر المعلى فضحك وأمر لهما بدنانير كثيرة.

متجسس متماوت

وكان أحمد بن طولون قد نابذ الموفق وباينه بالعداوة وخلعه، وكان قد ضبط مصر من الجواسيس وكان متيقظاً فهماً، فأشرف من قصره يوماً، فإذا بجنازة قد مرت عليه. فقال: علي بالنعش ومن فيه. فأحضروه، فقال: قم يا متماوت، ثم دعا بالسياف وقال: اضربه، فقام الميت من نعشه، فقال له: أنت متجسس من ناحية أحمد ؟ قال نعم ! قال: لو لم أتقدم إليك لقتلتك وقتلت من معك، وأمر من أخرجهم عن عمل مصر. فقيل له: من أين علمت ذلك ؟ فقال: رأيت القوم ليس عليهم كآبة من مات له ميت، ورأيتهم يطوفون بالقصر، ونظرت إليه في النعش فرأيت رجليه قائمتين ورجل الميت تسترخي؛ فحكمت أنه حي، فلما حضر رأيته يسارق النفس فصحت القضية.

من الطرف

وحضر علي بن بسام مع جحظة البرمكي دعوةً، فتفرق الجماعة المخاد، وبقي جحظة. فقال: ما لكم لم تدفعوا إلي مخدة ؟ فقال له ابن بسام: عن قليل تصير إليك كلها.

 واشتد البرد سنة؛ فقال أبو العيناء: إن دام هذا كانت بيوتنا التنانير.

وقال رجل لامرأته: الحمد لله الذي رزقنا ولداً طيباً. قالت: ما رزق أحد مثلما رزقنا، فدعياه فجاء، فقال له الأبك يا بني، من حفر البحر ؟ قال: موسى بن عمران. قال: من بلطه ؟ قال: محمد بن الحجاج. فشقت المرأة جيبها ونشرت شعرها وأقبلت تبكي. فقال أبوه: ما لك ؟ فقالت: ما يعيش ابني مع هذا الذكاء.

ابن المعذل والمخنث

رأى عبد الصمد بن المعذل مخنثاً ليلة أربعة عشر من شهر رمضان، وهو مضطجع على ظهره يخاطب القمر ويقول: لا أماتني الله منك بحسرة، أو تقع في المحاق، فما كانت ليلة سبعة وعشرين رأى عبد الصمد الهلال، فقال:

يا قمراً قد صار مثل الهلال

 

من بعد ما صيّرني كالخلال

الحمد للّه الـذي لـم أمـت

 

حتّى أرانيك بهذا السّـلال

الصوم في الربيع

وقال أبو عون الكاتب:

جاءنا الصوم في الربيع فهلاّ

 

اختار ربعاً من سائر الأرباع

وتولّى شعـبـان إلا بـقـايا

 

كالعقابيل من دم المـرتـاع

فكأنّ الربيع في الصوم عقدٌ

 

فوق نحر غطّاه فضل قناع

شعبان ورمضان

وقال البحتري:

لاحت تباشير الخريف وأعرضت

 

قطع الغمام وشارفت أن تهطلا

فتروّ من شـعـبـان إن وراءه

 

شهراً يمانعنا الرحيق السلسـلا

وقال:

ومّما دهى الفتيان أنهم أتـوا

 

بآخر شعبان على أول الورد

يوم الشك

وكتب كشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك:

هو يوم شـــكٍّ يا عـــل

 

يّ وأمره مـذ كـان يحـذر

والجـوّ حـلّـتـه مـمـسّ

 

كةٌ ومطرفـه مـعـنـبـر

والماء فـضـيّ الـقـمـي

 

ص وطيلسان الأرض أخضر

نبـتٌ يصـعّــد نـــوره

 

في الأرض قطر ندىً تحدّر

ولـنـا فـضـيلاتٌ تـكـو

 

ن ليومنـا قـوتـاً مـقـدّر

ومـدامةٌ صــفـــراء أد

 

رك عمرها كسرى وقيصـر

فانهض بنـا لـنـحـتّ مـن

 

كاساتنـا مـا كـان أكـبـر

أو لا فـإنّـك جــاهـــلٌ

 

إن قلت إنّك سوف تـعـذر

تشبيب بامرأة رعناء

كانت لرجل من العرب امرأة رعناء؛ فدخل عليها يوماً وهي مغضبة، فقالت: ما لك لا تشبب بي كما يشبب الرجال بنسائهن ؟ فقال: إني أفعل ! وأنشدها:

تمّت عبيدة إلاّ فـي مـلاحـتـهـا

 

والحسن منها بحيث الشمس والقمر

ما خالف الظبي منها حين تبصرهـا

 

إلا سوالفها والـجـيد والـنـظـر

قل للذي عابها من حاسـدٍ حـنـقٍ

 

أقصر فرأس الذي قد عيب والحجر

فضحكت ورضيت عنه.

مما يشك هل هو مدح أو هجاء

ومما يشكل هل هو مدح أو هجاء، أن أبا الينبغي دفع إلى خياط أعور اسمه زيد طيلساناً يقوره له، فلما جاءه ليأخذه دفعه إليه، وقال له: قد خطت لك شيئاً لا تدري أهو طيلسان أو هو دواج. فقال: وأنا أقول فيك بيتاً لا تدري أو هو مدح أو هجاء. وأنشده:

خاط لي زيد قباء

 

ليت عينيه سواء

يريد بسواء: يكونان صحيحتين أو ذاهبتين.

ومن هنا اهتدى أبو الطيب المتنبي إلى قوله:

فيابن كروّسٍ يا نصف أعمى

 

وإن تفخر فيا نصف البصير

تعادينا لأنّـا غـير لـكـنٍ

 

وتبغضنا لأنّا غـير عـور

وكان أبو الينبغي ضعيف الشعر، قلما يصح له الوزن، إلا أنه كان ظريفاً طيباً. ودخل عليه وقد حبس، فقيل له: ما كان خبرك ؟ قال أبو الينبغي: قلت ما لا ينبغي ففعل بي ما ينبغي.

ومما يسأل عنه أصحاب المعاني هل هو مدح أو هجاء:

تكامل فيه البخل والجود فاعتلى

 

بفضلهما، والبخل بالمرء يزري

وهذا يمدحه؛ يريد أن يجود بماله ويبخل بعرضه.

وقد قال حماد عجرد يمدح محمد بن أبي العباس:

حليم جهـولٌ فـأمّـا الـتـي

 

يقال له عـنـدهـا يجـهـل

فعند الوغى واشتجار الـقـنـا

 

إذا الحرب أشعلها مشـعـل

جوادٌ بـخـيل فـأمّـا الـذي

 

على كل حـال بـه يبـخـل

فدين وعرض، ودين الـكـر

 

يم ذي الرأي والعرض لا يبذل

وليس بما ملـكـت كـفّـه

 

من البحر في وجوده يعـدل

يداه الحيا في حفوف الثـرى

 

وطعنته في الوغى الفيصل

إذا ذكر الناس أهل الـنّـدى

 

بأسمائهم فـاسـمـه الأوّل

محمد أنت الذي إن سـمـو

 

ت ذي المعمّ لك المـخـول

يذمّك كبش الوغى في الوغى

 

ويحمدك الرمح والمنصـل

أعجزتك القافية !

وذكر أن هاشمياً قال لعمر بن أبي ربيعة: لولا بغضكم لنا يا بني مخزوم ما قلت:

بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفلٍ

 

أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم

فقدمت علينا بني نوفل وبني أمية؛ فتوهمه ابن أبي ربيعة عاقلاً، فقال: لا بأس بتقديم المفضول على الفاضل في اللفظ، قال حسان بن ثابت:

وما زال في السادات من آل هاشم

 

مكارم صدقٍ لا تعدّ ومـفـخـر

بهاليل منهم جعفـر وابـن أمّـه

 

عليٌّ ومنهم أحمد الـمـتـخـيّر

وأيضاً فالشعر على الميم، فلم يمكن في القافية، إلا ما قلت لك. قال: فأعجزتك الحيلة ؟ قال: وكيف أحتال ؟ قال تقول:

بعيدة مهوى القرط إمّا لهـاشـم

 

أبوها وإمّا عبد شمس ونوفل ميم

فضحك وقال: وهنا لقد عجزت عن هذا.

نقد لشعر امرىء القيس

ومن عجيب ما يتعلق بهذا الباب إنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد يعرف بالمبحث، وكان ينقر على العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم، فتلقاه سيف الدولة باليمين؛ وأعجب به إعجاباً شديداً؛ فقال يوماً: أخطأ امرؤ القيس في قوله:

كأني لم أركب جواداً لـلـذّة

 

ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل

 

لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال

وهذا معدول عن وجهه لا شك فيه. فقيل: وكيف ذلك ؟ قال: إنما سبيله أن يقول:

كأني لم أركب جواداً ولم أقل

 

لخيلي كرّي كرةً بعد إجفال

ولم أسبأ الزقّ الرويّ للـذة

 

ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال

فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت كله، ويقترن ذكر الشرب واللهو بالنساء. ويكون قوله: للذة في الشرب أطبع منه في الركوب.

فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال؛ هذا التهدي وحق أبي ! فقال بعض الحاضرين من العلماء للمبحث: أنت أخطأت وطعنت على القرآن إن كنت تعمدت ؟ فقال سيف الدولة: وكيف ذلك ؟ فقال: قال الله تبارك وتعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولا تعرى فيها ولا تضحى. وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيباً، ولا ترتب ترتيباً؛ فخجل وانقطع.

في مجلس الوليد

وقال خالد: قدمت على الولد بن يزيد في مجلس ناهيك من مجلس، فألفيته على سريره وبين يديه معبد. ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيت:

سرى همّي وهمّ المرء يسـري

 

وغاب النجـم إلاّ قـيد فـتـر

أُراقب في المجرة كـلّ نـجـمٍ

 

تعرّض أو على البحرات يجري

بهـمٍّ مـا أزال بـه قـرينــاً

 

كأنّ القلب أبطن حـرّ جـمـر

على بكر أخي فارقت بـكـراً

 

وأيّ العيش يحسن بعد بـكـر

فقال: أعد يا صاح، فأعدت. فقال: من يقوله ؟ قلت: عروة بن أذينة الليثي. فقال: وأي العيش يصلح بعد بكر ؟ هذا الذي نحن فيه، والله لقد تحجر واسعاً على رغم أنفه.

وأنشدت سكينة بنت الحسين رضوان الله عنهما هذا الشعر؛ فقالت: ومن بكر ؟ فوصف لها. فقالت: ذاك الأسود الذي كان يمر بنا، والله لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبر والزيت !

السماع وما ينبغي له من الشعر

قلت أنا: وليت شعري إذا كان السماع داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي ينهكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، المنقذ له من الكرب، الداخل عليه من غير تعب، والوارد إليه بغير نصب، وقد قال أرسطا طاليس: لما حددنا المنطق وجدنا فيه ما لا يبلغه اللسان إلا آلة، فركبنا العود على الطبائع، لاستخراج تلك الودائع، فلما قابلت النفس استماع ما ظهر منه عشقته بالعنصر.

وقالوا: كل شراب بلا سماع الدن أولى به؛ فما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الدقيقة الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في الأبيات الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، والغارات والكتائب، والأحزان والمصائب؛ فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:

ظفرت بقبلةٍ منه اختـلاسـاً

 

وكنت من الرقيب على حذار

ألذّ من الصبوح على غمـامٍ

 

ومن برد النسيم على خمـار

أحب إليه من أن يسمع:

إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقـا

 

لحدّثا عنك يوم الروع بالعجـب

أنفقت مالك تعطـيه وتـبـذلـه

 

يا متلف الفضّة البيضاء والذهب

إلا أن يكون سامعه كمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ هذا على أن هذا الشعر ليس بتحسين الحظ في فصاحة اللفظ، ولا قاصر المرمى عن إدراك المعنى، كقول مروان بن صرد أخي أبي بكر بن صرد في يزيد بن يزيد فيه يقول:

أما أبوك فأندى العالـمـين يداً

 

وكان عمّك معنٌ سيد العـرب

عيدانكم خير عيدان وأطيبـهـا

 

عيدان نبع وليس النبع كالغرب

وإنكم سادةٌ أوليتـم حـسـبـاً

 

وأنتم قالةٌ للشّعر والخـطـب

ولكن لكل مكان ما يليق بموضعه، ويحسن بموقعه؛ فأشبه أوقات اللهو والشراب، ذكر التغزل بالأحباب.
وقد قال بعض البلغاء: لولا العشق والهوى، لم توجد لذة الصبا، ولم يكن الطرب والغناء، ولنقص نعيم أهل الدنيا.

وكان ابن الرومي يقول: لو ملكت الأمر وأدركت ملحن هذا الشعر لقتلته:

كليبٌ لعمري كان أكثر ناصـراً

 

وأيسر جرماً منك ضرّج بالـدّم

رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنةٍ

 

كحاشية البرد اليمانيّ المسـهّـم

وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوماً إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، ورأى الكراهة في وجهي. فقال: يا ثمامة، ما لك ؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا غنانا عمير ذكر مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان. كم يا أمير المؤمنين بين أن تغنيك جارية غادة، كأنها غصن بان، بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من درة، بشعر عكاشة العمي:

من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانـهـا

 

من فضّةٍ قد طرّزت عنّابـا

وكأنّ يمناها إذا ضربت بهـا

 

تلقي على يدها الشمال حسابا

وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير:

رأيت زهيراً تحت كلكل خالد

 

فأقبلت أسعى كالعجول أبادر

وكم بين من يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه ؟ فتبسم المأمون. وقال: إن الفرق لواضح، وإن المنهج لفسيح، يا غلام؛ لا تأذن له ! وأحضر قينة. قال: فظللنا في أمتع يوم.

من طيبات الأغاني ومطربات القيان

وقد كتبت جرءاً مما قيل في طيبات الأغاني ومطربات القيان، وأنا أعيد منها هنا قطعة ترتاح إليها الأرواح: أنشد أبو العباس أحمد بن محمد الأنباري الناشىء في مثل قول عكاشة:

وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت

 

يد كاتبٍ يلقي عليك صنـوفـا

وكأنّما المضراب فـي أوتـاره

 

قلم يمجمج في الكتاب حروفـا

ويجسّه إبهـامـهـا فـكـأنّـه

 

في النقر ينفي بهرجاً وزيوفـا

أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته:

يطير عنها حصا الظّران من بلدٍ

 

كما تنوقد عند الجهبذ الـورق

وأصله من قول امرىء القيس:

كأنّ صليل المرو حين تطيره

 

صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا

وقال ابن العجاج:

كأنّ أيديهنّ بالقاع القـرق

 

أيدي نساءٍ يتعاطين الورق

وقال أبو نواس:

وأهيف مثل طاقة ياسمين

 

له حظّان من دنيا ودين

يحرّك حين يشدو ساكناتٍ

 

وتنبعث الطبائع للسكون

وهذا مليحٌ، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع.

صفة القيان والعيدان

ومن عجيب ما قيل في صفات القيان والعيدان قول ابن الرومي.

وقـيانٍ كـأنّـهـا أُمـهـاتٌ

 

عاطفاتٌ على بنيها حـوانـي

مطفلات وما حملن جـنـينـاً

 

مرضعات ولسن ذات لـبـان

ملقمات أطـفـالـهـنّ ثـديّاً

 

ناهداتٍ كأحسـن الـرمّـان

مفعمات كأنـهـا حـافـلاتٌ

 

وهي صفر من درّة الألبـان

كل طفل يدعى بأسماء شتّـى

 

بين عود ومـزهـر وكـران

أمّه دهرها تتـرجـم عـنـه

 

وهو بادي الغنى عن الترجمان

وأنشد أبو علي الحاتمي لأبي بكر الصولي:

وغناءٌ أرقّ من دمعة الـص

 

بّ وشكوى المتيّم المهجـور

يشغل الفهم عن تظنٍّ وفـهـمٍ

 

فهو يصغي بظاهرٍ وضمـير

صافح السمع بالذي يشتـهـيه

 

فأذاق النفوس طعم السـرور

ليس بالقائل الضعيف إذا مـا

 

راض نغماً ولا الشنيع الجهير

يجتني السمع منه أحسن ممّـا

 

تجتني العين من وجوه البدور

إبليس ينادم إبراهيم الموصلي

قال إبراهيم الموصلي: استأذنت الرشيد في أن يهب لي في كل أسبوع يوماً، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد وقال: هو يوم أستثقله؛ فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت الحجاب ألا يأذنوا لأحد علي وأغلقت الأبواب.

فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة، وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.

فلما رأيته امتلأت غيظاً، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم. فأفكرت وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفاً وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم؛ فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتاً ؟ فامتلأت عليه غيظاً ولم أجد إلى ردة سبيلاً؛ لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة؛ فأخذت العود وضربت وغنيت ووضعت العود. فقال لي: لم قطعت هزارك ؟ فزادني غيظاً، وقلت لا يسيدني ولا يكنيني ولا يقول: أحسنت ! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي ! ثم قال: ناولني العود، فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد خلت زوال نعمتي في حبسه، ثم ضرب وغنى:

ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجـد

 

لقد زادني مسراك وجداً على وجد

أإن هتفت ورقاء في رونق الضّحى

 

على فنن غضّ النبات من الرّنـد

بكيت كما يبكي الولـيد ولـم أكـن

 

جليداً وأبديت الذي لم أكـن أُبـدي

وقد زعموا أنّ المـحـبّ إذا دنـا

 

يملّ وأنّ النأي يسلي من الـوجـد

بكلّ تداوينا فلـم يشـف مـا بـنـا

 

على أن قرب الدار خيرٌ من البعد

فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:

ألا يا حمامات اللّوى عدن عودةً

 

فإني إلى أصواتكـنّ حـزين

فعدن فلما عدن كدن يمتنـنـي

 

وكدت بأسراري لهـنّ أُبـين

دعون بترداد الهدير كـأنـمـا

 

شربن حميّا أو بهنّ جـنـون

فلم تر عيني مثلهنّ حمـائمـاً

 

بكين ولم تدمع لهـنّ عـيون

ثم ضرب وغنى:

قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى

 

وقلّ لنجدٍ عنـدنـا أن يودّعـا

وأذكر أيام لحمى ثم أنـثـنـي

 

على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا

فليست عشيّات الحمى برواجـع

 

إليك ولكن خلّ عينيك تدمـعـا

وأعذر فيها النفس إن حيل دونها

 

وتأبى إليها النفس إلاّ تطلّـعـا

فوالله لقد تغنى كل شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني؛ فقال: يا أبا إسحاق ! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة؛ فقلت: ويحكن هل سمعتن ما سمعت، أو رأيتن ما رأيت ؟ قلن: نعم ! سمعنا وأعدن الأصوات علي وقد لقنها؛ فسألت الحجاب عن الرجل؛ فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت، فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت؛ فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفاً على نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك؛ قلت: يا سيدي؛ جئت بغريبة؛ وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو مرة، وددت أنه لوم متعنا بنفسه كما متعك.

واشتهر إبراهيم بهذا الطريق، واشتهته الناس فلم تبق جارية لقنته من إبراهيم إلا زيد في ثمنها؛ قال اللاحقي:

لا جزى اللّه الموصليّ أبا إس

 

حاق عنّا خيراً ولا إحسـانـا

جاءنا مرسلاً بوحيٍ من الشي

 

طان أغلى به علينا القـيانـا

من غناءٍ كأنه سـكـرات ال

 

حب يصغي القلوب والآذانـا

أبو فراس يستميل سيف الدولة إلى الغناء

ومن مليح هذا المعنى قول أبي فراس: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان ويحظرهما، فوافت ظلوم الشهرامية، وكانت إحدى المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم أحد المحسنين، فتاقت نفسي إلى سماع ظلوم؛ فسألت الأمير أن يحضرهما لأسمعهما مجتمعين؛ فوعدني بإحضارهما مجلسه من يومه، فانصرفت وأنا غير واثق بذلك لعلمي بضعف نيته في مثله، ووجهت إلى ظلوم أتقدم إليها بالاستعداد، وحصلت عندي ابن المنجم، وأقمت أنتظر رسوله إلى أن غربت الشمس، فكتبت إليه:

محلّك الجوزاء بل أرفـع

 

وصدرك الدهناء بل أوسع

وقلبك الرّحب الذي لم يزل

 

للجدّ والهزل به موضـع

رفّه بقرع العود سمعاً غدا

 

قرع العوالي جلّ ما يسمع

فبلغت هذه الأبيات أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي؛ فأمر بها فلحنت وغني بها، فلم يشرب بقية يومه ذلك إلا عليها.

من شعر أبي فراس

وأبو فراس هو الحارث بن سعيد بن حمدان؛ وفي أبي فراس يقول القاضي ابن الهيثم:

أيقنت أني مـا بـقـي

 

ت رهين شكر الحارث

فإذا المنـية أشـرفـت

 

ورّثت ذاك لـوارثـي

رقّي له من بعـد سـي

 

يّدنا ولـيس لـثـالـث

قال أبو فراس: فحاولت جوابه على هذه القافية فما أمكنني شيء أرتضيه، فكتبت إليه:

لئن جمعتنا غدوةً أرض يابس

 

فإنّ لها عندي يداً لا أضيعها

أحبّ بلاد اللّه أرضٌ تحلّهـا

 

إليّ، ودار تحتويك ربوعهـا

أفي كلّ يوم رحلة بعد رحلة

 

تجرّع نفسي حسرةً وتروعها

فلي أبداً قلبٌ كثير نـزاعـه

 

ولي أبداً نفسٌ قليل نزوعهـا

لحى اللّه قلباً لا يهيم صبـابةً

 

إليك وعيناً لا تفيض دموعها

وكان أبو فراس حسن الشعر، جيد النمط، ولقوته من الطلاوة والحلاوة ما يشهد به ما أنشد له.
وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدىء الشعر بملك، وختم بملك؛ بدىء بامرىء القيس، وختم بأبي فراس.

بين أبي فراس وسيف الدولة

وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد سار إلى منزله: كتابي أطال الله بقاء الأمير من منزلي، وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر وفراً وشكراً؛ فاستحسن سيف الدولة بلاغته فقال:

هل للفصاحة والسـمـا

 

حة والعلا عنّي محـيد

في كل يوم اسـتـقـي

 

د من العلاء وأستفـيد

ويزيد فـــيّ إذا رأي

 

تك في الندى خلقٌ جدي

وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا؛ فاستشارهم أبو فراس فيما يهديه إليه، فكل أشار بشيء، فخالهم وكتب إليه:

نفسي فداؤك قد بعـث

 

ت بمهجتي بيد الرسول

أهديت نفسـي، إنـمـا

 

يهدى الجليل إلى الجليل

وجعلت ما ملكـت يدي

 

بشرى المبشّر بالقبـول

ووقع بين أبي فراس وبين بني عمه عداء وهو صغير؛ فمزح سيف الدولة معه بالتعصب عليه فقال:  

قد كنت عدّتي التي أسطـو بـهـا

 

ويدي إذا خان الزمان وسـاعـدي

فرميت منك بضـدّ مـا أمّـلـتـه

 

والمرء يشرق بالـزّلال الـبـارد

فصبرت كالولد الـتـقـيّ لـبـرّه

 

أغضى على مضضٍ لضرب الوالد

وقال يفخر:

لنا بيتٌ على طنب الـثـريا

 

بعيد مذاهب الأكناف سامي

تظلّله الفوارس بالعـوالـي

 

وتفرشه الولائد بالطـعـام

وقال يصف السبي.

وخريدة كرمت على آبـائهـا

 

وعلى بوادر خيلنا لم تـكـرم

خطبت بحدّ السيف حتى زوّجت

 

كرهاً وكان صداقها للمقسـم

راحت وصاحبها بعرس حاضرٍ

 

يرضي الإله وأهلها في مأتـم

وقال:

ما كنت مذ كنت إلاّ طوع خلاّنـي

 

ليست مؤاخذة الخلاّن من شانـي

يجني الصديق فأستحلي جنـايتـه

 

حتى أدلّ على عفوي وإحسانـي

ويتبع الذّنب ذنباً حين يعـرفـنـي

 

عمداً فأُتبع غفرانـاً بـغـفـران

يجني عليّ فأحنو صافحاً كـرمـاً

 

لا شيء أحسن من حانٍ على جان

وقال:

فواللّه ما أضمرت في الحبّ سلوةً

 

وواللّه ما حدّثت نفسي بالصـبـر

وإنك في عيني لأبهى من الغـنـى

 

وإنك في قلبي لأحلى من النّصـر

فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى

 

ويا ثقتي المأمون جرت مع الدهر

وقال:

سكرت من لحظه لا من مدامته

 

وما بالنوم عن عيني تمـايلـه

وما السّلاف دهتني بل سوالفـه

 

ولا الشّمول ازدهتني بل شمائله

ألوى بصبري أصداغٌ لوين لـه

 

وغلّ صدري ما تحوي غلائله

وقال:

وظبي غرير في فؤادي كناسه

 

إذا كنست عين الفلاة وحورها

فمن خلقه لبّاتها ونحـورهـا

 

ومن خلقه عصيانها ونفورها

وقال:

ألزمني ذنبـاً ولا ذنـب لـي

 

ولجّ في الهجران والعـتـب

أُحاول الصبر على هـجـره

 

والصبر محظورٌ على الصبّ

من لي بكتمان هـوى شـادنٍ

 

عيني له عينٌ على قلـبـي

عرّضت صبري وعلوّي لـه

 

فاستشهدا في طاعة الحـبّ

وقال:

لبسنا رداء الليل، والليل راضعٌ

 

إلى أن تردّى رأسه بمـشـيب

وبتنا كغصني بانةٍ عطفتهـمـا

 

مع الصبح ريحاً شمألٍ وجنوب

إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّـه

 

مبادي نصولٍ في عذار خضيب

فيا ليل قد فارقت غير مـذمّـم

 

ويا صبح قد أقبلت غير حبـيب

وقال:

قل لأحبابنا الـجـفـاة رويداً

 

درّجونا على احتمال الملال

إنّ ذاك الصدود من غير جرمٍ

 

لم يدع في موضعاً للوصال

أحسنوا في هواكم أو أسـيئوا

 

لا عدمناكم على كـلّ حـال

وقال:

ومغضٍ للمهابة عن جوابي

 

وإنّ لسانه العضب الصقيل

أطلت عتابته عنتاً وظلمـاً

 

فدمّع ثم قال: كما تقـول

وقال:

بتنا نعلّل من ساقٍ أغـنّ لـنـا

 

بخمرتين من الصهباء والـخـدّ

كأنّه حين أزكى نار وجـنـتـه

 

سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد

يعدّ ماء عنـاقـيد بـطـرّتـه

 

بماء ما حملت خدّاه مـن ورد

وقال:

أيا سافراً ورداء الخـجـل

 

مقيمٌ بوجـنـتـه لـم يزل

بعيشك ردّ عليك الـلـثـام

 

أخاف عليك جراح المقـل

فما حقّ حسنك أن يجتلـى

 

ولا حقّ وجهك أن يبتـذل

أمنت عليك صروف الزمان

 

كما قد أمنت عليّ الملـل

وقال:

لا غرو إن فتنـتـك بـال

 

ألحاظ فاترة الـجـفـون

فمصارع العـشـاق مـا

 

بين الفتور إلى الفـتـون

اصبر فمن سنن الـهـوى

 

صبر الضنين على الضنين

وقال:

سقى ثرى حلب، ما دمت سانها

 

يا بدر، غيثان منهلٌّ ومنبجـس

كأنّما البدر والولدان موحـشة

 

وربعها دونهنّ العامر الأنـس

أسير عنها لأمرٍ ما فيزعجنـي

 

حتى يعود إليها الخدّر الكبـس

مثل الحصاة التي يرمى بها أبداً

 

إلى السماء فترقى ثم تنعكـس

وقال أبو فراس في رسول ملك الروم إذ جاء يطلب الهدنة، فأمر سيف الدولة بالركوب بالسلاح، فركب من داره ألف غلام مملوك بألف جوشن مذهب على ألف فرس عتيق بألف تجفاف، وركب الناس والقواد على تبعيتهم وسلاحهم وراياتهم، حتى طبق الجيش جبل جوشن وما حوله. فقلت:

علونا جوشناً بأشـد مـنـه

 

وأثبت عند مشتجر الرماح

بجيش جاش بالفرسان حتّى

 

ظننت البرّ بحراً من سلاح

فألسنةٌ من العذبات حـمـر

 

تخاطبنا بـأفـواه الـرياح

وأروع جسمه لـيلٌ بـهـيمٌ

 

وغرّته عمودٌ من صبـاح

صفوحٌ عند قدرتـه كـريمٌ

 

قليل الصّفح ما بين الصفاح

كأن ثباته للقـلـب قـلـبٌ

 

وهيبته جناحٌ للـجـنـاح

طرف من أخبار المهلبي

وعلى ذكر المهلبي أذكر طرفاً من ظريف أخباره، وشريف آثاره، وإنما أسلسل أخبار أمثاله من أشراف العصر، وأفراد الدهر، تعمداً للذة الجدة، ورونق الحداثة؛ إذا كان ما لم يقرع الآذان، أدعى إلى الاستحسان، مما تكرر حتى تكدر.

والمهلبي هو أبو محمد الحسن بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وكان المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر، لما ولي الخلافة بعد المستكفي، قام بجميع أموره معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وصحبه أجمل صحبة من أول ولايته إلى سنة موته وهي سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وعقد الديلمي أمر وزارته للمهلبي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكان المهلبي من سروات الناس وأدبائهم وأجوادهم وأعزائهم، وفيه يقول أبو إسحاق الصابىء:

نعم اللّه كالوحوش وما تـأ

 

لف إلاّ أخايراً نـسّـاكـا

نفّرتهـا أيام قـومٍ وصـيّ

 

رت لها البرّ والتّقى أشراكا

وفيه يقول:

قل للوزير أبـي مـحـمـد الـذي

 

قد أعجزت كلّ الورى أوصـافـه

لك في المجالس منطقٌ يشفي الجوى

 

ويسوغ فـي أذن الأديب سـلافـه

وكأنّ لفظك لـؤلـؤ مـتـنـخّـل

 

وكـأنـمـا آذانـنـا أصـدافــه

وفيه يقول أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي:

أنا عبد من لو قال للشمس اغربي

 

غربت وقد طلعت على الأشهاد

المستقل مـن الـوزارة رتـبةً

 

إشراقها فوق الخـلافة بـادي

عقّ الكماة لخوفه هـيجـاءهـم

 

وهم لطـاعـتـه مـن الأولاد

وتقنعوا بالنـزر مـن أيامـهـم

 

حتى ظنناهـم مـن الـزهـاد

ومن التراب عجاجهم وعجاجـه

 

ممّا يحطّم مـن قـنـاً وجـياد

القائد الخيل العتـاق كـأنـهـا

 

أسد مخالبها صـدور صـعـاد

كذب المحدّث بالشجاعة والنـدى

 

عن خـنـدف وربــيعة وإياد

لو أبصرت عيناه آل مـهـلـب

 

والخيل راوية النحور صـوادي

يخرجن من رهج العجاج كأنمـا

 

أسيافهم خرجت من الأغـمـاد

أوما رأيت جنابهم مـتـدفّـقـاً

 

متوسعـاً لـتـضـايق الـرّوّاد

ووجوههم للبذل من إشراقـهـا

 

قد قنّعت شمس الضحى بسـواد

لرأيت أو كادت جفونك أن ترى

 

لجج البحـار وآنـف الأطـواد

وعلمت أنهم على رغم الـعـدى

 

ذهبوا بكل نـدىً وكـلّ جـلاد

يا من نصغّره إذا قـلـنـا لـه

 

ملك الملوك وماجد الأمـجـاد

وذباب سيفك إنه قسم الـوغـى

 

والموت في ثوب من الفرصـاد

لأطرزنّ بك الزمـان مـدائحـاً

 

تختال بين الـشـدو والإنـشـاد

تدع المسامع والقلوب لحسنـهـا

 

عند الرواة تشـدّ بـالأصـفـاد

وقال فيه:

ألكني إلى آل المهلـب إنـهـم

 

لأرفع من زهر النجوم وأثقب

 

إذا سلبوا الأموال من شنّ غارة

 

أغار عليها المجتدون ليسلبـوا

 

فلا زالت الأملاك تطلب رفدهم

 

فتدنى وتعطى فوق ما تتطّلب

 

ولا برحت حمر المنـايا وسـودهـا

 

إلى بأسهم يوم الوغى تـتـحـزّب

فما استمطروا للجود إلاّ تـدفّـقـوا

 

ولا استصرخوا للطّعن إلاّ تلبّـبـوا

إليك أمين اللّه في الأرض شمّـرت

 

عزيمة صبحٍ بالدّجى تتـجـلـبـب

يرى حظّه مستـأخـراً وهـو أوّلٌ

 

وآماله مغـلـوبة وهـو أغـلـب

وأنت شبابٌ للذي شـاب مـقـبـلٌ

 

إليه ووجهٌ للذي خـاب مـلـحـب

تقـود أبـيّات الأمـور كـأنّـهـا

 

إليك أسارى في الأزمّة تـجـنـب

وتطعن في صدر الكتائب معلـمـاً

 

كأنك في صدر الدواوين تـكـتـب

نداؤك أملـى والـجـياد مـنـابـرٌ

 

وأبطالها بالمشرفّـية تـخـطـب

أذمّ زياداً فـــي ركـــاكة رأيه

 

وفي قوله: أيّ الرجال المـهـذب

وهل يحسن التهذيب منك خـلائقـاً

 

أرقّ من المـاء الـزلال وأعـذب

تكلّم والنـعـمـان بـدر سـمـائه

 

وكلّ مليكٍ عند نعمـان كـوكـب

ولو أبصرت عيناه شخصـك مـرّة

 

لأبصر منه شمسه وهي غـيهـب

إذا ذكرت أيامك الغرّ أظـلـمـت

 

تميم وقيس والربـاب وتـغـلـب

لقد صرّحوا بالمال لي وهو مبـهـم

 

وقد عرّضوا بالقول لي وهو موجب

ولي همةٌ لا تطلب المال للـغـنـى

 

ولكنها منك الـمـودّة تـطـلـب

فإن كان قولي دون قـدرك قـدره

 

فما أنا فيه في امتداحـك مـذنـب

إذا كانت الأشـياء دونـك قـدرهـا

 

فغير ملومٍ أن يقصّـر مـسـهـب

           

زياد: هو النابغة الذبياني؛ وإنما عنى قوله في اعتذاره للنعمان بن المنذر:

ولست بمستبقٍ أخاً لا تـلـمّـه

 

على شعثٍ أيّ الرجال المهذب

ألم تر أنّ اللّه أعطاك سـورةً

 

ترى كل ملكٍ دونها يتـذبـذب

بأنّك شمسٌ والملوك كـواكـب

 

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

وإنما أخذ النابغة هذا من قول شاعر من كندة قديم:

تكاد تميد الأرض بالنـاس إن رأوا

 

لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتـب

هو الشمس وافت يوم دجنٍ فأفضلت

 

على كل نورس والملوك كواكـب

من حياة المهلبي

والمدح في أبي محمد المهلبي كثير، وإنما يؤخذ من كل شيء ما اختير. وكان قبل تعلقه بحبل السلطان سائحاً في الأرض على طريق الفقر والتصوف. قال أبو علي الصوفي: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في بعض طرقاته؛ فضجر لضيق الحال، فقال:

ألا موتٌ يباع فأشـتـريه

 

فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن روح حرّ

 

تصدّق بالوفاة على أخيه

قال: فاشتريت له رطل لحم وطبخته له. ثم تصرف بنا الدهر وبلغ المهلبي مبلغه؛ قال أبو علي: فاجتزت البصرة واجتزت بأسلمان، فإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيارات في عدة وعدة. فقلت: لمن هذا ؟ فقيل: للوزير أبي محمد المهلبي، فنعتوا لي صاحبي، فتوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت رقعة واحتلت حتى دخلت، فسلمت وجلست، حتى إذا خلا المجلس رفعت إليه الرقعة، وفيها:

ألا قل للوزير بلا احتشـام

 

مقال مذكّر ما قد نـسـيه

أتذكر أن تقول لضيق عيشٍ

 

ألا موتٌ يباع فأشـتـريه

فنظر إلي، وقال: نعم ! ونهض وأنهضني معه في مجلس أنسه، وجعل يذكر لي كيف توافت حاله؛ وقدم الطعام فأطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر، ومع آخر تخوت وثياب رفيعة، ومع آخر طيب وبخور؛ وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل؛ فقال لي: يا أبا علي؛ تفضل بقبول هذه، ولا تتأخر عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت؛ فلما هممت بالخروج من الباب استردني وأنشدني بديهاً:

رقّ الزمان لفاقتـي

 

ورثى لطول تحرّقي

فأنالني ما أرتـجـي

 

وأجار ممّا أتّـقـي

فلأغفرنّ له القـدي

 

م من الذنوب السّبّق

إلاّ جنـايتـه لـمـا

 

فعل المشيب بمفرقي

العباس بن الحسين وآثاره

ولما مات المهلبي وجد عليه أحمد بن بويه وجداً شديداً ولم يستوزر أحداً بعده، وبلغ منه أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد بن فاخر بعد المهلبي مبلغاً عالياً؛ للمصاهرة التي كانت بينه وبين المهلبي؛ ولأنه كان يخلفه في الدواوين؛ فكان يخطب درجة المهلبي في الوزارة فلم يبلغها.

وكان العباس ممن تعظمه الملوك وتعرف قدره في الفرس وسبقه، وكان بنو بويه يخاطبونه بالشيخ؛ ولما حصلوا بأرض العراق استدعوه من فارس اشتياقاً إليه، وحاجةً إلى رأيه؛ لما كانوا يعرفون من ثقته، وكان يتخذ من الزي وتفخيم شأن الملك ما كان يحسن به في عين أحمد بن بويه؛ إذ كان يحب من أصحابه ذلك.

وكان مما عمله العباس المغيض الذي بظاهر السندية، الذي ينزع من نهر عيسى بن موسى الهاشمي النازع من الزاب الأعظم بناحية البثق المعروف ببثق الروبانية وهو الذي تعمره ملوك العراق، وتحوط به الأعمال التي ترد إلى كل ناحية حظها من الشرب الذي تكون به عماراتها واستقامة ربوعها ووفور أموالها وتمام خراجها.

وهذا المغيض عملته الأكاسرة لينتفع به عند زيادة المياه وكثرتها؛ فإنها حين تخشى البثق المقدم ذكره وغيره من البثوق أن تزيد المياه عليها فتخرقها فينصرف الماء عن سائر الضياع، فإذا خشي ذلك فتح هذا المغيض فانصرف ما يزيد من الماء عن قدر ما ينتفع به إليه، حتى يصب في نهر يعرف بصرصر حتى يفرغ في دجلة، فعمل هذا المغيض من ماله بعد فساد ما كان قبله. وسائر هذه البثوق تسترم بعد خمسين عاماً من بعد عمارتها إلى السبعين، أكثره على ما يذكرون.

ثم عمر الدار المعروفة بخاقان، وهي في ملك ولده وما يليها من الدور التي كانت تجاورها بشاطىء دجلة، وهذه الدار معروفة عند الملوك معظمة في نفوسهم، وهي دار لها حدان، فالجبلي منها ينتهي إلى دجلة، والشرقي منها ينتهي إلى نهر الصراة النازع من نهر عيسى النازع من الفرات الأعظم، حتى يلتقي هذان النهران.

وقد كان في قديم الزمان بلغ أمرها بعض ملوك الروم؛ وصف له أن بالعراق داراً يجتمع فيها دجلة والفرات، فأعظم ذلك وأكبره، وأكذب من أخبره به. ثم كشف عن ذلك لعظمه عنده فوجده حقاً، فعمر العباس هذه الدار على أحسن مما كانت عليه، بل أزيد من ذلك، وانتهى خبرها إلى أحمد بن بويه فأحب النظر إليها؛ فاصطنع له طعاماً ورتب الناس على أحسن ما يكون من ترتيب مثله، وفرش مجالسها وقبابها ومحالها وخباءها ورحابها وخورنقاتها وجيرياتها، بألوان المثقل بالمذهب، والأرمني الرفيع على أصنافه، والخزو المقطوع المرقوم المثقل بالذهب على أجناسه وألوانه، والمحفور الدجلي القديم والمحفور الأرمني، وغير ذلك من أصناف الفرش مما أحدثه العراقيون.

وكان ذلك على حين طيب الزمان، واجتماع خيرات كل أوان، في زمن الورد ووقت النيروز الفارسي، وهو حين تكامل النبت وزيادة المياه، وطلوع الثمار، وزهر الأشجار.

واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها الجبلي والشرقي دجلة والفرات قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب تدور به، وأبواب تغلق عليها من فوقها طبقة فطبقة، تطلع من تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري الغلمان بصنوف الملاهي في أحسن الملابس والحلل، وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور أنواع الطير والحيوان والوحش، وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل صنف يخرج منه صوت يليق بصورته صوت مثله؛ وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الأصباغ والنقوش والذهب. ثم نصب القيان وأصحاب الملاهي على طبقاتهم مفترقين في تلك المجالس.

وحضر أحمد بن بويه وولده بختيار وإبراهيم ومحمد: كل منهم في قواده وجنده وكتابه ووجوه رجاله وحاشيته. وأمر بعرض دجلة. فمد من جانبها الغربي الذي هو الركن المجتمع فيه دجلة والفرات إلى الجانب الشرقي الذي بإزائه حبل مفتول، ونثر على الماء من الورد ما غطى دجلة من الجانب إلى الجانب الآخر، إلا ما خرقته أنواع المراكب من الطيارات والزلالات والحديديات والزبازب والسماريات التي ركبها أحمد وأصحابه إلى من سواهم من العامة، وانتظمت هذه المراكب جانبي دجلة من حد هذه الدار وما بإزائه من الجسر الذي بباب الطاق، وصار المسلوك من دجلة في وسطها، وصار ذلك الورد يستقبل المنحدر إلى الدار يمنعه الحبل المعترض من الجري مع الماء من تحته. ثم تلقى أحمد وبنيه بما أعد لهم من الكرامة والحباء؛ فكان من صنوف ذلك دنانير ودراهم ضربها في كل دينار منهما ودرهم خمسة دنانير وخمسة دراهم عليها صنوف الصور في أواني الذهب والفضة، الفضة في الذهب، والذهب في الفضة، وأنواع البز من صنوف الحرير والنسيج والخز والشرب وأصناف المتاع، وأعد من الخيل والمراكب والغلمان بصنوف الملابس بقدر ما يقتضيه ما قدمنا ذكره.

ثم اخذ في إطعام الجميع؛ حتى عم سائرهم صغيرهم وكبيرهم. إلى أن وصل ذلك بأصحاب السفن، فأتى على سائرهم طعاماً وشراباً.

ولما حضر الانصراف قدم بين يدي أحمد من تلك الصواني الذهب والفضة من كل صنف صينيتين، في كل واحدة ألف دينار وألف درهم، ومن الخلع والدواب والمراكب ما يشاكل ذلك، وجعل لبختيار بن أحمد ما يشاكل ذلك، ولكل واحد من إخوته نصف ذلك؛ وعم سائر القواد والرؤساء على أقدارهم من كسوة وغيرها، كل إنسان بقدره؛ ثم أمر بنهب القصر السكر، فنهبه الحشم والغلمان والعامة حتى أتوا على آخره.

وقد حكى منصور بن عيسى بن سوادة الكاتب، وكان يلي دواة العباس وكان خصيصى به قديم الصحبة له خبيراً بأمره؛ قال: قدم سيدنا أبو الفضل مقدار ما لزمه على إصلاح المغيض، وبناء الدار، وما أنفقه في الدعوة من ماله سوى ما عضده به الكتاب والعمال والصناع، فكان مبلغه ستمائة ألف دينار، فسئل عن مقدار ما كان أعانه من قدمنا ذكره؛ فقال: هو والله أكثر من أن أحصيه ! ولم يكن للعباس علم ولا ضرب في الكتابة بسهم، ولكن كانت له دراية بالأعمال، وتصرف في أمور السلطان؛ وكانت له همة عالية. ويقال: إن جده فاخراً كان إسكافاً.

زوج العباس بنت المهلبي

وكان العباس تزوج زينة بنت المهلبي، وكانت قد بلغت بها الحال إلى أن اتخذت الجواري الأتراك حجاباً في زي الرجال على ما جرى به رسم السلطان، وكان لها كتاب من النساء؛ مثل سلمى النوبختية، وعائشة بنت نصر القسوري حاجب المقتدر، وغيرهما من القهارمة؛ ومن يتصرف في الأعمال تصرف الرجال، وكان لها كرم وجود في الأموال.

فلما قبض على زوجها أبي الفضل بعد وزارته الثانية لبختيار بن أحمد، وقد صارت الوزارة لمحمد بن بقية اختفت زينة بنت الحسن وسائر أسبابها؛ فجعلت عليها العيون في كل مكان، واستقصى على أبي الفضل زوجها؛ وسلم إلى محمد بن عمر بن يحيى بعد طاهر العلوي، فخرج به من بغداد إلى الكوفة؛ فأقام عنده مدةً يسيرة ثم مات، ودفن هناك في النجف بجوار قبر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولم يزل بختيار يطلب زينة وأسبابها، فعثر على أكثر أسبابها فلم يجد لها موضعاً؛ وكان سبب اختفائها منه أنه راسلها في حين القبض على أبي الفضل، وأعلمها أنه يسومه الترك ليتزوج بها؛ فردت أقبح رد، وأنكرت ذلك؛ فكان ذلك سبب اختفائها، وكان لها من الذخائر والودائع في أيدي جماعة مما كان يغني كثيراً من الناس، فلما بلغ بها الأمر طمع كل واحد فيما في يده والغدر به.

ولما كان بعد اليأس من وجودها، ظهر بظاهر الخلد بقرب محلة تعرف بالدسترقين فرد محمل مغطى، فيه امرأة في أخلاق وعند رأسها رقعة مكتوب فيها زينة بنت الحسن بن محمد المهلبي الوزير؛ فاشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، ووافى القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الهاشمي المعروف بالزينبي، فاحتملها لداره وتولى من أمرها ما يجب لمثلها، ودفنها في مقابر قريش؛ وقد كانت أختاها تحت ولديه أبي الحسن وأبي القاسم.

الحب والطعام

وكان أبو الحارث حسين يظهر لجارية من المحبة أمراً عظيماً فدعته وأخرت الطعام إلى أن ضاق. فقال: يا سيدتي؛ ما لي لا أسمع للغداء ذكراً. فقالت: يا سبحان الله ! أما يكفيك النظر إلي وما ترغبه فيّ من أن تقول هذا ؟ فقال: يا سيدتي؛ لو جلس جميل وبثينة من بكرة إلى هذا الوقت لا يأكلان طعاماً لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه.

شركة

أراد قوم من البصرة الجمع؛ فقال أحدهم: علي الطعام. وقال أحدهم: علي الشراب. وقالوا: ما عليك أنت يا أبا إسحاق ؟ فقال: لعنة الله علي إذا لم آكل وأشرب معكم؛ فضحكوا منه ومضوا به.

ولكن اللجام لي

قال أبو عبيدة: أجريت الخيل في الحلبة؛ فجاء فرس من الخيل سابقاً، فجعل رجل من النظارة يكثر الفرح ويكبر ويصفق. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى؛ الفرس لك ؟ قال: لا ! ولكن اللجام لي !.

طفيلي في عرس

دخل طفيلي عرساً فلم يقدر على الدخول، فأخذ قرطاساً وأدرجه ولم يكتب فيه شيئاً، وسأل عن العروس، هل له قرابة غائب ؟ فقيل: أخوه. فكتب عنوان الكتاب من فلان بن فلان إلى أخيه، وجاء فدق الباب. وقال: معي كتاب من أخي العروس، فخرج العروس مبادراً فأدخله وأحضر له الطعام؛ فلما قرأ العنوان قال: سبحان الله ! تراه نسي اسمي إذ لم يكتبه على الكتاب ؟ فقال الطفيلي: وأعجب من هذا أنه لم يكتب داخله شيئاً من العجلة، فعلم مراده وأدخله.

وأنشد بعضهم لأبي محمد بن وكيع:

بينا أنزّل أمري أن يجـي فـرجٌ

 

مقدّماً فيه بين السّـوق والـلـيت

إذا بصرت بباب الدار مستـلـمـاً

 

فملت مستمعاً أُصغي إلى الصوت

فقلت من جا بباب الدار يقـرعـه

 

نادى أنا فرجٌ زن لي كرى بيتـي

عتاب طفيلي على التطفيل ورده

عوتب طفيلي على التطفيل؛ فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتوكل، وإني لأجمع في التطفيل خلالاً، أدخل مجالساً، وأقعد مستأنساً، وأنبسط وإن كان رب الدار عابساً، ولا أتكلف مغرماً، ولا أنفق درهماً، ولا أتعب خادماً.

وصية طفيلي لأصحابه

قال ابن دراج الطفيلي لأصحابه: لا يهولنكم غلق الأبواب، ولا شدة الحجاب، ولا عنف البواب، وتحذير العقاب، ومبارزة الألقاب؛ فإن ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذل السؤال، واحتملوا الوكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، في جنب الظفر بالبغية، والدرك للأمنية، والزموا الطوزجة للمعاشرين، والخفة بالواردين والصادرين. والتملق للملهين والمطربين، والبشاشة بالخدم والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين؛ وادخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنك أحق بالطعام ممن دعي إليه، وأولى ممن صنع له؛ فكونوا لوقته حافظين، وفي طلبه متمسكين، واذكروا قول أبي نواس:

ليخمس مال اللّه من كلّ فاجرٍ

 

وذي بطنةٍ للطيبـات أكـول

تقاصر لينالك الضرب

جلد بعض الشرط رجلاً وكان الجلاد قصيراً دميماً والمجلود طويلاً؛ فقال له الجلاد: تقاصر لينالك الضرب. فقال: ويلك ! إلى أكل الفالوذج تدعوني ؟ والله لوددت أن تكون أنت أقصر من يأجوج ومأجوج، وأنا أطول من عوج.

أمنية المبغض

دخل أعرابي من ثقيف على خالد بن عبد الله القسري، فشكا إليه قلة المطر، وجفوف الشجر، وكثرة العيال، وعدم المال. وكان خالد مبغضاً لثقيف، فقال: أما ما ذكرته من قلة المطر فوددت أن الله جل اسمه ضرب بينكم وبين السماء صفائح من حديد؛ وجعل مسيلها مما يلي البحر، فلا تصل إليكم قطرة من مائها. وأما ما ذكرت من يبس الشجر فوددت أن الله أحرق ما لديكم من ذلك. وأما ما ذكرت من قلة المال وكثرة العيال فوددت أن الله قطع يديك ورجليك ولم يجعل لأهلك كاسباً غيرك.

فقال: أيها الأمير؛ أصلحك الله، وطئت أرضك، وأملت رفدك، فلا تصرفني بحسرة الحرمان، واجعل قراي منك بقدر أملي فيك، لا بقدر نسبي عندك. قال: يا غلام، أعطه بدرة، ثم زاده أخرى.

النكث في البيع خير من خيانة الشريك

وجلس مالك بن طوق في قصره في شباك مطل على رحبته، ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابي تخب به ناقته؛ فقال: إياي أراد، ونحو قصد. ولعل معه أدباً ينتفع به، ثم أمر بإدخاله؛ فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابي ؟ قال: سيب الأمير ورجاء نائله. قال: هل قدمت أمام رغبتك وسيلة ؟ قال: نعم ž أربعة أبيات قلتها بظهر البرية، فلما رأيت ما بباب الأمير من الهيبة والجلال استحقرتها واستصغرتها. قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك على أن نجيزك عليها ألف درهم، فإن كنت ممن أحسن ربحنا عليك، وإلا فقد نلت مرادك، وربحت علينا. قال: رضيت، وأنشده:

وما زلت أخشى الدهر حتى تعلّقت

 

يداي بمن لا يتّقي الدهر صاحبـه

فلما رآني الدهر تحت جـنـاحـه

 

رأى مرتقىً صعباً منيعاً مطالبـه

رآني بحيث النّجم في رأس بـاذخٍ

 

تظلّ الورى أكنافه وجـوانـبـه

فتىً كسماء الغيث والناس حولـه

 

إذا قحطوا جادت عليهم سحائبـه

فقال: قد والله ظفرنا يا أعرابي، ورزقنا الفلج عليك، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم. قال: فإن لي صاحباً شاركته فيها، وما أراه يرضي ببيعي. قال: أتراك حدثتك نفسك بالنكث ؟ قال: نعم ž وجدت النكث في البيع خيراً من خيانة الشريك. فأمر له بعشرة آلاف دينار.

المتوكل وقطاطة

وركب المتوكل زلالاً ومعه قطاطة وعبادة المخنثان، وكان قطاطة طويلاً جداً؛ فجعل يغني إلى أن هبت ريح شديدة وثارت دجلة، فأمسك عن الغناء. فقال له المتوكل: ما لك ؟ قال: يا سيدي؛ أفزعني ما أرى؛ فرفع عبادة يده وصفعه، وقال: يابن الفاعلة ! تتوهم أن في دجلة ماءً يطولك.

لبيد بن ربيعة في مجلس النعمان

لما أراد لبيد بن ربيعة أهله على إحضاره مجلس النعمان، ومقاولة ابن زياد العبسي على ما خاطب به أهله بحضرة النعمان، أراد أهله أن يختبروه لأنهم استصغروه؛ فنظر عمه إلى بقلة لاصقة بالأرض وهي جدير الأرض فقال: صف لنا هذه البقلة حتى أسمع. فقال لبيد: إن هذه البقلة رذلة دقيقة الخيطان، ذليلة الأغصان، لا تذكي ناراً، ولا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، عودها ضئيل، وخيرها قليل، وبلده شاسع، ونبتها خاضع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعىً، وأصعبها قلعاً، فحرباً لجارها وجدعاً، فالقوا إلي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس، وأتركه من أمره بلبس. فقال له: سر ! فلما قدم على النعمان وعنده الربيع أنشده:

نحن بنو أمّ البنـين الأربـعـه

 

الضاربون الهام تحت الخيضعه

والمطعمون الجفنة المدعدعه

 

 

من طرف بشار

وكان بشار جالساً على باب داره، فمر به ابن أخيه مع أصحاب له. فقال: أصحاب ابن أخي هؤلاء أتراك. قيل: من أين علمت ؟ قال: لأني لا أسمع لهم حس نعال.

وقيل لبشار: إن فلاناً يزعم أنه لا يبالي بلقاء واحد أو ألف. فقال: صدق؛ لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف.

يطحن مكان الحمار

حكى المدائني، قال: كان في المدينة امرأة جميلة عفيفة ذات زوج، وكان فتىً من أهل المدينة يتبعها كلما خرجت ويعرض لها؛ فلما أذاها شكته إلى زوجها. فقال لها: فما عندك في أمره حيلة ! قالت: قد فكرت في شيء إن ساعدتني عليه. قال: فأنا أساعدك. فبعثت جاريتها إليه تقول: إن الذي بقلبي منك أكثر مما بقلبك مني، ولكني امرأة مستورة ولا أعرف الفساد؛ فكنت أمتنع عليك وفي قلبي النار. فلما بلغته الرسالة استطار فرحاً، وقال للجارية: ما أدري كيف أؤدي شكرك إذ جرى هذا الأمر على يدك، فبلغيها السلام وقولي لها: إني صائر إليك غداً، ووهب للجارية ديناراً. وطالت ليلته حتى أصبح فوجه إليها بجدي وفاكهة. فقالت الجارية: قد وجب علي شكرك لإجابتك إياي في حاجة مولاتي، وأنال أشير عليك بحيلة بها يتم أمرك. قال: وما هي ؟ قالت: سيدتي فيها حشمة وخجل وانقباض عن الرجال، فإذا جلست معك فلا تتعرض لها بكلام ولا بغيره، حتى تشرب معك أقداحاً. قال: نعم ! وصعدت الجارية فعاونت سيدتها على إصلاح الجدي والطعام؛ فلما أحكمتاه نزلت الجارية وبسطت لسيدتها مصلى وجاءت فسلمت وقعدت، وجاءت الجارية بالطشت والماء فغسلت أيديهما، ووضعت المائدة بينهما، وجاءت بالجدي والطعام.

فحين أخذ المخذول اللقمة فوضعها في فمه جاء الزوج فقرع الباب؛ فوضعت المرأة يدها على رأسها وقالت: افتضحت وهلكت. فقال: دعي الجزع واحتالي في موضع أكمن فيه إلى خروجه. قالت: ما أعرف موضعاً يخفى عليه إلا أن تحل الحمار الذي في الدهليز وتقوم في مكانه. فقال: افعلي ! فجاءت الجارية إلى حمار يطحن في الدهليز مشدود العينين فنحته وربطت المغرور مكانه. وقالت: اطحن مكان الحمار ولا تمسك فيفطن بك؛ فإني أرجو أن يخرج سريعاً وترجع إلى سرورك، ثم فتحت الباب ودخل الزوج، فقالت له: خرجت على أن تقيم أياماً ! فما الذي جاء بك الساعة ؟ قالت: كنت عزمت على ذلك فمر بي إخوان فعرضت عليهم المقام في الضيعة. فقالوا: لا يمكننا اليوم، ولكننا إن شاء الله تعالى نصير إليك غداً؛ فأردت أن يكون مجيئهم إلى البيت أسهل علي؛ فبادرت إليك لتصلحي ما يحتاجون إليه وخاصة الدقيق، فينبغي ألا يفتر الحمار في الدقيق. فجلسا يأكلان والمخذول يطحن، ثم وضعا نبيذاً وجعلا يشربان، والزوج يقول ساعةً بعد ساعة: هاتي العصا لكي أقوم لهذا الحمار الملعون، فإني أراه كسلان؛ ونحن نحتاج إلى الدقيق كثيراً، فتقوم الجارية فتقول له: الله الله في نفسك ! لا تفتر؛ فإني أخاف أن يقوم فيراك.

فلم يزل يطحن دائباً والرجل يشرب مع امرأته إلى أن طلع الفجر، فقام الرجل فتهيأ للصلاة وخرج إلى المسجد، فحلت المغرور وقالت: طر إلى بيتك لئلا يراك إنسان فتفتضح.

فخرج يعدو على وجهه عريان ويده على سوءته، فدخل إلى منزله وبقي مسبوتاً مطروحاً على وجهه لا يحرك عضواً.

فلما كان بعد مدة قالت المرأة لزوجها: قد بقي علينا شيء من الولع بالمخذول. قال: شأنك. فبعثت إليه وقال: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: الله يعلم ما تداخل قلبي مما نزل بك؛ ولوددت أن أقيك بنفسي، ولكن المقادير تنزل من السماء، وإني إليك لمشتاقة، فأحب أن تصير إلينا، فإن زوجي قد خرج إلى موضع له فيه مقام شهر، فنستأنس جميعاً ونسترجع ما فاتنا؛ فالتفت إليها سريعاً، وقال: عسى قد فرغ دقيقكم ؟.

بشار وخال المهدي

ودخل بشار على المهدي ينشد شعراً وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مغفلاً؛ فقال: ما صناعتك أيها الشيخ ؟ قال: أنظم اللؤلؤ. فقال المهدي: أتهزأ بخالي ؟ وما أقول لمن يرى شيخاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته !

بشار وجواري المهدي

وقالت جواري المهدي له: إن بشاراً لأطيب الناس مفاكهةً، وهو ضرير البصر، ولا غيرة بك علينا معه إذ لا يرانا، فلو أدخلته إلينا ؟ ففعل. فبادرنه وطايبنه وقلن: إنك أبونا. فقال: ونحن على دين كسرى؛ فبلغ ذلك المهدي فمنعه فيما بعد من الدخول عليهن.

أخذه المتنبي فقال:

يا أُخت معتنق الفوارس في الوغى

 

لأخوك ثم أرقّ مـنـك وأرحـم

يرنو إليك مع العفـاف وعـنـده

 

إنّ المجوس تصيب فيما تحـكـم

بشار أحد الأعاجيب

وبشار بن برد، أحد الأعاجيب، خلق أكمه، وهو يشبه التشابيه التي لم يسبق إليها، مما لا يدركه البصير، وهو أول من فتق البديع للمحدثين. وقتله المهدي سنة سبع وستين ومائة.

سبب قتله

وكان سبب قتله أن المهدي قدم البصرة، فأعطى الشعراء ولم يعط بشاراً شيئاً، فأتى بشار إلى مجلس يونس النحوي، فقال: أههنا أحد يحتشم منه ؟ قالوا: لا ! فأنشده:

فليت ما أنفقت في مصرنـا

 

كان جميعاً في حر الخيزران

فبلغ ذلك يعقوب بن داود مع ما بلغه من هجائه إياه؛ فدخل على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد بلغ من هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين ؟ قال: ويحك ! وما قال ؟ قال: تعفيني يا أمير المؤمنين من إنشاد ذلك. فأبى عليه فأنشده ما قال؛ فوجه في حمله؛ فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من لقيه في البطيحة فضربه بالسياط حتى مات، وجعل يقول: ويلك ! أزعجتني؛ أما علت أني شاعر وليي العهد موسى وهارون. فقال له: يا زنديق، تضرب ولا تقول بسم الله ! قال: ويلك، أثريد هو فأسمي الله عليه.

قال: فأرسل المهدي إلى منزل بشار من يفتشه وهو يقول: لعلنا نجد شيئاً تقام به الحجة. قال: فوجد صندوقاً مقفلاً بقفل وثيق؛ فظنوا أن فيه بعض ما اتهم به، فإذا فيه طومار مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أردت هجاء آل سليمان بن علي لإساءتهم إلي، وطلبهم لي، ثم ذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركتهم لله ولرسوله؛ ولكني قد قلت وأنا أستغفر الله تعالى:

دينار آل سليمانٍ ودرهمـهـم

 

كالبابليّين حفّا بالـعـفـاريت

لا يبصران ولا يرجى لقاؤهما

 

كما سمعت بهاروتٍ وماروت

من جيد شعر بشار

ومن جيد شعره قوله:

أمن تجنّي حبيبٍ بات غضـبـانـا

 

أصبحت من سكرات الموت نشوانا

يا قوم أُذني لبعض الحيّ عـاشـقةٌ

 

والأذن تعشق قبل العين أحـيانـا

قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهـم

 

الأذن كالعين توفي القلب ما كانـا

يا ليتني كنت تفّاحاً بـراحـتـهـا

 

أو كنت من قضب الريحان ريحانا

حتى إذا استنشقت ريحي وأعجبهـا

 

ونحن في خلوةٍ حوّلت إنـسـانـا

لا تعذلوني فإنّي من تـذكّـرهـا

 

نشوان هل يعذل الصاحون سكرانا

لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت

 

وقد لهوت بها في النّوم أزمـانـا

باتت تناولني فاهـا فـألـثـمـه

 

جنّيّة زوّجت في النّوم إنـسـانـا

وقال:

يا قرّة العين إنـي لا أُسّـمـيك

 

أكني بأُخرى أُسمّيها وأعـنـيك

أخشى عليك من الجيران واحـدةً

 

أو سهم غيران يرميني ويرميك

يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبـرٍ

 

إلاّ شهادة أطراف المـسـاويك

قد زرتنا مرّةً في الدهر واحـدةً

 

عودي ولا تجعليها بيضة الـديك

يا رحمة اللّه حلّي في منازلـنـا

 

حسبي برائحة الفردوس من فيك

إنّ الذي بات مغبوطاً بنعمـتـه

 

كفّ تمسّك أو كفّ تعـاطـيك

يسرني وجهك المعشوق مقبـلةً

 

وإن توليت راعتنـي تـوالـيك

كأنّ مسكاً وريحـانـاً وغـالـيةً

 

ما بين حجلك أو أعلى ذفـاريك

وقال:

لم يطل ليلي ولكن لـم أنـم

 

ونفى عني الكرى طيفٌ ألم

رفّهي يا عبد عني واعلمـي

 

أنّني يا عبد من لـحـمٍ ودم

إنّ لي جسماً ضعيفاً نـاحـلاً

 

لو توكّأت علـيه لانـهـدم

ختم الحبّ لها في عـنـقـي

 

موضع الخاتم من أهل الذمم

وإذا قلت لها جـودي لـنـا

 

خرجت بالصّمت من لا ونعم

قال مروان بن أبي حفصة: أنشدني بشار هذه القصيدة فلما بلغ هذا البيت قلت له: جعلني الله فداك أبا معاذ ! هلا قلت: خرست، قال لي: فض الله فاك؛ إني إذاً لفي عقلك ! أتطنز علي من أن أجيب بالخرس!

نسب بشار

وبشار مولى لعقيل بن كعب، وهو يفتخر في شعره بالمضرية.

ولما دخل على المهدي في أول دخلاته قال: فيمن تعتد ؟ قال: أما اللسان فعربي، وأما الأصل فكما قلت:

ونبّئت قـومـاً لـهـم إحـنةٌ

 

يقولون ماذا وأنت الـعـلـم

ألا أيّها السـائلـي جـاهـلاً

 

ليعرفني أنا أنـف الـكـرم

نمت في الكرام بني عـامـر

 

فروعي وأصلي قريش العجم

وإني لأُغني مقام الـفـتـى

 

وأُصبي الفتاة ولا تعتـصـم

البيت الأول يشبه قول جميل:

فليت رجالاً فيك قد نذروا دمـي

 

وهمّوا بقتلي يا بثين لـقـونـي

يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحبـاً

 

ولو ظفروا بي ساعةً قتلـونـي

إذا ما رأوني مقبلاً مـن ثـنـيّةٍ

 

يقولون: من هذا ؟ وقد عرفوني

وفي هذه القصيدة يقول بشار

أصفراء ليس الفتى صخرة

 

ولكنّه نصب هـمٍّ وغـم

صببت هواك على قلـبـه

 

فباح وأعلن ما قد كـتـم

وبيضاء يضحك ماء الشبـا

 

ب في وجهها لك إذ تبتسم

دوار العذارى إذا زرنهـا

 

أطفن بحوراء مثل الصّنم

وفيها يقول يمدح عمر بن العلاء:

إذا أيقظتك حروب العـدى

 

فنبّه لها عمـراً ثـم نـم

فتىً لا ينام عـلـى دمـنةٍ

 

ولا يشرب الماء إلاّ بسـم

دعاني إلى عمـرٍ جـوده

 

وقول العشيرة بحرٌ خضم

ولولا الذي ذكروا لمن أكن

 

لمدح ريحانةً قـبـل شـم

يلذّ العطاء وسفك الـدمـاء

 

ويغدو على نقمٍ أو نـعـم

تطوف العفاة بـأبـوابـه

 

طواف الحجيج ببيت الحرم

إذا عرض اللهو في صدره

 

بدا بالعطايا وضرب البهم

وجال اللّواء علـى رأسـه

 

يدوّم كالمضرحيّ القـرم

وقال بشار:

حيّيا صاحـبـيّ أمّ الـعـلاء

 

واحذرا طرف عينها الحوراء

عذّبتني بالحبّ عذّبـهـا الـلّ

 

ه لما تشتهي مـن الأهـواء

إنّ في عـينـهـا دواءً وداءً

 

لمحبّ، والداء قبـل الـدواء

يقول فيها يمدح عقبة بن سلم الهنائي:

مالكيٌّ ينشقّ عن كفّه الجـو

 

د كما انشقّت الدّجا عن ضياء

إنما لذّة الجواد ابـن سـلـمٍ

 

في عطاءٍ لراغبٍ أو لقـاء

ليس يعطيك للرجاء ولا الخو

 

ف ولكن يلذّ طعم العطـاء

يسقط الطير حيث يلتقط الح

 

بّ وتغشى منازل الكرماء

وكان بشار سجاعاً خطيباً صاحب منثور ومزدوج ورجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام.

ودخل على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة بن العجاج فأنشده أرجوزة، ثم أقبل على بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ. فقال: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة من الغد فأنشده أرجوزة أولها:

يا طلل الحيّ بذات الصّمـد

 

باللّه خبّر كيف كنت بعـدي

بدت بخدٍّ وجلـت عـن خـدّ

 

ثم انثنت كالنّفس المـرتـدّ

وصاحب كالدمّل الـمـمـدّ

 

حملته في رقعةٍ من جلـدي

حتى اغتدى غير فقيد الفقـد

 

وما درى ما رغبتي وزهدي

الحرّ يلحى والعصا للعـبـد

 

وليس للملحف مثـل الـردّ

يقول فيها:

اسلم وحيّيت أبا الـمـلـدّ

 

والبس طرازاً غير مستردّ

للّه أيامك فـي مـعـدّ

 

 

وهي طويلة. فأجزل صلته؛ فلما سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدي فتحنا الغريب، وإني لخيلق أن أسده عليهم ! فقال بشار: ارحمهم رحمك الله ! قال: أتستخف بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر ؟ قال: فإذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.