من نوادر جامع بن وهب

كان جامع بن وهب الصيدلاني من أكبر الناس دنيا، وأعظمهم غفلة، اشترى مرة ثلجاً كثيراً، فقيل له: إنه كثر. فقال: أريد أن أمصه وأرمي بثفله.

وأعطي ببغل له ثمناً خسيساً، فقال: ما للعقار ببغداد قيمة ! ودخل بستاناً له؛ فقال لوكيله: اغرس لي بصلاً بخل؛ فإنه نافع للصفراء.

وكتب إليه بعض الكتاب كتاباً، فأجابه عنه، وعنوانه: من ذاك الذي كتب إلي.

وعثرت به البغلة؛ فقال لغلامه: انظر هل سال من أصبعها دم ؟ وكتب إلى ابنه وقد خرج من مكة: يا ولدي، إن قدرت أن تضحي عندنا فافعل، لنفرح بك في العيد ! وسقطت ابنته في البئر، فقال: يا بنية، لا تبرحي من مكانك حتى أجيء بمن يخرجك منها !

من نوادر المغفلين

وتبخر مغفل في ثياب نفيسة فاحترقت، فحلف بالطلاق لا يتبخر بعدها إلا عريان.

وأتى آخر ليكسر لوزة؛ فزلقت عن الحجر. فقال: كل شيء يفر من الموت حتى البهائم أيضاً.

واعظ فيه غفلة

وكان بمصر واعظ يقال له أبو عبد الله الخواص، من أشد الناس غفلةً؛ وقف به رجل من العامة يقال له محمد القمقاني الخباز، فقال له: أصلحك الله، لي نفس معلولة لا تجيب إلى شيء من الخير؛ فما يصلحها لي ؟ قال: اقرأ القرآن وأكثر منه. قال: ما أحفظ غير الحمد، وقل هو الله أحد، وقد قرأتهما مرات كثيرة، ونفسي بحالها. قال: فاذكر الموت. قال: لك الله ! قد فعلت فما خشعت، ولا جاء منها شيء. قال: فأكثر حضور مجالس الذكر. قال: من أين أجد ؟ وقد تركت شغلي ولزمت المجالس، ونفسي كما هي. قال: لعن الله نفسك فإنها مشؤومة ملعونة كما قلت؛ والرأي أن تمضي بها إلى جرمان بن مطهر صاحب الشرطة يؤدبها لعله يجيء منها بشيء.

خليفة بيطار

كان هشام بن عبد الملك أحول قبيح المنظر، فعرضت عليه خيل الجند، فعرض رجل من أهل حمص فرساً نفوراً. فقال له هشام: ما هذا ؟ قال: أصلحك الله هو فاره، ولكنه ظن أنك حيزون البيطار. فقال: اعزب في لعنة الله.

تغفل أهل حمص

أصاب حمصي جملاً؛ فقيل له: عرفه ! قال: أبيعه وأعرف ثمنه.

قل علي بن عيسى الوزير: كان يبلغني عن أهل حمص تغفل فأظن أكثره تشنيعاً، حتى دخلتها؛ فإذا برجل بين يدي حجام وقد مص عنقه بمحجمتين لم أر أكبر منهما، وهو يشرط في وسط عنقه؛ فلما رآني أقبلت في موكب قال: من هذا ؟ فقال الحجام: هذا الوزير علي بن عيسى؛ فقام، والمحجمة في عنقه والدم يسيل على كتفيه وظهره، وقال: السلام عليك؛ إيش كان خبرك أيها الوزير ؟ قلت: خيراً، وانصرف؛ فحلفت ألا أدخل حمص ونزلت بظاهرها حتى أنجزت ما أتيت فيه.

بيع قرد

وأتى رجل بقرد يبيعه؛ فجاء عبادي فنظر إليه، فقال صاحبه له وقد دنا من رجله: احذر لئلا يرمحك، فدنا من يده؛ فقال: احذر لئلا يخبطك، فدنا من فمه؛ فقال: احذر لئلا يعضك؛ فتباعد العبدي ناحية فقيل له: لم تباعدت ؟ فقال: أحذر لئلا يرميني بحجر.

يشغله عن الأكل

قعد عبادي وأعرابي يأكلان فقال العبادي للأعرابي: كيف مات أبوك ليشغله بالكلام عن الأكل؟ فقال: أصابه كذا وكذا، فأخذ في حديث طويل والعبادي يأكل، ثم قال الأعرابي: وأنت كيف مات أبوك ليشغله بالكلام عن الأكل ؟ فقال: اتخم، فمات.

ودخل عبادي الماء إلى الكعب فصاح: الغريق ! الغريق ! قيل له: ما دعاك إلى هذا ؟ فقال: أردت أن آخذ بالحزم.

يبيع رمحاً برغيف

ومر عبادي برجل ومع الرجل رمح. فقال أتبيعه ؟ قال: نعم ! قال: فبكم تريده ؟ قال: برغيف. قال: سبحان الله تطلب هذا برغيف ! قال: أخزى الله شرهما في الجوف.

دابة أبي العيناء

حمل عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا العيناء على دابة، فأخذها منه ابنه، وقال: أبعث إليك بخير منها، فتأخر عنه ذلك، فلقيه. فقال: ما خبرك ؟ فقال؛ بخير، يا من أبوه يحمل وهو يرجل. فقال: أنا أنفذ إليك بغلاً فارهاً بغير تأخر؛ فتأخر عنه ثم لقيه. فقال: كيف حالك يا أبا عبد الله ؟ قال: راجل أصلحك الله ! فضحك وأنفذ إليه بغلاً زعم أبو العيناء أنه غير فاره، فكتب إلى أبيه: أعلم الوزير أعزه الله ! أن أبا علي محمداً أراد أن يبرني فعقني، وأن يركبني فأرجلني، أمر لي بدابة تقف للنثرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس عجفاً، والعاشق المجهود دنفاً؛ قد أذكرت الرواة عروة العذري، والمجنون العامري، مساعد أعلاه لأسفله، حباقه مقرون بسعاله؛ فلو أمسك لترجيت، ولو أفرد لتعزيت، ولكنه يجمعهما علي في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد، تضحك من فعله النسوان، ويتناغى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح داوه بالطباشير، وقائل يقول نقوا له الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء بالأمصار؛ فلو أعين بنطق، لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفي، وعامر الشعبي؛ وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذي إن اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإن اختار لغيره أخبث وأنزر، فإن رأى الوزير أن يبدلني عنه، ويريحني منه، بمركوب يضحكني كما ضحك مني، يمحو بحسنه وفراهته، ما سطره العيب بقبحه ودمامته؛ ولست أذكر أمر سرجه ولجامه؛ لأن الوزير أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه.

فوجه إليه عبيد الله ببرذون من براذينه بسرجه ولجامه؛ ثم اجتمع مع عبيد الله عند ابنه. فقال عبيد الله: شكوت دابة محمد وقد أخبرني أنه يشتريه الآن منك بمائة دينار، وما كان هذا ثمنه لا يشتكى ! فقال: أعز الله الوزير لو لم أكذب مستزيداً، لم أنصرف مستفيداً، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. فضحك عبيد الله؛ وقال: يا أبا عبد الله؛ حجتك الداحضة بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة.

وصف حمل مهدى

ويشبه هذا رسالة لأبي الخطاب الصابىء، أجاب بها عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صبرة، عن رقعة وصلت منه في صفة حمل أهداه، كتبتها على اختصار: وأبو الخطاب هذا هو عم أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابىء: وصلت رسالتك ففضضها عن خط مشرق، ولفظ مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنها عبد الحمد في كتابته، وسحبان في خطابته، وتصرف بين جد أمضى من القضاء والقدر، وهزل أرق من نسيم السحر، وتقلب في وجوه الخطاب، الجامع لفنون الصواب، إلا أن الفعل قصر عن القول؛ لأنك ذكرت حملاً جعلته بصفتك جملاً، وكان كالمعيدي تسمع به لا أن تراه، وحضر فرأيت كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور، فظننته أحد الزوجين اللذين حملها نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته، صغر عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً، بالياً هزيلاً، بادي السقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، مشتملاً على المثالب، يعجب العاقل من حلول. الحياة به، وتأتي الحركة له؛ لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، لا تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه إلا خشباً، لو ألقي للسبع لأباه، ولو طرح للذئب لعافه وقلاه، وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القت إلا نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالماً.

وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه صب الرحل؛ فملت إلى استبقائه لما تعرفه من محبتي للتوفير، ورغبتي في التثمير وجمعي للولد، وادخاري للغد؛ فلم أجد فيه مستمتعً لبقاء، ولا مدفعاً لفناء؛ لأنه ليس بأنثى تحمل، ولا بفتىً ينسل، ولا بصحيح يرعى، ولا بسليم يبقى؛ فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت على الأخير من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفةً للعيال، وأقيمه رطباً مقام قديد الغزال؛ فأنشدني وقد أضرمت النار، وحدت الشفار، وشمر الجزار:

أُعيذها نظراتٍ مـنـك صـادقةً

 

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما الفائدة لك في ذبحي، وأنا لم يبق فيّ إلا نفس خافت، ومقل إنسانها باهت؛ ولست بذي لحم فأصلح للأكل، لأن الدهر قد أكل لحمي، ولا جلدي للدباغ يصلح؛ لأن الأيام قد مزقت أديمي؛ ولا صوفي يصلح للغزل؛ لأن الحوادث قد حصت وبري، فإن أردتني للوقود فكف حطب أبقى من ناري، ولا تفي حرارة جمري بريح قتاري، فلم يبق إلا أن تطالبني بذحل، أو بيني وبينك دم.

فوجدته صادقاً في مقالته، ناصحاً في مشورته؛ فلم أعلم من أي أمريه أعجب؛ من مماطلته الدهر بالبقاء، أم صبره على الضير والبلاء، أم قدرتك عليه مع إعواز مثله، أم تأهيلك الصديق به مع خساسة قدره ؟ ويا ليت شعري إذ كنت والي الغنم، وأمرك ينفذ في الضأن والمعز، وكل كبش سمين، وحمل بطين، مجلوب إليك، مقصور عليك، تقول فلا ترد، وتريد فلا تصد، وكانت هديتك هذا الذي كأنه ناشر من القبور، وقائم عند النفخ في الصور؛ فما كنت مهدياً لو كنت رجلاً من عرض الكتاب، كأبي علي وأبي الخطاب، ما كنت تهدي إلا كلباً أجرب، أو قرداً أحدب.

الحمدوني يصف أضحية

وقال الحمدوني في أضحية أهداها إليه سعيد بن أحمد جوسبنداد:

أسعيد قد أهـديتـنـي أضـحّـيةً

 

مكثت زماناً عندكم ما تـطـعـم

نضواً تغامزت الكلاب بهـا وقـد

 

شدّوا عليها كي تموت فيولـمـوا

فإذا الملاح ضحكوا بها قالت لهـم

 

لا تهزؤوا بي وارحموني ترحموا

مرّت على علفٍ فقامت لـم تـرم

 

عنه وغنّت والمـدامـع سـجّـم

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

 

متـأخّـرٌ عـنـه ولا مـتـقـدّم

وقال:

أبا سعيدٍ لنا في شاتك الـعـبـر

 

جاءت وليس لها بولٌ ولا بعـر

وكيف تبعر شاةٌ عندكم مكـثـت

 

طعامها الأبيضان الشمس والقمر

لو أنها أبصرت في نومها علفـاً

 

غنّت له ودموع العين تنـحـدر

يا مانعي لذّة الدنيا بما رحـبـت

 

إني ليمتعني من وجهك النّظـر

وقال:

شاة سعيدٍ في أمرها عبـر

 

لما أتتنا قد مسّها الضـرر

وهي تغنّي لسوء حالتـهـا

 

حسبي بما قد لقيت يا عمر

مرّت بقطف خضر ينشّرها

 

قومٌ فظنّت بأنّها خـضـر

فأقبلت نحوها لتأكـلـهـا

 

حتى إذا ما تبيّن الخـبـر

وأبدلتها الظّنون من طمـع

 

يأساً تغنّت والدمع ينحـدر

كانوا بعيداً وكنت آملـهـم

 

حتى إذا ما تقرّبوا هجروا

وقال:

لسـعـيدٍ شـــويهةٌ

 

سلّها الضّرّ والعجف

قد تغنّت وأبـصـرت

 

رجلاً حاملاً عـلـف

بأبي مـن بـكـفّـه

 

برء ما بي من الدّنف

فأتاهـا مـطـمّـعـاً

 

فأتته لـتـعـتـلـف

فتولّـى فـأقـبـلـت

 

تتغنّى مـن الأسـف

ليته لـم يكـن وقـف

 

عذّب القلب وانصرف

الحاتمي واللص

ومن الظريف في هذا الباب ما أنشده أبو علي الحاتمي في حكاية اللص:

يعجبنـي أنّـك لا تـربـط مـن

 

خيلٍ ولا تركب إلاّ الـنّـجـبـا

لمّا رأيت الشّقر خـيلاً سـبّـقـاً

 

ملكت منها أشقـراً مـحـنّـبـا

به سماتٌ من قـرونٍ سـلـفـت

 

يعرف من أقربها المـهـلّـبـا

فللـكـلاب حـولـه تـهـاوشٌ

 

لمّا دعاهـم أجـلٌ قـد قـربـا

لا تيأسن ما عشت في تشـييعـه

 

مستعملاً فيه العزا والـعـقـبـا

خلناه تحت الجـلّ إذ جـلّـلـتـه

 

قرون ضأنٍ جعلت ملء العـبـا

في كــل رجـــلٍ ويدٍ زائدةٍ

 

وهو على جردانه قد شـطـبـا

كم مـرّةً رأيتـه فـي جـرمـه

 

فخلته بالحائط منه القـبـقـبـا

تحيّر البـيطـار لـمّـا أن أرى

 

في رأسه مرقّعاً معـتـصـبـا

مقـيّراً مـوصّـلاً كـأنـمــا

 

قد رم منه زورقـاً أو زبـزبـا

فهو لنارٍ شعلةٌ لـو لـصـقـت

 

طاقة كبريت بـه لالـتـهـبـا

كم فيه من فائدةٍ قد صـحّـحـت

 

كتب التباريح لـمـن تـطـيّبـا

قد خلق اللّـه لـنـا مـن بـرّه

 

ومن نبات البحر خلقاً عـجـبـا

يمشي إلى الإسراج مشي القهقرى

 

لكن إلى المعلف ينزو خـبـبـا

من كثرة القردان في صهـوتـه

 

تحسبه مـجـدّراً مـحـصّـبـا

لو أن سلـطـانـاً رأى راكـبـه

 

لم يأل أن عـــذّره وأدّبـــا

أقام طول الصيف في الماء إلـى

 

أن أنبت الماء عليه الطحـلـبـا

ظننته والشمس لم تـبـيضّ مـن

 

شمس الضحى ولم تحلّ الغيهبـا

من بعض أكواخ النواطير سـرى

 

بالريح إذ هبت له ريح الصّـبـا

بالغ فيه الـجـوع حـتـى إنـه

 

إذا رأى القتّ بكى وانـتـحـبـا

وجاذب المقود مـجـهـوداً ومـا

 

كاد له المـقـود أن ينـجـذبـا

حمحم لـلـقـتّ وقـد مـرّ بـه

 

ثم تغـنّـى طـربـاً وأطـربـا

يأيها الباخـل بـالـوصـل أمـا

 

ترحم صبّاً كـلـفـاً مـعـذّبـا

أمان العيناء من الغداء

دخل أبو العيناء على بعض الرؤساء بكرةً، فاستسقى ماءً؛ فقال له الرجل: أفي هذا الوقت تعطش ؟ قال: أصلحك الله، هذا أمان لك من الغداء.

أبو عباد وزير المأمون وضيق صدره

وكان أبو عباد وزير المأمون ضيقاً جداً، قيل له: إن لقمان قال: ما شيء أشد من حمل الغضب. فقال: ولكنه عندي أخف من الريشة. قيل له: إنما عنى لقمان أن احتمال الغضب ثقيل. فقال: والله ما يقوى على الغضب أحد من الناس إلا الجمل.

وغضب يوماً على بعض أصحابه، فشجه بدواة كانت بين يديه. فقال: صدق الله حيث يقول: والذين إذا ما غضبوا هم يغفرون، فبلغ ذلك المأمون فضحك. فقال: ويلك ! لا تحسن تقرأ آية من كتاب الله تعالى. قال: يا أمير المؤمنين؛ والله إني لأحسن أقرأ من سورة واحدة ألف آية. فضحك المأمون وأمر بإخراجه. ولم يكن جاهلاً. وإنما كان يجري عليه الغلط لفرط غيظه.

وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: صف لي ثابت بن يحيى يريد أبا عباد. فقال: هو والله أحد من سيف سعيد بن العاص. فقال: والله ما أتبين من هذا شيئاً ؟ فقال: إن حركته تبين لك الأمر. فعرض أبو عباد يوماً عليه كتاباً وخرج، فلما قرب من الباب أمر المأمون برده؛ فرجع وقد تغير، فخاطبه وتركه ينصرف. فلما كاد يركب أمر برده. فلما عرف الرسول تناول الدواة من غلامه، وقال: الساعة والله أضرب بها وجهك يابن الخبيثة، كان ينبغي لك أن تقول قد ذهب إلى النار. ورجع، فقال له المأمون: اعرض فيما تعرض علي حوائج الهاشميين. قال: نعم ! وقل كل ما تريد فلست أرجع إليك اليوم بعد هذا، ولو قمت أنت بنفسك ! فضحك المأمون، وقال: قاتل الله دعبلاً يريد قوله:

أولى الأمور بضيعةٍ وفساد

 

أمرٌ يدبّـره أبـو عـبّـاد

وكأنه من دير هرقل خارجٌ

 

حرجاً يجرّ سلاسل الأقياد

وقيل للمأمون: إن دعبلاً هجاك فقال:

أيسومني المأمون خطّة ظـالـمٍ

 

أوما رأى بالأمس رأس محمّـد

يربى على رأس الخلائق مثلمـا

 

تربى الجبال على رؤوس القردد

إني من القوم الـذين هـم هـم

 

قتلوا أخاك وشرّفوك بمـقـعـد

شادوا بذكرك بعد طول خمولـه

 

واستنقذوك من الحضيض الأوهد

فقال: هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني يريد أبا عباد حرج حديد، والمأمون حليم متساهل.

وقال المأمون لما سمع هذا الشعر: ما في الدنيا أصفق وجهاً من دعبل ولا أبهت، كيف يستنقذني هو وقومه من الحضيض الأوهد، وأنا في حجر الخلافة ربيت، وبدرها غذيت، وإنما قال هذا دعبل: لأن طاهر بن الحسين قتل أخاه، وطاهر مولى خزاعة قوم دعبل.

أنشد شاعر أبا عباد قصيدة طويلة، فضاق ضيقاً عظيماً، ثم تجمل معه في استماعها حتى أتمها؛ فقام رجل من أصحابه يعرف بالغالبي؛ فأنشد قصيدة أخرى فسمعها، وقد بلغ الضيق به منتهاه؛ فقال فيها:

ثبتت رحى ملك الإمام بثابتٍ

 

وأفاض فيها العدل والإحسانا

يقري الوفود طلاقةً وبشاشةً

 

والناكثين مهنّداً وسـنـانـا

فقال أبو عباد: مهلاً مهلاً، إنما أنا كاتب ليست هذه صفتي، هذه صفة حميد الطوسي. فضحك الحاضرون، وزاد ضيق أبي عباد لضحكهم وخجل الرجل. فقال: ما زلت للعافين غيثاً ممرعاً متخرقاً في جوده.... وأنسي من الدهش من غيظه أبي عباد باقي البيت، فأقبل يردد متخرقاً في جوده. فقل: قل قرنانا صفعانا، ودعنا نستريح. فقال: يا سيدي معواناً، وخرج مولياً، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
قال إبراهيم بن العباس الصولي: لو وزنت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم بكلام أهل الأرض لرجحت، هذا أبو عباد لم يكن في زمانه أكرم منه، وما يكاد يرى له شاكراً لسوء خلقه.

كان أبو عباد يقول: ما جلس أحد بين يدي، إلا ظننت أني سأجلس بين يديه.

ضجر سليمان الأعمش

وكان سليمان الأعمش من الضجر بحيث اشتهر وانتشر؛ قال له الإمام أبو حنيفة النعمان: لولا أني أخاف أن أشق عليك لأكثرت زيارتك. فقال: لا تفعل ! فأنت تشق علي والله وأنت في دارك.

وقيل له: عمن أخذت الحدة ؟ قال: عن يحيى بن وثاب.

وسأله رجل عن إسناد حديث، فقام وأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط يخنقه، وقال: هذا سنده.

وأتى الأعمش رجل من أصحابه يدعوه إلى طعام صنعه له، فأدخله الحمام قبل ذلك، وأتاه بماء حار فسكبه عليه. فقال: أحرقتني أحرقك الله ! والله لا أدخل إليك، ولا آكل طعامك اليوم. ثم صنع له طعاماً بعد ذلك ومضى يقوده، فوقعت إبهام رجله في مسداة في الدار يلعب فيها الصبيان بالبندق. فقال: أردت أن تقلبني في بئر، لله علي إن أقمت عندك أو أكلت طعامك.

وسلم عليه رجل من أصحابه وقد وجد علةً؛ فقال: كيف بت يا أبا محمد ؟ فرد عليه؛ ثم قال له آخر: كيف بت ؟ فأخرج مضربته ومخدته فوضع رأسه عليها؛ وقال: كذا بت !

شهادة طريفة

نازع بعض التميميين رجلاً من بني عمه في حائط بينه وبينه، فبعث إلى قوم ليشهدهم، فأتاه جماعة من القبائل، فوقف بهم عليه، وقال: أشهدكم جميعاً أن نصف هذا الحائط لي !.

اكتب الإنكار

وقدم رجل آخر إلى القاضي في شيء يدعيه عليه فأنكر. فقال للقاضي: اكتب لي أصلحك الله إنكاره. قال: ذلك في يدك متى شئت.

من طرائف المحاورة

قال عبد الله بن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقلت له: لم كنوك أبا خارجة ؟ قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة. قال الأصمعي: حدثني إبراهيم بن القعقاع قال: رأيت أشعب بسوق المدينة ومعه قطيفة يبيعها، وهو يقول: من يشتري مني الوصيدة ؟ فأتاه رجل يساومه. فقال: أبرأ إليك من عيب فيها. قال: وما هو ؟ قال: أخاف أن تخرق إن لبستها. فضحك، واشتريت بثمن جديدة.

من طرف الأكلة

دعا رجل ابن أحمد، فلما صار إلى منزله قال الرجل لغلامه: امض فاشتر لي لحماً بدانقين، وبدانقين خبزاً؛ فإنه ليس من صديقنا ابن أحمد حشمة. فقال ابن أحمد: يابن أم ولا كل هذا الاستئناس بمرة.
وقال رجل لصديق له: صر إلي نأكل خبزاً وملحاً؛ فقام معه وهو يظن هذا الكلام على مجاز ما يقول الناس، فقدم إليه خبزاً وملحاً. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك، فألح السائل بالمسألة. فقال له: والله لئن قمت إليك لأوجعنك ضرباً. فقال له الضيف: اذهب فوالله لو علمت من صدق إيعاده ما علمت أنا من صدق وعده لم تقف ساعة.

اشترى مزيد رأسين فوضعهما بين يدي امرأته. وقال: اقعدي نأكل، فأخذت رأسهاً فوضعته خلفها. وقال: هذا لأمي، فأخذ مزيد الرأس الآخر ووضعه خلفه، وقال: هذا لأبي. قالت: فماذا نأكل ؟ قال: ضعي رأس أمك وأضع رأس أبي.

دخل أشعب على بعض الولاة وكان بخيلاً، وذلك في أول ليلة من شهر رمضان فأفطر عنده، فقدم جدي، فأمعن فيه أشعب وضاق الوالي. فقال: يا أشعب، إن أهل السجن سألوني أن أوجه إليهم من يصلي بهم في هذا الشهر؛ فامض وصل بهم واغنم ثوابهم. فقال: أيها الأمير؛ أوخلة أخرى ؟ قال: وما هي ؟ قال: أحلف بالطلاق والعتاق ألا آكل جدياً ما عشت أبداً. فضحك منه وأعفاه.

وهذا كما ذكروا أن بعض الملوك أتته سلل خبيص فظنها فاكهة، فبعث إلى مساكين المسجد فحضروا، ثم فتح السلل فوجد فيها خبيصاً، فندم وبقي متحيراً، ثم أمر بهم إلى السجن. فقالوا: ما ذنبنا ؟ فقال: بلغني أنكم تنامون في المسجد ثم تقام الصلاة فتصلون على غير وضوء. فقالوا: خل سبيلنا، فوالله لا أكلنا خبيصاً أبداً، فضحك وعلم أنهم علموا بأمره، فأمر لهم بدراهم وخلى سبيلهم.

قرشي والحمد لله

قال رجل لآخر: ممن تكون ؟ قال: قرشي والحمد لله ! قال: بأبي أنت ! التحميد ها هنا ريبة.

من ظريف ما قيل في الأدعياء

ومن ظريف ما قيل في الأدعياء قول مخلد بن بكار الموصلي في أهل بلده:

هم قعدوا فابتغوا لهم نسـبـاً

 

يجوز بعد العشاء في العرب

حتى إذا ما الصباح لاح لهم

 

ميّز ستوقهم من الـذهـب

والناس قد أصبحوا صـيارفةً

 

أعرف شيء ببهرج النّسب

وقال في أبي تمام الطائي:

أنت عندي عربـيّ ال

 

أصل ما فيك كـلام

شعر ساقيك وفخـذي

 

ك خزامى وثـمـام

وضلوع السلو من صد

 

رك نبـعٌ وبـشـام

وقذى عينيك صمـغٌ

 

ونواصـيك ثـغـام

وظباءٌ خـاضـبـاتٌ

 

ويرابـيع عـظـام

أنا ما ذنـبـي إذا ك

 

ذّبنـي فـيك الأنـام

وبدت منك سـجـايا

 

نبـطـيّاتٌ لـــئام

وقفا يخلـف مـا إن

 

عرفت فيه الكـرام

كذبـوا مـا أنـت إلاّ

 

عربـيٌّ مـا تـرام

بيته في وسط سلمـى

 

وحـوالـيه ســلام

عربـيٌّ عـربــيٌّ

 

عربـيٌّ والـسّـلام

وقال في محمد بن البعيث:

لمحمـدٍ بـيتٌ بـنـاه بـسـيفـه

 

أطناب حجرته النّجوم الكـنّـس

جعل السبيل إلى العلاء محـمـدٌ

 

بيضاً تسيل على ظباها الأنـفـس

إيماضها هنـدية ونـجـومـهـا

 

خزرية منها المـنّـية تـفـرس

تلقى الأمان على حياض محـمـد

 

ثولاء مخـرفةٌ وذئبٌ أطـلـس

لا ذي تخاف ولا لـذلـك جـرأةٌ

 

تهدى الرّعيّة ما استقـام الـريّس

قد شذّب الأعداء عن عرصـاتـه

 

سيفٌ يمجّ دمـاً وعـزٌّ أقـعـس

وإذا تناضلت الملوك بـخـرهـا

 

فسهام فخرك كلهن مقـرطـس

وإذا صرفت الطرف عن ذي نخوةٍ

 

فالموت في قسماتـه يتـفـرّس

متملق القيبـاح يمـنـع هـاربـاً

 

في البعد منك ولا الثناء الأشرس

طهّرت أشعاري بعرضك بعدما

 

كانت بأشعار اللـئام تـدنّـس

ومن شعر مخلد بن بكار

وهو القائل:

يطلع النّجم على صـعـدتـه

 

فإذا واجـه بـدراً أفـــلا

معشرٌ إن ظمئت أرماحـهـم

 

أوردوهنّ مجاجات الطّلـى

تحسن الألوان منهم في الوغى

 

حين يستنكر للرّعب الحلـى

سخط عبد اللّه يدني الأجـلا

 

ورضـاه يتـعـدّى الأمـلا

يعشب الصّلد إذا سـالـمـه

 

وإذا حارب روضاً أمـحـلا

حطّ رحلي فـي ذراه جـوده

 

وتمشى في نداه الخـيزلـى

وقال في الرقيق:

أقول لنضوٍ أنفـد الـسـير نـيّهـا

 

فلم يبق منها غير عظمٍ مـجـلّـد

خدي لي ابتلاك اللّه بالشوق والهوى

 

وشاقك تحنان الحمام الـمـغـرّد

فمرت سريعاً خوف دعوة عاشـق

 

تشقّ بها الموماة في كـلّ فـدفـد

فلما ونت باليسير ثنّـيت دعـوتـي

 

فكانت لها سوطاً إلى ضحوة الغـد

تعست العجلة

وبعت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص مولاها فندأ يأتيها بنار وهي بالمدينة؛ فمضى إلى مصر فأقام بها سنةً، ثم جاء بنار وهو يعدو مسرعاً، فعثر فبدد الجمر فقال: تعست العجلة !

ما رأينا لغرابٍ مـثـلاً

 

إذ بعثناه يجي بالمشعلـه

غير فند أرسلوه قابـسـاً

 

فثوى حولاً وسبّ العجله

الذنب للجبل والقمر

صعد ابن زهير الخزاعي جبلاً، فأعيا وسقط كالمغشي عليه. فقال: يا جبل؛ ما أصنع بك ؟ أأضربك ؟ لا يوجعك، أأشتمك ؟ لا تبالي، يكفيك يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش.

وهذا ضد قول أعرابي آخر سرى في قمر، فلما غاب ضل الطريق. فقال يخاطب بعيره:

اسق ما أسأرته الأكمـا

 

أن عسينا أن نرى علما

كيف لا تغوى هداية من

 

عاد طفلاً بعدما هرما

يقول له: أسرع بي حتى تعرق فتسقي الأكم بسؤر عرقك، وهو بقيته لعلنا نرى علماً نهتدي به. ويريد بقوله: عاد طفلاً بعدما هرما يريد القمر: لأنه في أول الشهر يكون كالطفل ينشأ حتى يتكامل، ثم يدخله النقص حتى يمحق، ثم يعود كأول نشأته؛ يذمه بذلك.

وصف الشمس

ومن عجيب ما في هذا المعنى قول رجل من بني الحارث بن كعب يصف الشمس:

مخبأة أمّـا إذا الـلـيل جـنّـهـا

 

فتخفى وأمّا بالنهار فـتـظـهـر

إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى

 

دجا الليل وانجاب الحجاب المستّر

وألبس عرض الأرض لوناً كأنّـه

 

على الأفق الغربيّ ثوبٌ معصفر

تجلّت وفيها حين يبدو شعـاعـهـا

 

ولم يعل للعين البصيرة منـظـر

عليها كردع الزعفـران يشـبّـه

 

شعاعٌ تلالا فهو أبيض أصـفـر

فلمّا علت وابيضّ منها اصفرارها

 

وجالت كما جال المنيح المشهّـر

وجلّلت الآفاق ضوءاً وأسـعـرت

 

بحرٌّ لها منه الضّحى يتـسـعّـر

ترى الظّل يطوى حين تبدو، وتارةً

 

تراه إذا زالت عن الأرض ينشـر

كما بدأت إذ أشرقت في مغيبـهـا

 

تعود كما عاد الكبير المـعـمّـر

وتدنف حتى ما يكاد شعـاعـهـا

 

يبين إذا ولّت لـمـن يتـبـصّـر

وأفنت قروناً وهي في ذاك لم تزل

 

تميت وتحيي كلّ يومٍ وتـنـشـر

بلادة كيسان

وكانت كيسان مستملي أبي عبيدة، موصوفاً بالبلادة. قال الجاحظ: كان يكتب غير ما يسمع، ويقول غير ما يكتب، ويستملي غير ما يقرأ، ويملي غير ما يستملي، أميت عليه يوماً.

قلت لمعشر عدلوا

 

بمعتمر أبا عمرو

فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستملى أبا زيد، وأملى أبا نصر.

وذكر أبو عبيدة كيسان في شيء، فقال: والله ما فهم، ولو فهم لوهم.

نوادر تحكى عن غير الناس

نوادر تحكى عن غير الناس: قيل لإبليس لعنه الله: ماذا لقيت من المتعلمين ؟ قال: التعلم ينسيهم وهم يلعنوني.

قيل للعقرب: لم لا تشمسين في الشتاء مع الناس ؟ قالت: من كثرة إحساني إليهم في الصيف. كانت أفعى نائمة على حزمة شوك فحملها السيل، والأفعى عليها، إذ نظر إليها ثعلب، فقال: مثل هذا الملاح يصلح لهذه السفينة.

أراد ثعلب أن يصعد حائطاً، فتعلق بعوسجة فعقرت يده. فقال: أنا أخطأت، لأني تعلقت بما يتعلق بكل شيء.

وقف جدي على مكان فمر به ذئب فشتمه. فقال له: لم تشتمني؛ إنما شتمني المكان الذي أنت فيه.

قالت الخنفساء لأمها: ما مررت بأحد إلا بصق علي. قالت: يا بنية، لحسنك تعوذين.

نظر كلب إلى رغيف، فقال له: إلى أين ؟ قال: إلى النهروان. قال: فإن تركتك فابلغ إلى مرو.

وقف كلب على قصاب فآذاه، فقال له القصاب: والله لئن قمت إليك لأرمينك بهذا الكرش، فلم يبرح؛ فتغافل عنه القصاب، فلما طال وقوف الكلب قال للقصاب: ترمينا بالكرش أو ننصرف.

قيل للبغل: من أبوك ؟ قال: خالي الفرس. وهذا كقول القائل:

سألته من أبـوه ؟

 

فقال خالي شعيب

وما كنّى عن أبيه

 

إلاّ وثمّ سـبـيب

قال مؤلفه: هذا آخر الكتاب والله أعلم بالصواب وبالله المستعان ونعود بالله من الزيادة والنقصان.

قد أتممت أكرمك الله لهذا الكتاب جميع شروطه، ولم أخل بتحريره وضبطه، وجعلته كالمسامر الذكي، والمنادر اللوذعي، الذي إذا هزل عزف، وإذا جد رمز، فأمضى بك في العجائب المضحكة، والغرائب المونقة، ثم أصلها ولا أفصلها، من تعلق بأخبار ظريفة، وأشعار شريفة، وقد خفت أن أكلفك نصباً، وأحملك تعباً، فقطعت إذ الزيادة في الحدود نقصان في المحدودة، ورب ربح أدى إلى خسران، وزيادة أفضت إلى نقصان؛ فنعوذ بالله ونستغفره مما جرى به اللسان، ونصلي على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه السادة الأخيار والأعيان، صلاة دائمة بدوام الأزمان، آمين.