العبادي

العبادي

الإمام، شيخ الشافعية، القاضي، أبو عاصم، محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، العبادي، الهروي، الشافعي.
حدث عن: أحمد بن محمد بن سهل القراب، وغيره.
وتفقه على القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي بهراة، وعلى أبي عمر البسطامي بنيسابور.
تفقه به القاضي أبو سعد الهروي، وغيره.
وحدث عنه: إسماعيل بن أبي صالح المؤذن.
وكان إماماً محققاً مدققاً، صنف كتاب المبسوط، وكتاب الهادي، وكتاب أدب القاضي، وكتاب الفقهاء، وغير ذلك.
وتنقل في النواحي واشتهر اسمه. عاش ثلاثاً وثمانين سنة، وتوفي في شوال سنة ثمان وخمسين وأربع مئة.
وفيها توفي الإمام أبو بكر البيهقي، صاحب التصانيف، وقاضي سارية أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السروي الشافعي، والمعمر أبو علي الحسن بن غالب بن المبارك المقرئ ببغداد، وعبد الرزاق بن شمة الأصبهاني، وصاحب المحكم أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي اللغوي الضرير، والعارف الزنجاني فرج الزاهد، الملقب بأخي فرج، وشيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى بن الفراء.

الباطرقاني

الإمام الكبير، شيخ القراء، أبو بكر، أحمد بن الفضل بن محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الأصبهاني، الباطرقاني. حمل الكثير عن: أبي عبد الله بن مندة، وإبراهيم بن خرشيذ قوله، وأبي مسلم بن شهدل، وأحمد بن يوسف الثقفي، وأبي جعفر الأبهري، وعبد الله بن جعفر، والحسن بن يوه، وعدة.
وتلا بالروايات على الكبار، وصنف كتاب طبقات القراء، وكتاب الشواذ.
حدث عنه: أبو علي الحداد، وتلا عليه بالروايات، وسعيد بن أبي الرجاء، والحسين بن عبد الملك الأديب، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، وأحمد بن الفضل المهاد، وشبيب بن محمد بن جوره، وعبد السلام بن محمد الحسناباذي، وآخرون.
وحدث عنه من القدماء الحافظان عبد العزيز النخشبي، وأبو علي الوخشي.
وتلا عليه: أبو القاسم الهذلي. وأم بجامع أصبهان بعد أبي المظفر بن شبيب قال يحيى بن منده: هو كثير السماع، واسع الرواية، دقيق الخط، قرأ على جماعة، وقال لي: إنه ولد سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة. وذكره عمي يوماً والحافظ عبد العزيز النخشبي وجماعة حاضرون فقال عبد العزيز: صنف مسنداً مخرجاً على صحيح البخاري، إلا أنه كتب أكثره من الأصل، ثم ألحقه الإسناد، وهذا ليس من شرط أصحاب الحديث.
ثم قال يحيى: وتكلم في مسائل لا يسع الموضع ذكرها، لو اقتصر على التحديث والإقراء كان خيراً له.
وقال الدقاق: لم أر بأصبهان شيخاً جمع بين علم القرآن والقراءات والحديث والروايات، وكثرة الكتابة والسماعات أفضل من أبي بكر الباطرقاني، وكان حسن الخلق والهيئة والقراءة والدراية، ثقةً في الحديث.
قال ابن منده: توفي في صفر سنة ستين وأربع مئة.

ابن حزم

الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف، أبو محمد؛ علي ابن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي رضي الله عنه المعروف بيزيد الخير، نائب أمير المؤمنين أبي حفص عمر على دمشق، الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير الظاهري، صاحب التصانيف، فكان جده يزيد مولىً للأمير يزيد أخي معاوية. وكان جده خلف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام؛ المعروف بالداخل.
ولد أبو ممد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاث مئة.
وسمع في سنة أربع مئة وبعدها من طائفة منهم: يحيى بن مسعود بن وجه الجنة؛ صاحب قاسم بن أصبغ، فهو أعلى شيخ عنده، ومن أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور، ويونس بن عبد الله بن مغيث القاضي، وحمام بن أحمد القاضي، ومحمد بن سعيد بن نبات، وعبد الله بن ربيع التميمي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، وعبد الله بن محمد بن عثمان، وأبي عمر أحمد بن محمد الطلمنكي، وعبد الله بن يوسف بن نامي، وأحمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن أصبغ. وينزل إلى أن يروي عن أبي عمر بن عبد البر، وأحمد بن عمر بن أنس العذري. وأجود ما عنده من الكتب سنن النسائي، يحمله عن ابن ربيع، عن ابن الأحمر، عنه. وأنزل ما عنده صحيح مسلم، بينه وبينه خمسة رجال، وأعلى ما رأيت له حديث بينه وبين وكيع فيه ثلاثة أنفس.
حدث عنه: ابنه أبو رافع الفضل، وأبو عبد الله الحميدي، ووالد القاضي أبي بكر بن العربي، وطائفة. وآخر من روى عنه مروياته بالإجازة أبو الحسن شريح بن محمد.
نشأ في تنعم ورفاهية، ورزق ذكاء مفرطاً، وذهناً سيالاً، وكتباً نفيسة كثيرة، وكان والده من كبراء أهل قرطبة؛ عمل الوزارة في الدولة العامرية، وكذلك وزر أبو محمد في شبيبته، وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه على العلوم، فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول. قيل: إنه تفقه أولاً للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفة جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارةً يطربون، ومرةً يعجبون، ومن تفرده يهزؤون. وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر. وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار: قال أبو حامد الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه.
وقال الإمام أبو القاسم صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار؛ أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من تواليفه أربع مئة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة.
قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع، وباع طويل، وما رأيت من يقول الشعر على البديه أسرع منه، وشعره كثير جمعته على حروف المعجم.
وقال أبو القاسم صاعد: كان أبوه أبو عمر من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، مدبر دولة المؤيد بالله بن المستنصر المرواني، ثم وزر للمظفر، ووزر أبو محمد للمستظهر عبد الرحمن بن هشام، ثم نبذ هذه الطريقة، وأقبل على العلوم الشرعية، وعني بعلم المنطق وبرع فيه، ثم أعرض عنه. قلت: ما أعرض عنه حتى زرع في باطنه أموراً وانحرافاً عن السنة قال: وأقبل على علوم الإسلام حتى نال من ذلك ما لم ينله أحد بالأندلس قبله. وقد حط أبو بكر بن العربي على أبي محمد في كتاب القواصم والعواصم، وعلى الظاهرية، فقال: هي أمة سخيفة، تسورت على مرتبة ليست لها، وتكلمت بكلام لم نفهمه، تلقوه من إخوانهم الخوارج حين حكم علي رضي الله عنه يوم صفين، فقالت: لا حكم إلا لله. وكان أول بدعة لقيت في رحلتي القول بالباطن، فلما عدت، وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغرب سخيف كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم، نشأ وتعلق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلى داود، ثم خلع الكل، واستقل بنفسه، وزعم أنه إمام الأمة يضع ويرفع، ويحكم ويشرع، ينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا تنفيراً للقلوب منهم، وخرج عن طريق المشبهة في ذات الله وصفاته، فجاء فيه بطوام، واتفق كونه بين قوم لا بصر لهم إلا بالمسائل، فإذا طالبهم بالدليل كاعوا، فيتضاحك مع أصحابه منهم، وعضدته الرئاسة بما كان عنده من أدب، وبشبه كان يوردها على الملوك، فكانوا يحملونه، ويحمونه، بما كان يلقي إليهم من شبه البدع والشرك، وفي حين عودي من الرحلة ألفيت حضرتي منهم طافحة، ونار ضلالهم لافحة، فقاسيتهم مع غير أقران، وفي عدم أنصار إلى حساد يطؤون عقبي، تارة تذهب لهم نفسي، وأخرى ينكشر لهم ضرسي، وأنا ما بين إعراض عنهم أو تشغيب بهم، وقد جاءني رجل بجزء لابن حزم سماه نكت الإسلام؛ فيه دواهي، فجردت عليه نواهي، وجاءني آخر برسالة في الاعتقاد، فنقضتها برسالة الغرة، والأمر أفحش من أن ينقض. يقولون: لا قول إلا ما قال الله، ولا نتبع إلا رسول الله، فإن الله لم يأمر بالاقتداء بأحد، ولا بالاهتداء بهدي بشر. فيجب أن يتحققوا أنهم ليس لهم دليل، وإنما هي سخافة في تهويل، فأوصيكم بوصيتين: أن لا تستدلوا عليهم، وأن تطالبوهم بالدليل، فإن المبتدع إذا استدللت عليه شغب عليك، وإذا طالبته بالدليل لم يجد إليه سبيلاً. فأما قولهم: لا قول إلا ما قال الله، فحق، ولكن أرني ما قال. وأما قولهم: لا حكم إلا لله. فغير مسلم على الإطلاق، بل من حكم الله أن يجعل الحكم لغيره فيما قاله وأخبر به. صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وإذا حاصرت أهل حصن فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. وصح أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... الحديث.
قلت: لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم، ولا تكلم فيه بالقسط، وبالغ في الاستخفاف به، وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد، ولا يكاد، فرحمهما الله وغفر لهما.
قال اليسع ابن حزم الغافقي وذكر أبا محمد فقال: أما محفوظه فبحر عجاج، وماء ثجاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين، وألف الملل والنحل، وكان في صباه يلبس الحرير، ولا يرضى من المكانة إلا بالسرير. أنشد المعتمد، فأجاد، وقصد بلنسية وبها المظفر أحد الأطواد. وحدثني عنه عمر بن واجب قال: بينما نحن عند أبي ببلنسية وهو يدرس المذهب، إذا بأبي محمد بن حزم يسمعنا، ويتعجب، ثم سأل الحاضرين مسألةً من الفقه، جووب فيها، فاعترض في ذلك، فقال له بعض الحضار: هذا العلم ليس من منتحلاتك، فقام وقعد، ودخل منزله فعكف، ووكف منه وابل فما كف، وما كان بعد أشهر قريبة حتى قصدنا إلى ذلك الموضع، فناظر أحسن مناظرة، وقال فيها: أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيد بمذهب.
 قلت: نعم، من بلغ رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة من الأئمة، لم يسغ له أن يقلد، كما أن الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً منه لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد، وما الذي يقول ؟ وعلام يبني ؟ وكيف يطير ولما يريش ؟ والقسم الثالث: الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث، الذي قد حفظ مختصراً في الفروع، وكتاباً في قواعد الأصول، وقرأ النحو، وشارك في الفضائل مع حفظه لكتاب الله وتشاغله بتفسيره وقوة مناظرته، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيد، وتأهل للنظر في دلائل الأئمة، فمتى وضح له الحق في مسألة، وثبت فيها النص، وعمل بها أحد الأئمة الأعلام كأبي حنيفة مثلاً، أو كمالك، أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، فليتبع فيها الحق ولا يسلك الرخص، وليتورع، ولا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد، فإن خاف ممن يشغب عليه من الفقهاء فليتكتم بها ولا يتراءى بفعلها، فربما أعجبته نفسه، وأحب الظهور، فيعاقب. ويدخل عليه الداخل من نفسه، فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين من الأغنياء وأرباب الوقوف والترب المزخرفة، وهو داء خفي يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدو، ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال، والعجب، ولبس القراقل المذهبة، والخوذ المزخرفة، والعدد المحلاة على نفوس متكبرة، وفرسان متجبرة، وينضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة، وظلم للرعية، وشرب للمسكر، فأنى ينصرون ؟ وكيف لا يخذلون ؟ اللهم: فانصر دينك، ووفق عبادك. فمن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء، تحامق، واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العجب، ومقتته الأنفس "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها" الشمس أي: دسسها بالفجور والمعصية. قلبت فيه السين ألفاً.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان أحد المجتهدين : ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى لابن حزم، وكتاب المغني للشيخ موفق الدين.
قلت: لقد صدق الشيخ عز الدين. وثالثهما: السنن الكبير للبيهقي.
ورابعها: التمهيد لابن عبد البر. فمن حصل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها، فهو العالم حقاً.
ولابن حزم مصنفات جليلة أكبرها كتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام مجلدان وكتاب المجلى في الفقه مجلد، وكتاب المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار ثماني مجلدات، كتاب حجة الوداع مئة وعشرون ورقة، كتاب قسمة الخمس في الرد على إسماعيل القاضي مجلد، كتاب الآثار التي ظاهرها التعارض ونفي التناقض عنها يكون عشرة آلاف ورقة، لكن لم يتمه، كتاب الجامع في صحيح الحديث بلا أسانيد، كتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية، كتاب ما انفرد به مالك وأبو حنيفة والشافعي، مختصر الموضح لأبي الحسن بن المغلس الظاهري، مجلد، كتاب اختلاف الفقهاء الخمسة مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وداود، كتاب التصفح في الفقه مجلد، كتاب التبيين في هل علم المصطفى أعيان المنافقين ثلاثة كراريس، كتاب الإملاء في شرح الموطأ ألف ورقة، كتاب الإملاء في قواعد الفقه ألف ورقة أيضاً، كتاب در القواعد في فقه الظاهرية ألف ورقة أيضاً، كتاب الاجماع مجيليد، كتاب الفرائض مجلد، كتاب الرسالة البلقاء في الرد على عبد الحق بن محمد الصقلي مجيليد، كتاب الإحكام لأصول الأحكام مجلدان، كتاب الفصل في الملل والنحل مجلدان كبيران، كتاب الرد على من اعترض على الفصل له، مجلد، كتاب اليقين في نقض تمويه المعتذرين عن إبليس وسائر المشركين مجلد كبير، كتاب الرد على ابن زكريا الرازي مئة ورقة، كتاب الترشيد في الرد على كتاب الفريد لابن الراوندي في اعتراضه على النبوات مجلد، كتاب الرد على من كفر المتأولين من المسلمين مجلد، كتاب مختصر في علل الحديث مجلد، كتاب التقريب لحد المنطق بالألفاظ العامية مجلد، كتاب الاستجلاب مجلد، كتاب نسب البربر مجلد، كتاب نقط العروس مجيليد، وغير ذلك. ومما له في جزء أو كراس: مراقبة أحوال الإمام، من ترك الصلاة عمداً، رسالة المعارضة، قصر الصلاة، رسالة التأكيد، ما وقع بين الظاهرية وأصحاب القياس، فضائل الأندلس، والعتاب على أبي مروان الخولاني، رسالة في معنى الفقه والزهد، مراتب العلماء وتواليفهم، التلخيص في أعمال العباد، الإظهار لما شنع به على الظاهرية، زجر الغاوي جزآن، النبذ الكافية، النكت الموجزة في نفي الرأي والقياس والتعليل والتقليد مجلد صغير الرسالة اللازمة لأولي الأمر، مختصر الملل والنحل مجلد، الدرة في ما يلزم المسلم جزآن، مسألة في الروح، الرد على إسماعيل اليهودي، الذي ألف في تناقض آيات، النصائح المنجية، الرسالة الصمادحية في الوعد والوعيد، مسألة الإيمان، مراتب العلوم، بيان غلط عثمان بن سعيد الأعور في المسند والمرسل، ترتيب سؤالات عثمان الدارمي لابن معين، عدد ما لكل صاحب في مسند بقي، تسمية شيوخ مالك، السير والأخلاق جزآن، بيان الفصاحة والبلاغة، رسالة في ذلك إلى ابن حفصون، مسألة هل السواد لون أو لا، الحد والرسم، تسمية الشعراء الوافدين على ابن أبي عامر، شيء في العروض، مؤلف في الظاء والضاد، التعقب على الأفليلي في شرحه لديوان المتنبي، غزوات المنصور بن أبي عامر، تأليف في الرد على أناجيل النصارى.
ولابن حزم رسالة في الطب النبوي، وذكر فيها أسماء كتب له في الطب منها: مقالة العادة، ومقالة في شفاء الضد بالضد، وشرح فصول بقراط، وكتاب بلغة الحكيم، وكتاب حد الطب وكتاب اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة، وكتاب في الأدوية المفردة، ومقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب، ومقالة في النخل، وأشياء سوى ذلك.
وقد امتحن لتطويل لسانه في العلماء، وشرد عن وطنه، فنزل بقرية له، وجرت له أمور، وقام عليه جماعة من المالكية، وجرت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظرات ومنافرات، ونفروا منه ملوك الناحية، فأقصته الدولة، وأحرقت مجلدات من كتبه، وتحول إلى بادية لبلة في قرية.
قال أبو الخطاب ابن دحية: كان ابن حزم قد برص من أكل اللبان، وأصابه زمانة، وعاش ثنتين وسبعين سنةً غير شهر.
قلت: وكذلك كان الشافعي رحمه الله يستعمل اللبان لقوة الحفظ، فولد له رمي الدم.
قال أبو العباس ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين.
وقال أبو بكر محمد بن طرخان التركي: قال لي الإمام أبو محمد عبد الله ابن محمد يعني والد أبي بكر بن العربي : أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس، ولم يركع، فقال له رجل: قم فصل تحية المسجد.
وكان قد بلغ ستاً وعشرين سنة. قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس، ليس ذا وقت صلاة وكان بعد العصر قال: فانصرفت وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون. قال: فقصدته، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحواً من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة. ثم قال ابن العربي: صحبت ابن حزم سبعة أعوام، وسمعت منه جميع مصنفاته سوى المجلد الأخير من كتاب الفصل، وهو ست مجلدات، وقرأنا عليه من كتاب الإيصال أربع مجلدات في سنة ست وخمسين وأربع مئة، وهو أربعة وعشرون مجلداً، ولي منه إجازة غير مرة. قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله كتب كثيرة لم يخل فيها من غلط لجراءته في التسور على الفنون لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك المسالك، وخالف أرسطاطاليس واضع الفن مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض، ومال أولاً إلى النظر على رأي الشافعي، وناضل عن مذهبه حتى وسم به، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ، ثم عدل إلى قول أصحاب الظاهر، فنقحه، وجادل عنه، وثبت عليه إلى أن مات، وكان يحمل علمه هذا، ويجادل عنه من خالفه، على استرسال في طباعه، ومذل بأسراره، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء: "ليُبَيِّنُنَّهُ للناس ولا يكتمونه"، فلم يك يلطف صدعه بما عنده بتعريض ولا بتدريج، بل يصك به من عارضه صك الجندل، وينشقه إنشاق الخردل، فتنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتى استهدف لفقهاء وقته، فتمالؤوا عليه، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو منه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به منقطع أثره: بلدة من بادية لبلة، وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع، يبث علمه فيمن ينتابه من بادية بلده، من عامة المقتبسين من أصاغر الطلبة، الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم، ويفقههم، ويدارسهم، حتى كمل من مصنفاته وقر بعير، لم يعد أكثرها باديته لزهد الفقهاء فيها، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية، ومزقت علانيةً، وأكثر معايبه زعموا عند المنصف جهله بسياسة العلم التي هي أعوض، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال، فيتفجر منه بحر علم لا تكدره الدلاء، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم، واعتقاده لصحة إمامتهم، حتى لنسب إلى النصب.
قلت: ومن تواليفه: كتاب تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، وقد أخذ المنطق أبعده الله من علم عن: محمد بن الحسن المذحجي، وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين. وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه، ورأيته قد ذكر قول من يقول: أجل المصنفات الموطأ. فقال: بل أولى الكتب بالتعظيم صحيحا البخاري ومسلم، وصحيح ابن السكن، ومنتقى ابن الجارود، والمنتقى لقاسم بن أصبغ، ثم بعدها كتاب أبي داود، وكتاب النسائي، والمصنف لقاسم بن أصبغ، مصنف أبي جعفر الطحاوي.
قلت: ما ذكر سنن ابن ماجة، ولا جامع أبي عيسى؛ فإنه ما رآهما، ولا أدخلا إلى الأندلس إلا بعد موته.
ثم قال: ومسند البزار، ومسند ابني أبي شيبة، ومسند أحمد بن حنبل، ومسند إسحاق، ومسند الطيالسي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند ابن سنجر، ومسند عبد الله ابن محمد المسندي، ومسند يعقوب بن شيبة، ومسند علي بن المديني، ومسند ابن أبي غرزة، وما جرى مجرى هذه الكتب التي أفردت لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم صرفاً، ثم الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره مثل مصنف عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ومصنف بقي بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وكتاب ابن المنذر الأكبر والأصغر، ثم مصنف حماد بن سلمة، وموطأ مالك بن أنس، وموطأ ابن أبي ذئب، وموطأ ابن وهب، ومصنف وكيع، ومصنف محمد بن يوسف الفريابي، ومصنف سعيد بن منصور، ومسائل أحمد بن حنبل، وفقه أبي عبيد، وفقه أبي ثور.
قلت: ما أنصف ابن حزم؛ بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود والنسائي، لكنه تأدب، وقدم المسندات النبوية الصرف، وإن للموطأ لوقعاً في النفوس، ومهابةً في القلوب لا يوازنها شيء. كتب إلينا المعمر العالم أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون من مدينة تونس عام سبع مئة، عن أبي القاسم أحمد بن يزيد القاضي، عن شريح بن محمد الرعيني، أن أبا محمد بن حزم كتب إليه قال: أخبرنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، أخبرنا قاسم بن أصبغ، حدثنا إبراهيم ابن عبد الله، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصوم جنة.
أخرجه مسلم، عن أبي سعيد الأشج، عن وكيع.
وبه: قال ابن حزم: حدثنا أحمد بن محمد الجسوري، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهللنا به معه، فلما قدم قال: من لم يكن معه هدي فليحلل. فأحل الناس إلا من كان معه هدي، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي، ولم يحل.
وبه: قال ابن حزم: حدثني أحمد بن عمر العذري، حدثنا عبد الله ابن الحسين بن عقال، حدثنا عبيد الله بن محمد السقطي، حدثنا أحمد ابن جعفر بن سلم، حدثنا عمر بن محمد الجوهري، حدثنا أحمد بن محمد الأثرم، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا هشيم، أخبرنا حميد، حدثنا بكر بن عبد الله، سمعت أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً. قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج وحده.
وقع لنا هذا في مسند أحمد، فأنا وابن حزم فيه سواء.
وبه: إلى ابن حزم فيما أحرق له المعتضد بن عباد من الكتب يقول:

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الّذي

 

تضمّنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلّـت ركـائبـي

 

وينزل إن أنزل ويدفن في قـبـري

دعوني مـن إحـراق رقٍّ وكـاغـدٍ

 

وقولوا بعلم كي يرى النّاس من يدري

وإلا فعودوا في الـمـكـاتـب بـدأةً

 

فكم دون ما تبغون للّه مـن سـتـر

كذاك النّصارى يحرقون إذا عـلـت

 

أكفّهم القرآن في مـدن الـثّـغـر

وبه لابن حزم:

أُشهد اللّه والـمـلائك أنّـي

 

لا أرى الرّأي والمقاييس دينا

حاش للّه أن أقول سـوى مـا

 

جاء في النّصّ والهدى مستبينا

كيف يخفى على البصائر هذا

 

وهو كالشّمس شهرةً ويقينـا

فقلت مجيباً له:

لو سلمتم من العموم الّـذي

 

نعلم قطعاً تخصيصه ويقينا

وترطّبتم فكم قد يبـسـتـم

 

لرأينا لكم شفوفاً مبـينـا

ولابن حزم:

مناي من الدنيا عـلـومٌ أبـثّـهـا

 

وأنشرها في كلّ بادٍ وحـاضـر

دعاءٌ إلى القرآن والسّنـن الـتـي

 

تناسى رجالٌ ذكرها في المحاضر

وألزم أطراف الثّغور مجـاهـداً

 

إذا هيعةٌ ثـارت فـأوّل نـافـر

لألقى حمامي مقبلاً غير مـدبـرٍ

 

بسمر العوالي والرّقاق البـواتـر

كفاحاً مع الكفار في حومة الوغى

 

وأكرم موتٍ للفتى قتـل كـافـر

فيا ربّ لا تجعل حمامي بغيرهـا

 

ولا تجعلنّي من قطين المقـابـر

ومن شعره:

هل الدّهر إلا ما عرفنا وأدركـنـا

 

فجائعه تبقى ولـذّاتـه تـفـنـى

إذا أمكنـت فـيه مـسـرّة سـاعةٍ

 

تولّت كمرّ الطّرف واستخلفت حزنا

إلى تبعاتٍ في المعـاد ومـوقـفٍ

 

نودّ لديه أنّنـا لـم نـكـن كـنّـا

حنينٌ لما ولّى وشغـلٌ بـمـا أتـى

 

وهمٌّ لما نخشى فعيشـك لا يهـنـا

حصلنا على هـمٍّ وإثـمٍ وحـسـرةٍ

 

وفات الذي كنّا نـلـذّ بـه عـنـا

كأنّ الذي كنّـا نـسـرّ بـكـونـه

 

إذا حقّقته النّفس لفظٌ بلا معـنـى

وله على سبيل الدعابة وهو يماشي أبا عمر بن عبد البر وقد رأى شاباً مليحاً، فأعجب ابن حزم، فقال أبو عمر: لعل ما تحت الثياب ليس هناك، فقال:

وذي عذلٍ فيمن سباني حسـنـه

 

يطيل ملامي في الهوى ويقول

أمن حسن وجهٍ لاح لم تر غيره

 

ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل ؟

فقلت له: أسرفت في اللّوم فاتّئد

 

فعندي ردٌّ لـو أشـاء طـويل

ألم تر أنّي ظاهـريٌّ وأنّـنـي

 

على ما بدا حتّى يقـوم دلـيل

أنشدنا أبو الفهم بن أحمد السلمي، أنشدنا ابن قدامة، أنشدنا ابن البطي، أنشدنا أبو عبد الله الحميدي، أنشدنا أبو محمد علي بن أحمد لنفسه:

لا تشمتن حاسدي إن نكبةٌ عرضت

 

فالدّهر ليس على حال بمـتّـرك

ذو الفضل كالتّبر طوراً تحت ميفعةٍ

 

وتارةً في ذرى تاجٍ على مـلـك

وشعره فحل كما ترى، وكان ينظم على البديه، ومن شعره:

أنا الشّمس في جوّ العلـوم مـنـيرةً

 

ولكنّ عيبي أن مطلعي الـغـرب

ولو أنّني من جانب الشّرق طـالـعٌ

 

لجدّ على ما ضاع من ذكري النّهب

ولي نحو أكناف العـراق صـبـابةٌ

 

ولا غرو أن يستوحش الكلف الصّبّ

فإن ينزل الرّحمن رحلي بـينـهـم

 

فحينئذٍ يبدو التّـأسّـف والـكـرب

هنالك يدرى أنّ لـلـبـعـد قـصّةً

 

وأنّ كساد العلم آفـتـه الـقـرب

وله:

أنائمٌ أنت عن كتب الحـديث ومـا

 

أتى عن المصطفى فيها من الدّين

كمسلمٍ والبخاريّ اللّـذين هـمـا

 

شدّا عرى الدين في نقلٍ وتبـيين

أولى بأجرٍ وتعظيمٍ ومـحـمـدةٍ

 

من كلّ قولٍ أتى من رأي سحنون

يا من هدى بهما اجعلني كمثلهمـا

 

في نصر دينك محضاً غير مفتون

قال ابن حزم في تراجم أبواب صحيح البخاري: منها ما هو مقصور على آية، إذ لا يصح في الباب شيء غيرها، ومنها ما ينبه بتبويبه على أن في الباب حديثاً يجب الوقوف عليه، لكنه ليس من شرط ما ألف عليه كتابه، ومنها ما يبوب عليه، ويذكر نبذةً من حديث قد سطره في موضع آخر، ومنها أبواب تقع بلفظ حديث ليس من شرطه، ويذكر في الباب ما هو في معناه.
وقال في أول الإحكام: أما بعد ... فإن الله ركب في النفس الإنسانية قوىً مختلفة، فمنها عدل يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق، قال تعالى: "إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ" النحل. وقال: "كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ" النساء "وَمنها غضبٌ وشهوةٌ يُزَيّنان لها الجور؛ ويَعميانها عن طريق الرشد" قال تعالى: "وَإذا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ اللّه أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ" البقرة. وقال: "كل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" الروم فالفاضل يسر بمعرفته، والجاهل يسر بما لا يدري حقيقة وجهه وبما فيه وباله، ومنها فهم يليح لها الحق من قريب، وينير لها في ظلمات المشكلات، فترى به الصواب ظاهراً جلياً، ومنها جهل يطمس عليها الطريق، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد، وفي ريب تتلدد، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق تهوراً وإقداماً، قال تعالى: "هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" الزمر ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلاً إلى فهم خطابه، وإلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم، فبها تكون معرفة الحق من الباطل، ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصرة العدل، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح، نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك، قال تعالى: "إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" ق. فأراد بذلك العقل، أما مضغة القلب، فهي لكل أحد، فغير العاقل هو كمن لا قلب له.
وكلام ابن حزم كثير، ولو أخذت في إيراد طرفه وما شذ به، لطال الأمر.
قال أبو القاسم بن بشكوال الحافظ في الصلة له: قال القاضي صاعد بن أحمد: كتب إلي ابن حزم بخطه يقول: ولدت بقرطبة في الجانب الشرقي في ربض منية المغيرة، قبل طلوع الشمس آخر ليلة الأربعاء، آخر يوم من رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، بطالع العقرب، وهو اليوم السابع من نونير.
قال صاعد: ونقلت من خط ابنه أبي رافع، أن أباه توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان، سنة ست وخمسين وأربع مئة، فكان عمره إحدى وسبعين سنةً وأشهراً، رحمه الله.
ومن نظم أبي محمد بن حزم:

لم أشك صدّاً ولم أُذعن بهجران

 

ولا شعرت مدى دهري بسلوان

أسماء لم أدر معناها ولا خطرت

 

يوماً عليّ ولا جالت بمـيدانـي

لكنّما دائي الأدوا الّذي عصفـت

 

عليّ أرواحه قدماً فـأعـيانـي

تفرّقّ لم تزل تسري طـوارقـه

 

إلى مجامع أحبابـي وخـلاّنـي

كأنّما البين بي يأتـمّ حـيث رأى

 

لي مذهباً فهو يتلوني ويغشانـي

وكنت أحسب عندي للنوى جلـداً

 

داءٌ عنا في فؤادي شجوها العاني

فقابلتني بألـوانٍ غـدوت بـهـا

 

مقابلاً من صباباتـي بـألـوان

وممن مات مع ابن حزم في السنة: الحافظ أبو الوليد الحسن بن محمد الدربندي، والفقيه أبو القاسم سراج بن عبد الله بن محمد بن سراج، قاضي الجماعة بقرطبة، والحافظ عبد العزيز بن محمد بن محمد بن عاصم النخشبي، وشيخ العربية أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان ببغداد، ومسند الوقت أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون النرسي، والمحدث أبو سعيد محمد بن علي بن محمد الخشاب النيسابوري، والوزير عميد الملك محمد بن منصور الكندري.
ولابن حزم:

قالوا تحفّظ فإنّ الناس قد كـثـرت

 

أقوالهم وأقاويل الـورى مـحـن

فقلت: هل عيبهم لي غـير أنّـي لا

 

أقول بالرأي إذ في رأيهـم فـتـن

وأنّني مولعٌ بالنّـصّ لـسـت إلـى

 

سواه أنحو ولا في نصـره أهـن

ولا أنثني لمـقـاييس يقـال بـهـا

 

في الدّين بل حسبي القرآن والسّنن

يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي

 

ويا سروري به لو أنّهم فـطـنـوا

دعهم يعضّوا على صمّ الحصى كمداً

 

من مات من قوله عندي له كفـن

القاضي أبو تمام

قاضي واسط، المعمر المسند، أبو تمام، علي بن محمد بن الحسن ابن يزداد البغدادي، الواسطي، المعتزلي.
حدث عن: محمد بن المظفر الحافظ، وأبي الفضل الزهري، وغيرهما. وتفرد في وقته.
ومات في شوال سنة تسع وخمسين وأربع مئة.
قال أبو بكر الخطيب: تقلد قضاء واسط مدة وكان معتزلياً.
قلت: آخر من روى عنه بالإجازة أبو القاسم إسماعيل بن السمرقندي، وبالسماع أبو الكرم نصر الله بن محمد بن الجلخت الأزدي.

السيوري

شيخ المالكية، وخاتم الأئمة بالقيروان، أبو القاسم، عبد الخالق بن عبد الوارث المغربي، السيوري، أحد من يضرب بحفظه المثل في الفقه مع الزهد والتأله.
له تعليقة على المدونة، وتخرج به أئمة.
مات سنة ستين وأربع مئة، عن سن عالية. ذكره عياض.

ابن المسلمة

الشيخ الإمام، الثقة، الجليل، الصالح، مسند الوقت، أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن حسن بن عبيد بن عمرو بن خالد بن الرفيل السلمي، البغدادي، ابن المسلمة. أسلم الرفيل المذكور على يد عمر رضي الله عنه.
ومولد أبي جعفر في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاث مئة.
وسمع أبا الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري، فكان خاتمة أصحابه.
والقاضي أبا محمد بن معروف، وإسماعيل بن سويد، ومحمد بن أخي ميمي، وعيسى بن الوزير، وأبا طاهر المخلص.
حدث عنه: أبو بكر الخطيب، وأبو علي البرداني، وتمرتاش بن بختكين، والقاسم بن طاهر المعقلي، ومحمد بن مطر العباسي، وأبو سعد المبارك بن علي المخرمي الفقيه، وأبو الحسن بن الزاغوني، وأبو عبد الله الحميدي، وأبو الغنائم النرسي، وأبو بكر قاضي المرستان، وأبو الفتح عبد الله بن البيضاوي، ومحمد بن الفرج المعلم، وهبة الله بن محمد الرفيلي، ومحمد بن محمد السلال، وأبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، وأبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، وأبو الفضل محمد بن عمر الأرموي، ومحمد بن أحمد الطرائفي، ومحمد بن علي بن الداية، وأبو تمام أحمد بن محمد بن المختار الهاشمي؛ نزيل نيسابور، وخلق كثير.
وكان صحيح الأصول، كثير السماع، جميل الطريقة.
قال أبو الفضل بن خيرون: كان ثقة صالحاً.
وقال أبو سعد السمعاني: سمعت إسماعيل بن الفضل الحافظ يقول: أبو جعفر ثقة محتشم.
قلت: توفي في تاسع جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربع مئة.
وأبوه:

ابن المسلمة

هو الإمام العابد، الصدوق، أبو الفرج؛ أحمد بن محمد بن عمر المعدل. سمع أبا بكر النجاد، وأحمد بن كامل القاضي، وابن علم، ودعلجاً.
قال الخطيب: كان ثقةً يملي في السنة مجلساً واحداً، وكان موصوفاً بالعقل والفضل والبر، وداره مألف لأهل العلم، وكان صواماً، كثير التلاوة.
مات في ذي القعدة، سنة خمس عشرة وأربع مئة، عن ثمان وسبعين سنة.
قلت: حدث عنه الخطيب، وطراد الزينبي، وغيرهما.
وتفقه على شيخ الحنفية أبي بكر الرازي.
وسرد الصوم وكان يتهجد بسبع القرآن.
قال رئيس الرؤساء: كان جدي يختلف إلى أبي بكر الرازي، ورئي له أنه من أهل الجنة.
وابن أخيه:

رئيس الرؤساء

هو وزير القائم بأمر الله، الصدر المعظم، رئيس الرؤساء، أبو القاسم؛ علي بن الحسن بن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة.
استكتنه القائم، ثم استوزره، وكان عزيزاً عليه جداً، وكان من خيار الوزراء العادلين.
ولد سنة 397.
وسمع من جده، وابن أبي مسلم الفرضي، وإسماعيل الصرصري.
حدث عنه: الخطيب، وكان خصيصاً به، ووثقه، وقال: اجتمع فيه من الآلات ما لم يجتمع في أحد قبله، مع سداد مذهب، ووفور عقل، وأصالة رأي.
قال ابن الجوزي: وزر أبو القاسم في سنة ثلاث وأربعين، ولقب جمال الورى، شرف الوزراء. ولم يبق له ضد إلا البساسيري؛ الأمير المظفر أبو الحارث التركي، فإن أبا الحارث عظم جداً، ولم يبق للملك الرحيم بن بويه معه سوى الاسم، ثم إنه خلع القائم، وتملك بغداد، وخطب بها لصاحب مصر المستنصر، فقتل رئيس الرؤساء أبا القاسم بن المسلمة.
وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: أخرج رئيس الرؤساء وعليه عباءة وطرطور، وفي رقبته مخنقة جلود وهو يقرأ: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ ..." آل عمران ويرددها، فطيف به على جمل، ثم خيط عليه جلد ثور بقرنين، وعلق وفي فكيه كلوبان، وتلف في آخر النهار في ذي الحجة سنة خمسين وأربع مئة.
قلت: كان من علماء الكبراء ونبلائهم.
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق، أخبرنا الفتح بن عبد السلام، أخبرنا محمد بن عمر، ومحمد بن أحمد الطرائفي، ومحمد بن علي قالوا: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد المعدل، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن، سنة ثمانين وثلاث مئة، أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة؛ ريحها طيب وطعمها طيب.
وبه: إلى الفريابي: حدثنا هدبة، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة. متفق عليه.
مات مع ابن المسلمة السلطان ألب آرسلان السلجوقي، وعائشة ابنة أبي عمر البسطامي، وأبو الغنائم بن المأمون، وأبو القاسم بن القشيري، وصردر شاعر وقته أبو منصور علي بن الحسن، والحافظ أبو سعد السكري، وكريمة المروزية، وأبو عثمان محمد بن أحمد بن محمد بن ورقاء، وأبو الحسين بن المهتدي بالله، وأبو المظفر هناد النسفي.

الزهراوي

الإمام، العالم، الحافظ، المجود، محدث الأندلس مع ابن عبد البر، أبو حفص؛ عمر بن عبيد الله بن يوسف بن حامد الذهلي، القرطبي، الزهراوي. ومدينة الزهراء: بعض نهار عن قرطبة، أنشأها الناصر الأموي.
ولد سنة إحدى وستين وثلاث مئة.
وحدث عن: أبي محمد بن أسد، وعبد الوارث بن سفيان، والقاضي أبي المطرف بن فطيس، وأبي عبد الله بن أبي زمنين، وسلمة بن سعيد، وأبي المطرف القنازعي، وعبد السلام بن سمح، وأبي القاسم بن عصفور، وأبي الوليد بن الفرضي، وطبقتهم من أهل قرطبة والزهراء وإشبيلية. وكتب إليه بالإجازة أبو الحسن القابسي، وطائفة.
وكان معتنياً بنقل الحديث وجمعه وسماعه.
حدث عنه: أبو عبد الله بن عتاب، وابنه عبد الرحمن، وابنه الآخر أبو القاسم، وأبو مروان الطبني، وأبو عمر بن مهدي المقرئ، وقال: وكان خيراً ثقة، متصاوناً، قديم الطلب. حدث عنه أبو علي الغساني، وذكر أنه اختلط في آخر عمره.
قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه أبو محمد بن عتاب وقال لي: لحق أبا حفص في آخر عمره خصاصة، فكان يتكفف الناس. قال: وقرأت بخط أبي مروان الطبني: أخبرني أبو حفص الزهراوي قال: شددت ثمانية أحمال كتب لأنقلها إلى مكان، فما تم حتى انتهبها البربر. توفي في صفر، سنة أربع وخمسين وأربع مئة، عن اثنتين وتسعين سنة.

المأمون

ملك طليطلة، أبو زكريا؛ يحيى بن صاحب طليطلة الأمير إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن ذي النون الهواري، الأندلسي.
استولى أبوه على البلد بعد العشرين وأربع مئة، ونزعوا طاعة المروانية، وتملك المأمون بعد أبيه سنة خمس وثلاثين، فامتدت أيامه خمساً وعشرين سنة، عاكفاً على اللذات والخلاعة، وصادر الرعية، وهادن العدو، وقدم الأطراف، فطمعت فيه الفرنج، بل في الأندلس؛ وأخذت عدة حصون إلى أن أخذوا منهم طليطلة في سنة ثمان وسبعين وأربع مئة، وجعلوها دار ملكهم فإنا لله وإنا إليه راجعون وكان المأمون أراد أن يستنجد بالفرنج على تملك مدائن الأندلس، فكاتب طاغيتهم: أن تعال في مئة فارس، والملتقى في مكان كذا، فسار في مئتين، وأقبل الطاغية في ستة آلاف، وجعلهم كميناً له، وقال: إذا رأيتمونا قد اجتمعنا، فأحيطوا بنا. فلما اجتمع الملكان، أحاط بهم الجيش، فندم المأمون، وحار، فقال الفرنجي: يا يحيى ! وحق الإنجيل كنت أظنك عاقلاً، وأنت أحمق ! جئت إلي، وسلمت مهجتك بلا عهد ولا عقد، فلا نجوت مني حتى تعطيني ما أطلب. قال: فاقتصد. فسمى له حصوناً، وقرر عليه مالاً في كل سنة، ورجع ذليلاً مخذولاً، وذلك بما قدمت يداه.
توفي سنة ستين وأربع مئة.

ابن المأمون

الشيخ الإمام، الثقة، الجليل، المعمر، أبو الغنائم، عبد الصمد بن علي بن محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون بن الرشيد الهاشمي، العباسي، البغدادي، شيخ المحدثين ببغداد.
قال أبو سعد السمعاني: كان ثقة، صدوقاً، نبيلاً، مهيباً، كثير الصمت، تعلوه سكينة ووقار، وكان رئيس آل المأمون وزعيمهم. طعن في السن، ورحل إليه الناس، وانتشرت روايته في الآفاق.
سمع أبا الحسن الدارقطني، وعلي بن عمر السكري، وأبا نصر الملاحمي، وجده أبا الفضل بن المأمون، وعبيد الله بن حبابة، وطائفة.
روى لنا عنه: يوسف بن أيوب الهمذاني، ومحمد بن عبد الباقي الفرضي، وأبو منصور القزاز، وغيرهم.
قال الخطيب: كان صدوقاً، كتبت عنه.
قال السمعاني: سألت إسماعيل بن محمد الحافظ عن أبي الغنائم ابن المأمون، فقال: شريف محتشم، ثقة، كثير السماع.
وقال عبد الكريم بن المأمون: ولد أخي أبو الغنائم سنة ست وسبعين وثلاث مئة.
وقال غيره: ولد سنة أربع وسبعين.
قلت: وحدث عنه: الحميدي، وأبي النرسي، وأحمد بن ظفر، وأبو الفتح عبد الله بن البيضاوي، وأبو الفضل محمد بن عمر الأرموي، وروى عنه بعدهم بالإجازة مسعود بن الحسن الثقفي، ثم ظهر أن ذلك ليس بصحيح، فرجع عن الرواية.
مات في سابع عشر شوال، سنة خمس وستين وأربع مئة.

الداوودي

الإمام العلامة، الورع، القدوة، جمال الإسلام، مسند الوقت، أبو الحسن، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ الداوودي، البوشنجي.
مولده في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وثلاث مئة.
وسمع الصحيح ومسند عبد بن حميد وتفسيره، ومسند أبي محمد الدارمي من أبي محمد بن حمويه السرخسي ببوشنج، وتفرد في الدنيا بعلو ذلك، وسمع بهراة من عبد الرحمن بن أبي شريح، وبنيسابور من أبي عبد الله الحاكم، وابن يوسف، وابن محمش، وببغداد من ابن الصلت المجبر، وابن مهدي الفارسي، وعلي بن عمر التمار.
وكان مجيئه إلى بغداد سنة تسع وتسعين وثلاث مئة، فأقام بها أعواماً، وتفقه على أبي حامد، وعلى أبي الطيب الصعلوكي، وأبي بكر القفال، وابن محمش.
وقيل: إنه كان يتقوت بما يحمل إليه من ملك له ببوشنج، ويبالغ في الورع، ومحاسنه جمة. قال أبو سعد السمعاني: كان وجه مشايخ خراسان فضلاً عن ناحيته، والمعروف في أصله وفضله وطريقته، له قدم في التقوى راسخ، يستحق أن يطوى للتبرك به فراسخ، فضله في الفنون مشهور، وذكره في الكتب مسطور، وأيامه غرر، وكلامه درر. قرأ الأدب على أبي علي الفنجكردي. والفقه على عدة، كان ما يأكله يحمل من بوشنج إلى بغداد احتياطاً، صحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السلمي بنيسابور، وصحب فاخراً السجزي ببست في رحلته إلى غزنة، ولقي يحيى بن عمار الواعظ. إلى أن قال: وأخذ في مجلس التذكير والفتوى، والتدريس والتصنيف، وكان ذا حظ من النظم والنثر. حدثنا عنه مسافر بن محمد وأخوه أحمد، وأبو المحاسن أسعد ابن زياد الماليني، وأبو الوقت عبد الأول السجزي، وعائشة بنت عبد الله البوشنجية.
وسمعت يوسف بن محمد بن فاروا الأندلسي، سمعت علي بن سليمان المرادي يقول: كان أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل يقول: سمعت الصحيح من أبي سهل الحفصي، وأجازه لي الداوودي، وإجازة الداوودي أحب إلي من السماع من الحفصي.
وسمعت أسعد بن زياد يقول: كان شيخنا الداوودي بقي أربعين سنةً لا يأكل لحماً، وقت تشويش التركمان، واختلاط النهب، فأضربه، فكان يأكل السمك، ويصطاد له من نهر كبير، فحكي له أن بعض الأمراء أكل على حافة ذلك النهر ونفضت سفرته وما فضل في النهر، فما أكل السمك بعد.
وسمعت محمود بن زياد الحنفي، سمعت المختار بن عبد الحميد البوشنجي يقول: صلى أبو الحسن الداوودي أربعين سنة ويده خارجة من كمه استعمالاً للسنة، واحتياطاً لأحد القولين في وضع اليدين وهما مكشوفتان حالة السجود.
قال السلفي: سألت المؤتمن عن الداوودي، فقال: كان من سادات رجال خراسان، ترك أكل الحيوانات وما يخرج منها منذ دخل التركمان ديارهم. تفقه بسهل الصعلوكي، وبأبي حامد الإسفراييني.
قال ابن النجار: كان من الأئمة الكبار في المذهب، ثقة، عابداً، محققاً، درس وأفتى، وصنف ووعظ.
قال أبو القاسم عبد الله بن علي؛ أخو نظام الملك: كان أبو الحسن الداوودي لا تسكن شفته من ذكر الله، فحكي أن مزيناً أراد قص شاربه، فقال: سكن شفتيك. قال: قل للزمان حتى يسكن. ودخل أخي نظام الملك عليه، فقعد بين يديه، وتواضع له، فقال لأخي: أيها الرجل ! إنك سلطك الله على عباده، فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم.
ومن شعره:

ربّ تقبّل عملـي

 

ولا تخيّب أملـي

أصلح أُموري كلّها

 

قبل حلول الأجل

وله:

يا شارب الخمر اغتنم توبةً

 

قبل التفاف السّاق بالسّـاق

الموت سلطانٌ له سطـوةٌ

 

يأتي على المسقيّ والسّاقي

قال عبد الغافر في تاريخه: ولد الداوودي في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وثلاث مئة.
وقال الحسين بن محمد الكتبي: توفي ببوشنج في شوال، سنة سبع وستين وأربع مئة.
وبوشنج: بشين معجمة وقيل: أوله فاء : بلدة على سبعة فراسخ من هراة. وبعضهم يقول: بسين مهملة.
أنشدنا ابن اليونيني، أخبرنا جعفر، أخبرنا السلفي، أنشدنا أبو السمح الحافظ بتستر، أنشدنا الداوودي ببوشنج لنفسه:

كان اجتماع النّاس فيما مضى

 

يورث البهجة والـسّـلـوه

فانقلب الأمـر إلـى ضـدّه

 

فصارت السّلوة في الخلـوه

وقال عبد الله بن عطاء الإبراهيمي: أنشدنا الداوودي لنفسه:

كان في الاجتماع من قبل نورٌ

 

فمضى النّور وادلهمّ الظّلام

فسد النّاس والزّمان جمـيعـاً

 

فعلى النّاس والزّمان السّلام