الإمام الزاهد، القدوة، الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد
الملك بن طلحة القشيري، الخراساني، النيسابوري، الشافعي، الصوفي،
المفسر، صاحب الرسالة.
ولد سنة خمس وسبعين وثلاث مئة.
وتعانى الفروسية والعمل بالسلاح حتى برع في ذلك، ثم تعلم الكتابة
والعربية، وجود.
ثم سمع الحديث من: أبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف؛ صاحب أبي العباس
الثقفي، ومن أبي نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، وأبي الحسن
العلوي، وعبد الرحمن بن إبراهيم المزكي، وعبد الله بن يوسف، وأبي بكر
بن فورك، وأبي نعيم أحمد بن محمد، وأبي بكر بن عبدوس، والسلمي، وابن
باكويه، وعدة. وتفقه على أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، والأستاذ أبي
إسحاق الإسفراييني، وابن فورك. وتقدم في الأصول والفروع، وصحب العارف
أبا علي الدقاق، وتزوج بابنته، وجاءه منها أولاد نجباء.
قال القاضي ابن خلكان: كان أبو القاسم علامةً في الفقه والتفسير
والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة. صنف التفسير الكبير وهو من
أجود التفاسير، وصنف الرسالة في رجال الطريقة، وحج مع الإمام أبي محمد
الجويني، والحافظ أبي بكر البيهقي. وسمعوا ببغداد والحجاز.
قلت: سمعوا من هلال الحفار، وأبي الحسين بن بشران، وطبقتهما.
قال: وذكره أبو الحسن الباخرزي في كتاب دمية القصر وقال: لو قرع الصخر
بسوط تحذيره، لذاب، ولو ربط إبليس في مجلسه، لتاب.
قلت: حدث عنه أولاده عبد الله، وعبد الواحد، وأبو نصر عبد الرحيم، وعبد
المنعم، وزاهر الشحامي، وأخوه وجيه، ومحمد بن الفضل الفراوي، وعبد
الوهاب بن شاه، وعبد الجبار بن محمد الخواري، وعبد الرحمن بن عبد الله
البحيري، وحفيده أبو الأسعد هبة الرحمن، وآخرون.
ومات أبوه وهو طفل، فدفع إلى الأديب أبي القاسم اليمني، فقرأ عليه
الآداب، وكانت للقشيري ضيعة مثقلة بالخراج بأستوا، فتعلم طرفاً من
الحساب، وعمل قليلاً ديواناً، ثم دخل نيسابور من قريته، فاتفق حضوره
مجلس أبي علي الدقاق، فوقع في شبكته، وقصر أمله، وطلب القبا، فوجد
العبا، فأقبل عليه أبو علي، وأشار عليه بطلب العلم، فمضى إلى حلقة
الطوسي، وعلق التعليقة وبرع، وانتقل إلى ابن فورك، فتقدم في الكلام،
ولازم أيضاً أبا إسحاق، ونظر في تصانيف ابن الباقلاني، ولما توفي حموه
أبو علي تردد إلى السلمي، وعاشره، وكتب المنسوب، وصار شيخ خراسان في
التصوف، ولزم المجاهدات، وتخرج به المريدون.
وكان عديم النظير في السلوك والتذكير، لطيف العبارة، طيب الأخلاق،
غواصاً على المعاني، صنف كتاب نحو القلوب، وكتاب لطائف الإشارات، وكتاب
الجواهر، وكتاب أحكام السماع، وكتاب عيون الأجوبة في فنون الأسولة،
وكتاب المناجاة، وكتاب المنتهى في نكت أولي النهى.
قال أبو سعد السمعاني: لم ير الأستاذ أبو القاسم مثل نفسه في كماله
وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة، أصله من ناحية أستواءة، وهو قشيري
الأب، سلمي الأم.
وقال أبو بكر الخطيب: كتبنا عنه، وكان ثقةً، وكان حسن الوعظ، مليح
الإشارة، يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي، قال
لي: ولدت في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاث مئة.
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن تاج الأمناء في سنة ثلاث وتسعين،
عن أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن، أخبرنا أبو الفتوح عبد الوهاب بن
شاه الشاذياخي، أخبرنا زين الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن،
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك، أخبرنا أبو عوانة، حدثنا يونس بن عبد
الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني سعيد بن
المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يسوق
بقرةً قد حمل عليها، التفتت إليه، وقالت: إني لم أخلق لهذا، إنما خلقت
للحرث. فقال الناس: سبحان الله ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت
بهذا أنا وأبو بكر وعمر.
وبه إلى عبد الكريم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي، سمعت الحسين بن يحيى،
سمعت جعفر بن محمد بن نصير، سمعت الجنيد يقول: قال أبو سليمان
الداراني: ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه
إلا شاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
قال أبو الحسن الباخرزي: ولأبي القاسم فضل النطق المستطاب، ماهر في
التكلم على مذهب أبي الحسن الأشعري، خارج في إحاطته بالعلوم عن الحد
البشري، كلماته للمستفيدين فرائد، وعتبات منبره للعارفين وسائد، وله
نظم تتوج به رؤوس معاليه إذا ختمت به أذناب أماليه. قال عبد الغافر بن
إسماعيل: ومن جملة أحوال أبي القاسم ما خص به من المحنة في الدين،
وظهور التعصب بين الفريقين في عشر سنة أربعين وأربع مئة إلى سنة خمس
وخمسين، وميل بعض الولاة إلى الأهواء، وسعي بعض الرؤساء إليه بالتخليط،
حتى أدى ذلك إلى رفع المجالس، وتفرق شمل الأصحاب، وكان هو المقصود من
بينهم حسداً، حتى اضطر إلى مفارقة الوطن، وامتد في أثناء ذلك إلى
بغداد، فورد على القائم بأمر الله، ولقي قبولاً، وعقد له المجلس في
مجالسه المختصة به، وكان ذلك بمحضر ومرأى منه، وخرج الأمر بإعزازه
وإكرامه، فعاد إلى نيسابور، وكان يختلف منها إلى طوس بأهله، حتى طلع
صبح الدولة ألبآرسلانية فبقي عشر سنين محترماً مطاعاً معظماً.
ومن نظمه:
سقى اللّه وقتاً كنت أخلو بوجـهـكـم |
|
وثغر الهوى في روضة الأُنس ضاحك |
أقمـت زمـانـاً والـعـيون قـريرةٌ |
|
وأصبحت يوماً والجفـون سـوافـك |
أنشدنا أبو الحسين الحافظ، أخبرنا جعفر بن علي، أخبرنا السلفي، أخبرنا القاضي حسن بن نصر بنهاوند، أنشدنا أبو القاسم القشيري لنفسه:
البدر من وجهك مخـلـوق |
|
والسّحر من طرفك مسروق |
يا سـيّداً تـيّمـنـي حـبّـه |
|
عبدك من صدّك مـرزوق |
ولأبي
القاسم أربعون حديثاً من تخريجه سمعناها عالية.
قال عبد الغافر: توفي الأستاذ أبو القاسم صبيحة يوم الأحد السادس
والعشرين من ربيع الآخر، سنة خمس وستين وأربع مئة.
قلت: عاش تسعين سنة.
وقال المؤيد في تاريخه: أهدي للشيخ أبي القاسم فرس، فركبه نحواً من
عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً، ومات بعد أسبوع.
الشيخة، العالمة، الفاضلة، المسندة، أم الكرام؛ كريمة بنت أحمد ابن
محمد بن حاتم المروزية، المجاورة بحرم الله.
سمعت من أبي الهيثم الكشميهني صحيح البخاري، وسمعت من زاهر بن أحمد
السرخسي، وعبد الله بن يوسف بن بامويه الأصبهاني.
وكانت إذا روت قابلت بأصلها، ولها فهم ومعرفة مع الخير والتعبد.
روت الصحيح مرات كثيرة؛ مرةً بقراءة أبي بكر الخطيب في أيام الموسم،
وماتت بكراً لم تتزوج أبداً.
حدث عنها: الخطيب، وأبو الغنائم النرسي، وأبو طالب الحسين بن محمد
الزينبي، ومحمد بن بركات السعيدي، وعلي بن الحسين الفراء، وعبد الله بن
محمد بن صدقة بن الغزال، وأبو القاسم علي بن إبراهيم النسيب، وأبو
المظفر منصور بن السمعاني، وآخرون.
قال أبو الغنائم النرسي: أخرجت كريمة إلي النسخة بالصحيح، فقعدت
بحذائها، وكتبت سبع أوراق، وقرأتها، وكنت أريد أن أعارض وحدي، فقالت:
لا حتى تعارض معي. فعارضت معها.
قال: وقرأت عليها من حديث زاهر.
وقال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعت الوالد يذكر كريمة، ويقول: وهل
رأى إنسان مثل كريمة ؟.
قال أبو بكر: وسمعت بنت أخي كريمة تقول: لم تتزوج كريمة قط، وكان أبوها
من كشميهن، وأمها من أولاد السياري، وخرج بها أبوها إلى بيت المقدس،
وعاد بها إلى مكة، وكانت قد بلغت المئة.
قال ابن نقطة: نقلت وفاتها من خط ابن ناصر سنة خمس وستين وأربع مئة.
قلت: الصحيح موتها في سنة ثلاث وستين.
قال هبة الله بن الأكفاني سنة ثلاث: حدثني عبد العزيز بن علي الصوفي
قال: سمعت بمكة من مخبر بأن كريمة توفيت في شهور هذه السنة.
وقال أبو جعفر محمد بن علي الهمداني: حججت سنة ثلاث وستين، فنعيت إلينا
كريمة في الطريق، ولم أدركها.
العلامة، شيخ الأدب، أبو غالب، محمد بن أحمد بن سهل بن بشران الواسطي،
اللغوي، الحنفي، المعدل. وكان جده للأم هو ابن عم المحدث أبي الحسين بن
بشران.
مولد أبي غالب في سنة ثمانين وثلاث مئة.
وسمع من أبي القاسم علي بن كردان النحوي، وأبي الحسين علي بن دينار،
وأبي عبد الله العلوي، وأحمد بن عبيد بن بيري، وأبي الفضل التميمي،
وعدة.
روى عنه: أبو عبد الله الحميدي، وهبة الله الشيرازي، وعلي بن محمد
الجلابي، وخلق.
وبالإجازة أبو القاسم بن السمرقندي.
قال أبو سعد السمعاني: كان الناس يرحلون إليه لأجل اللغة، وهو مكثر من
رواية كتبها. وقال خميس الحوزي: قرأ كتاب سيبويه على ابن كردان، ولازم
حلقة الشيخ أبي إسحاق الرفاعي؛ تلميذ السيرافي، فكان يقول: قرأت عليه
من أشعار العرب ألف ديوان. قال: وكان جيد الشعر، معتزلياً.
وقال أحمد بن صالح الجيلي: كان أحد شهود واسط، وكان عالماً بالأدب،
راويةً له؛ ثقةً، بارعاً في النحو، صار شيخ العراق في اللغة في وقته،
وانتهت الرحلة إليه في هذا العلم. ثم سرد أسماء مشايخه. حدث عنه:
الحميدي، وأبو الفرج محمد بن عبيد الله قاضي البصرة. إلى أن قال:
أنبأنا ابن السمرقندي، وأبو عبد الله ابن البناء، ومحمد بن علي ابن
الجلابي قالوا: أخبرنا أبو غالب إجازة.
مات في نصف رجب سنة اثنتين وستين وأربع مئة.
قلت: شاخ وعمر.
وفيها مات:
الشيخ
أبو منصور أحمد علي الأسداباذي بتبريز.
يروي عن عبيد الله الصيدلاني، وغيره.
كذبه ابن خيرون.
قيل: عاش ستاً وتسعين سنة.
قال أبو بكر الخطيب: كان مخلطاً مجازفاً، سمع لنفسه على أبي بكر ابن
شاذان.
وفيها مات:
الشيخ
أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الله بن أبي علانة ببغداد فجأةً في
شعبان.
ثقة.
حدث عن أبي طاهر المخلص.
كتب عنه الخطيب، وصحح سماعه.
وعاش اثنتين وثمانين سنة.
وفيها توفي بالقدس أبو الغنائم محمد بن محمد بن محمد بن الغراء البصري
المقرئ.
أبو
الحسن، علي بن محمد بن جعفر الطريثيثي اللحساني، ويقال: اللحاسي.
حدث عن: أبي الحسين الخفاف، وأبي معاذ الشاه، ومحمد بن جعفر الماليني.
حدث عنه: زاهر الشحامي، ومنصور بن أحمد الطريثيثي.
بقي إلى سنة ستين وأربع مئة.
القاضي الشريف، أبو الحسن، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد
الصمد بن المهتدي بالله.
ولد في شوال سنة أربع وثمانين وثلاث مئة.
وسمع من عثمان بن عيسى الباقلاني الزاهد، والحافظ أبي بكر بن بكير،
وابن رزقويه.
روى عنه: أبو بكر القاضي، ويحيى بن الطراح، وطائفة. ومن أقرانه: الحافظ
أبو بكر الخطيب، وأبو علي البرداني.
قال الخطيب: كان صدوقاً، قال: إنه قرأ القرآن على أبي القاسم
الصيدلاني، وسمع منه، لكن لم يكن عنده ما سمع منه.
قال أحمد بن صالح: كان ثقةً مأموناً، مات في جمادى الأولى، سنة أربع
وستين وأربع مئة.
ومات معه: أبو طاهر المبارك بن الحسين الأنصاري البغدادي الصفار. ثقة
سري، يروي عن: أبي أحمد الفرضي، وبكر بن محمد بن حيد النيسابوري بالري.
وأبو بكر محمد بن علي بن عبيد الله الطحان، يوم الفطر. يروي عن ابن
سمعون، وكان صالحاً.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاده الأصبهاني القاضي فجأة بسواد
العراق. يروي عن أبي عمر بن مهدي، روى عنه: قاضي المرستان، ومفلح
الدومي، وابن الطراح، ويحيى بن البناء.
الصاحب، الوزير، العلامة، أبو الوليد، أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن
غالب بن زيدون المخزومي، القرشي، الأندلسي، القرطبي، الشاعر، حامل لواء
الشعر في عصره.
قال ابن بسام: كان غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من
جر الأيام جراً، وفاق الأنام طراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع
البيان نظماً ونثراً، إلى أدب ما للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه، وشعر
ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم اقترانه.
إلى أن قال: وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، فانتقل منها إلى عند
صاحب إشبيلية المعتضد بن عباد، بعد الأربعين وأربع مئة، فجعله من
خواصه، وبقي معه في صورة وزير، وهو صاحب هذه الكلمة البديعة:
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحـنـا |
|
شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينـا |
كنّا نرى اليأس تسلينا عوارضه |
|
وقد يئسنا فما لليأس يغـرينـا |
نكاد حين تناجيكم ضمـائرنـا |
|
يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا |
حالت لفقدكم أيّامنـا فـغـدت |
|
سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينـا |
ليسق عهدكم عهد السّرور فما |
|
كنتم لأرواحنا إلاّ رياحـينـا |
توفي
في رجب سنة ثلاث وستين وأربع مئة.
وقد وزر ابنه أبو بكر للمعتمد بن عباد.
الإمام العالم الخطيب، المحدث الحجة، مسند العراق، أبو الحسين؛ محمد بن
علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن محمد بن المهتدي بالله أمير
المؤمنين محمد بن الواثق هارون بن المعتصم الهاشمي، العباسي، البغدادي،
المعروف بابن الغريق، سيد بني هاشم في عصره.
ولد في ذي القعدة سنة سبعين وثلاث مئة.
وسمع الدارقطني، وعمر بن شاهين، فكان آخر من حدث عنهما، وعلي بن عمر
السكري، ومحمد بن يوسف بن دوست، وأبا الفتح يوسف القواس، وأبا القاسم
بن حبابة، وأبا الطيب عثمان بن منتاب، وأبا حفص الكناني، والمخلص،
وعيسى بن الوزير، وإدريس بن علي، وعلي بن عمر المالكي القصار، وعدة.
ومشيخته في جزين مروية.
حدث عنه: الخطيب، والحميدي، وشجاع الذهلي، ومحمد بن طرخان التركي،
والمفتي يوسف بن علي الزنجاني، ويحيى بن عبد الرحمن الفارقي، وأبو بكر
محمد بن عبد الباقي الفرضي، ويوسف بن أيوب الهمذاني، والقاضي أبو الفضل
محمد بن عمر الأرموي، وأبو منصور القزاز، وخلق كثير.
قال الخطيب: كان ثقة نبيلاً، ولي القضاء بمدينة المنصور، وهو ممن شاع
أمره بالعبادة والصلاح، حتى كان يقال له: راهب بني هاشم، كتبت عنه.
وقال أبو سعد السمعاني: حاز أبو الحسين قصب السبق في كل فضيلة، عقلاً
وعلماً وديناً، وحزماً وورعاً ورأياً، وقف عليه علو الرواية، ورحل
الناس إليه من البلاد، ثقل سمعه بأخرة، فكان يتولى القراءة بنفسه مع
علو سنه، وكان ثقةً، حجة، نبيلاً، مكثراً.
وقال أبي النرسي: كان ثقةً يقرأ للناس، وكانت إحدى عينيه ذاهبة.
وقال أبو الفضل بن خيرون: كان صائم الدهر زاهداً، وهو آخر من حدث عن
الدارقطني وابن دوست، وهو ضابط متحر، أكثر سماعاته بخطه، ما اجتمع في
أحد ما اجتمع فيه، قضى ستاً وخمسين سنة، وخطب ستاً وسبعين سنة لم تعرف
له زلة، وكانت تلاوته أحسن شيء.
قال أبو بكر بن الخاضبة: رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأن من يقول: أين
ابن الخاضبة ؟ فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلت استلقيت على قفاي، ووضعت
إحدى رجلي على الأخرى، وقلت: آه ! استرحت والله من النسخ. فرفعت رأسي،
فإذا ببغلة مسرجة ملجمة في يد غلام، فقلت: لمن هذه ؟ فقال: للشريف أبي
الحسين بن الغريق. فلما كان في صبيحة تلك الليلة، نعي إلينا أبو الحسين
رحمه الله.
وقال الزاهد يوسف الهمذاني: انطرش أبو الحسين، فكان يقرأ علينا، وكان
دائم العبادة، قرأ علينا حديث الملكين، فبكى بكاء عظيماً، وأبكى
الحاضرين.
قال ابن خيرون: مات في أول ذي الحجة سنة خمس وستين وأربع مئة.
وفيها مات السلطان عضد الدولة أبو شجاع آرسلان بن جغريبك، واسم جغريبك:
داود بن ميكال بن سلجوق بن تقاق بن سلجوق التركي الملك العادل، وجدهم
تقاق تفسيره: قوس حديد، فكان أول من أسلم من الترك من السلجوقية، له
ممالك واسعة، ومواقف مشهودة، وترجمته في تاريخ الإسلام.
وفيها مات الملك ملك الأمراء ناصر الدولة حسين بن الحسن بن حسين ابن
صاحب الموصل ناصر الدولة بن حمدان؛ أحد الأبطال، جرت له حروب وعجائب،
وأظهر بمصر السنة، وكان عمالاً على إقامة الدولة لبني العباس، وقهر
العبيدية، وتهيأت له الأسباب، وترك المستنصر على برد الديار، وأباد
الكبار، إلى أن وثب عليه أتراك، فقتلوه، وقد ولي نيابة دمشق مرة، وأبوه
سيف الدولة.
الشيخ
المسند، أبو سهل، محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي، الحفصي، راوي
صحيح البخاري عن أبي الهيثم الكشميهني، صاحب الفربري. حدث به بمرو
ونيسابور.
وكان رجلاً مباركاً من العوام، أكرمه نظام الملك، وسمع منه، ووصله
بجملة.
روى عنه: الشيخ أبو حامد الغزالي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وعبد
الوهاب بن شاه الشاذياخي، ووجيه بن طاهر الشحامي، وهبة الرحمن حفيد
القشيري، وخلق سواهم.
قال أبو سعد السمعاني: لم يحدث بالصحيح بمرو، وحمله النظام الوزير إلى
نيسابور، فحدث بالصحيح في النظامية، وسمع منه عالم لا يحصون، وانصرف في
سنة خمس وستين وأربع مئة، وفيها مات.
وهو محمد بن أحمد بن عبيد الله بن عمر بن سعيد بن حفص، فنسب إلى الجد،
فقيل: الحفصي.
وقيل: مات في سنة ست وستين. وفيها توفي أبو بكر جماهر بن عبد الرحمن
الحجري الطليطلي شيخ المالكية، والحافظ أبو علي الحسن بن عمر بن يونس
الأصبهاني، وعائشة بنت حسن الوركانية، والفقيه عبد الحق بن محمد
الصقلي، وعبد العزيز الكتاني محدث دمشق، وأبو مسلم عمر بن علي الليثي،
والحافظ أبو بكر محمد بن إبراهيم العطار، وأبو المكارم محمد بن سلطان
بن حيوس الفرضي، وأبو بكر يعقوب بن أحمد الصيرفي.
الشيخ
الرئيس الثقة، المسند، أبو بكر؛ يعقوب بن أحمد بن محمد النيسابوري.
سمع أبا محمد المخلدي، وأبا الحسين الخفاف، وأبا نعيم أحمد بن محمد بن
إبراهيم الأزهري، وأبا عبد الله الحاكم.
حدث عنه: محمد بن الفضل الفراوي، وزاهر بن طاهر، وأخوه وجيه، وإسماعيل
بن أبي صالح المؤذن، وهبة الرحمن ابن القشيري، وآخرون.
وكان صحيح الأصول محتشماً.
مات في سابع ربيع الأول سنة ست وستين وأربع مئة.
وقع لنا من عواليه بإجازة.
ابن
حسن بن محمد بن أحمد بن محمويه، الشيخ المسند، أبو الحسن البغدادي
الحنائي العطار.
سمع أبا حفص الكتاني، وأبا طاهر المخلص.
وعنه: الخطيب، والحميدي، وأبو بكر بن عبد الباقي، وأبو منصور القزاز،
ويحيى بن الطراح، ومحمد بن عمر الأرموي، وآخرون.
مات في شوال سنة أربع وستين وأربع مئة.
قال الخطيب: كتبت عنه، وسماعه صحيح.
وفيها مات: أحمد بن عثمان بن المخبزي، وأبو منصور بكر بن محمد ابن علي
بن محمد بن حيد، والمعتضد عباد بن محمد، والشريف أبو الحسن محمد بن
أحمد بن محمد بن عبد الله بن المهتدي بالله في جمادى الأولى عن ثمانين
سنة.
مسند
واسط، الثقة، أبو محمد؛ الحسن بن أحمد بن موسى بن داذ ابن فروخ
الغندجاني.
مولده ببغداد: فأكثر باعتناء أبيه، وابن عمه أبي أحمد عبد الوهاب بن
محمد عن المخلص، وعمر الكتاني، وأبي أحمد الفرضي، وإسماعيل الصرصري،
وابن مهدي.
وسكن الأهواز، ثم واسطاً؛ كان عاملها.
روى عنه: الحميدي، ومحمد بن علي الجلابي، وطائفة.
قال خميس: هو نبيل جليل، صحيح الأصول، صدوق، ثقة، مات في أواخر سنة سبع
وستين وأربع مئة.
وقال أبو الفضل بن خيرون: مات في أول جمادى الأولى سنة ثمان.
الإمام الحافظ، المفيد الصدوق، محدث دمشق، أبو محمد، عبد العزيز بن
أحمد بن محمد بن علي بن سليمان التميمي، الدمشقي، الكتاني، الصوفي.
ولد سنة تسع وثمانين وثلاث مئة.
وسمع تمام بن محمد الرازي، وصدقة بن الدلم، وأبا نصر بن هارون، وأبا
محمد بن أبي نصر، ومحمد بن عبد الرحمن القطان، وخلقاً كثيراً بدمشق،
وأحمد ومحمد ابني الصياح ببلد، ومن أبي الحسن بن الحمامي، وعلي بن داود
الرزاز، ومحمد بن الروزبهان، وأبي القاسم الحرفي، وخلق ببغداد، وسمع
بالموصل ومنبج ونصيبين، وكتب العالي والنازل، حتى إنه كتب تاريخ بغداد
عن أبي بكر الخطيب.
حدث عنه: الخطيب، والحميدي، وأبو الفتيان الدهستاني، وأبو القاسم
النسيب، وهبة الله بن الأكفاني، وعبد الكريم بن حمزة، وإسماعيل ابن
السمرقندي، وأحمد بن عقيل الفارسي، وأبو المفضل يحيى بن علي القرشي،
وخلق سواهم.
وجمع وصنف، ومعرفته متوسطة، وأول سماعه في سنة سبع وأربع مئة.
قال ابن ماكولا: كتب عني، وكتبت عنه، وهو مكثر متقن.
وقال الخطيب: ثقة أمين.
وقال الأكفاني: كان كثير التلاوة، صدوقاً، سليم المذهب. مات في جمادى
الآخرة، سنة ست وستين وأربع مئة.
قال ابن الأكفاني: أجاز لكل من أدرك حياته قبل موته مروياته.
قلت: روى عنه بهذه الإجازة محفوظ بن صصرى، وجماعة.
وكان مديماً للتلاوة، مكباً على طلب الحديث، وقد اشتاق أبوه إليه،
وسافر خلفه إلى بغداد، فوجده قد طبخ رزاً بلحم، فقربه إليه، فقال: يا
بني ! قد عرفت عادتي وكان قد هجر أكل الرز خشية أن يبتلع فيه عظماً
فيقتله فقال: كل، لا يكون إلا الخير. فأكل، فابتلع عظماً، فمات. رواها
ابن عساكر، عن جمال الإسلام، عن ابن أبي العلاء، أو عن الكتاني.
وكان أبوه صوفياً يكنى أبا طاهر؛ حدث عن يوسف الميانجي.
الإمام الواعظ المعدل، أبو الحسن؛ أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد
الإسماعيلي النيسابوري الحاكم. حدث عن: أبي الحسين الخفاف، ويحيى بن
إسماعيل الحربي، وأبي العباس السليطي، وأبي علي الروذباري، وجماعة.
وحدث بسنن أبي داود عن الحسن بن داود بن رضوان السمرقندي؛ صاحب ابن
داسه. وقيل: سمعه أيضاً من أبي علي الروذباري.
حدث عنه: إسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وزاهر بن طاهر الشحامي، وأخوه
وجيه، وعبد الغافر بن إسماعيل.
ووثقه عبد الغافر، والسمعاني.
مات في جمادى الآخرة، سنة تسع وستين وأربع مئة، وقد قارب التسعين.
أخبرنا أحمد بن هبة الله في سنة أربع وتسعين، عن عبد المعز بن محمد،
أخبرنا زاهر بن طاهر، أخبرنا أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا أبو الحسين
الخفاف، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا هناد بن السري، حدثنا وكيع،
عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: لا يتحرى أحدكم بصلاة طلوع الشمس ولا غروبها.
عبد الله بن نافع ضعفوه.
الشيخ
الجليل، المعمر، مسند خراسان، أبو بكر؛ محمد بن أبي الهيثم عبد الصمد
بن أبي عبد الله المروزي الترابي.
حدث، وعمر، وتفرد عن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي؛ صاحب ابن
الضريس، والحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدادي، وعبد الله بن أحمد
بن حمويه السرخسي، ومحمد بن أحمد الدورقي المروزي، وطائفة.
حدث عنه: الإمام أبو المظفر السمعاني، وعلي بن الفضل الفارمذي، ومحيي
السنة البغوي، وآخرون.
مات في شهر رمضان، سنة ثلاث وستين وأربع مئة، وله ست وتسعون سنة، ولم
يقع لي حديثه إلا بنزول.
الأجل، المسند، المعروف بالشيخ المؤتمن، أبو منصور بكر بن محمد بن علي
بن محمد بن حيد النيسابوري التاجر.
حدث بهمذان وببغداد، وتنقل في التجارة.
يروي عن: أبي الحسين الخفاف، ومحمد بن الحسين العلوي، وابن عبدوس، وابن
بامويه.
قال شيرويه: فاتني السماع منه.
وقال السمعاني: حدثنا عنه محمد بن عبد الباقي الأنصاري، وسعيد بن أبي
الرجاء، وإسماعيل بن علي الحمامي، وسمع منه جدي، وأبو بكر الخطيب وأثنى
عليه.
مات في صفر سنة أربع وستين وأربع مئة.
ابن
عثمان المحدث، المسند، أبو الحسين الأزدي المصري.
سمع القاضي علي بن محمد بن إسحاق الحلبي، ومحمد بن أحمد الإخميمي،
والمؤمل بن أحمد الشيباني، والميمون بن حمزة الحسيني، وعبد الكريم بن
أبي جدار الصواف، وأبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب، وأبا علي أحمد بن
خرشيذ قوله، وجده لأمه أحمد بن عبد الله بن رزيق البغدادي، وطائفة. حدث
بدمشق وبمصر.
روى عنه: أبو بكر الخطيب، وابن ماكولا، والفقيه نصر المقدسي، وعبد الله
بن أحمد بن السمرقندي، وعلي بن إبراهيم النسيب، وهبة الله بن الأكفاني،
وعبد الكريم بن حمزة، وطاهر بن سهل الإسفراييني، وأبو القاسم ابن
بطريق، وعدة.
وثقه الكتاني، وقال: توفي في نصف جمادى الأولى سنة إحدى وستين وأربع
مئة.
مولده كان في سنة أربع وثمانين وثلاث مئة. سمعوه في الصغر.
أخبرنا عمر بن عبد المنعم، أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد في
كتابه سنة ثمان وست مئة، أخبرنا طاهر بن سهل سنة خمس وعشرين وخمس مئة،
أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي، أخبرنا جدي أحمد بن عبد الله بن رزيق،
حدثنا عبد الرحمن بن رشدين المهري، أخبرنا الحارث بن مسكين، حدثنا ابن
عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: اقتلوا الحيات، وذا الطفيتين، والأبتر، فإنهما يلتمسان البصر،
ويسقطان الحبل.
العدل، المسند، الصدوق، أبو حامد؛ أحمد بن الحسن بن محمد ابن الحسن بن
أزهر الأزهري، النيسابوري، الشروطي، من أولاد المحدثين.
سمع من أبي محمد المخلدي، وأبي سعيد بن حمدون، وأبي الحسين الخفاف. وله
أصول متقنة.
حدث عنه: زاهر ووجيه ابنا طاهر، وعبد الغافر بن إسماعيل، وآخرون.
توفي في رجب، سنة ثلاث وستين وأربع مئة.
وكان مولده في سنة أربع وسبعين وثلاث مئة، وله بصر بالشروط. وقع لي من
عواليه.
الشيخ
الصدوق، مسند هراة، أبو عمر عبد الواحد بن أحمد بن أبي القاسم بن محمد
بن داود بن أبي حاتم المليحي الهروي. سمع أبا محمد المخلدي، وأبا
الحسين الخفاف، وعبد الرحمن بن أبي شريح، ومحمد بن محمد بن سمعان، وأبا
حامد أحمد بن عبد الله النعيمي، وجماعة. وروى صحيح البخاري عن النعيمي.
حدث عنه: محيي السنة أبو محمد البغوي، وخلف بن عطاء الماوردي، وإسماعيل
بن منصور المقرئ، ومحمد بن إسماعيل الفضيلي، وآخرون.
قال المؤتمن الساجي: كان ثقةً صالحاً، قديم المولد، سماعه للبخاري
بقراءة أبي الفتح بن أبي الفوارس.
قال الحسين بن محمد الكتبي: توفي في جمادى الآخرة، سنة ثلاث وستين
وأربع مئة وله ست وتسعون سنة.
ومليح: من قرى هراة.
صاحب
إشبيلية، أبو عمرو، عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي الأندلسي،
ابن القاضي أبي القاسم.
حكم أبوه على إشبيلية مدةً، ومات في سنة 433، فقام عباد بعده، وتلقب
بالمعتضد بالله.
وكان شهماً، مهيباً، شجاعاً، صارماً، جرى على قاعدة أبيه مدةً، ثم خوطب
بأمير المؤمنين. قتل جماعةً صبراً، وصادر الكبار، وتمكن. اتخذ في قصره
خشباً جللها برؤوس أمراء وكبار، وكانوا يشبهونه بالمنصور، لكن مملكة
هذا سعة ستة أيام، ومملكة أبي جعفر مسيرة ثمانية أشهر في عرض أشهر، وقد
هم ابنه بقتله، فما تم له، وسجنه أبوه، ثم قتله، ثم عهد بالملك إلى
ابنه المعتمد محمد، وكان جباراً عسوفاً.
مات سنة أربع وستين وأربع مئة، وقام بعده ابنه.
قيل: لما رأى ميل الكبار إلى خليفة مرواني أخبرهم بأن المؤيد بالله
الذي زال ملكه سنة أربع مئة عنده، وأحضر جماعةً شهدوا له، وقال: أنا
حاجبه. وأمر بذكره على المنابر، واستمر ذلك مدةً إلى أن نعاه إلى الناس
في سنة خمس وخمسين وأربع مئة. وزعم أنه عهد إليه بالخلافة. وهذا محال
لا يروج أصلاً، ولو كان المؤيد حيا إلى حين نعاه، لكان ابن مئة عام
وزيادة.
وقيل: إن طاغية الفرنج سم المعتضد في ثياب أهداها له.
ابن
نصر بن إسحاق بن عمرو، الإمام الحافظ الجوال، أبو زكريا التميمي،
البخاري.
سمع بالشام والحجاز، واليمن ومصر والعراق، والثغر وخراسان، وبخارى
والقيروان.
حدث عن: أبي نصر أحمد بن علي الكاتب، ومحمد بن أحمد غنجار، وأبي عبد
الله الحسين بن الحسين الحليمي، وحمزة بن عبد العزيز المهلبي، وأبي عمر
بن مهدي الفارسي، وهلال بن محمد الحفار، وأبي محمد بن البيع؛ صاحب
المحاملي، وتمام بن محمد الرازي، وعبد الغني ابن سعيد الحافظ، وخلق
كثير.
حدث عنه: أبو نصر عبد الوهاب بن الجبان المري؛ أحد شيوخه، وعلي بن محمد
الحنائي، والفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي، ومشرف بن علي، وعلي بن
الحسين الفراء، وجميل بن يوسف، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي
وعدة.
مولده في سنة اثنتين وثمانين وثلاث مئة.
وأكبر شيخ له إبراهيم بن محمد بن يزداذ، صاحب ابن أبي حاتم.
قال الرازي في مشيخته: دخل أبو زكريا بلاد المغرب وبلاد الأندلس، وكتب
بها، وفي شيوخه كثرة، وكان من الحفاظ الأثبات، ومات في سنة إحدى وستين
وأربع مئة.
وقال ابن طاهر: حدثنا سعد الزنجاني، قال: لم يرو كتاب مشتبه النسبة عن
مؤلفه عبد الغني سوى ابن بنته علي بن البقاء، وابن عبد الرحيم البخاري
حدث به.
في قول الزنجاني نظر، فإن رشأ بن نظيف قد رواه أيضاً، وهو وعبد الرحيم
ثقتان، والله أعلم.
أنبأنا المسلم بن محمد، عن القاسم بن علي، أخبرنا أبي، أخبرنا أبو
الحسن علي بن المسلم، حدثنا عبد العزيز الكتاني، أخبرنا أبو نصر عبد
الوهاب بن عبد الله المري، حدثني عبد الرحيم بن أحمد البخاري، قدم
علينا، أخبرنا أحمد بن نصر الكاتب ببخارى، أخبرنا أبو نصر أحمد بن سهل،
حدثنا قيس بن أنيف، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سليمان المكي،
حدثنا عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن
علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغسلوا ثيابكم، وخذوا من
شعوركم، واستاكوا، وتزينوا. فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت
نساؤهم. أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا جعفر بن علي، أخبرنا عبد الله بن
عبد الرحمن الديباجي، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجارود، حدثنا عبد الرحيم
بن أحمد الحافظ إملاءً، أخبرنا محمد بن إبراهيم البصري ببيت المقدس،
حدثنا أحمد بن سلام الطرسوسي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد
الطرسوسي، حدثنا يعلى ومحمد ابنا عبيد قالا: حدثنا الأعمش، عن خيثمة،
عن سويد بن غفلة: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: إذا حدثتكم عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فإني والله لأن أخر من السماء فتخطفني
الطير أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيننا، فإن الحرب
خدعة. أخرجه مسلم.
ومات معه أبو معمر أحمد بن عبد الواحد البالكي الهروي؛ راوي الجعديات،
عن ابن أبي شريح، وأبو عمر أحمد بن محمد بن مسعود الجذامي البزلياني
القاضي؛ صاحب ابن زرب وأبي عبد الله بن مفرج عن مئة سنة، وأبو الحسين
محمد بن مكي بن عثمان الأزدي المصري، ومقرئ مصر أبو الحسين نصر بن عبد
العزيز الفارسي، ومحدث بخارى عمر بن منصور البزاز، وأبو الحسن أحمد بن
الحسن بن علي بن الفضل الكاتب وقد شاخ، والمظفر بن الحسن سبط ابن لال
الهمذاني، وأبو طاهر عبد الباقي بن محمد الأنصاري صهرهبة، وأبو طاهر
أحمد بن الحسين بن أبي حنيفة؛ روى عن أحمد السوسنجردي، ومختار بن محمد
بن محمد النجار؛ أحد الشعراء، والقدوة أبو محمد عبد الله بن البرداني
زاهد بغداد.
ابن
محمد بن أحمد، العلامة شيخ الشافعية بخراسان، أبو علي المروذي. ويقال
له أيضاً: المروروذي الشافعي.
حدث عن: أبي نعيم سبط الحافظ أبي عوانة.
حدث عنه: عبد الرزاق المنيعي، ومحيي السنة البغوي، وجماعة، وهو من
أصحاب الوجوه في المذهب.
تفقه بأبي بكر القفال المروزي.
وله التعليقة الكبرى والفتاوى وغير ذلك، وكان من أوعية العلم، وكان
يلقب بحبر الأمة.
ومما نقل في التعليقة أن البيهقي نقل قولاً للشافعي: أن المؤذن إذا ترك
الترجيع في أذانه لم يصح أذانه.
وقيل: إن إمام الحرمين تفقه عليه أيضاً. ومن أنبل تلامذته محيي السنة
صاحب التهذيب.
مات القاضي حسين بمرو الروذ في المحرم سنة اثنتين وستين وأربع مئة.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن محمد بن سياوش الكازروني، والحسن بن علي بن
عبد الصمد اللباد المقرئ، وعبد الله بن الحسن التنيسي ابن النحاس،
ووالد قاضي المارستان، وعبد الله ابن إبراهيم بن كبيبة الدمشقي، وأبو
غالب محمد بن أحمد بن سهل الواسطي ابن الخالة، والمفتي محمد بن عتاب
بقرطبة، وأبو الغنائم محمد بن محمد بن الغراء ببيت المقدس، وصاحب الغرب
أبو بكر بن عمر اللمتوني.
الشيخ
الأمين المعمر، أبو الغنائم؛ محمد بن علي بن علي بن حسن ابن الدجاجي
البغدادي، محتسب بغداد.
حدث عن: علي بن عمر الحربي، وأبي محمد بن معروف، وإسماعيل ابن سويد،
وطائفة وله إجازة من المعافى بن زكريا.
حدث عنه: أبو عبد الله الحميدي، وشجاع الذهلي، وناصر بن علي الباقلاني،
وطلحة بن أحمد العاقولي، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبو منصور
القزاز، وآخرون.
قال الخطيب: كان سماعه صحيحاً، مات في سلخ شعبان سنة ثلاث وستين وأربع
مئة، عن ثلاث وثمانين سنة.
ولي الحسبة، فلم يحمد، فصرف.
قال السمعاني: قرأت بخط هبة الله السقطي أن ابن الدجاجي كان ذا وجاهة
وتقدم وحال واسعة، وعهدي به وقد أخنى عليه الزمان، وقصدته في جماعة
مثرين لنسمع منه وهو مريض، فدخلنا وهو على بارية، وعليه جبة قد حرقت
النار فيها، وليس عنده ما يساوي درهماً، فحمل على نفسه حتى قرأنا عليه
بحسب شره أهل الحديث، فلما خرجنا قلت: هل معكم ما نصرفه إلى الشيخ ؟
فاجتمع له نحو خمسة مثاقيل، فدعوت بنته، وأعطيتها، ووقفت لأرى تسليمها
له، فلما أعطته؛ لطم حر وجهه، ونادى: وافضيحتاه: آخذ على حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عوضاً ؟ لا والله. ونهض حافياً إلي، وبكى،
فأعدت الذهب إليهم، فتصدقوا به.
العلامة، كبير الشافعية، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن فوران
المروزي الفقيه، صاحب أبي بكر القفال.
له المصنفات الكبيرة في المذهب. وكان سيد فقهاء مرو.
وسمع علي بن عبد الله الطيسفوني، والقفال المروزي. حدث عنه: عبد الرحمن
بن عمر المروزي، وعبد المنعم بن أبي القاسم القشيري، وزاهر بن طاهر،
وآخرون.
صنف كتاب الإبانة، وغير ذلك.
وهو شيخ الفقيه أبي سعد المتولي، صاحب التتمة يعني تتمة كتاب الإبانة
فالتتمة كالشرح للإبانة. وقد أثنى أبو سعد المتولي على الفوراني في
خطبة كتاب التتمة، وسمع منه أيضاً محيي السنة البغوي.
وكان إمام الحرمين يحط على الفوراني، حتى قال في باب الأذان: هذا الرجل
غير موثوق بنقله. وقد نقم الأئمة على إمام الحرمين ثوران نفسه على
الفوراني، وما صوبوا صورة حطه عليه، لأن الفوراني من أساطين أئمة
المذهب.
توفي سنة إحدى وستين وأربع مئة، وقد شاخ رحمه الله.
الشيخ
الجليل، الحاج الرئيس أبو علي حسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن أحمد بن
عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن سيف الله خالد بن
الوليد المخزومي، الخالدي، المنيعي، المروروذي.
سمع أبا طاهر بن محمش، وأبا القاسم بن حبيب، وأبا الحسن بن السقا،
وطائفة.
روى عنه: محيي السنة أبو محمد البغوي، وعبد المنعم بن القشيري، وعبد
الوهاب بن شاه، وآخرون.
قال عبد الغافر: هو الرئيس أبو علي الحاجي، شيخ الإسلام المحمود
بالخصال السنية، عم الآفاق بخيره وبره، وكان في شبابه تاجراً، ثم عظم
حتى كان من المخاطبين من مجالس السلاطين، لم يستغنوا عن رأيه، فرغب إلى
الخيرات، وأناب إلى التقوى، وبنى المساجد والرباطات وجامع مرو الروذ،
يكسو في الشتاء نحواً من ألف نفس، وسعى في إبطال الأعشار عن بلده، ورفع
الوظائف عن القرى، واستدعى صدقة عامةً على أهل البلد غنيهم وفقيرهم،
فتدفع إلى كل واحد خمسة دراهم، وتم ذلك بعده، وكان ذا تهجد وصيام
واجتهاد.
قال السمعاني: كان في شبابه يجمع بين الدهقنة والتجارة، ويسلك طريق
الفتيان حتى ساد، ولما تسلطن سلجوق، ظهر أمره، وبنى الجامع ببلده، ثم
بنى الجامع الجديد بنيسابور.
وقيل: إن امرأةً أتته بثوب لينفق ثمنه في بناء الجامع، يساوي نصف
دينار، فاشتراه منها بألف دينار، وسلمت المال إلى الخازن لإنفاقه، وخبأ
الثوب كفناً له.
وقيل: مر السلطان بباب مسجده، فنزل مراعاةً له، وسلم عليه. ومناقبه
جمة.
مات في ذي القعدة، سنة ثلاث وستين وأربع مئة.
الشيخ
الإمام، الحافظ، الرحال، المفيد، عبد العزيز بن محمد بن محمد بن عاصم
النسفي. ونسف: هي نخشب.
صحب الحافظ جعفر بن محمد المستغفري، وأكثر عنه، وأدرك ببغداد محمد بن
محمد بن غيلان، ومحمد بن الحسين الحراني، وبأصبهان أبا بكر بن ريذة،
وبدمشق والأقاليم.
حدث عنه: أبو القاسم بن أبي العلاء، وسهل بن بشر الإسفراييني، وطائفة.
قال أبو سعد السمعاني: سألت إسماعيل بن محمد الحافظ عنه، فجعل يعظمه
جداً، ويقول: ذاك النخشبي، ذاك النخشبي، كان حافظاً كثيراً.
وقال السلفي: سألت المؤتمن الساجي عن عبد العزيز النخشبي، فقال: كان
الحفاظ مثل أبي بكر الخطيب، ومحمد بن علي الصوري يحسنون الثناء عليه،
ويرضون فهمه. حصل له بمصر وما والاها الإسناد.
وقال الحافظ يحيى بن مندة: كان أوحد زمانه في الحفظ والإتقان، لم نر
مثله في الحفظ في عصرنا، دقيق الخط، سريع الكتابة والقراءة، حسن
الأخلاق. ثم قال: توفي بنخشب سنة سبع وخمسين وأربع مئة.
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: مات سنة ست بنخشب. وقيل: مات
بسمرقند.
وقال يحيى بن مندة: قدم علينا في سنة 433، ضربه القاضي الخطبي بسبب
الإمام أبي حنيفة، رأيت بعيني علامة الضرب على ظهره. مات في جمادى
الآخرة سنة سبع. كان ينزل في دارنا، ويبيت مع أبي.
الإمام المحدث، البارع، القاضي، أبو القاسم؛ عبيد الله بن عبد الله ابن
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن حسكان القرشي، العامري، النيسابوري،
الحنفي، الحاكم. ويعرف أيضاً بابن الحذاء، من ذرية الأمير الذي افتتح
خراسان؛ عبد الله بن عامر بن كريز.
حدث عن: جده، وعن أبي الحسن العلوي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي طاهر
بن محمش، وعبد الله بن يوسف، وابن فنجويه الدينوري، وأبي الحسن بن
السقا، وعلي بن أحمد بن عبدان، وخلق، إلى أن ينزل إلى أبي سعد
الكنجروذي، وطبقته.
اختص بصحبة أبي بكر بن الحارث النحوي، ولازمه، وأخذ أيضاً عن الحافظ
أحمد بن علي بن منجويه.
وتفقه بالقاضي صاعد بن محمد.
وصنف وجمع، وعني بهذا الشأن.
لازمه الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل، وأكثر عنه، وأورده في تاريخه،
لكني ما وجدته أرخ موته، والظاهر أنه بقي إلى بعد السبعين وأربع مئة.
حدث عنه: وجيه الشحامي في مشيخته حديثاً، يرويه عن عبد الله بن يوسف بن
بامويه.
أما:
عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن حسكويه، فشيخ كان حياً بعد الثمانين وأربع مئة. يروي عنه: عبد الخالق بن زاهر الشحامي، ويروي والده أيضاً عن والده عبد الله صاحب أبي الحسين الخفاف.
الإمام الأوحد، العلامة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت أبو بكر؛
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف، وخاتمة
الحفاظ.
ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة.
وكان أبوه أبو الحسن خطيباً بقرية درزيجان، وممن تلا القرآن على أبي
حفص الكتاني، فحض ولده أحمد على السماع والفقه، فسمع وهو ابن إحدى عشرة
سنةً، وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث
وعشرين سنة، وإلى الشام وهو كهل، وإلى مكة، وغير ذلك. وكتب الكثير،
وتقدم في هذا الشأن، وبذ الأقران، وجمع وصنف وصحح، وعلل وجرح، وعدل
وأرخ وأوضح، وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق.
سمع أبا عمر بن مهدي الفارسي، وأحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي، وأبا
الحسين بن المتيم، وحسين بن الحسن الجواليقي ابن العريف يروي عن ابن
مخلد العطار، وسعد بن محمد الشيباني سمع من أبي علي الحصائري، وعبد
العزيز بن محمد الستوري حدثه عن إسماعيل الصفار، وإبراهيم بن مخلد بن
جعفر الباقرحي، وأبا الفرج محمد بن فارس الغوري، وأبا الفضل عبد الواحد
بن عبد العزيز التميمي، وأبا بكر محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي،
ومحمد بن عمر بن عيسى الحطراني حدثه عن أحمد بن إبراهيم البلدي، وأبا
نصر أحمد بن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي، وأبا القاسم الحسن بن الحسن
بن المنذر، والحسين بن عمر ابن برهان، وأبا الحسن بن رزقويه، وأبا
الفتح هلال بن محمد الحفار، وأبا الفتح بن أبي الفوارس، وأبا العلاء
محمد بن الحسن الوراق، وأبا الحسين بن بشران. وينزل إلى أن يكتب عن عبد
الصمد بن المأمون، وأبي الحسين بن النقور، بل نزل إلى أن روى عن
تلامذته كنصر المقدسي، وابن ماكولا، والحميدي وهذا شأن كل حافظ يروي عن
الكبار والصغار .
وسمع بعكبرا من الحسين بن محمد الصائغ حدثه عن نافلة علي بن حرب.
ولحق بالبصرة أبا عمر الهاشمي شيخه في السنن، وعلي بن القاسم الشاهد،
والحسن بن علي السابوري، وطائفة.
وسمع بنيسابور القاضي أبا بكر الحيري، وأبا سعيد الصيرفي، وأبا القاسم
عبد الرحمن السراج، وعلي بن محمد الطرازي، والحافظ أبا حازم العبدوي،
وخلقاً.
وبأصبهان: أبا الحسن بن عبد كويه، وأبا عبد الله الجمال، ومحمد ابن عبد
الله بن شهريار، وأبا نعيم الحافظ.
وبالدينور: أبا نصر الكسار.
وبهمذان: محمد بن عيسى، وطبقته.
وسمع بالري والكوفة وصور ودمشق ومكة.
وكان قدومه إلى دمشق في سنة خمس وأربعين، فسمع من محمد بن عبد الرحمن
بن أبي نصر التميمي، وطبقته. واستوطنها، ومنها حج، وقرأ صحيح البخاري
على كريمة في أيام الموسم.
وأعلى ما عنده حديث مالك، وحماد بن زيد، بينه وبين كل منهما ثلاثة
أنفس. حدث عنه: أبو بكر البرقاني؛ وهو من شيوخه، وأبو نصر بن ماكولا،
والفقيه نصر، والحميدي، وأبو الفضل بن خيرون، والمبارك بن الطيوري،
وأبو بكر بن الخاضبة، وأبي النرسي، وعبد الله بن أحمد بن السمرقندي،
والمرتضى محمد بن محمد الحسيني، ومحمد بن مرزوق الزعفراني، وأبو القاسم
النسيب، وهبة الله بن الأكفاني، ومحمد بن علي بن أبي العلاء المصيصي،
وغيث بن علي الأرمنازي، وأحمد بن أحمد المتوكلي، وأحمد ابن علي بن
المجلي، وهبة الله بن عبد الله الشروطي، وأبو الحسن بن سعيد، وطاهر بن
سهل الإسفراييني، وبركات النجاد، وعبد الكريم بن حمزة، وأبو الحسن علي
بن أحمد بن قبيس المالكي، وأبو الفتح نصر الله بن محمد المصيصي، وقاضي
المارستان أبو بكر، وأبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن السمرقندي، وأبو
بكر محمد بن الحسين المزرفي، وأبو منصور الشيباني؛ راوي تاريخه، وأبو
منصور بن خيرون المقرئ، وبدر بن عبد الله الشيحي، والزاهد يوسف بن أيوب
الهمذاني، وهبة الله بن علي المجلي، وأخوه أبو السعود أحمد، وأبو
الحسين بن أبي يعلى، وأبو الحسين بن بويه، وأبو البدر الكرخي، ومفلح
الدومي، ويحيى بن الطرح، وأبو الفضل الأرموي، وعدد يطول ذكرهم.
وكان من كبار الشافعية، تفقه على أبي الحسن بن المحاملي، والقاضي أبي
الطيب الطبري.
قال أبو منصور بن خيرون: حدثنا الخطيب أنه ولد في جمادى الآخرة سنة
392، وأول ما سمع في المحرم سنة ثلاث وأربع مئة.
قال أحمد بن صالح الجيلي: تفقه الخطيب، وقرأ بالقراءات، وارتحل وقرب من
رئيس الرؤساء، فلما قبض عليه البساسيري استتر الخطيب، وخرج إلى صور،
وبها عز الدولة؛ أحد الأجواد، فأعطاه مالاً كثيراً. عمل نيفاً وخمسين
مصنفاً، وانتهى إليه الحفظ، شيعه خلق عظيم، وتصدق بمئتي دينار، وأوقف
كتبه، واحترق كثير منها بعده بخمسين سنة.
وقال الخطيب: استشرت البرقاني في الرحلة إلى أبي محمد بن النحاس بمصر،
أو إلى نيسابور إلى أصحاب الأصم، فقال: إنك إن خرجت إلى مصر إنما تخرج
إلى واحد، إن فاتك، ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور، ففيها جماعة، إن
فاتك واحد، أدركت من بقي. فخرجت إلى نيسابور.
قال الخطيب في تاريخه: كنت أذاكر أبا بكر البرقاني بالأحاديث، فيكتبها
عني، ويضمنها جموعه. وحدث عني وأنا أسمع وفي غيبتي، ولقد حدثني عيسى بن
أحمد الهمذاني، أخبرنا أبو بكر الخوارزمي سنة عشرين وأربع مئة، حدثنا
أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا الأصم. فذكر
حديثاً.
قال ابن ماكولا: كان أبو بكر آخر الأعيان، ممن شاهدناه معرفةً، وحفظاً،
وإتقاناً، وضبطاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفنناً في علله
وأسانيده، وعلماً بصحيحه وغريبة، وفرده ومنكره ومطروحه، ولم يكن
للبغداديين بعد أبي الحسن الدارقطني مثله. سألت أبا عبد الله الصوري عن
الخطيب وأبي نصر السجزي: أيهما أحفظ ؟ ففضل الخطيب تفضيلاً بيناً.
قال المؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني أحفظ من أبي بكر
الخطيب.
وقال أبو علي البرداني: لعل الخطيب لم ير مثل نفسه.
انبأني بالقولين المسلم بن محمد، عن القاسم بن عساكر، حدثنا أبي، حدثنا
أخي هبة الله، حدثنا أبو طاهر السلفي، عنهما.
وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني
ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه.
وقال أبو الفتيان الحافظ: كان الخطيب إمام هذه الصنعة، ما رأيت مثله.
قال أبو القاسم النسيب: سمعت الخطيب يقول: كتب معي أبو بكر البرقاني
كتاباً إلى أبي نعيم الحافظ يقول فيه: وقد رحل إلى ما عندك أخونا أبو
بكر أيده الله وسلمه ليقتبس من علومك، وهو بحمد الله ممن له في هذا
الشأن سابقة حسنة، وقدم ثابت، وقد رحل فيه وفي طلبه، وحصل له منه ما لم
يحصل لكثير من أمثاله، وسيظهر لك منه عند الاجتماع من ذلك مع التورع
والتحفظ ما يحسن لديك موقعه.
قال عبد العزيز بن أحمد الكتاني: سمع من الخطيب شيخه أبو القاسم عبيد
الله الأزهري في سنة اثنتي عشرة وأربع مئة. وكتب عنه شيخه البرقاني،
وروى عنه. وعلق الفقه عن أبي الطيب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وكان
يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله.
قلت: صدق. فقد صرح الخطيب في أخبار الصفات أنها تمر كما جاءت بلا
تأويل. قال الحافظ أبو سعد السمعاني في الذيل: كان الخطيب مهيباً
وقوراً، ثقة متحرياً، حجة، حسن الخط، كثير الضبط، فصيحاً، ختم به
الحفاظ، رحل إلى الشام حاجاً، ولقي بصور أبا عبد الله القضاعي، وقرأ
الصحيح في خمسة أيام على كريمة المروزية، ورجع إلى بغداد، ثم خرج منها
بعد فتنة البساسيري لتشويش الوقت إلى الشام، سنة إحدى وخمسين، فأقام
بها، وكان يزور بيت المقدس، ويعود إلى صور، إلى سنة اثنتين وستين،
فتوجه إلى طرابلس، ثم منها إلى حلب، ثم إلى الرحبة، ثم إلى بغداد،
فدخلها في ذي الحجة. وحدث بحلب وغيرها.
السمعاني: سمعت الخطيب مسعود بن محمد بمرو، سمعت الفضل ابن عمر النسوي
يقول: كنت بجامع صور عند أبي بكر الخطيب، فدخل علوي وفي كمه دنانير،
فقال: هذا الذهب تصرفه في مهماتك. فقطب في وجهه، وقال: لا حاجة لي فيه،
فقال: كأنك تستقله، وأرسله من كمه على سجادة الخطيب. وقال: هذه ثلاث
مئة دينار. فقام الخطيب خجلاً محمراً وجهه، وأخذ سجادته، ورمى
الدنانير، وراح. فما أنى عزه وذل العلوي وهو يلتقط الدنانير من شقوق
الحصير.
ابن ناصر: حدثنا أبو زكريا التبريزي اللغوي قال: دخلت دمشق، فكنت أقرأ
على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة، وكنت أسكن منارة
الجامع، فصعد إلي، وقال: أحببت أن أزورك في بيتك. فتحدثنا ساعةً. ثم
أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، تشتري بهذا أقلاماً. ونهض، فإذا خمسة
دنانير مصرية، ثم صعد مرة أخرى، ووضع نحواً من ذلك. وكان إذا قرأ
الحديث في جامع دمشق يسمع صوته في آخر الجامع، وكان يقرأ معرباً
صحيحاً.
قال السمعاني: سمعت من ستة عشر نفساً من أصحابه، وحدثنا عنه يحيى بن
علي الخطيب، سمع منه بالأنبار، قرأت بخط أبي، سمعت أبا محمد بن
الآبنوسي، سمعت الخطيب يقول: كلما ذكرت في التاريخ رجلاً اختلفت فيه
أقاويل الناس في الجرح والتعديل، فالتعويل على ما أخرت وختمت به
الترجمة.
قال ابن شافع: خرج الخطيب إلى صور، وقصدها وبها عز الدولة، الموصوف
بالكرم، فتقرب منه، فانتفع به، وأعطاه مالاً كثيراً. قال: وانتهى إليه
الحفظ والإتقان، والقيام بعلوم الحديث.
قال الحافظ ابن عساكر: سمعت الحسين بن محمد يحكي، عن ابن خيرون أو
غيره، أن الخطيب ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله
ثلاث حاجات، أن يحدث بتاريخ بغداد بها، وأن يملي الحديث بجامع المنصور،
وأن يدفن عند بشر الحافي. فقضيت له الثلاث.
قال غيث بن علي: حدثنا أبو الفرج الإسفراييني قال: كان الخطيب معنا في
الحج، فكان يختم كل يوم ختمةً قراءة ترتيل، ثم يجتمع الناس عليه وهو
راكب يقولون: حدثنا، فيحدثهم. أو كما قال.
قال المؤتمن: سمعت عبد المحسن الشيحي يقول: كنت عديل أبي بكر الخطيب من
دمشق إلى بغداد، فكان له في كل يوم وليلة ختمة.
قال الخطيب في ترجمة إسماعيل بن أحمد النيسابوري الضرير: حج وحدث، ونعم
الشيخ كان، ولما حج، كان معه حمل كتب ليجاور، منه: صحيح البخاري؛ سمعه
من الكشميهني، فقرأت عليه جميعه في ثلاثة مجالس، فكان المجلس الثالث من
أول النهار وإلى الليل، ففرغ طلوع الفجر.
قلت: هذه والله القراءة التي لم يسمع قط بأسرع منها.
وفي تاريخ محمد بن عبد الملك الهمذاني: توفي الخطيب في كذا، ومات هذا
العلم بوفاته. وقد كان رئيس الرؤساء تقدم إلى الخطباء والوعاظ أن لا
يرووا حديثاً حتى يعرضوه عليه، فما صححه أوردوه، وما رده لم يذكروه.
وأظهر بعض اليهود كتاباً ادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة، وذكروا أن خط علي ر
فيه. وحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، فعرضه على الخطيب، فتأمله، وقال:
هذا مزور، قيل: من أين قلت ؟ قال: فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام
الفتح، وفتحت خيبر سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ ومات يوم بني قريظة
قبل خيبر بسنتين. فاستحسن ذلك منه.
قال السمعاني: سمعت يوسف بن أيوب بمرو يقول: حضر الخطيب درس شيخنا أبي
إسحاق، فروى أبو إسحاق حديثاً من رواية بحر بن كنيز السقاء، ثم قال
للخطيب: ما تقول فيه ؟ فقال: إن أذنت لي ذكرت حاله. فانحرف أبو إسحاق،
وقعد كالتلميذ، وشرع الخطيب يقول، وشرح أحواله شرحاً حسناً، فأثنى
الشيخ عليه، وقال: هذا دارقطني عصرنا. قال أبو علي البرداني: حدثنا
حافظ وقته أبو بكر الخطيب، وما رأيت مثله، ولا أظنه رأى مثل نفسه.
وقال السلفي: سألت شجاعاً الذهلي عن الخطيب، فقال: إمام مصنف حافظ، لم
ندرك مثله.
وعن سعيد المؤدب قال: قلت لأبي بكر الخطيب عند قدومي: أنت الحافظ أبو
بكر ؟ قال: انتهى الحفظ إلى الدارقطني.
قال ابن الآبنوسي: كان الحافظ الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.
وقال المؤتمن: كان الخطيب يقول: من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على
الناس.
محمد بن طاهر: حدثنا مكي بن عبد السلام الرميلي قال: كان سبب خروج
الخطيب من دمشق إلى صور، أنه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلم الناس في
ذلك، وكان أمير البلد رافضياً متعصباً، فبلغته القصة، فجعل ذلك سبباً
إلى الفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذ الخطيب بالليل، فيقتله، وكان
صاحب الشرطة سنياً، فقصده تلك الليلة في جماعة، ولم يمكنه أن يخالف
الأمير، فأخذه، وقال: قد أمرت فيك بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلةً إلا أني
أعبر بك عند دار الشريف ابن أبي الجن، فإذا حاذيت الدار، اقفز وادخل،
فإني لا أطلبك، وأرجع إلى الأمير، فأخبره بالقصة. ففعل ذلك، ودخل دار
الشريف، فأرسل الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال: أيها الأمير ! أنت
تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، وليس في قتله مصلحة، هذا مشهور بالعراق،
إن قتلته، قتل به جماعة من الشيعة، وخربت المشاهد. قال: فما ترى ؟ قال:
أرى أن ينزح من بلدك. فأمر بإخراجه، فراح إلى صور، وبقي بها مدة.
قال أبو القاسم بن عساكر: سعى بالخطيب حسين بن علي الدمنشي إلى أمير
الجيوش، فقال: هو ناصبي يروي فضائل الصحابة وفضائل العباس في الجامع.
وروى ابن عساكر عمن ذكره أن الخطيب وقع إليه جزء فيه سماع القائم بأمر
الله، فأخذه، وقصد دار الخلافة، وطلب الإذن، في قراءته، فقال الخليفة:
هذا رجل كبير في الحديث، وليس له في السماع حاجة، فلعل له حاجةً أراد
أن يتوصل إليها بذلك، فسلوه ما حاجته ؟ فقال: حاجتي أن يؤذن لي أن أملي
بجامع المنصور. فأذن له، فأملى.
قال ابن طاهر: سألت هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي: هل كان الخطيب
كتصانيفه في الحفظ ؟ قال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام،
وإن ألححنا عليه، غضب، كانت له بادرة وحشة، ولم يكن حفظه على قدر
تصانيفه.
وقال أبو الحسين بن الطيوري: أكثر كتب الخطيب سوى تاريخ بغداد مستفادة
من كتب الصوري، كان الصوري ابتدأ بها، وكانت له أخت بصور، خلف أخوها
عندها اثني عشر عدلاً من الكتب، فحصل الخطيب من كتبه أشياء. وكان
الصوري قد قسم أوقاته في نيف وثلاثين شيئاً.
قلت: ما الخطيب بمفتقر إلى الصوري، هو أحفظ وأوسع رحلة وحديثاً ومعرفة.
أخبرنا أبو علي بن الخلال، أخبرنا أبو الفضل الهمداني، أخبرنا أبو طاهر
السلفي، أخبرنا محمد بن مرزوق الزعفراني، حدثنا الحافظ أبو بكر الخطيب
قال: أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح، مذهب
السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد
نفاها قوم، فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في
ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة
المتوسطة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه.
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك
حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات
وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات
تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولا
نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول:
إنها جوارح. ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح
وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي
التشبيه عنها لقوله: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" الشورى "وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ كُفُواً أَحَد" الإخلاص.
قال ابن النجار: ولد الخطيب بقرية من أعمال نهر الملك، وكان أبوه
خطيباً بدرزيجان، ونشأ هو ببغداد، وقرأ القراءات بالروايات، وتفقه على
الطبري، وعلق عنه شيئاً من الخلاف، إلى أن قال: وروى عنه محمد بن عبد
الملك بن خيرون، وأبو سعد أحمد بن محمد الزوزني، ومفلح بن أحمد الدومي،
والقاضي محمد بن عمر الأرموي، وهو آخر من حدث عنه يعني بالسماع .
وروى عنه بالإجازة طائفة عددت في تاريخ الإسلام، آخرهم مسعود بن الحسن
الثقفي، ثم ظهرت إجازته له ضعيفةً مطعوناً فيها، فليعلم ذلك.
وكتابة الخطيب مليحة مفسرة، كاملة الضبط، بها أجزاء بدمشق رأيتها.
وقرأت بخطه: أخبرنا علي بن محمد السمسار، أخبرنا ابن المظفر، حدثنا عبد
الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحجاج، حدثنا جعفر بن نوح، حدثنا
محمد بن عيسى، سمعت يزيد بن هارون يقول: ما عزت النية في الحديث إلا
لشرفه.
قال أبو منصور علي بن علي الأمين: لما رجع الخطيب من الشام كانت له
ثروة من الثياب والذهب، وما كان له عقب، فكتب إلى القائم بأمر الله: إن
مالي يصير إلى بيت مال، فائذن لي حتى أفرقه فيمن شئت. فأذن له، ففرقها
على المحدثين.
قال الحافظ ابن ناصر: أخبرتني أمي أن أبي حدثها قال: كنت أدخل على
الخطيب، وأمرضه، فقلت له يوماً: يا سيدي ! إن أبا الفضل بن خيرون لم
يعطني شيئاً من الذهب الذي أمرته أن يفرقه على أصحاب الحديث. فرفع
الخطيب رأسه من المخدة، وقال: خذ هذه الخرقة، بارك الله لك فيها. فكان
فيها أربعون ديناراً، فأنفقتها مدة في طلب العلم.
وقال مكي الرميلي: مرض الخطيب في نصف رمضان، إلى أن اشتد الحال به في
غرة ذي الحجة، وأوصى إلى ابن خيرون، ووقف كتبه على يده، وفرق جميع ماله
في وجوه البر وعلى المحدثين، وتوفي في رابع ساعة من يوم الاثنين سابع
ذي الحجة من سنة ثلاث وستين، ثم أخرج بكرة الثلاثاء، وعبروا به إلى
الجانب الغربي، وحضره القضاة والأشراف والخلق. وتقدم في الإمامة أبو
الحسين بن المهتدي بالله، فكبر عليه أربعاً، ودفن بجنب قبر بشر الحافي.
وقال ابن خيرون: مات ضحوة الاثنين، ودفن بباب حرب. وتصدق بماله وهو
مئتا دينار، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه، ووقف جميع كتبه، وأخرجت
جنازته من حجرة تلي النظامية، وشيعة الفقهاء والخلق، وحملوه إلى جامع
المنصور، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذب عن
النبي صلى الله عليه وسلم الكذب، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وختم على قبره عدة ختمات.
وقال الكتاني في الوفيات: ورد كتاب جماعة أن الحافظ أبا بكر توفي في
سابع ذي الحجة، وحمل جنازته الإمام أبو إسحاق الشيرازي. وكان ثقةً
حافظاً، متقناً متحرياً مصنفاً.
قال أبو البركات إسماعيل ابن أبي سعد الصوفي: كان الشيخ أبو بكر ابن
زهراء الصوفي برباطنا، قد أعد لنفسه قبراً إلى جانب قبر بشر الحافي،
وكان يمضي إليه كل أسبوع مرةً، وينام فيه، ويتلو فيه القرآن كله، فلما
مات أبو بكر الخطيب، كان قد أوصى أن يدفن إلى جنب قبر بشر، فجاء أصحاب
الحديث إلى ابن زهراء، وسألوه أن يدفنوا الخطيب في قبره، وأن يؤثره به،
فامتنع، وقال: موضع قد أعددته لنفسي يؤخذ مني !. فجاؤوا إلى والدي،
وذكروا له ذلك، فأحضر ابن زهراء وهو أبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي
فقال: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشراً الحافي
في الأحياء وأنت إلى جانبه، فجاء أبو بكر الخطيب ليقعد دونك، أكان يحسن
بك أن تقعد أعلى منه ؟ قال: لا، بل كنت أجلسه مكاني. قال: فهكذا ينبغي
أن تكون الساعة. قال: فطاب قلبه، وأذن.
قال أبو الفضل بن خيرون: جاءني بعض الصالحين وأخبرني لما مات الخطيب
أنه رآه في النوم، فقال له: كيف حالك ؟ قال: أنا في روح وريحان وجنة
نعيم.
وقال أبو الحسن علي بن الحسين بن جدا: رأيت بعد موت الخطيب كأن شخصاً
قائماً بحذائي، فأردت أن أسأله عن أبي بكر الخطيب، فقال لي ابتداءً:
أنزل وسط الجنة حيث يتعارف الأبرار. رواها البرداني في كتاب المنامات
عنه. قال غيث الأرمنازي: قال مكي الرميلي: كنت نائماً ببغداد في ربيع
الأول سنة ثلاث وستين وأربع مئة، فرأيت كأنا اجتمعنا عند أبي بكر
الخطيب في منزله لقراءة التاريخ على العادة، فكأن الخطيب جالس، والشيخ
أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي عن يمينه، وعن يمين نصر رجل لم
أعرفه، فسألت عنه، فقيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليسمع
التاريخ فقلت في نفسي: هذه جلالة لأبي بكر إذ يحضر رسول الله مجلسه،
وقلت: هذا رد لقول من يعيب التاريخ ويذكر أن فيه تحاملاً على أقوام.
قال أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني: حدثني الفقيه الصالح حسن بن
أحمد البصري قال: رأيت الخطيب في المنام وعليه ثياب بيض حسان وعمامة
بيضاء، وهو فرحان يتبسم، فلا أدري قلت: ما فعل الله بك ؟ أو هو بدأني،
فقال: غفر الله لي، أو رحمني، وكل من يجيء فوقع لي أنه يعني بالتوحيد
إليه يرحمه، أو يغفر له، فأبشروا، وذلك بعد وفاته بأيام.
قال المؤتمن: تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه.
قلت: تناكد ابن الجوزي رحمه الله وغض من الخطيب، ونسبه إلى أنه يتعصب
على أصحابنا الحنابلة.
قلت: ليت الخطيب ترك بعض الحط على الكبار فلم يروه.
قال أبو سعد السمعاني: للخطيب ستة وخمسون مصنفاً: التاريخ مئة جزء وستة
أجزاء. شرف أصحاب الحديث ثلاثة أجزاء، الجامع خمسة عشر جزءاً، الكفاية
ثلاثة عشر جزءاً، السابق واللاحق عشرة أجزاء، المتفق والمفترق ثمانية
عشر جزءاً، المكمل في المهمل ستة أجزاء، غنية المقتبس في تمييز
الملتبس، من وافقت كنيته اسم أبيه، الأسماء المبهمة مجلد، الموضح أربعة
عشر جزءاً، من حدث ونسي جزء، التطفيل ثلاثة أجزاء، القنوت ثلاثة أجزاء،
الرواة عن مالك ستة أجزاء، الفقيه والمتفقه مجلد تمييز متصل الأسانيد
مجلد، الحيل ثلاثة أجزاء، الإنباء عن الأبناء جزء، الرحلة جزء،
الاحتجاج بالشافعي جزء، البخلاء في أربعة أجزاء، المؤتنف في تكميل
المؤتلف، كتاب البسملة وأنها من الفاتحة، الجهر بالبسملة جزآن، مقلوب
الأسماء والأنساب مجلد، جزء اليمين مع الشاهد، أسماء المدلسين، اقتضاء
العلم العمل تقييد العلم ثلاثة أجزاء، القول في النجوم جزء، رواية
الصحابة عن تابعي جزء، صلاة التسبيح جزء، مسند نعيم بن حماد جزء، النهي
عن صوم يوم الشك، إجازة المعدوم والمجهول جزء، ما فيه ستة تابعيون جزء.
وقد سرد ابن النجار أسماء تواليف الخطيب، وزاد أيضاً له: معجم الرواة
عن شعبة ثمانية أجزاء، المؤتلف والمختلف أربعة وعشرون جزءاً، حديث محمد
بن سوقة أربعة أجزاء، المسلسلات ثلاثة أجزاء، الرباعيات ثلاثة أجزاء،
طرق قبض العلم ثلاثة أجزاء، غسل الجمعة ثلاثة أجزاء، الإجازة للمجهول.
أنشدني أبو الحسين الحافظ، أنشدنا جعفر بن منير، أنشدنا السلفي لنفسه.
تصانيف ابن ثابتٍ الخطـيب |
|
ألذّ من الصّبا الغضّ الرطيب |
يراها إذ رواها من حـواهـا |
|
رياضاً للفتى اليقظ اللّـبـيب |
ويأخذ حسن ما قد صاغ منها |
|
بقلب الحافظ الفطن الأريب |
فأيّة راحةٍ ونـعـيم عــيشٍ |
|
يوازي كتبها بـل أيّ طـيب |
رواها
السمعاني في تاريخه، عن يحيى بن سعدون، عن السلفي.
أخبرنا أبو الغنائم المسلم بن محمد، ومؤمل بن محمد كتابة قالا: أخبرنا
زيد بن الحسن، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا
أحمد بن محمد بن أحمد الأهوازي، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدثنا
الحسن بن عرفة، حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، عن عبيد الله بن
عمر، عن أسامة بن زيد، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ليس في الخيل والرقيق زكاة، إلا أن في الرقيق صدقة
الفطر.
وبه: قال الخطيب: أخبرنا علي بن القاسم الشاهد من حفظه، حدثنا أبو روق
الهزاني، حدثنا أبو حفص عمرو بن علي سنة سبع وأربعين ومئتين، حدثنا
معتمر، عن أبيه، عن أنس قال: كانت أم سليم مع نسوة من نساء النبي صلى
الله عليه وسلم في سفر، وكان حاديهم يقال له: أنجشة، فناداه النبي صلى
الله عليه وسلم: رويداً يا أنجشة سوقك بالقوارير.
قال أبو الخطاب بن الجراح المقرئ يرثي الخطيب بأبيات منها:
فاق الخطيب الورى صدقاً ومعرفةً |
|
وأعجز الناس في تصنيفه الكتبـا |
حمى الشريعة من غاوٍ يدنّسهـا |
|
بوضعه ونفى التّدليس والكذبـا |
جلى محاسن بغداد فـأودعـهـا |
|
تاريخه مخلصاً للّه محتـسـبـا |
وقال في النّاس بالقسطاط منحرفاً |
|
عن الهوى وأزال الشّكّ والرّيبا |
سقى ثراك أبا بكرٍ على ظـمـأٍ |
|
جونٌ ركامٌ تسحّ الواكف السّربا |
ونلت فوزاً ورضواناً ومغـفـرةً |
|
إذا تحقّق وعد اللّه واقـتـربـا |
يا أحمد بن عليٍّ طبت مضطجعاً |
|
وباء شانيك بالأوزار محتقـبـاً |
وللخطيب نظم جيد، فروى المبارك بن الطيوري عنه لنفسه:
تغيّب الخلق عن عيني سوى قمـرٍ |
|
حسبي من الخلق طرّاً ذلك القمر |
محلّه في فؤادي قـد تـمـلّـكـه |
|
وحاز روحي فما لي عنه مصطبر |
والشّمس أقرب منه في تناولـهـا |
|
وغاية الحظّ منه للـورى نـظـر |
وددت تقبيلـه يومـاً مـخـالـسةً |
|
فصار من خاطري في خدّه أثـر |
وكم حلـيمٍ رآه ظـنّـه مـلـكـاً |
|
وردّد الفكـر فـيه أنّـه بـشـر |
قال غيث بن علي: أنشدنا الخطيب لنفسه:
إن كنت تبغي الرّشاد محضاً |
|
لأمر دنـياك والـمـعـاد |
فخالف النّفس في هواهـا |
|
إنّ الهوى جامع الفـسـاد |
أبو القاسم النسيب: أنشدنا أبو بكر الخطيب لنفسه:
لا تغبطنّ أخا الدّنيا لزخرفها |
|
ولا للذّة وقتٍ عجّلت فرحا |
فالدّهر أسرع شيءٍ في تقلّبه |
|
وفعله بيّنٌ للخلق قد وضحا |
كم شاربٍ عسلاً فيه منيّتـه |
|
وكم تقلّد سيفاً من به ذبحـا |
ومات مع الخطيب حسان بن سعيد المنيعي، وأبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زيدون شاعر الأندلس، وأبو سهل حمد بن ولكيز بأصبهان، وعبد الواحد بن أحمد المليحي، وأبو الغنائم محمد بن علي الدجاجي، وأبو بكر محمد بن أبي الهيثم الترابي بمرو، وأبو علي محمد بن وشاح الزينبي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر، وأبو طاهر أحمد ابن محمد العكبري، عن ثلاث وسبعين سنة، وهو أخو أبي منصور النديم، وشيخ الشيعة أبو يعلى محمد بن حسن بن حمزة الطالكي الجعفري؛ صهر الشيخ المفيد.
الشيخ
الإمام الحافظ، الجوال، أبو الوليد، الحسن بن محمد بن علي البلخي
الدربندي.
سمع أبا عبد الله محمد بن أحمد غنجار، ونحوه ببخارى، وأبا الحسين بن
بشران وطبقته ببغداد، والشيخ العفيف عبد الرحمن بن أبي نصر، ونحوه
بدمشق، وأبا زكريا المزكي، وأبا بكر الحيري بنيسابور، وأبا عمر الهاشمي
بالبصرة، وابن نظيف الفراء بمصر.
حدث عنه: أبو بكر الخطيب، وأبو علي الحداد، وأبو عبد الله الفراوي،
وعبد المنعم بن القشيري، وزاهر الشحامي، وآخرون.
قال ابن النجار: رحل من بخارى إلى إسكندرية، وهو مكثر صدوق، لكنه رديء
الخط. لم يكن له كبير معرفة بالحديث. سمع ببلخ من علي ابن أحمد
الخزاعي، وبنيسابور من أبي زكريا المزكي، وبهراة من القاضي أبي منصور
الأزدي، وبإستراباذ من بندار بن محمد، وبالبصرة من القاضي أبي عمر
الهاشمي، وبمصر من أبي عبد الله بن نظيف.
وقال عبد الغافر في تاريخه: طوف أبو الوليد البلاد، وحصل الأسانيد
والغرائب.
قلت: مات بسمرقند في رمضان سنة ست وخمسين وأربع مئة.
قال عبد الغافر في السياق: أبو الوليد الدربندي الصوفي المحدث، من
المشايخ الجوالين في الحديث.
أخبرنا أحمد بن هبة الله، أنبأنا أبو روح البزاز، أخبرنا زاهر، أخبرنا
أبو الوليد الحسن بن محمد، أخبرنا أبو القاسم حسن بن محمد الأنباري،
أخبرنا محمد بن أحمد بن المسور، حدثنا المقدام بن داود، حدثنا علي ابن
معبد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد
الرحمن الأشهلي، عن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي
نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث
عليكم عذاباً من عنده، ثم لتدعنه، فلا يستجيب لكم.
الشيخ
الإمام الفاضل، أبو القاسم؛ علي بن عبد الرحمن بن الحسن ابن عليك
النيسابوري.
من أولاد المشايخ، كثير الأسفار. نزل أصبهان مدة، وحدث بها وبأذربيجان
وبغداد. حدث عن: أبي الحسين الخفاف، ومحمد بن الحسين العلوي، وأبي نعيم
عبد الملك الإسفراييني، وأبي عبد الله الحاكم، وحمزة المهلبي، وعبد
الرحمن بن أبي إسحاق المزكي.
وعنه: أبو بكر الخطيب، وقال: كان صدوقاً. وسعيد بن أبي الرجاء، وأبو
بكر محمد بن عبد الباقي، وأبو سعد أحمد بن محمد بن البغدادي، وإسماعيل
بن محمد التيمي، وأحمد بن عمر الناتاني المقرئ، شيخ للسلفي، وآخرون.
قال ابن نقطة: سمع منه ابن ماكولا، والمؤتمن الساجي.
وقال الناتاني: قدم علينا تفليس، وحدثنا عن الخفاف، وبها توفي.
قال السمعاني: قلت لإسماعيل بن محمد، فقال: كتبت عنه، وله سماع، ولأبيه
حفظ. وكان سيء الرأي فيه. وسمعت محمد بن أبي نصر اللفتواني يقول: كان
أبو القاسم بن عليك على أوقاف الجامع بأصبهان، فحوسب، فانكسر عليه مال،
وكان للوقف دكان حلواني أخذ من ساكنها حلاوةً كبيرة، فكانوا يضحكون،
ويقولون: نرى الجامع أكل الحلاوة.
وسألت أبا سعد بن البغدادي عنه، فقال: كان فاضلاً، ما سمعت فيه إلا
خيراً، وكان أبوه محدثاً، وما سمعت قدحاً في سماعاته، وكتب عنه الجم
الغفير مسند أبي عوانة، إلا أنه كان أشعرياً.
قلت: أجاز لابن ناصر الحافظ، ومات في رجب، سنة ثمان وستين وأربع مئة.
الشيخ
الجليل، المأمون، الصدر، أبو الفرج علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد
الحميد البجلي، الجريري، الهمذاني. من أولاد جرير بن عبد الله رضي الله
عنه .
حدث بسنن أبي داود، عن أبي بكر بن لال، وحدث عن أبيه، وأحمد بن تركان،
وأحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ، وعبد الرحمن بن عمر بن أبي
الليث، وعلي بن أحمد بن عبدان، وأبي القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله
الحرفي، ومحمد بن الحسين بن يوسف الصنعاني، وأحمد بن علي بن عمشليق
الجعفري.
قال شيرويه: سمعت منه عامة ما مر له. قال: وكان ثقةً، عدلاً، من بيت
الإمارة والعلم. وكان أحد تناء بلدنا.
قلت: وحدث عنه هبة الله بن أخت الطويل، وأحمد بن سعد العجلي، وجماعة.
قال شيرويه: توفي في ثامن وعشرين رمضان، سنة ثمان وستين وأربع مئة،
وسمعته يقول: ولدت سنة سبع وثمانين وثلاث مئة.
ابن
محمد بن هارون، الإمام، شيخ المالكية، أبو محمد السهمي الصقلي.
تفقه على أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي، والأجدابي، وحج،
فلقي عبد الوهاب؛ صاحب التلقين. وأبا ذر الهروي.
وله كتب منها: النكت والفروق لمسائل المدونة. وكتاب تهذيب الطالب، وألف
عقيدة، وتخرج به أئمة.
مات بالإسكندرية، سنة ست وستين وأربع مئة.
وقد حج مرات، وناظر بمكة أبا المعالي إمام الحرمين، وباحثه. وهو موصوف
بالذكاء وحسن التصنيف، وله استدراك على مختصر البراذعي وخرج له عدة
تلامذة. وكان قرشياً من بني سهم.
ابن
إبراهيم، الواعظة، العالمة، المسندة، أم الفتح الأصبهانية، الوركانية.
ووركان: محلة هناك.
كتبت الإملاء عن أبي عبد الله بن مندة بخطها. وسمعت من محمد بن جشنس
الراوي عن ابن صاعد. ومن عبد الواحد بن شاه، وجماعة.
روى عنها: الحسين بن عبد الملك الخلال، وسعيد بن أبي الرجاء، وإسماعيل
بن محمد الحافظ.
قال ابن السمعاني: سألت الحافظ إسماعيل عنها، فقال: امرأة صالحة،
عالمة، تعظ النساء، وكتبت أمالي ابن مندة عنه. وهي أول من سمعت منها
الحديث، بعثني أبي إليها، وكانت زاهدةً.
قلت: وروى عنها أيضاً محمد بن حمد الكبريتي، وإسماعيل الحمامي المعمر،
فكان خاتمة أصحابها. بقيت إلى سنة ست وستين وأربع مئة.
الشاعر المفلق، أديب وقته، أبو منصور، علي بن الحسن بن علي بن الفضل
البغدادي، الكاتب. ويلقب بصربعر. صاحب بلاغة وجزالة ورقة وحلاوة، وباع
أطول في الأدب.
سمع أبا الحسين بن بشران، وأبا الحسن بن الحمامي.
وعنه: أبو سعد الزوزني، وعلي بن عبد السلام، وفاطمة بنت الخبري.
قال ابن عبد السلام الكاتب: كان نظام الملك يقول له: أنت صردر لا
صربعر.
قال ابن النجار: مدح الخليفة القائم ووزيره أبا القاسم بن المسلمة. لم
يك في المتأخرين أرق طبعاً منه، مع جزالة وبلاغة.
وقال بعض الأدباء: هو أشعر من مهيار. وقيل: ظلم أهل شهرابان، وسعى بهم.
وخلط في دينه. تقطر به فرسه، فهلك في ربيع الأول، سنة خمس وستين وأربع
مئة. وقع به الفرس في زبية للأسد، فهلكا معاً.
وقيل: إنما أبوه لقب بصربعر لبخله.
القاضي العلامة، أبو الحسين؛ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن
محمد بن محمود بن أعين الحنفي، ولد القاضي الكبير شيخ الأشعرية أبي
جعفر السمناني. ذكرنا والده في الطبقة الماضية.
وهذا ولد بسمنان في سنة 384.
وكان ثقةً صدوقاً، حسن الأخلاق، كبير القدر، وافر الجلالة.
تفقه على أبيه لأبي حنيفة، وأخذ عنه علم الكلام، وكان معه لما ولي قضاء
حلب، سنة سبع وأربع مئة.
وسمع من الحسن بن الحسين النوبختي، وإسماعيل بن هشام الصرصري، وأبي
أحمد الفرضي، وابن الصلت المجبر.
قال الخطيب: كتبت عنه، وكان صدوقاً.
قلت: حدث عنه: أبو منصور القزاز، ويحيى بن الطراح، وأبو البدر الكرخي.
وتزوج بابنته قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، واستنابه في القضاء.
توفي ببغداد في جمادى الأولى، سنة ست وستين وأربع مئة، وحضره الكبار
وأرباب الدولة، ودفن بداره مدة، ثم نقل. وكان يدري العقليات.
شيخ
المالكية، أبو عمر أحمد بن محمد بن عيسى بن هلال القرطبي.
دارت عليه وعلى ابن عتاب الفتيا بقرطبة، وكان بينهما منافسة، وكان محمد
بن عتاب يقدم على ابن القطان لسنه وتفننه، ويفوقه ابن القطان ببيانه
وقوة حفظه وجودة انبساطه.
تفقه بأبي محمد بن دحون، وابن حوبيل، وابن الشقاق.
وسمع من يونس بن عبد الله القاضي.
قال ابن حيان: كان ابن القطان أحفظ الناس للمدونة والمستخرجة وأبصر
أصحابه بطرق الفتيا والرأي، وكان ينكر المنكر، ويكره الملاهي. وكان
أبوه ولياً لله من الزهاد. تفقه أهل قرطبة بأبي عمر منهم: ابن مالك،
وابن الطلاع، وابن دحمين، وابن رزق. قال: وتوفي في ذي القعدة، سنة ستين
وأربع مئة.
أمير
المؤمنين، القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد
ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي.
مولده في سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة.
وأمه أرمنية تسمى بدر الدجى، وقيل: قطر الندى. وقد مر ذكره استطراداً
بعد العشرين والثلاث مئة، وأنه كان جميلاً وسيماً أبيض بحمرة، ذا دين
وخير وبر وعلم وعدل، بويع سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة، وأنه نكب سنة
خمسين في كائنة البساسيري، ففر إلى البرية في ذمام أمير للعرب، ثم عاد
إلى خلافته بعد عام بهمة السلطان طغرلبك، وأزيلت خطبة خليفة مصر
المستنصر بالله من العراق، وقتل البساسيري. ولما أن فر القائم إلى
البرية، رفع قصةً إلى رب العالمين مستعدياً على من ظلمه، ونفذ بها إلى
البيت الحرام، فنفعت، وأخذ الله بيده، ورده إلى مقر عزه. فكذلك ينبغي
لكل من قهر وبغي عليه أن يستغيث بالله تعالى، وإن صبر وغفر، فإن في
الله كفايةً ووقايةً.
وكان أبيض وسيماً، عالماً مهيباً، فيه دين وعدل. ظهر عليه ماشرا،
فافتصد ونام، فانفجر فصاده، وخرج دم كثير، وضعف، وخارت قواه.
وكان ذا حظ من تعبد وصيام وتهجد، لما أن أعيد إلى خلافته قيل: إنه لم
يسترد شيئاً مما نهب من قصره، ولا عاقب من آذاه، واحتسب وصبر. وكان
تاركاً للملاهي رحمه الله وكانت خلافته خمساً وأربعين سنة.
وغسله شيخ الحنابلة أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي. وعاش ستاً وسبعين
سنة، وبويع بعده ابن ابنه المقتدي بالله.
ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب، وأبو الفتح بن دارست، وأبو القاسم
بن المسلمة، وأبو نصر بن جهير. وكان ملك بني بويه في خلافته ضعيفاً،
بحيث إن جلال الدولة باع من ثيابه الملبوسة ببغداد، وقل ما بيده، وخلت
داره من حاجب وفراش، وقطعت النوبة على بابه لذهاب الطبالين، وثار عليه
جنده، ثم كاشروا له رحمةً، ثم جرت فتنة البساسيري، ثم بدت الدولة
السلجوقية، وأول ما ملكوا خراسان، ثم الجبل، وعسفوا ونهبوا وقتلوا،
وفعلوا القبائح وهم تركمان . ومات جلال الدولة سنة 435 وله نيف وخمسون
سنة، وكان على ذنوبه يعتقد في الصلحاء. وخلف أولاداً. ودخل أبو كاليجار
بغداد، وتعاظم، ولم يرض إلا بضرب الطبل له في أوقات الصلوات الخمس،
وكان جدهم عضد الدولة مع علو شأنه لم تضرب له إلا ثلاثة أوقات. ومات
أبو كاليجار سنة أربعين، فولي الملك بعده ولده الملك الرحيم أبو نصر بن
السلطان أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة.
وفيها غزا ينال السلجوقي أخو طغرلبك بجيوشه، ووغل في بلاد الروم، وغنم
ما لا يعبر عنه، وكانت غزوةً مشهودةً وفتحاً مبيناً. فهذا هو أول
استيلاء آل سلجوق ملوك الروم على الروم، وفي هذا الحين خطب متولي
القيروان المعز بن باديس للقائم بأمر الله، وقطع خطبة العبيدية، فبعثوا
من حاربه، فتمت فصول طويلة.
وفي سنة 441 عملت ببغداد مآتم عاشوراء، فجرت فتنة بين السنة والشيعة
تفوت الوصف من القتل والجراح، وندب أبو محمد بن النسوي لشحنكية بغداد،
فثارت العامة كلهم، واصطلح السنة والشيعة، وتوادوا وصاحوا: متى ولي ابن
النسوي أحرقنا الأسواق، ونزحنا. وترحم أهل الكرخ على الصحابة، وهذا شيء
لم يعهد. وكان الرخاء ببغداد بحيث إنه أبيع الكر بسبعة دنانير. ومات
صاحب الموصل معتمد الدولة أبو المنيع، ثم بعد سنة فسد ما بين السنة
والشيعة، وعملت الشيعة سوراً على الكرخ، وكتبوا عليه بالذهب: محمد وعلي
خير البشر، فمن أبى فقد كفر. ثم وقع القتال والنهب، وقويت السنة،
وفعلوا العظائم، ونبشت قبور، وأحرقت عظام العوني والناشي والجذوعي،
وقتل مدرس الحنفية السرخسي، وعجزت الدولة عنهم. وأخذ طغرلبك أصبهان،
وجعلها دار ملكه. واقتتل المغاربة وجيش مصر، فقتل من المغاربة ثلاثون
ألفاً.
وفي سنة 444 هاجت السنة على أهل الكرخ، وأحرقوا، وقتلوا، وهلك يومئذ في
الزحمة نيف وأربعون نفساً، أكثرهم نساء نظارة، وجرت حروب كثيرة بين جيش
خراسان وبين الغز على الملك، وحاصر الملك الرحيم والبساسيري البصرة،
وأخذها من ولد أبي كاليجار، ثم استولى عسكر الملك الرحيم على شيراز بعد
حصار طويل، وقحط وبلاء، حتى قيل: لم يبق فيها إلا نحو ألف نفس، ودور
سورها اثنا عشر ألف ذراع، ولها أحد عشر باباً.
وفي سنة 447 قبض طغرلبك على الملك الرحيم، وانقضت أيام بني بويه، وكان
فيها دخول طغرلبك بغداد، وكان يوماً مشهوداً بين يديه ثمانية عشر
فيلاً، مظهراً أنه يحج، ويغزو الشام ومصر، ويزيل الدولة العبيدية. ومات
ذخيرة الدين محمد بن الخليفة ولي عهد أبيه، وخلف ولداً طفلاً وهو
المقتدي، وعاثت جيوش طغرلبك بالقرى، بحيث لأبيع الثور بعشرة دراهم،
والحمار بدرهمين. ووقعت الفتنة ببغداد بين الحنابلة والشافعية. وتزوج
الخليفة ببنت طغرلبك على مئة ألف دينار.
وفي سنة ثمان مبدأ فتنة البساسيري، وخطب بالكوفة وواسط وبعض القرى
للمستنصر العبيدي، وكان القحط عظيماً بمصر وبالأندلس، وما عهد قحط ولا
وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مصل، وسمي عام الجوع
الكبير.
وفي سنة تسع أخذ طغرلبك الموصل، وسلمها إلى أخيه ينال، وكتب في ألقابه:
ملك المشرق والمغرب. وفيها كان الجوع المفرط ببغداد والفناء، وكذلك
ببخارى وسمرقند حتى يقال: هلك بما وراء النهر ألف ألف وست مئة ألف. وفي
سنة خمسين أخذ البساسيري بغداد كما قدمنا، وخطب لصاحب مصر، فأقبل في
أربع مئة فارس في وهن وضعف ومعه قريش أمير العرب في مئتي فارس بعد أن
حاصرا الموصل، وأخذاها، وهدما قلعتها. واشتغل طغرلبك بحرب أخيه، فمالت
العامة إلى البساسيري لما فعلت بهم الغز، وفرحت به الرافضة، فحضر
الهمذاني عند رئيس الرؤساء الوزير، واستأذنه في الحرب، وضمن له قتل
البساسيري، فأذن له. وكان رأي عميد العراق المطاولة رجاء نجدة طغرلبك،
فبرز الهمذاني بالهاشميين والخدم والعوام إلى الحلبة، فتقهقر
البساسيري، واستجرهم، ثم كر عليهم، فهربوا، وقتل عدة، ونهب باب الأزج،
وأغلق الوزير عليهم، ولطم العميد كيف استبد الوزير بالأمر ولا معرفة له
بالحرب، فطلب الخليفة العميد، وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم
إلا الصريخ ونهب الحريم، ودخلوا من باب النوبى، فركب الخليفة وعلى كتفه
البردة، وبيده السيف، وحوله عدد، فرجع نحو العميد، فوجده قد استأمن إلى
قريش، فصعد المنظرة، فصاح رئيس الرؤساء بقريش: يا علم الدين: إن أمير
المؤمنين يستدنيك. فدنا، فقال: قد أنالك الله رتبةً لم ينلها أحد، أمير
المؤمنين يستذم منك على نفسه وأصحابه بذمام الله ورسوله وذمام العرب.
قال: نعم. وخلع قلنسوته، فأعطاها الخليفة، وأعطى الوزير مخصرته، فنزلا
إليه، وذهبا معه، فبعث إليه البساسيري: أتخالف ما تقرر بيننا ؟ قال:
لا. ثم اتفقا على تسليم الوزير، فلما أتاه؛ قال: مرحباً بمهلك الدول.
قال: العفو عند القدرة. قال: أنت قدرت فما عفوت، وركبت القبيح مع
أطفالي، فكيف أعفو وأنا رب سيف !؟. وحمل قريش الخليفة إلى مخيمه، وسلم
زوجته إلى ابن جردة، ونهبت دور الخلافة، فسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه
مهارش بن مجلي، فسار به في هودج إلى الحديثة، وسار حاشية الخليفة على
حمية إلى طغرلبك، وشكى الخليفة البرد، فبعث إليه متولي الأنبار جبةً
ولحافاً. ولا ريب أن الله لطف بالقائم لدينه.
حكى المحدث أبو الحسن بن عبد السلام: سمعت الأستاذ محمد بن علي بن عامر
قال: دخلت إلى الخزانة، فأعطوني عدة قصص، حتى امتلأ كمي، فقلت: لو كان
الخليفة أخي لضجر مني، وألقيتها في البركة. وكان القائم ينظر، ولم أدر.
قال: فأمر بأخذ الرقاع، فنشرت في الشمس، ثم وقع على الجميع، وقال: يا
عامي ! لم فعلت هذا ؟ قال: فاعتذرت، فقال: ما أطلقنا شيئاً من أموالنا
بل نحن خزانهم.
نعم، وأحسن البساسيري السيرة، ووصل الفقهاء، ولم يتعصب للشيعة، ورتب
لأم الخليفة راتباً. ثم بعد أيام أخرج الوزير مقيداً عليه طرطور، وفي
رقبته قلادة جلود وهو يقرأ: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ" آل
عمران فبصق في وجهه أهل الرفض فالأمر لله ثم صلب، وجعل في فكيه كلوبان،
فمات ليومه، وقتلوا العميد أيضاً، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ، ثم
سار البساسيري، فحكم على البصرة وواسط، وخطب بها للمستنصر، ولكن قطع
المستنصر مكاتبته، خوفه وزيره أبو الفرج ابن أخي الوزير المغربي، وكان
قد هرب من البساسيري، فذم أفعاله، وخوف من عواقبه. وبكل حال فناله من
المصريين نحو ألف ألف دينار.
وفي سنة 454 زوج القائم بنته بطغرلبك بعد استعفاء وكره، وغرقت بغداد؛
وبلغ الماء أحداً وعشرين ذراعاً.
وفي سنة 456 قبض السلطان ألب آرسلان على وزيره عميد الملك الكندري،
واستوزر نظام الملك، وكان المصاف بالري بين ألب آرسلان وقرابته قتلمش،
فقتل قتلمش، وندم السلطان، وعمل عزاءه، ثم سار يغزو الروم. وأنشئت
مدينة بجاية، بناها الناصر بن علناس، وكانت مرعىً للدواب.
وفي سنة ثمان أنشئت نظامية بغداد، وسلطن ألب آرسلان ابنه ملكشاه، وجعله
ولي عهده، وسار إليه مسلم بن قريش بن بدران صاحب الموصل، فأقطعه هيت
وحربا، وبنوا على قبر أبي حنيفة قبة عظيمة.
وفي سنة 461 احترق جامع دمشق كله ودار السلطنة التي بالخضراء، وذهبت
محاسن الجامع وزخرفته التي تضرب بها الأمثال، من حرب وقع بين جيش مصر
وجيش العراق. وفي سنة 62 أقبل طاغية الروم في جيش لجب، حتى أناخ بمنبج،
فاستباحها، وأسرع الكرة للغلاء، أبيع في عسكره رطل الخبز، بدينار، وكان
بمصر الغلاء المفرط وهي النوبة التي قال فيها صاحب المرآة: فخرجت امرأة
بالقاهرة بيدها مد جوهر فقالت: من يأخذه بمد قمح ؟ فما التفت إليها
أحد، فرمته، وقالت: ما نفعني وقت الحاجة، فلا أريده. فما كان له من
يأخذه، وكاد الخراب أن يشمل الإقليم، حتى بيع كلب بخمسة دنانير والهر
بثلاثة، وبلغ ثمن الإردب مئة دينار، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وتشتت أهل
مصر في البلاد.
وفي سنة 63 كانت الملحمة العظمى بين الإسلام والنصارى.
قال ابن الأثير: خرج أرمانوس في مئتي ألف، وقصد الإسلام، ووصل إلى بلاد
خلاط. وكان السلطان ألب آرسلان بخوي، فبلغه كثرة العدو، وهو في خمسة
عشر ألف فارس، فقال: أنا ألتقيهم، فإن سلمت فبنعمة الله، وإن قتلت
فملكشاه ولي عهدي. فوقعت طلائعه على طلائعهم، فانكسر العدو، وأسر
مقدمهم، فلما التقى الجمعان؛ بعث السلطان يطلب الهدنة، فقال أرمانوس:
لا هدنة إلا ببذل الري. فانزعج السلطان، فقال له إمامه أبو نصر: إنك
تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على الأديان، فأرجو أن يكون الله
قد كتب باسمك هذا الفتح، والقهم يوم الجمعة والساعة يكون الخطباء على
المنابر يدعون للمجاهدين، فصلى به، وبكى السلطان، وبكى الناس، ودعا،
وأمنوا، وقال: من أراد أن ينصرف فلينصرف، فما ثم سلطان يأمر ولا ينهى،
ورمى القوس، وسل السيف، وعقد بيده ذنب فرسه، وفعل الجند كذلك، ولبس
البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني. ثم حمل، فلما لاطخ العدو،
ترجل، وعفر وجهه في التراب، وأكثر التضرع، ثم ركب، وحصل المسلمون في
الوسط، فقتلوا في الروم كيف شاؤوا، ونزل النصر، وتطايرت الرؤوس، وأسر
ملك الروم، وأحضر بين يدي السلطان، فضربه بالمقرعة، وقال: ألم أسألك
الهدنة ؟ قال: لا توبخ، وافعل ما تريد. قال: ما كنت تفعل لو أسرتني ؟
قال: أفعل القبيح. قال: فما تظن بي ؟ قال: تقتلني أو تشهرني في بلادك،
والثالثة بعيدة، أن تعفو، وتأخذ الأموال. قال: ما عزمت على غيرها. ففك
نفسه بألف ألف دينار وخمس مئة ألف دينار وبكل أسير في مملكته، فنزله في
خيمة، وخلع عليه، وبعث له عشرة آلاف دينار يتجهز بها، وأطلق له عدة
بطارقة، وهادنه خمسين سنة، وشيعه، وأما جيشه، فملكوا ميخائيل. ومضى
أرمانوس، فبلغه ذهاب ملكه، فترهب، ولبس الصوف، وجمع ما قدر عليه من
الذهب، فكان نحو ثلاث مئة ألف دينار، فبعثها، واعتذر.
وفيها تملك الشام أتسز الخوارزمي، وبدع وأفسد، وعثر الرعية.
وفي سنة 65 قتل السلطان ألب آرسلان. وفيها اختلف جيش مصر، وتحاربوا
مرات، وقويت الأتراك، وقتل خلق من عرب مصر، واضمحل دست المستنصر، وذاق
ذلاً وحاجة، وبالغ في إهانته ناصر الدولة الحمداني، وعظم، وجرت أمور
مزعجة.
وفي سنة 66 غرقت بغداد، وأقيمت الجمعة في السفن مرتين، وهلك خلق لا
يحصون حتى لقيل: إن الماء بلغ ثلاثين ذراعاً. حتى لقال سبط ابن الجوزي:
وانهدمت مئة ألف دار، وبقيت بغداد ملقةً واحدة.
وفي سنة 67 بعث المستنصر إلى ساحل الشام إلى بدر الجمالي ليغيثه، فسار
من عكا في البحر زمن الشتاء، وخاطر، وهجم مصر بغتةً، وسماه المستنصر
أمير الجيوش، فلما كان في الليل، بعث إلى كل أمير من أعيان الأمراء
طائفةً أتوه برأسه، وأخذ أموالهم إلى قصر المستنصر، وأضاءت حاله، وسار
إلى الإسكندرية، فحاصرها مدةً، وأخذها، وقتل طائفةً استولوا، وسار إلى
دمياط، ففعل كذلك، وسار إلى الصعيد، فقتل به في ثلاثة أيام اثني عشر
ألفاً، ونهب وبدع، فتجمعوا له بالصعيد في ستين ألفاً من بين فارس
وراجل، فبيتهم ليلاً، فهزمهم، وقتل خلق كثير، وغرق مثلهم، وغنمت
أموالهم. ثم التقوا ثانيةً، ونصر عليهم، ووقع ببغداد حريق لم يسمع
بمثله، وذهب الأموال.
ومات القائم بأمر الله في شعبان سنة سبع وستين وأربع مئة، وبايعوا
حفيده، فنذكره استطراداً:
الخليفة المقتدي بأمر الله، أبو القاسم، عبيد الله بن ذخيرة الدين محمد
ابن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق بن
المقتدر العباسي. تسلم الخلافة بعهد من جده يوم ثالث عشر شعبان سنة 467
وهو ابن عشرين سنة سوى أشهر، وأمه أرجوان أم ولد، بقيت بعده دهراً، رأت
ابن ابن ابنها المسترشد خليفة.
وكان حسن السيرة، وافر الحرمة. أمر بنفي الخواطئ والقينات، وأن لا يدخل
أحد الحمام إلا بمئزر، وأخرب أبراج الحمام، وفيه ديانة ونجابة وقوة
وعلو همة. وكان ملكشاه قد صمم على إخراجه من بغداد، فحار، والتجأ إلى
الله، فدفع عنه، وهلك ملكشاه.
ولد بعد موت أبيه بأشهر، وكان في اعتقال القائم نوبة البساسيري صغيراً،
فأخفي، وحمله ابن المحلبان إلى حران.
وزر له فخر الدولة ابن جهير بوصية من جده.
وفي سنة 469 سار أتسز الذي أخذ دمشق إلى مصر، وحاصرها، وكاد أن يملكها،
فتضرع أهلها إلى الله، فترحل بلا سبب، ونازل القدس، ثم أخذها، وقتل
ثلاثة آلاف، وذبح القاضي والشهود صبراً، وعسف.
وقال أبو يعلى بن القلانسي: كسره بمصر أمير الجيوش، فرد وقد قتل أخوه،
وقطعت يد أخيه الآخر، فسر الناس.
وكانت الفتنة الصعبة بين الحنبلية والقشيرية بسبب الاعتقاد، وقتل بينهم
جماعة، وعظم البلاء، وتشفت بهم الروافض، وحاصر دمشق المصريون مرتين.
وعزل ابن جهير الوزير لشده من الحنابلة.
وفي سنة 471 أقبل تاج الدولة تتش أخو ملكشاه، فاستولى على دمشق، وقتل
أتسز، وأحبه الناس.
وفي سنة 73 مات صاحب اليمن أبو الحسن علي بن أحمد الصليحي، وكانت دولته
نحواً من عشرين سنة، وكان على دين العبيدية، تحيل إلى أن تملك جميع
اليمن. وكان أبوه من قضاة اليمن، له سيرة في تاريخي الكبير.
ورافعوا نظام الملك وزير ملكشاه.
قال ابن الأثير: فمد سماطاً، وأقام عليه مماليكه، وهم ألوف من الترك
بخيلهم وسلاحهم، وحضر السلطان، ثم قال: إني خدمتك، وخدمت أباك وجدك،
وقد بلغك أخذي للأموال، وصدقوا، إنما أصرفها على مثل هؤلاء الغلمان وهم
لك، وفي البر والصلات، ومعظم أجرها لك، وكل ما أملكه فبين يديك، وأنا
أقنع بمرقعة. فصفا له السلطان، وأحبه، وسمل سيد الرؤساء أبا المحاسن،
الذي ناوأه.
وفي هذا القرب تملك سليمان بن قتلمش السلجوقي قونية وآقصرا. ثم سار،
فأخذ أنطاكية من الروم، وكان لها في أيديهم مئة وعشرون سنة. وبعث
بالبشارة إلى السلطان ملكشاه، ثم تحارب هو ومسلم بن قريش في سنة 77،
فقتل مسلم. ونازل ابن قتلمش حلب شهراً ثم ترحل.
ونازل الأذفيش مدينة طليطلة أعواماً، ثم كانت الملحمة الكبرى بالأندلس،
وانتصر المسلمون، وأساء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ابن عباد،
وأخذ بلاده، وسجنه.
وأقبل أمير الجيوش، فنازل دمشق، وضيق على تتش، ثم ترحل.
وفي سنة 79 التقى تتش وصاحب قونية سليمان، فقتل سليمان، واستولى تتش
على حلب. وأقبل أخوه السلطان من أصبهان إلى حلب، فأخذها، وهرب منه
أخوه، وناب بحلب قسيم الدولة؛ جد نور الدين، فعمرت به، وافتتح السلطان
الجزيرة، وقدم بغداد، وقدم بعده النظام، ثم تصيد، وعمل منارة القرون،
وجلس له المقتدي، وخلع عليه خلع السلطنة، وعلى أمرائه، ونظام الملك
يقدمهم ويترجم عنهم، ثم كان عرس المقتدي على بنت السلطان، ولم يسمع
بمثل جهازها وعرسها؛ دخل في الدعوة أربعون ألف مناً من السكر.
ومات صاحب غزنة والهند المؤيد إبراهيم بن مسعود بن السلطان محمود،
وتملك بعده ابنه جلال الدين، زوج بنت ملكشاه التي غرم نظام الملك على
عرسها ألفي ألف درهم. وسار ملكشاه ليملك سمرقند، وافتتح ما وراء النهر،
وتضورت بنت ملكشاه من اطراح الخليفة لها، فأذن لها في الذهاب إلى
أصبهان مع ابنها جعفر، وأقبل جيش مصر فأخذوا صور وعكا وجبيل.
وفتن السنة والشيعة متتالية ببغداد لا يعبر عنها.
وفي سنة 483 استولى ابن الصباح؛ رأس الإسماعيلية على قلعة أصبهان، فهذا
أول ظهورهم. واستولت النصارى على سائر جزيرة صقلية، وهي إقليم كبير.
وكانت ملحمة جيان بالأندلس بين الفرنج والمسلمين، ونصر الله، وحصدت
الفرنج. وافتتح ملكشاه اليمن على يد جنق أمير التركمان، واستباحت خفاجة
ركب العراق، فذهب وراءهم عسكر، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ولم تقم لهم
شوكة بعد. ومات نظام الملك في سنة 86، ثم مات السلطان، فسار من الشام
أخوه تتش ليتسلطن، وفي خدمته قسيم الدولة، وصاحب أنطاكية، وجماعة خطبوا
له بمدائنهم. وسار، وأنفق الأموال، وأخذ الرحبة ثم نصيبين عنوةً، وقتل
وعسف. وقصد الموصل، فعمل معه صاحبها إبراهيم بن قريش مصافاً، فأسر
إبراهيم، وتمزق جمعه، وقتل من الفريقين عشرة آلاف، وذبح إبراهيم صبراً.
وأبيعت من النهب مئة شاة بدينار. ثم بعث تتش يطلب من الخليفة تقليد
السلطنة. وافتتح ميافارقين وديار بكر وبعض أذربيجان، فبادر بركياروق
ابن أخيه، فالتقوا، فخامر قسيم الدولة وبوزان، وصارا مع بركياروق، فضعف
تتش، وولى إلى الشام.
وفي أول سنة سبع وثمانين خطب ببغداد للسلطان بركياروق ركن الدولة، وعلم
المقتدي على تقليده، ثم مات فجأةً من الغد، تغدى وغسل يديه، وعنده
فتاته شمس النهار، فقال: ما هذه الأشخاص دخلوا بلا إذن ؟ فارتابت،
وتغير، وارتخت يداه، وسقط، فظنوه غشي عليه، فطلبت الجارية وزيره، ومات،
فأخذوا في البيعة لابنه أحمد المستظهر بالله في ثامن عشر المحرم. توفي
وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وكان خلافته عشرين سنة، وأخروا دفنه ثلاث
ليال لكونه مات فجأة.
قال ابن النجار: اسم أمه علم. قال: وكان محباً للعلوم، مكرماً لأهلها،
لم يزل في دولة قاهرة وصولة باهرة، وكان غزير الفضل، كامل العقل، بليغ
النثر، فمنه: وعد الكرماء ألزم من ديون الغرماء. الألسن الفصيحة أنفع
من الوجوه الصبيحة، والضمائر الصحيحة أبلغ من الألسن الفصيحة. حق
الرعية لازم للرعاة، ويقبح بالولاة الإقبال على السعاة.
ومن نظمه:
أردت صفاء العيش مع من أُحبّـه |
|
فحاولـنـي عـمّـا أروم مـريد |
وما اخترت بتّ الشّمل بعد اجتماعه |
|
ولـكـنّـه مـهـمـا يريد أُريد |
وفي
سنة أربع وثمانين وأربع مئة من دولته جددت قبة النسر، فاسمه على القبة.
وكان هو خليفة الإسلام في زمانه، لكن يزاحمه صاحب مصر المستنصر وابنه،
فكان العبيدي والعباسي مقهورين من وجوه.
وكان الدست لوزير مصر أمير الجيوش. وكان حكم العراق والمشرق إلى
السلجوقية. وحكم المغرب إلى تاشفين وابنه. وحكم اليمن إلى طائفة.
والأمر كله لله.