الشيخ
الإمام، المقرئ المسند، أبو بكر أحمد بن علي بن بدران بن علي الحلواني
البغدادي المقرئ، عرف بخالوه، شيخٌ صالح، دينٌ، عارف بالقراءات، عالي
الرواية.
تلا بالسبع على أبي علي الحسن بن غالب، وعلي بن فارس الخياط. تلا عليه
جماعة، منهم أبو الكرم الشهرزوري، وقد سمع من أبي الطيب الطبري،
والقاضي أبي الحسن الماوردي، ومحمد بن علي بن شبانة الدينوري، وأبي
محمد الجوهري، وانتقى عليه الحافظ أبو عبد الله الحميدي.
وحدث عنه إسماعيل بن السمرقندي، وابن ناصر، والسلفي، وأبو طالب بن
خضير، وخطيب الموصل أبو الفضل، وعبد المنعم بن كليب، وآخرون.
قال ابن ناصر: شيخٌ صالح ضعيف، لا يحتج بحديثه، لم تكن له معرفة
بالحديث.
ولد في حدود سنة عشرين وأربع مئة.
وقال السلفي: كان ثقة زاهداً. قال ابن ناصر: مات في جمادى الآخرة سنة
سبع وخمس مئة، وأوصى بأن يدفن إلى جانب إبراهيم الحربي.
قلت: وممن تلا عليه أبو محمد سبط الخياط، وعبد الوهاب بن محمد
الصابوني.
قال أبو محمد: تلوت عليه بكتاب الجامع لأبي الحسن الخياط، وتلا به على
المصنف.
الشيخ
العالم، المحدث الواعظ، أبو عثمان إسماعيل بن محمد بن أحمد بن محمد بن
جعفر بن أبي سعيد بن ملة الأصبهاني المحتسب صاحب تلك المجالس المشهورة.
سمع أبا بكر بن ريذه صاحب الطبراني، وأبا طاهر بن عبد الرحيم، وأبا
منصور عبد الرزاق بن أحمد الخطيب، وأبا القاسم عبد العزيز بن أحمد،
وعلي بن شجاع المصقلي، وأبا العباس أحمد بن محمد بن النعمان، وأملى
ببغداد.
حدث عنه: ابن ناصر، وظاعن بن محمد الزبيري الخياط، وأبو طاهر السلفي،
وقومٌ، آخرهم عبد المنعم بن كليب.
قال ابن ناصر: وضع حديثاً وأملاه، وكان يخلط.
قلت: ثم إن روايته عن ابن ريذه حضور، فإن مولده فيما ذكر سنة ست
وثلاثين في رجبها، ومات ابن ريذه سنة أربعين.
وقال أبو نصر اليونارتي في معجمه: كان ابن ملة من الأئمة المرضيين،
يرجع في كل فن من العلم إلى حظ وافر.
وقال السلفي: هو من المكثرين، يروي عن عبد العزيز بن فادويه، وأبي
القاسم عبد الرحمن بن الذكواني، وكان أبوه يروي عن أبي محمد بن البيع
صاحب المحاملي.
مات أبو عثمان في ثاني روى عنه سنة تسع وخمس مئة بأصبهان.
صاحب مراغة، أحد الأبطال، كان إقطاعه يغل في السنة أربع مئة ألف دينار، وعسكره خمسة آلاف فارس، كان في مجلس السلطان محمد ابن ملكشاه، فأتاه مسكين، فتضرع إليه في قصة يقدمها، فيضربه بسكين، فبرك أحمديل فوقه، فوثب باطني آخر فوق أحمديل، فجرحه، فأضرتهما السيوف، فوثب ثالث، وضرب أحمديل أثخنه، وذلك في أول سنة عشر وأربع مئة، وكان أحمديل إلى جانب أمير دمشق طغتكين قد قدما بغداد إلى خدمة محمد.
محمد
بن المختار بن محمد بن عبد الواحد بن عبد الله بن المؤيد بالله الهاشمي
العباسي البغدادي، والد المعمر أبي تمام أحمد بن محمد، ويعرف بابن
الخص.
كان ثقةً صالحاً ديناً، جليلاً محترماً، من أهل الحرم الطاهري.
سمع الكثير من عبد العزيز بن علي الأزجي، وأبي الحسن القزويني، وأبي
إسحاق البرمكي، وأبي علي بن المذهب.
روى عنه أبو علي الرحبي، وأحمد بن السدنك، وأبو طاهر السلفي، ونصر الله
القزاز، وعبد المنعم بن كليب وآخرون.
توفي في يوم عاشوراء من سنة ثمان وخمس مئة، وعاش ثمانين عاماً.
الوزير الكبير، أبو المعالي هبة الله بن محمد بن علي بن المطلب
الكرماني، الفقيه الشافعي.
كان من كبار الأعيان، رأساً في حساب الديوان، ساد وعظم، ووزر للمستظهر
بالله سنتين ونصفاً، ثم عزل.
روى عن عبد الصمد بن المأمون وطبقته، وكان ذا معروف وبر، يلقب بمجير
الدين، له خبرة وفضيلة وذكاء، صرف في سنة اثنتين وخمس مئة، ولزم بيته
إلى أن توفي سنة تسع وخمس مئة.
الشيخ
الجليل المسند، أبو علي الحسن بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد
الباقرحي، ثم البغدادي، رجل مستورٌ، من بيت الرواية، سمع الكثير.
مولده سنة سبع وثلاثين وأربع مئة.
سمع أبا الحسن بن القزويني، وأبا بكر بن بشران، وأبا الفتح شيطا، وأبا
طاهر محمد بن علي بن العلاف، وأبا إسحاق البرمكي، وأبا القاسم التنوخي.
حدث عنه: السلفي، وجماعة، وآخر من روى عنه ابن كامل، وممن روى عنه أبو
نصر عبد الرحيم اليوسفي.
مات في رجب سنة سعيد عشرة وخمس مئة.
وفيها مات صاحب ماردين، وأبو ملوكها نجم الدين أيل غازي بن أرتق
التركماني، ومحيي السنة أبو محمد البغوي، والحافظ أبو محمد عبد الله
ابن أحمد بن السمرقندي أخو إسماعيل، وشيخ القراء أبو القاسم عبد الرحمن
ابن بن بكر بن الفحام الصقلي مصنف التجريد، وصاحب المقامات أبو محمد
القاسم بن علي الحريري البصري، وأبو عدنان محمد بن أحمد بن المطهر بن
أبي نزار الربعي الأصبهاني، والحافظ محمد بن عبد الواحد الدقاق، وأبو
نصر محمد بن هبة الله بن مميل الشيرازي معيد النظامية.
العلامة أبو عبد الله الحسين بن أحمد البغدادي بن الشقاق الفرضي، لشق
قرون القسي. أخذ الفرائض والحساب عن الخبري، وعبد الملك الهمداني، وبقي
بلا نظير، وصنف التصانيف.
قال السلفي: كان آية من آيات الزمان في الفرائض والحساب، يقرئ ذلك.
وحدث عن أبي الحسين بن المهتدي بالله، وسمع منه ابن ناصر، والسلفي،
وخطيب الموصل.
مات في آخر سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وله نيفٌ وسبعون سنة، رحمه الله.
الشيخ
الأمين، الثقة العالم المسند، أبو طالب عبد القادر بن محمد ابن عبد
القادر بن محمد بن يوسف البغدادي اليوسفي ابن أبي بكر.
ولد سنة نيف وثلاثين وأربع مئة.
وسمع المصنفات الكبار من أبي علي بن المذهب، وأبي إسحاق البرمكي، وأبي
بكر بن بشران، وأبي محمد الجوهري، وعدة، وتفرد في وقته.
حدث عنه السلفي، وأبو العلاء العطار، وهبة الله الصائن، وأبو بكر ابن
النقور، والشيخ عبد القادر، وعبد الحق اليوسفي، وأبو منصور بن أحمد
الدقاق، ويحيى بن بوش، وعددٌ كثير.
قال السمعاني: شيخ صالح ثقة دين، متحر في الرواية، كثير السماع، انتشرت
عنه الرواية في البلدان، وحمل عنه الكثير.
وقال السلفي: تربى أبو طالب على طريقة والده في الاحتياط التام في
الدين في التدين من غير تكلف، وكان كامل الفضل، حسن الجملة، ثقةً
متحرياً، إلى غايةٍ ما عليها مزيدٌ، قل من رأيت مثله، وكان أبوه أبو
بكر أزهد خلق الله.
قال محمد بن عطاف: توفي أبو طالب في آخر يوم الجمعة ثامن عشر ذي الحجة،
سنة ست عشرة وخمس مئة.
الإمام شيخ القراء، أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق بن خلف
القرشي الصقلي المقرئ النحوي ابن الفحام، نزيل الإسكندرية، ومؤلف
التجريد في القراءات.
تلا بالسبع على أبي العباس بن نفيس، وأبي الحسين نصر بن عبد العزيز
الفارسي، وعبد الباقي بن فارس، وإبراهيم بن إسماعيل المالكي بمصر، وطال
عمره، وتفرد، وتزاحم عليه القراء. تلا عليه أبو العباس بن الحطية، وابن
سعدون القرطبي، وعبد الرحمن بن خلف الله، وعدة.
وتلوت كتاب الله من طريقه بعلو وبغير علو.
أخذ النحو عن ابن بابشاذ، وعمل شرحاً لمقدمته.
قال سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحداً أعلم بالقراءات من
ابن الفحام، لا بالمشرق ولا بالمغرب، وروى عنه السلفي، وأبو محمد
العثماني، وغيرهما، وثقه السلفي وابن المفضل.
ولد سنة اثنتين أو خمس وأربع مئة، وهو يشك، وتوفي في ذي القعدة سنة ست
عشرة وخمس مئة بالثغر، وله نيفٌ وتسعون سنة، وآخر أصحابه في الدنيا
بالإجازة أبو طاهر الخشوعي. وقد ذكره السلفي، فقال: هو من خيار القراء،
رحل سنة ثمان وثلاثين، فأدرك ابن هشيم، وابن نفيس، علقت عنه فوائد،
وكان حافظاً للقراءات صدوقاً، متقناً، عالماً، كبير السن، وقيل: كان
يحفظ القراءات كالفاتحة.
ابن
إبراهيم، المحدث العالم الزاهد، شيخ المعمرين، أبو عبد الله السجزي
الصوفي، نزيل هراة، ووالد الشيخ أبي الوقت.
مولده بسجستان في سنة عشر وأربع مئة، فسمع من علي بن بشرى الليثي
الحافظ جملةً، وسمع بهراة من عبد الوهاب بن محمد الخطابي، وبغزنة من
الخليل بن أبي يعلى، وطائفة، وحمل ابنه عبد الأول على ظهره من هراة إلى
بوشنج مرحلة، فسمعا الصحيح من جمال الإسلام الداوودي.
قال أبو سعد السمعاني: هو صحيح صالح، حريصٌ على السماع، أجاز لي
مروياته، ثم ذكر مولده، قال: وتوفي بمالين من هراة في ثاني عشر شوال
سنة اثنتي عشرة وخمس مئة، وله مئة وسنتان.
وفيها مات أمير المؤمنين المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي
بالله عبد الله بن محمد بن القائم العباسي، وله اثنتان وأربعون سنة،
وكانت دولته خمساً وعشرين سنة، ومفتي بخارى شمس الأئمة الجابري، ونور
الهدى الحسين بن محمد الزينبي، والعلامة أبو القاسم سلمان بن ناصر
الأنصاري النيسابوري الأصولي صاحب إمام الحرمين، والمعمر بن العلاء
عبيد بن محمد القشيري، وشيخ الكلام أبو عبد الله محمد بن عتيق ابن أبي
كدية القيرواني الشعري ببغداد عن سن عالية، والحافظ محمود ابن نصر
الأصبهاني الصباغ ببغداد.
الإمام القدوة الزاهد، العابد المعمر، أبو الفتح نصر بن أحمد بن
إبراهيم الحنفي الهروي. سمع من جده لأمه أبي المظفر منصور بن إسماعيل
الهروي، الراوي عن أبي الفضل بن خميرويه، وسمع من أبي يعقوب القراب
الحافظ، وأبي الحسن الدباس وجماعة، وخرج له شيخ الإسلام أبو إسماعيل
الأنصاري فوائد في ثلاث مجلدات، وكان أسند من بقي ببلده وأزهدهم. حدث
عنه جماعة بهراة ومرو وبوشنج من مشايخ السمعاني. توفي سنة عشر وخمس
مئة، لا بل توفي في سابع شعبان سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
قال السمعاني: هو نصر بن أحمد بن إبراهيم بن أسد بن أحمد، من ولد حنيفة
بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
قال: وهو من أهل العلم والسداد والصلاح، أفنى عمره في كتابة العلم،
وتفرد بالرواية الكثيرة، سمع أباه، وجده، وجده لأمه، وأبا عثمان سعيد
بن العباس القرشي، وإسحاق بن أبي إسحاق القراب، وعبد الوهاب ابن محمد
بن عيسى، ومحمد بن الفضيل، ومولده سنة تسع عشرة وأربع مئة.
قلت: عاش اثنتين وتسعين سنة.
الشريف، كبير الشعراء، محمد بن صالح بن حمزة العباسي، من ذرية ولي
العهد عيسى بن موسى، ولقبه نظام الدين البغدادي، رأسٌ في الهجو
والخلاعة، وشعره فائق، خدم نظام الملك، وسعد به، وقد نظم كتاب كليلة
ودمنة جوده وحرره.
قلت: مات بكرمان سنة أربع وخمس مئة.
الإمام العلامة، شيخ الشافعية، فقيه العصر، فخر الإسلام، أبو بكر محمد
بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي التركي، مصنف المستظهري في المذهب،
وغير ذلك.
مولده بميافارقين في سنة تسع وعشرين وأربع مئة، وتفقه بها على قاضيها
أبي منصور الطوسي، والإمام محمد بن بيان الكازروني، ثم قدم بغداد،
ولازم أبا إسحاق، وصار معيده، وقرأ كتاب الشامل على مؤلفه.
وروى عن الكازروني شيخه، وعن ثابت بن أبي القاسم الخياط، وأبي بكر
الخطيب، وهياج بن عبيد المجاور، وعدة.
وانتهت إليه رياسة المذهب، وتخرج به الأصحاب ببغداد، وصنف. وكتاب
الحلية فيه اختلاف العلماء، وهو الكتاب الملقب بالمستظهري، لأنه صنفه
للخليفة المستظهر بالله، وولي تدريس النظامية بعد الغزالي، وصرف، ثم
وليها بعد إلكيا الهراسي سنة أربع وخمس مئة، ودرس أيضاً بمدرسة تاج
الملك وزير السلطان ملكشاه.
حدث عنه: أبو المعمر الأزجي، وعلي بن أحمد اليزدي، وأبو بكر ابن
النقور، وأبو طاهر السلفي، وفخر النساء شهدة.
مات في شوال سنة سبع وخمس مئة، ودفن إلى جنب شيخه أبي إسحاق الشيرازي،
وقيل: دفن معه. وقع لي من حديثه.
قال أبو القاسم يوسف الزنجاني: كان أبو بكر الشاشي يتفقه معنا، وكان
يسمى الجنيد لدينه وورعه وزهده، رحمه الله.
الشيخ
الإمام، الحافظ المحدث، أبو زكريا يحيى بن أبي عمرو عبد الوهاب بن
الحافظ الكبير أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن الحافظ محمد بن يحيى بن
منده العبدي الأصبهاني.
ولد في شوال سنة أربع وثلاثين وأربع مئة.
وبكّر به والده، فسمعه الكثير من أبي بكر بن ريذه، وأبي طاهر بن عبد
الرحيم، وأحمد بن محمد الفضاض. وطلب هذا الشأن، فسمع من أحمد بن محمود
الثقفي، ومحمد بن علي الجصاص، وإبراهيم بن منصور سبط بحرويه، وأبي
الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي، وأبي بكر البيهقي الحافظ، وخلق كثير،
وأكثر عن أبيه، وعمه أبي القاسم، وأجاز له من بغداد أبو طالب بن غيلان،
وطائفة، وأملى، وصنف، وجمع.
روى عنه: عبد الوهاب الأنماطي، وابن ناصر، وعلي بن أبي تراب، وأبو طاهر
السلفي، وعبد الحق اليوسفي، وأبو محمد بن الخشاب النحوي، ومحمد بن
إسماعيل الطرسوسي، وأبو موسى المديني، وخلق.
قال السمعاني: شيخٌ جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة حافظ،
مكثر صدوق، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيدٌ من التكلف، أوحد بيته في
عصره، أجاز لي. وسألت إسماعيل الحافظ عنه، فأثنى عليه، ووصفه بالحفظ
والمعرفة والدراية، وسمعت محمد بن أبي نصر اللفتواني الحافظ يقول: بين
بني منده بدئ بيحيى، وختم بيحيى.
مات في ذي الحجة سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
الإمام، أمير المؤمنين، أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي
القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن
القادر الهاشمي العباسي البغدادي. مولده في شوال سنة سبعين وأربع مئة،
واستخلف عند وفاة أبيه في تاسع عشر المحرم، وله ست عشرة سنة وثلاثة
أشهر، وذلك في سبع وثمانين.
قال ابن النجار: كان موصوفاً بالسخاء والجود، ومحبة العلماء وأهل
الدين، مع الفضل والنبل والبلاغة، وعلو الهمة، وحسن السيرة، وكان رضي
الأفعال، سديد الأقوال.
وحكى أبو طالب بن عبد السميع عن أبيه أن المستظهر بالله طلب من يصلي
به، ويلقن أولاده، وأن يكون ضريراً، فوقع اختياره على القاضي أبي الحسن
المبارك بن محمد بن الدواس مقرئ واسط قبل القلانسي، فكان مكرماً له،
حتى إنه من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح، فقرأ في
الركعتين الأوليين آيةً آيةً، فلما سلم، قال له المستظهر: زدنا من
التلاوة، فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا، فلم يزل حتى كان يقوم كل
ليلةٍ بجزء، وإنه ليلةً عطش، فناوله الخليفة الكوز، فقال خادم: ادع
لأمير المؤمنين، فإنه شرفك بمناولته إياك، فقال: جزى العمى عني خيراً،
ثم نهض إلى الصلاة، ولم يزد على ذلك.
وقال السلفي: قال لي أبو الخطاب ابن الجراح: صليت بالمستظهر في رمضان،
فقرأت: "إن ابنك سرق"، روايةً رويناها عن الكسائي، فلما سلمت، قال: هذه
قراءة حسنة، فيه تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب.
قلت: كيف بقولهم: "فأكله الذئب"، "وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذبٍ"؟! قال
ابن الجوزي: حدثني محمد بن شاتيل المقرئ، حدثني أبو سعد بن أبي عمامة
قال: كنت ليلة جالساً في بيتي، وقد نام الناس، فدق الباب، فإذا
بفرَّاشٍ وخادمٍ معه شمعة، فقال: بسم الله، فأدخلت على المستظهر، وعليه
أثر غم، فأخذت في الحكايات والمواعظ وتصغير الدنيا، وهو لا يتغير،
وأخذت في حكايات الكرام وغير ذلك، فقلت: هذا لا ينام، ولا يدعني أنام،
فقلت: يا أمير المؤمنين، لي مسألة، قال: قل، قلت: ولا تكتمني؟ قال: لا،
قلت: بالله حل عليك نقدةٌ للبائع، أو انكسر زورقك، أو وقعوا على قافلةٍ
لك، وضاق وقتك؟ عندي طبق خلافٍ أنا أقرضه لك، وتبقى بارزياً في الدروب
وما يخلي الله من رزق، فهذا هم عظيم، وقد مرستني الليلة، فضحك حتى
استلقى، وقال: قم، فعل الله بك وصنع، فقمت، وتبعني الخادم بدنانير وتخت
وثياب.
قيل: إن ابن مقلد العواد عنى المستظهر، فسره، فأعطاه مئتي دينار، وقطعة
كافور زنة ثلاثة أرطال مقمعة بذهب.
قال أبو طالب بن عبد السميع: كان من ألفاظ المستظهر: خير ذخائر المرء
لدنياه ذكرٌ جميلٌ، ولآخرته ثوابٌ جزيل.
شح المرء بفلسه من دناءة نفسه.
الصبر على الشدائد ينتج الفوائد.
أدب السائل أنفع من الوسائل.
بضاعة العاقل لا تخسر، وربحها يظهر في المحشر. وله نظم حسن.
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: توفي المستظهر بالله سحر ليلة الخميس
سادس عشرين ربيع الآخر، سنة اثنتي عشرة وخمس مئة، ومرض ثلاثة عشر يوماً
من تراقي ظهر به، وبلغ إحدى وأربعين سنة وستة أيام، وكان لين الجانب،
كريم الخلائق، مشكور المساعي، إذا سئل مكرمةً، أجاب إليها، وإذا ذكر
بمثوبةٍ تشوف نحوها.
وقيل: إنه أنشد قبل موته بقليل، وبكى:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره |
|
وكذاك عمر كواكب الأسحار |
وفي
أول خلافته، جهز السلطان بركياروق بن ملكشاه جيشاً مع قسيم الدولة جد
نور الدين وبوزبان، فالتقاهم تاج الدولة تتش بظاهر حلب، فأسر قسيم
الدولة، وذبحه تتش، وأخذ حلب بعد حصار، وذبح بوزبان، وسجن كربوقا،
وسار، فتملك الجزيرة، ثم خلاط، ثم أذربيجان كلها، واستفحل أمره، وكبس
عسكره بركياروق، فانهزم، وراحت خزائنه، وذهب إلى أصبهان، ففتحوا له
خديعةً، فأمسكوه، فمات أخوه صاحب أصبهان محمود، وله سبع سنين بالجدري،
فملكوا بركياروق ووزر له المؤيد بن نظام الملك، وجمع وحشد، ومات صاحب
مصر المستنصر، وأمير الجيوش بدر، ووالي مكة محمد بن أبي هاشم الذي نهب
الوفد، ثم التقى بركياروق وعمه تتش، فقتل في المعركة تتش، وتملك بعده
دمشق ابنه دقاق شمس الملوك، وقتل صاحب سمرقند أحمد خان، وكان قد حسنوا
له الإباحة، وتزندق، فقبض عليه الأمراء، وشهدوا عليه، فأفتى العلماء
بقتله، وملكوا ابن عمه.
وقتل سنة تسعين صاحب مرو أرغون أخو السلطان ملكشاه، وكان ظلوماً
جباراً، قتله مملوكٌ له، وكان حاكماً على نيسابور، وبلخ أيضاً، تمرد
وخرب أسوار بلاده. وعصى نائب العبيدية بصور، فجاء عسكر، وحاصروها
وافتتحوها، وقتلوا بها خلقاً، منهم نائبها.
وجهز السلطان بركياروق جيشاً مع أخيه سنجر، فبلغهم قتل أرغون، فلحقهم
السلطان، فتملك جميع خراسان، وخطب له بسمرقند، ودانت له الأمم، فاستناب
أخوه سنجر بخراسان، وكان حدثاً، وأمر بركياروق على خوارزم محمد بن
نوشتكين مولى السلجوقية، وكان فاضلاً أديباً عادلاً، ثم قام بعده ولده
خوارزم شاه أتسز والد خوارزم شاه علاء الدين.
وفي سنة تسع كان أول ظهور الفرنج بالشام قدموا في بحر قسطنطينية في جمع
كثير، وانزعجت الملوك، وعم الخطب، لا سيما ابن قتلمش صاحب الروم،
فالتقاهم، فطحنوه.
وأما ابن الأثير، فقال: ابتداء دولتهم في سنة 478، فأخذوا طليطلة
وغيرها، ثم صقلية، وأخذوا بعض إفريقية، وجمع ملهم بغدوين جمعاً، وبعث
يقول لرجال صاحب صقلية: أنا واصل إليك لنفتح إفريقية، فبعث يقول:
الأولى فتح القدس، فقصدوا الشام.
وقيل: إن صاحب مصر لما رأى قوة آل سلجوق واستيلائهم على الممالك، كاتب
الفرنج، فمروا بسيس، ونازلوا أنطاكية، فخاف صاحبها ياغي بسان، فأخرج
النصارى إلى الخندق وحبسهم به، فدام حصارها تسعة أشهر، وفني الفرنج
قتلاً وموتاً، ثم أنهم عاملوا الزراد المقدم، بذلوا له مالاً، فكاشر
لهم عن بدنه، ففتحوا شباكاً وطلعوا منه خمس مئة في الليل، ففتح ياغي
بسان، وهرب، واستبيح البلد _ فإنا لله _ في سنة إحدى وتسعين، وسقطت قوة
ياغي بسان أسفاً، وانهزم غلمانه، فذبحم حطاب أرمني. ثم أخذوا المعرة،
فقتلوا وسبوا، وتجمعت عساكر الموصل وغيرها، فالتقوا، فانهزم المسلمون،
واستشهد ألوف، وصالحهم صاحب حمص، وأقبل ابن أمير الجيوش، فأخذ القدس من
ابن أرتق، وانتشرت الباطنية بأصبهان، وتمت حروب مزعجة بين ملوك العجم،
وأخذت الفرنج بيت المقدس، نصبوا عليه أربعين منجنيقاً، وهدوا سوره،
وجدوا في الحصار شهراً ونصفاً، ثم ملكوه من شماليه في شعبان سنة اثنتين
وتسعين، وقتلوا به نحواً من سبعين ألفاً.
قال يوسف بن الجوزي والعهدة عليه: سارت الفرنج، وقدمهم كندفري في ألف
ألف، منهم خمس مئة ألف مقاتل، وعملوا برجاً من خشب ألصقوه بالسور،
وحكموا به على البلاد، وسار الأفضل أمير الجيوش، من مصر في عشرين ألفاً
نجدةً، فقدم عسقلان وقد استبيحت القدس، ثم كبست الفرنج المصريين،
فهزموهم، وانحاز الأفضل إلى عسقلان، وتمزق جيشه، وحوصر، فبذل لهم
أموالاً، فترحلوا عنه.
وتملك محمد بن ملكشاه، وهزم أخاه بركياروق، ثم حارب عسكر الموصل، وجرت
عجائب، ثم فر بركياروق إلى خراسان، وعسف، وعمل مصافاً مع أخيه سنجر،
فانهزم كلاً منهما، ثم سار بركياروق على جرجان طالباً أصبهان.
واتقى ابن الدانشهد جيش الفرنج فنقل ابن الأثير أنهم كانوا ثلاث مئة
ألف، فلم يفلت أحد منهم سوى ثلاثة آلاف.
وكانت وقعة بين المصريين والفرنج على عسقلان، فقتل مقدم المصريين سعد
الدولة، لكن انتصر المسلمون.
قال ابن الأثير: فيقال: قتل من الفرنج ثلاث مئة ألف.
قلت: هذه مجازفة عظيمة.
والتقى السلطان محمد بن ملكشاه وأخوه بركياروق مرات، وغلت الأقطار
بالباطنية، وطاغوتهم الحسن بن الصباح المروزي الكاتب، كان داعيةً لبني
عبيد، وتعانوا شغل السكين، وقتلوا غيلةً عدةً من العلماء والأمراء،
وأخذوا القلاع، وحاربوا، وقطعوا الطرق، وظهروا أيضاً بالشام، والتف
عليهم كل شيطان ومارق، وكل ماكرٍ ومتحيل.
قال الغزالي في سر العالمين: شاهدت قصة الحسن بن الصباح لما تزهد تحت
حصن الألموت، فكان أهل الحصن يتمنون صعوده، ويتمنع ويقول: أما ترون
المنكر كيف فشا، وفسد الناس، فصبا إليه خلق، وذهب أمير الحصن يتصيد،
فوثب على الحصن فتملكه، وبعث إلى الأمير من قتله، وكثرت قلاعهم، واشتغل
عنهم أولاد ملكشاه باختلافهم.
ولابن الباقلاني، والغزالي، وعبد الجبار المعتزلي كتبٌ في فضائح هؤلاء.
قال ابن الأثير: وفي سنة 494 أمر السلطان بركياروق بقتل الباطنية، وهم
الإسماعيلية، وهو الذين كانوا قديماً يسمون القرامطة.
قال: وتجرد بأصبهان للانتقام منهم الخجندي، وجمع الجم الغفير بالأسلحة،
وأمر بخفر أخاديد أوقدت فيها النيران، وجعلوا يأتون بهم، ويلقونهم في
النار، إلى أن قتلوا منهم خلقاً كثيراً. قال: وكان ابن صباح شهماً،
عالماً بالهندسة والنجوم والسحر، من تلامذة ابن غطاش الطبيب الذي تملك
قلعة أصبهان، وممن دخل بمصر على المستنصر، فأعطاه مالاً، وأمر بالدعوة
لابنه نزار، وهو الذي بعث من قتل نظام الملك، وقد قتل صاحب كرمان أربعة
آلاف لكونهم سنة، واسمه تيرانشاه السلجوقي، حسن له رأي الباطنية أبو
زرعة الكاتب، فانسلخ من الدين، وقتل أحمد بن الحسين البلخي شيخ
الحنفية، فقام عليه جنده وحاربوه، فذل، وتبعه عسكر، فقتلوه، وقتلوا أبا
زرعة، وصارت الأمراء يلازمون لبس الدروع تحت الثياب خوفاً من فتك هؤلاء
الملاحدة، وركب السلطان بركياروق في تطلبهم، ودوخهم، حتى قتل جماعةً
برآء، سعى بهم الأعداء، ودخل في ذلك أهل عانة، واتهم إلكيا الهراسي
بأنه منهم، وحاشاه، فأمر السلطان محمد بن ملكشاه بأن يؤخذ، حتى شهدوا
له بالخير، فأطلق.
وفيها كسر دقاق صاحب دمشق الفرنج، وحاصر صاحب القدس كندفري عكا، فقتل
بسهم، وتملك أخوه بغدوين، وأخذت الفرنج سروج بالسيف، وأرسوف وحيفا
بالأمان، وقيسارية عنوةً.
وفي سنة 459 مات المستعلي صاحب مصر، وولي الآمر، وكانت حروبٌ بين
الأخوين بركياروق ومحمد، وبلاء وحصار، ونازلت الفرنج طرابلس، فسار
للكشف عنها جند دمشق وحمص، فانكسروا، ثم التقى العسكر، وبغدوين،
فهزموه، وقل من نجا من أبطاله، وظفر ثلاثةٌ من الباطنية على جناح
الدولة صاحب حمص، فقتلوه في الجامع، فنازلتها الفرنج، فصولحوا على مال،
وتسلمها شمس الملوك، وقتلت الباطنية الأعز، وزير بركياروق، ومات كربوقا
صاحب الموصل بخوي، وقد استولى على أكثر أذربيجان.
وخطب سنجر بخراسان لأخيه محمد، وحارب قدرخان صاحب ما وراء النهر، فأسر
سنجر وقتله، وملك ابن بغراجان سمرقند، ونازل المسلمون بلنسية،
واسترجعوها من الفرنج بعد أن تملكوها ثمانية أعوام، ثم راحت من
المسلمين في سنة 636.
وفي سنة ست وتسعين سار شمس الملوك، فحاصر الرحبة، وأخذها، وجاء عسكر
حمص، فالتقوا الفرنج بيافا، وخذلت الفرنج، وتصالح بركياروق وأخوه،
وملوا من الحرب، وتحالفوا، وطال حصار الفرنج لطرابلس، وأخذوا جبيل،
وأخذوا عكا، ونازلوا حران، فجاء العسكر، ووقع المصاف، ونزل النصر،
وأبيدت الملاعين، وبلغت قتلاهم اثني عشر ألفاً، ومات شمس الملوك دقاق،
وتملك ولده بدمشق، وأتابكه طغتكين.
وفي سنة ثمان وتسعين مات بركياروق، وسلطنوا ابنه ملكشاه وهو صبي،
والتقى المسلمون والفرنج، فأصيب المسلمون، ثم قدم عسكر مصر، وانضم
إليهم عسكر دمشق، فكان المصاف مع بغدوين عند عسقلان، وثبت الفريقان،
وقتل من الفرنج فوق الألف، ومن المسلمين مثلهم، ثم تحاجزوا، وفيها تمكن
السلطان محمد وبسط العدل.
وفي سنة 496 كبس الأتابك طغتكين الفرنج بالأردن، فقتل وأسر، وزينت
دمشق، وأخذ من الفرنج حصنين. واستولت الإسماعيلية على فامية، وقتلوا
صاحبها ابن ملاعب، وكان جباراً يقطع الطريق.
وفي سنة خمس مئة مات صاحب المغرب والأندلس يوسف بن تاشفين، وتملك بعده
ابنه علي، وكان يخطب لبني العباس، وجاءته خلع السلطنة والألوية، وكان
أنشأ مراكش. وقتل واحدٌ من الإسماعيلية فخر الملك بن نظام الملك، وزر
لبركياروق، ثم لسنجر. وقبض محمد على وزيره سعد الملك، وصلبه بأصبهان،
واستوزر أحمد بن نظام الملك.
وقتل مقدم الإسماعيلية بقلعة أصبهان أحمد بن غطاش، قال ابن الأثير: قتل
أتباعه خلقاً لا يمكن إحصاؤهم، إلى أن قال: وخرب السلطان محمد القلعة،
وكان أبوه ملكشاه أنشأها على جبل، يقال: غرم عليها ألفي ألف دينار
وزيادة، فتحيل ابن غطاش حتى تملكها، وبقي بها اثنتي عشرة سنة.
وعزل المستظهر وزيره أبا القاسم بن جهير، ووزر هبة الله بن المطلب.
وغرق ملك قونية قلج رسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي.
وفي سنة إحدى وخمسين وخمس مئة مات صاحب الحلة سيف الدولة صدقة بن منصور
بن دبيس الأسدي ملك العرب الذي أنشأ الحلة على الرفض، قتل في وقعةٍ
بينه وبين السلطان محمد بن ملكشاه.
وفيها سار طغتكين في جند دمشق، فهزم الفرنج، وأسر صاحب طبرية جرماس،
وحاصر بغدوين الكلب صور، وبنى بإزائها حصناً، ثم بذل له أهلها سبعة
آلاف دينار، فترحل عنهم. وفي سنة اثنتين سار طغتكين في ألفين، فالتقى
الفرنج، فانهزم جمعه، وثبت هو، ثم تراجعوا إليه، ونصروا، وأسروا
قومصاً، بذل في نفسه جملةً، فأبى طغتكين وذبحه، ثم هادن بغدوين أربعة
أعوام.
وفيها تزوج المستظهر بأخت السلطان محمد على مئة ألف دينار.
وفيها أخذت الإسماعيلية شيزر بحيلةٍ، فرجع صاحبها من موكبه، فوجد بلده
قد راح منه، فيعمد نساؤه من القلة فدلوا حبالاً، واستقوه وأجناده، فوقع
القتال، واستحر القتل بالملاحدة، وكانوا مئةً، قد خدم أكثرهم حلاجين في
شيزر، فما نجا منهم أحدٌ، وقتل من الأجناد عدة.
وفي سنة ثلاث أخذت طرابلس في آخر السنة بعد حصار ست سنين أخذوها بأبراج
خشب صنعت وألصقت بسورها، وأخذوا بانياس، وجبيل بالأمان، ثم طرسوس، وحصن
الأكراد.
وفي سنة خمس تناحب عساكر العراق والجزيرة، وأقبلوا لغزو الفرنج، وعدوا
الفرات، فقل ما نفعوا، ثم رجعوا والأعداء تجول في الشام. وتمت بالأندلس
غزوةٌ كبرى _ نصر الله _، وانحطمت الفرنج، وقتل ابن ملكهم.
وفي سنة ست مات ملك الأرمن، فسار صاحب أنطاكية تنكري ليتملك سيس، فمرض،
ومات. ومات قراجا صاحب حمص، فتملك ابنه خيرخان.
وفي أول سنة سبع أقبل عسكر الجزيرة نجدةً لطغتكين، فالتقوا الفرنج
بالأردن، وصبر الفريقان، ثم استحر القتل بالفرنج، وأسر طاغيتهم بغدوين،
لكن أساء الذي أسره، فشلحه، وأطلقه جريحاً، ثم تراجع العدو، وجاءتهم
نجدة، فعملوا المصاف من الغد، وجمي القتال، وطاب الموت، وتحصن الكلاب
بجبل، فرابط الجيش بإزائهم يترامون بالنشاب ويقتتلون، فدام ذلك كذلك
ستة وعشرين صباحاً حتى عدمت الأقوات، وتحاجز الجمعان.
وفيها وثب باطني بجامع دمشق على صاحب الموصل مودود بن ألتونتكين فقتله،
وهو قد صلى الجمعة مع طغتكين، وأحرق الباطني.
قال ابن القلانسي في تاريخه: قام هو وطغتكين حولهما الترك والأحداث
بأنواع السلاح من الصوارم والصمصامات والخناجر المجردة، كالأجمة
المشتبكة، فوثب رجل لا يؤبه له، ودعا لمودود، وشحذ منه، وقبض بند
قبائه، وضربه تحت سرته ضربتين، والسيوف تنزل عليه، ودفن بخانقاه
الطواويس، ثم نقل، وكان بطبرية مصحفٌ أرسله عثمان رضي الله عنه إليها،
فنقله طغتكين إلى جامع دمشق.
وفيها تملك حلب أرسلان بن رضوان السلجوقي بعد أبيه، وقتل أخويه، ورأس
الإسماعيلية أبا طاهر الصائغ، وعدة منهم.
وفي سنة ثمان وخمس مئة هلك بغدوين من جرحه.
وقتلت الباطنية صاحب مراغة أحمديل.
وتخنزرت الفرنج في سنة تسع، وعاثوا بالشام، وأخذوا رفنية، فساق طغتكين،
واستنقذها، وكان قد عصى على السلطان، وحارب بعض عسكره، فندم، وسار
بنفسه على العراق بتحفٍ سنيةٍ، فرأى من الاحترام فوق آماله، وكتبوا له
تقليداً بإمرة الشام كله.
وفي سنة عشر قدم البرسقي صاحب الموصل إلى الشام غازياً، وسار معه
طغتكين، فكبسوا الفرنج، ونزل النصر، فقتل ألوفٌ من الفرنج، واستحكمت
المودة بين البرسقي وبين صاحب دمشق.
وفي سنة إحدى عشرة كبست الفرنج حماة، وقتلوا مئة وعشرين رجلاً، وبدعوا،
وجاء سيلٌ هدم سور سنجار، وغرق خلائق، وأخذ باب المدينة، ثم ظهر تحت
الرمل بعد سنين على مسيرة بريد، وسلم مولودٌ في سريره عامَ به، وتعلق
في زيتونة.
وفيها تسلطن السلطان محمود بعد أبيه محمد، وأنفقت خزائن أبيه في
العساكر، فقيل: كانت أحد عشر ألف ألف دينار.
وتوفي المستظهر بالله عن سبعة بنين، وصلى عليه ابنه المسترشد بالله.
وبعده ماتت جدته لأبيه أرجوان الأرمنية، وقد رأت ابنها خليفة، وابن
ابنها، وابن ابن ابنها، وما اتفق هذا لسواها.
إمام
المتكلمين، سيف النظر، سلمان بن ناصر بن عمران النيسابوري الصوفي
الشافعي، تلميذ إمام الحرمين.
روى عن فضل الله الميهني، وعبد الغافر الفارسي، وكان يتوقد ذكاءً، له
تصانيف وشهرةٌ وزهدٌ وتعبدٌ، شرح كتاب الإرشاد وغير ذلك.
مات سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
فارغب بنفسك إلا عن ندى ووغـى |
|
فالمجد أجمع بين البأس والـجـود |
كدأب يحيى الذي أحيت مـواهـبـه |
|
ميت الرجاء بإنجـاز الـمـواعـيد |
معطي الصوارم والهيف النواعم وال |
|
جرد الصلادم والبزل الـجـلامـيد |
إذا بدا بسرير الملـك مـحـتـبـياً |
|
رأيت يوسف في مـحـراب داود |
مات
يحيى يوم النحر فجأة، فكان موته وسط النهار سنة تسعٍ وخمس مئة، فكانت
دولته ثماني سنين، وخلف لصلبه ثلاثين ابناً، فتملك منهم ابنه علي، فقال
ستة أعوام، ومات، فملكوا ولده الحسن بن علي صبياً مراهقاً، فامتدت
أيامه، إلى أن أخذت الفرنج طرابلس المغرب بالسيف سنة إحدى وأربعين،
فهرب الحسن من المهدية هو وأكثر أهلها، ثم انضم إلى السلطان عبد
المؤمن.
وقد وقف ليحيى ثلاثة غرباء، وزعموا أنهم يعملون الكيمياء، فأحضرهم
ليتفرج وأخلاهم، وعنده قائد عسكره إبراهيم، والشريف أبو الحسن، فسل
أحدهم سكيناً، وضرب الملك، فما صنع شيئاً، ورفسه الملك دحرجه، ودخل
مجلساً وأغلقه، وقتل الآخر الشريف، وشد إبراهيم بسيفه عليهم، ودخل
المماليك، وقتلوا الثلاثة، وكانوا باطنية، أظن الآمر العبيدي ندبهم
لذلك.
الإمام، شيخ الإسلام، أبو الفضل جعفر بن الحسن، الفقيه الحنبلي المقرئ،
صاحب القاضي أبي يعلى.
سمع منه، ومن أبي علي بن البناء، ولقن خلقاً كثيراً، وكان قوالاً
بالحق، أماراً بالعرف، كبير الشأن، عظيم الهيبة. أثنى عليه ابن النجار،
وبالغ في تعظيمه، وذكر أنه كان يختم كل يوم في ركعة واحدة، وأنه تفقه
بأبي يعلى.
وقال أحمد الجيلي: جعفر ذو المقامات المشهورة، والمهيب بنور الإيمان
واليقين لدى الملوك والمتصرفين.
مات في الصلاة ساجداً في ربيع الآخر، فدفن بداره بدرزيجان، رحمه الله،
من سنة ست وخمس مئة.
الإمام العلامة، شيخ الحنفية، مفتي بخارى، شمس الأئمة أبو الفضل بكر بن
محمد بن علي بن الفضل الأنصاري الخزرجي، السلمي الجابري، البخاري
الزرنجري، وزرنجر: من قرى بخارى.
كان يضرب به المثل في حفظ المذهب، قال لي الحافظ أبو العلاء الفرضي:
كان الإمام على الإطلاق، والموفود إليه من الآفاق، رافق في أول أمره
برهان الأئمة الماضي عبد العزيز بن مازه، وتفقها معاً على شمس الأئمة
محمد بن أبي سهل السرخسي.
مولده سنة سبع وعشرين وأربع مئة، وتفقه أيضاً على شمس الأئمة عبد
العزيز أحمد الحلوائي.
وسمع أباه، وعمر بن منصور بن خنب، والحافظ أبا مسعود أحمد بن محمد
البجلي، وميمون بن علي الميموني، وأبا سهلٍ أحمد بن علي الأبيوردي،
فسمع منه الصحيح بسماعه من ابن حاجب الكشاني، وسمع أيضاً من إبراهيم بن
علي الطبري، والحافظ يوسف بن منصور، ومحمد بن سليمان الكاخستواني.
وتفرد، وعلا سنده، وعظم قدره، حتى كان يقال له: أبو حنيفة الأصغر، وكان
يدري التاريخ والأنساب، سألوه مرةً عن مسألة غريبة، فقال: كررت عليها
أربع مئة مرة.
حدث عنه: عمر بن محمد بن طاهر الفرغاني، وأبو جعفر أحمد بن محمد الخلمي
البلخي، ومحمد بن يعقوب نزيل سرخس، وعبد الحليم ابن محمد البخاري وعدة،
وتفقه عليه ولده عمر، وشيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر
الفرغاني وطائفة.
مات في تاسع عشر شعبان سنة اثنتي عشرة وخمس مئة.
وتوفي ولده العلامة عماد الدين عمر في سنة أربع وثمانين وخمس مئة.
العلامة الأصولي، شيخ القراء، أبو عبد الله محمد بن عتيق بن محمد ابن
هبة الله بن مالك التميمي القيرواني، المعروف بابن أبي كدية.
درس الكلام بالقيروان على الحسين بن حاتم صاحب ابن الباقلاني.
وسمع من ابن عبد البر، ومن القاضي محمد بن سلامة القضاعي، وتلا
بالروايات على أبي العباس بن نفيس، وسمع ببغداد من عبد الباقي بن محمد
العطار.
وحدث بصور، فسمع منه الفقيه نصرٌ المقدسي، وروى عنه أبو عامر العبدري،
وعبد الحق اليوسفي، والسلفي، وآخرون، وتصدر لإقراء الأصول، وكان
متعصباً لمذهب الأشعري.
تلا عليه بالروايات أبو الكرم الشهرزوري.
قال ابن عقيل: هو شيخ هشٌّ، حسن العارضة، جاري العبارة، حفظةٌ متدينٌ
صلفٌ، تذاكرنا، فرأيته مملوءاً علماً وحفظاً.
قلت: توفي في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمس مئة عن نحوٍ من تسعين سنة.
وقال السلفي: كان مشاراً إليه في الكلام، قال لي: أنا أدرس الكلام من
سنة ثلاث وأربعين، جرت بينه وبين الحنابلة فتنٌ، وأوذي غاية الإيذاء،
سألته عن مسألة الاستواء، فقال: أحد الوجهين للأشعري أنه يحمل على ما
ورد ولا يفسر.
وقال أحمد بن شافع: قال ابن ناصر وجماعةٌ: كان أصحاب القيرواني يشهدون
عليه أنه لا يصلي ولا يغتسل من جنابه في أكثر أحواله، ويرمى بالفسق مع
المرد، واشتهر بذلك، وادعى قراءة القرآن على ابن نفيس.
قلت: هذا كلام بهوًى.
الشيخ
المسند، المقرئ الصالح، بقية المشيخة، أبو بكر محمد بن عبد الله بن
محمد بن حسين بن الحارث الأصبهاني المجلد، يعرف بخوروست، ويكنى أيضاً
أبا الفتح.
ولد في حدود سنة خمس وعشرين وأربع مئة.
سمع أبا الحسين بن فاذشاه، وأبا القاسم عبد الله بن محمد العطار
المقرئ، وأبا بكر بن ريذه، وأحمد بن حسن بن فورك الأديب، وهارون بن
محمد الناني، وعبد الملك بن الحسين بن عبد ربه، وأبا طاهر بن عبد
الرحيم، وعدة، وعنده المستخرج على صحيح مسلم لأبي الشيخ يرويه عن أبي
سعيد القرقوبي عنه، وعنده مغازي ابن إسحاق سمعه من ابن عبد الرحيم.
حدث عنه الحافظ أبو موسى، والحافظ أبو العلاء العطار، وأبو جعفر محمد
بن أحمد بن نصر الصيدلاني.
قال أبو سعد السمعاني: كان شيخاً صالحاً يلقن الصبيان، ثم سرد شيوخه.
مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وعاش أخوه أبو المظفر
أحمد بعده سنواتٍ، وشيخه ابن فورك ممن سمع من الطبراني.
ومات فيها شيخ الحنابلة أبو الوفاء علي بن عقيل، وقاضي القضاة علي بن
قاضي القضاة محمد بن علي الدامغاني، وأبو الفضل محمد بن الحسن السلمي
ابن الموازيني، وأبو بكر محمد بن طرخان التركي، والعلامة أبو سعد
المبارك بن علي المخرمي الحنبلي، وأبو عبد الله محمد ابن عبد الباقي
الدوري.
وفيها كشفت الفرنج عن مغارة الخليل عليه السلام، وفتحوا عليه، وشوهد هو
وابنه إسحاق وحفيده يعقوب لم يبلوا، ووجد عندهم قناديل الذهب والفضة،
نقله حمزة بن أسد في تاريخه.
الحافظ البارع المجود، أبو بكر محمد بن حيدرة بن مفوز بن أحمد بن مفوز
المعافري الشاطبي.
ولد في عام موت أبي عمر بن عبد البر سنة ثلاث وستين وأربع مئة، وأجاز
له الشيخ أبو عمر بن الحذاء، والقاضي أبو الوليد الباجي.
وسمع من عمه طاهر بن مفوز، وأبي علي الجياني، فأكثر، وأبي مروان بن
سراج، ومحمد بن الفرج الطلاعي، وخلف شيخه أبا علي في حلقته.
وله ردٌّ على ابن حزمٍ، وكان حافظاً للحديث، وعلله، عالماً بالرجال،
متقناً أديباً شاعراً، فصيحاً نبيلاً، أسمع الناس بقرطبة، وفجئه الموت
قبل أوان الرواية، وعاش نيفاً وأربعين سنة.
توفي سنة خمسٍ وخمس مئة.
العلامة قاضي الجماعة، أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز
بن حمدين الأندلسي المالكي، صاحب فنون ومعارف وتصانيف.
ولي القضاء ليوسف بن تاشفين الملك، فسار أحسن سيرةٍ، وحمل عن أبيه.
روى عنه القاضي عياض وعظمه، وقال: توفي سنة ثمان وخمس مئة، ولي قضاء
قرطبة، وله إجازةٌ من أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس بن دلهاث،
وتفقه بأبيه، وبمحمد بن عتاب، وحاتم بن محمد، وكان ذكياً، بارعاً في
العلم، متفنناً أصولياً، لغوياً شاعراً، حميد الأحكام.
مات في المحرم لثلاث بقين منه عن تسع وستين سنة.
وكان يحط على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف، وألف في الرد عليه.
الإمام المحدث، مفيد دمشق، أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر
السلمي الدمشقي، المعروف بابن سيده.
سمع أبا القاسم بن أبي العلاء المصيصي، وأبا عبد الله بن أبي الحديد،
والفقيه نصراً، وطبقتهم. وعنه السلفي، وابن عساكر، وابنه أبو المعالي
عبد الله بن صابر.
قال ابن عساكر: سمعنا بقراءته الكثير، وكان ثقةً متحرزاً، عاش خمسين
سنة، توفي في رمضان سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
وقال السلفي: بخيلٌ بالإفادة، وكان جسداً ملئ حسداً.
الشيخ
الإمام، المفسر العلامة، أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام شيخ الصوفية أبي
القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري، النحوي المتكلم، وهو
الولد الرابع من أولاد الشيخ.
اعتنى به أبوه، وأسمعه، وأقرأه حتى برع في العربية والنظم والنثر
والتأويل، وكتب الكثير بأسرع خط، وكان أحد الأذكياء، لازم إمام
الحرمين، وحصل طريقة المذهب والخلاف، وساد، وعظم قدره، واشتهر ذكره.
وحج، فوعظ ببغداد، وبالغ في التعصب للأشاعرة، والغض من الحنابلة، فقامت
الفتنة على ساقٍ، واشتد الخطب، وشمر لذلك أبو سعدٍ أحمد بن محمد الصوفي
عن ساق الجد، وبلغ الأمر إلى السيف، واختبطت بغداد، وظهر مبادر البلاء،
ثم حج ثانياً، وجلس، والفتنة تغلي مراجلها، وكتب ولاة الأمر إلى نظام
الملك ليطلب أبا نصر بن القشيري إلى الحضرة إطفاءً للنائرة، فلما وفد
عليه، أكرمه وعظمه، وأشار عليه بالرجوع إلى نيسابور، فرجع، ولزم الطريق
المستقيم، ثم ندب إلى الوعظ والتدريس، فأجاب، ثم فتر أمره، وضعف بدنه،
وأصابه فالج، فاعتقل لسانه إلا عن الذكر نحواً من شهر، ومات.
سمع أبا حفص بن مسرور، وأبا عثمان الصابوني، وعبد الغافر الفارسي، وأبا
الحسين بن النقور، وسعد بن علي الزنجاني، وأبا القاسم المهرواني، وعدة.
حدث عنه: سبطه أبو سعد عبد الله بن عمر بن الصفار، وأبو الفتوح الطائي،
وخطيب الموصل أبو الفضل الطوسي، وعبد الصمد بن علي النيسابوري، وعدة،
وبالإجازة: أبو القاسم بن عساكر، وأبو سعدٍ السمعاني.
ذكره عبد الغافر في سياقه، فقال: هو زين الإسلام أبو نصر عبد الرحيم،
إمام الأئمة، وحبر الأمة، وبحر العلوم، وصدر القروم، أشبههم بأبيه
خلقاً، حتى كأنه شق منه شقًّا، كمل في النظم والنثر، وحاز فيهما قصب
السبق، ثم لزم إمام الحرمين، فأحكم المذهب والأصول والخلاف، ولازمه
يقتدي به، ثم خرج حاجاً، ورأى أهل بغداد فضله وكماله، ووجد من القبول
ما لم يعهد لأحد، وحضر مجلسه الخواص، وأطبقوا على أنهم ما رأوا مثله في
تبحره. إلى أن قال: وبلغ الأمر في التعصب له مبلغاً كاد أن يؤدي إلى
الفتنة.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: قال شيخنا أبو بكر القاسم بن الصفار: ولد أبي
أبو سعدٍ سنة ثمانٍ وخمس مئة، وسمع من جده وهو ابن أربع سنين أو أزيد،
والعجب أنه كتب بخطه الطبقة، وحيي إلى سنة ست مئة.
مات أبو نصر في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمس
مئة في عشر الثمانين.
الشيخ
العالم، الثقة الصالح المسند، أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن محمد
بن يسر الدوري، ثم البغدادي السمسار.
ولد سنة أربعٍ وثلاثين وأربع مئة.
سمع أبا بكر بن بشران، وأبا طالب العشاري، وأبا محمد الجوهري، وطائفة.
حدث عنه: أبو عامر العبدري، وابن ناصر، والسلفي، والصائن هبة الله،
وذاكر بن كامل، وعدةٌ، وبالإجازة عبد المنعم بن كليبٍ.
قال أبو سعد السمعاني: كان شيخاً صالحاً ثقة خيراً.
وقال ابن نقطة: هو محمد بن عبد الباقي بن محمد بن أبو اليسر.
قلت: توفي في صفر سنة ثلاث عشرة وخمس مئة. وفيها توفي ابن عقيل
الحنبلي، وقاضي القضاة علي بن محمد بن علي بن الدامغاني، ومحمد بن
الحسن بن الموازيني، ومحمد بن طرخان، ومحمد بن عبد الله خوروست، وأبو
سعدٍ المبارك بن علي المخرمي الحنبلي.
العلامة، شيخ الحنابلة، أبو سعدٍ المبارك بن علي المخرمي البغدادي.
تفقه بالقاضي أبي يعلى، ثم بأبي جعفر بن أبي موسى، ويعقوب بن سطورا
البرزبيني، ولازمهما حتى ساد، وبنى مدرسةً بباب الأزج، درس بعده بها
تلميذه الشيخ عبد القادر وكبرها، وكان نزهاً عفيفاً، ناب في القضاء،
وحصل كتباً عظيمة، وفتحت عليه الدنيا، وبنى داراً وحماماً وبستاناً.
وحدث عن أبي جعفر بن المسلمة، وأبي الغنائم بن المأمون، وتفقه به خلق.
روى عنه المبارك بن كامل. مات في المحرم سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وقد
شاخ.
الشيخ
الجليل الثقة، أبو منصور محمود بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن عبد الله
الأصبهاني الصيرفي الأشقر، راوي كتاب المعجم الكبير للطبراني عن أبي
الحسين أحمد بن محمد بن فاذشاه. وسمع أيضاً من أبي بكر محمد بن عبد
الله بن شاذان الأعرج.
حدث عنه: إسماعيل بن محمد في كتاب الترغيب، وأبو طاهر السلفي، وأبو
العلاء الهمداني، وأبو موسى المديني، وأبو بكر محمد بن أحمد المهاد،
ومحمد بن إسماعيل الطرسوسي، ومحمد بن أبي زيد الكراني الخباز، وبالحضور
أبو جعفر الصيدلاني، وهو محمود بن أبي العلاء.
مولده في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربع مئة. ومات _ على ما أرخه
أبو موسى _ في ذي القعدة سنة أربع عشرة وخمس مئة.
قال السلفي: كان رجلاً صالحاً، له اتصال ببني منده، وبإفادتهم سمع
الحديث.
وفيها مات أبو المعالي أحمد بن محمد بن علي بن البخاري، وهو المبخر،
أخو هبة الله، ومقرئ الثغر أبو علي الحسن بن خلف بن بليمة القروي،
ورئيس البلغاء مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي
الأصبهاني، والحافظ أبو علي بن سكرة الصدفي، وأبو نصر عبد الرحيم بن
أبي القاسم القشيري، ومقرئ المرية أبو الحسن بن شفيع، والمسند أبو
الحسن علي بن الحسن بن الموازيني، وأبو نصر المعمر بن محمد بن الحسين
البيع، وقاضي سمرقند العلامة أبو بكر محمود بن مسعود الشعيبي.
الشيخ
الإمام، الخطيب الثقة الشريف، أبو علي محمد بن الشيخ أبي الفضل محمد بن
عبد العزيز بن العباس بن المهدي بالله الهاشمي البغدادي الحريمي.
سمع أباه، وأبا طالب بن غيلان، وعبيد الله بن شاهين، وأبا الحسن أحمد
بن محمد العتيقي، وأبا إسحاق البرمكي، وأبا القاسم التنوخي، وعدة. وكان
ثقة مكثراً معمراً.
روى عنه السلفي: وأبو العلاء العطار، وابن ناصر، ودهبل بن كاره، وأخوه
لاحق، وأحمد بن موهوب بن السدنك، وأخوه يحيى، وذاكر بن كامل، والمبارك
بن المعطوش، وآخرون، وهو آخر من حدث عن أبي منصور محمد بن محمد بن
السواق، وتفرد بإجازة محمد بن عبد الواحد بن رزمة.
مولده سنة اثنتين وثلاثين. قال عبد الوهاب الأنماطي: ثقة صالح.
وقال ابن النجار: ثقة نبيل من ظراف البغداديين، قال الأنماطي: دخلت
عليه، فقال: اليوم كان عندي رسولان من رسل ملك الموت، فتبسمت، وقلت:
كيف؟ قال: جاء جماعةٌ حتى أشهدتهم على شهادةٍ عندي، وجاء المحدثون
ليسمعوا مني حتى يرووا عني، ثم قال: دخلت على أبي الحسين بن المهتدي
بالله، واتفق له مثل هذا، فقال لي مثل ذلك.
قال الأنماطي: توفي ليلة السبت سادس عشر شوال سنة خمس عشرة وخمس مئة.
وهو آخر من مات من شهود القائم بأمر الله.
وفيها توفي مسند الوقت أبو علي الحداد بأصبهان، وأمير الجيوش الأفضل بن
أمير الجيوش بدر الجمالي، والوزير أبو طالب علي بن حرب السميرمي، وأبو
القاسم علي بن جعفر بن القطاع اللغوي، وهزارسب بن عوض الهروي المحدث.
العلامة شيخ اللغة، أبو القاسم علي بن جعفر بن علي السعدي الصقلي ابن
القطاع، نزيل مصر، ومصنف كتاب الأفعال، وما أغزر فوائده، وله كتاب
أبنية الأسماء، وله مؤلف في العروض، وكتاب في أخبار الشعراء.
أخذ بصقلية عن ابن البر اللغوي وغيره، وأحكم النحو، وتحول من صقلية، ثم
استولت النصارى عليها بعد الستين وأربع مئة، فاحتفل المصريون لقدومه
وصدوره، وسمعوا منه صحاح الجوهري، ولم كن بالمتقن للرواية، وله نظم جيد
وفوائد.
توفي سنة خمس عشرة وخمس مئة عن إحدى وثمانين سنة.
الملك
نجم الدين ابن الأمير أرتق بن أكسب التركماني، صاحب ماردين، كان هو
وأخوه الأمير سقمان من أمراء تاج الدولة تتش صاحب الشام، فأقطعهما
القدس، وجرت لهما سيرٌ، ثم استولى إيلغازي على ماردين.
وكان ذا شجاعة، ورأي، وهيبة وصيت، حارب الفرنج غير مرة، وأخذ حلب بعد
أولاد رضوان بن تتش، واستولى على ميافارقين وغيرها قبل موته بسنة، ثم
سار منجداً لأهل تفليس هو وزوج بنته ملك العرب دبيس الأسدي، وانضم
إليهما طغان صاحب أرزن، وطغريل أخو السلطان محمود السلجوقي، وساروا على
غير تعبئة، فانحدر عليهم داود طاغية الكرج، فكبسهم، فهزمهم، ونازل
اللعين تفليس وأخذها بالسيف، وبدع، ثم جعلهم رعية له، وعدل ومكنهم من
شعار الإسلام، وأمر أن لا يذبح فيها خنزير، وبقي يجيء ويسمع الخطبة،
ويعطي الخطيب والمؤذنين الذهب، وعمر ربطاً للصوفة، وكان جواداً محترماً
للمسلمين.
وأما إيلغازي، فتوفي في رمضان بميافارقين سنة ست عشرة، فهذا أول من
تملك ماردين، واستمرت في يد ذريته إلى الساعة، فأخذ ميافارقين ابنه شمس
الدولة سليمان، واستولى ابنه حسام الدين تمرتاش على ماردين، واستولى
على حلب ابن أخيه الأمير سليمان بن عبد الجبار ابن أرتق إلى أن أخذها
منه ابن عمه بلك بن بهرام.
وقال سبط ابن الجوزي: توفي إيلغازي سنة خمس عشرة، وكان تحته بنت صاحب
دمشق طغتكين، وتزوج ابنه سليمان ببنت صاحب الروم، فمات سنة ثماني عشرة،
فتسلم تمرتاش ميافارقين.
الشافعي الجليل الثقة، أبو طاهر محمد بن الحسين بن محمد بن إبراهيم
الحنائي الدمشقي، من أهل بيت حديثٍ وعدالةٍ، وسنةٍ وصدق.
سمع أباه أبا القاسم الحنائي، وأبا الحسين محمد بن العفيف عبد الرحمن
بن أبي نصر، وأخاه أبا علي أحمد، ومحمد بن يحيى بن سلوان، ومحمد بن عبد
الواحد الدارمي، وابن سختام، وأبا علي الأهوازي، ورشأ بن نظيف، ومحمد
بن عبد السلام بن سعدان، والحسن بن علي بن شواش، وعدة، وتفرد بأجزاء
كثيرة.
حدث عنه: السلفي، والصائن بن عساكر، وأخوه الحافظ، والخضر بن شبل
الحارثي، وأبو طاهر بن الحصني، والخضر بن طاووس، والفضل بن البانياسي،
وأبو المعالي بن صابر، وآخرون.
واعتنى به والده، وأول سماعه كان في سنة تسع وثلاثين وأربع مئة، وله ست
سنين.
مات في ثالث جمادى الآخرة سنة عشر وخمس مئة، وله سبع وسبعون سنة.
الشيخ
العالم المسند، المقرئ الثقة، شيخ دمشق، أبو الحسن علي بن الحسن بن
الحسين بن علي السلمي الدمشقي ابن الموازيني.
مولده في رجب سنة ثلاثين وأربع مئة.
وسمع أبا علي أحمد، وأبا الحسين محمداً: ابني عبد الرحمن بن أبي نصر،
ورشأ بن نظيف، وأبا عبد الله بن سلوان، ومحمد بن عبد السلام بن سعدان،
وأبا القاسم بن الفرات، وأبا علي الأهوازي، وعبد الله بن علي بن أبي
عقيل، وعدة، وتفرد وعلا إسناده.
حدث عنه: السلفي، ومحمد بن حمزة، وأبو القاسم بن عساكر، وحفيده أحمد بن
حمزة بن الموازيني، وعبد الرزاق بن نصر النجار، وعبد الرحمن بن علي بن
الخرقي، والفضل بن الحسين البانياسي، وخلق.
قال السلفي: كان حسن الأخلاق، مرضي الطريقة، شيوخه هم شيوخ أبي طاهر
الحنائي، سمعا منه الكثير.
وقال ابن عساكر: شيخٌ مستور ثقة، حافظٌ للقرآن، سمعت منه أجزاء يسيرة،
مات سنة أربع عشرة وخمس مئة.
أخوه:
الشيخ
الإمام، العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة، أبو محمد
الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر، صاحب
التصانيف، كشرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح، وكتاب التهذيب،
والأربعين حديثاً، وأشياء.
تفقه على شيخ الشافعية القاضي حسين بن محمد المروروذي، صاحب التعليقة
قبل الستين وأربع مئة.
وسمع منه، ومن أبي عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي، وأبي الحسن محمد بن
محمد الشيزري، وجمال الإسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي،
ويعقوب بن أحمد الصيرفين وأبي الحسن علي بن يوسف الجويني، وأبي الفضل
زياد بن محمد الحنفي، وأحمد بن أبي نصر الكوفاني، وحسان المنيعي، وأبي
بكر محمد بن أبي الهيثم الترابي وعدة، وعامة سماعاته في حدود الستين
وأربع مئة، وما علمت أنه حج.
حدث عنه أبو منصور محمد بن أسعد العطاري عرف بحفدة، وأبو الفتوح محمد
بن محمد الطائي، وجماعة، وآخر من روى عنه بالإجازة أبو المكارم فضل
الله بن محمد النوقاني، الذي عاش إلى سنة ست مئة، وأجاز لشيخنا الفخر
بن علي البخاري.
وكان البغوي يلقب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيداً إماماً، عالماً
علامة، زاهداً قانعاً باليسير، كان يأكل الخبز وحده، فعذل في ذلك، فصار
يأتدم بزيت، وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، بورك له في تصانيفه، ورزق
فيها القبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته، وتنافس العلماء في تحصيلها،
وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصداً في لباسه، له ثوب خام،
وعمامة صغيرة على منهاج السلف حالاً وعقداً، وله القدم الراسخ في
التفسير، والباع المديد في الفقه، رحمه الله.
توفي بمرو الروذ مدينة من مدائن خراسان في شوال سنة ست عشرة وخمس مئة،
ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعاً وسبعين سنة رحمه الله.
ومات أخوه العلامة المفتي أبو علي الحسن بن مسعود بن الفراء سنة تسع
وعشرين، وله إحدى وسبعون سنة، روى عن أبي بكر بن خلف الأديب وجماعة.
أخبرنا عمر بن إبراهيم الأديب، وعبد الخالق بن علوان القاضي، وأحمد بن
محمد بن سعد، وإسماعيل بن عميرة، وأحمد بن عبد الحميد القدامي، وأحمد
بن عبد الرحمن الصوري، وخديجة بنت عبد الرحمن، قالوا: أخبرنا محمد بن
الحسين بن بهرام الصوفي سنة اثنتين وعشرين وست مئة، أخبرنا محمد بن
أسعد الفقيه سنة سبع وستين وخمس مئة، أخبرنا محيي السنة حسين بن مسعود،
أخبرنا محمد بن محمد الشيزري، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه، أخبرنا
إبراهيم بن عبد الصمد، أخبرنا أبو مصعب الزهري، عن مالك، عن يحيى بن
سعيد، عن عمرة، عن عائشة، أنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن ما يعرفن من الغلس.
الإمام العلامة البحر، شيخ الحنابلة، أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد
بن عقيل بن عبد الله البغدادي الظفري، الحنبلي المتكلم، صاحب التصانيف،
كان يسكن الظفرية، ومسجده بها مشهور.
ولد سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة.
وسمع أبا بكر بن بشران، وأبا الفتح بن شيطا، وأبا محمد الجوهري، والحسن
بن غالب المقرئ، والقاضي أبا يعلى بن الفراء، وتفقه عليه، وتلا بالعشر
على أبي الفتح بن شيطا، وأخذ العربية عن أبي القاسم بن برهان، وأخذ علم
العقليات عن شيخي الاعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان
صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة.
وكان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه
نظير على بدعته، وعلق كتاب الفنون، وهو أزيد من أربع مئة مجلد، حشد فيه
كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة، وما ينسخ له من الدقائق
والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث.
حدث عنه: أبو حفص المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، ومحمد بن أبي بكر
السنجي، وأبو بكر السمعاني، وأبو طاهر السلفي، وأبو الفضل خطيب الموصل،
وابن ناصر، وآخرون. أنبؤونا عن حماد الحراني، سمع السلفي يقول: ما رأت
عيني مثل أبي الوفاء بن عقيل الفقيه، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه
لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، تكلم يوماً مع
شيخنا إلكيا أبي الحسن، فقال له إلكيا: هذا ليس مذهبك، فقال: أكون مثل
أبي علي الجبائي، وفلان وفلان لا أعلم شيئاً؟! أنا لي اجتهاد متى ما
طالبني خصمٌ بالحجة، كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتي، فقال
إلكيا: كذاك الظن بك.
وقال ابن عقيل: عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على
العلم، وما خالطت لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا
في عشر الثمانين أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن
عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لا أرى نقصاً في الخاطر
والفكر والحفظ، وحدة النظر بالعين لرؤية الأهلة الخفية إلا أن القوة
ضعيفة.
قال ابن الجوزي: كان ابن عقيل ديناً، حافظاً للحدود، توفي له ابنان،
فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه، وكان كريماً ينفق ما يجد، وما خلف سوى
كتبه وثياب بدنه، وكانت بمقدار، توفي بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى
الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وكان الجمع يفوت الإحصاء، قال ابن ناصر
شيخنا: حزرتهم بثلاث مئة ألف.
قال المبارك بن كامل: صلي على شيخنا بجامع القصر، فأمهم ابن شافع، وكان
الجمع ما لا يحصى، وحمل على جامع المنصور، فصلي عليه، وجرت فتنةٌ،
وتجارحوا، ونال الشيخ تقطيع كفن، ودفن قريباً من الإمام أحمد.
وقال ابن الجوزي فيه أيضاً: هو فريد فنه، وإمام عصره، كان حسن الصورة،
ظاهر المحاسن، قال: قرأت على القاضي أبي يعلى من سنة سبع وأربعين وإلى
أن توفي، وحظيت من قربه بما لم يحظ به أحدٌ من أصحابه مع حداثة سني،
وكان أبو الحسن الشيرازي إمام الدنيا وزاهدها، وفارس المناظرة وواحدها،
يعلمني المناظرة، وانتفعت بمصنفاته، ثم سمى جماعة من شيوخه.
ثم قال: وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعةٍ من العلماء،
وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً.
قلت: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم،
وتجسر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة.
قال: وأقبل علي الشيخ أبو منصور بن يوسف، وقدمني على الفتاوي، وأجلسني
في حلقة البرامكة بجامع المنصور لما مات شيخنا في سنة ثمان وأربع مئة،
وقام بكل مؤنتي وتجملي.
وأما أهل بيتي، فإنهم أرباب أقلام وكتاب وأدب، وعانيت من الفقر والنسخ
بالأجرة مع عفةٍ وتقى، ولم أزاحم فقيهاً في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبةً
من رتب أهل العلم القاطعة عن الفائدة، وأوذيت من أصحابي، حتى طلب الدم،
وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس.
وفي تاريخ ابن الأثير قال: كان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته ابن
الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر
التوبة.
وقال ابن عقيل في الفنون: الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي، لأنهم
يأنسون بالإثبات، فمتى محونا ذلك من قلوبهم، زالت الحشمة.
قال: فتهافتهم في التشبيه أحب إلينا من إغراقهم في التنزيه، لأن
التشبيه يغمسهم في الإثبات، فيخافون ويرجون، والتنزيه يرمي بهم إلى
النفي، فلا طمع ولا مخافة من النفي، ومن تدبر الشريعة، رآها غامسة
للمكلفين في التشبيه بالألفاظ الظاهرة التي لا يعطي ظاهرها سواه، كقول
الأعرابي: أويضحك ربنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فلم
يكفهر لقوله، تركه وما وقع له.
قلت: قد صار الظاهر اليوم ظاهرين: أحدهما حق، والثاني باطل، فالحق أبو
يقول: إنه سميع بصير، مريدٌ متكلم، حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق
آدم بيده، وكلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأمثال ذلك، فنمره
على ما جاء، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى، ولا نقول: له
تأويلٌ يخالف ذلك.
والظاهر الآخر وهو الباطل، والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد،
وتمثل البارئ بخلقه، تعالى الله عن ذلك، بل صفاته كذاته، فلا عدل له،
ولا ضد له، ولا نظير له، ولا مثيل له، ولا شبيه له، وليس كمثله شيء، لا
في ذاته، ولا في صفاته، وهذا أمرٌ يستوي فيه الفقيه والعامي، والله
أعلم. قال السلفي: سمعت ابن عقيل يقول: كان جدي كاتب بهاء الدولة بن
بويه، وهو الذي كتب نسخة عزل الطائع، وتولية القادر، وهي عندي بخط جدي.
وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: حكى ابن عقيل عن نفسه قال: حججت،
فالتقطت عقد لؤلؤٍ فيه خيط أحمر، فإذا شيخٌ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه
مئة دينار، فرددته عليه، فقال: خذ الدنانير، فامتنعت، وخرجت على الشام،
وزرت القدس، وقصدت بغداد، فأويت بحلب على مسجد وأنا بردان جائع،
فقدموني، فصليت بهم، فأطعموني، وكان أول رمضان، فقالوا: إمامنا توفي
فصل بنا هذا الشهر، ففعلت، فقالوا: لإمامنا بنتٌ، فزوجت بها، فأقمت
معها سنة، وأولدتها ولداً ذكراً، فمرضت في نفاسها، فتأملتها يوماً فإذا
في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر، فقلت لها: لهذا قصة، وحكيت لها،
فبكت، وقالت: أنت هو والله، لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهم ارزق بنتي
مثل الذي رد العقد علي، وقد استجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العقد
والميراث، وعدت إلى بغداد.
وحكى عن نفسه قال: كان عندنا بالظفرية دارٌ، كلما سكنها ناسٌ أصبحوا
موتى، فجاء مرة رجلٌ مقرئ، فاكتراها، وارتضى بها، فبات بها وأصبح
سالماً، فعجب الجيران، وأقام مدةً، ثم انتقل، فسئل، فقال: لما بت بها،
صليت العشاء، وقرأت شيئاً، وإذا شاب قد صعد من البئر، فسلم علي، فبهت،
فقال: لا بأس عليك، علمني شيئاً من القرآن، فشرعت أعلمه، ثم قلت: هذه
الدار، كيف حديثها؟ قال: نحن جن مسلمون، نقرأ ونصلي، وهذه الدار ما
يكتريها إلا الفساق، فيجتمعون على الخمر، فنخنقهم، قلت: ففي الليل
أخافك، فجئ نهاراً، قال: نعم، فكان يصعد من البئر في النهار، وألفته،
فبينما هو يقرأ، إذا بمعزم في الدرب يقول: المرقي من الدبيب، ومن
العين، ومن الجن، فقال: أيشٍ هذا؟ قلت: معزم، قال: اطلبه، فقمت
وأدخلته، فإذا بالجني قد صار ثعباناً في السقف، فعزم الرجل، فما زال
الثعبان يتدلى حتى سقط في وسط المندل، فقام ليأخذه ويضعه في الزنبيل،
فمنعته، فقال: أتمنعني من صيدي؟! فأعطيته ديناراً وراح، فانتفض
الثعبان، وخرج الجني، وقد ضعف واصفر وذاب، فقلت: ما لك؟ قال: قتلني هذا
بهذه الأسامي، وما أظنني أفلح، فاجعل بالك الليلة، متى سمعت من البئر
صراخاً، فانهزم. قال: فسمعت تلك الليلة النعي، فانهزمت. قال ابن عقيل:
وامتنع أحدٌ أن يسكن تلك الدار بعدها.
أخبرنا إسماعيل بن طارق، أخبرنا أبو البقاء يعيش، أخبرنا عبد الله بن
أحمد الخطيب، أخبرنا علي بن عقيل الفقيه، أخبرنا أبو محمد الجوهري،
أخبرنا القطيعي، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن سعيد بن
أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس، إذ أتاه رجلٌ، فقال: إنما معيشتي من
التصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة
عذبه الله يوم القيامة حتى ينفخ فيها، وليس بنافخ فيها أبداً".
المفتي الواعظ الكبير، أبو سعد المعمر بن علي بن المعمر بن أبي عمامة
البغدادي الحنبلي.
ولد سنة تسع وعشرين وأربع مئة.
وسمع من ابن غيلان، وأبي محمد بن المقتدر، والحسن بن محمد الخلال، وعبد
العزيز بن علي الأزجي، وأبي القاسم التنوخي، وروى السير.
حدث عنه: ابن ناصر، وأبو المعمر الأنصاري.
قال ابن النجار: درس الفقه على شيوخ زمانه، وأفتى وناظر، وحفظ الأدب
والشعر والنوادر في الجد والهزل ما لم يحفظه غيره، وانفرد بالوعظ،
وانتفعوا بمجالسه، فكان يبكي الناس ويضحكهم، وله قبولٌ عظيم عند الخاص
والعام، وكان له من حدة الخاطر، وخفة الروح ما شاع وذاع واتفق عليه
الإجماع، وكان يؤم بالإمام المقتدي بأمر الله في التراويح وينادمه.
مات في روى عنه سنة ست وخمس مئة، وشيعه خلق كثير، وساق ابن النجار
نوادر وطيب مزاحٍ له.
أخوه:
الشيخ
المعمر، أبو المعالي عثمان بن علي بن المعمر بن أبي عمامة البغدادي
البقال.
سمع من أبي طالب بن غيلان، وعمر بن عبد الملك الرزان، وقرأ الأدب على
عبد الواحد بن برهان، والحسن بن محمد الدهان، وروى قليلاً.
قال ابن النجار: كان عسراً، غير مرضي السيرة، يخل بالصلوات، ويرتكب
المحظورات، روى عنه ابن الإخوة والسلفي، قال السلفي: قرأ اللغة على ابن
برهان إلا أن في عقله خللاً، وهو حسن الطريقة. وقال السمعاني: سمعت عبد
الوهاب الأنماطي يقول: رأينا أبا المعالي ابن أبي عمامة في جامع
المنصور، ومعنا جزءٌ، فأردنا أن نقرأه عليه، فسألناه، فأبى، فألححنا
عليه، فرفع صوته، وقال: أيها الناس، اشهدوا أني كذاب، ثم قال: لا يحل
لكم أن تسمعوا من كذاب، قوموا، قال: وكان شاعراً هجاءً، خبيث اللسان.
مات في روى عنه سنة سبع عشرة وخمس مئة، وله إحدى وتسعون سنة.
العميد، فخر الكتاب، مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي ابن محمد بن عبد الصمد الأصبهاني المنشئ، الشاعر، ذو باع مديد في الصناعتين، وله لامية العجم بديعة، وما أملح قوله:
يا قلب مالك والهوى من بعد ما |
|
طاب السلو وأقصر العشـاق |
أوَما بدا لك في الإفاقة والألـى |
|
نازعتهم كأس الغرام أفـاقـوا |
مرض النسيم وصح والداء الذي |
|
تشكوه لا يرجى لـه إفـراق |
وهذا خفوق البرق والقلب الذي |
|
تطوى عليه أضالعي خـفـاق |
قتل سنة أربع عشرة وخمس مئة.
الشيخ
العلامة، البارع المعمر، شيخ العربية واللغة، أبو عبد الله محمد بن
بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي المصري الأديب.
مولده في رح سنة عشرين وأربع مئة.
ولو سمع في صباه، لسمع من مسند مصر أبي عبد الله بن نظيف الفراء.
وقد سمع في الكبر من القاضي أبي عبد الله القضاعي، وعبد العزيز بن
الحسن الضراب، وكريمة المروزية، فجاور، وسمع منها صحيح البخاري.
حدث عنه: السلفي، والشريف أبو الفتوح الخطيب، وإسماعيل ابن علي النحوي،
ومنجب المرشدي، وأبو القاسم هبة الله البوصيري، وآخرون.
أرخ السلفي مولده، وقال: كان شيخ مصر في عصره في اللغة.
توفي في ربيع الآخر سنة عشرين وخمس مئة، وله مئة سنة وثلاثة أشهر. ذكره
العماد الكاتب، فقال: عمل في مسافر العطار:
يا عنق الإبريق من فضة |
|
ويا قوام الغصن الرطب |
هبك تجافيت وأقصيتنـي |
|
تقدر أن تخرج من قلبي |
العلامة الفقيه، أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان بن الحمامي، البغدادي
الشافعي.
كان أحد الأذكياء، بارعاً في المذهب وأصوله، من أصحاب ابن عقيل، ثم
تحول شافعياً، ودرس بالنظامية.
تفقه بالشاشي والغزالي. وسمع من النعالي، وابن البطر، وبقراءته سمع ابن
كليب الصحيح من أبي طالب الزينبي.
قال ابن النجار: كان خارق الذكاء، لا يكاد يسمع شيئاً إلا حفظه، حلالاً
للمشكلات، يضرب به المثل في تبحره، تصدر للإفادة مدة، وصار من أعلام
الدين، مات كهلاً سنة ثماني عشرة وخمس مئة.
الشيخ
الجليل، المعمر النبيل، أبو عدنان محمد بن أحمد بن الشيخ أبي عمر
المطهر بن أبي نزار محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن بجير الربعي
الأصبهاني.
ولد سنة أربع وثلاثين وأربع مئة.
سمع المعجم الصغير من أبي بكر بن ريذه، وسمع من جده المطهر، وجعفر بن
محمد بن جعفر، وسمع كتاب الرهبان للأسلي، من أبي القاسم عبد الرحمن بن
أبي بكر الذكواني، وكتاب شيوخ شعبة للطيالسي منه عن أبي الشيخ، وكتاب
العيد لأبي الشيخ وكتاب الأطعمة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة ليعقوب
الفسوي، وكتاب المحنة جمع صالح بن أحمد.
حدث عنه: أبو العلاء العطار، وأبو موسى المديني، ويحيى بن محمود الثقفي
وآخرون.
قال السمعاني: هو شيخٌ، سديدٌ، صالحٌ، هو أبو شيخينا عبد المغيث وعبد
الجليل.
قال أبو موسى: توفي في شهر روى عنه سنة ست عشرة وخمس مئة.
الشيخ
الكبير، شيخ الصوفية بأصبهان، السيد أبو محمد حمزة بن العباس بن علي
العلوي الحسيني، الأصبهاني الصوفي، مكثر عن أبي طاهر بن عبد الرحيم،
وكان مقدم الطائفة، ويعرف ببرطلة.
روى عنه: السلفي، وأبو سعيد الصائغ، وأبو موسى المديني، ومحمد بن عبد
الخالق بن أبي شكر الجوهري، وعفيفة الفارفارنية خاتمة أصحابه، وذكره
السمعاني في شيوخه بالإجازة.
توفي في سادس عشر جمادى الأولى سنة سبع عشرة وخمس مئة.
العلامة البارع، ذو البلاغتين، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن
عثمان البصري الحرامي الحريري، صاحب المقامات.
ولد بقرية المشان من عمل البصرة.
وسمع من أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى، وأبي القاسم الفضل القصباني،
وتخرج به في الأدب.
قال ابن افتخار: قدم الحريري بغداد، وقرأ على علي بن فضال المجاشعي،
وتفقه على ابن الصباغ، وأبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الفرائض على الخبري،
ثم قدم بغداد سنة خمس مئة، وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته، وقد أخذ
عليه فيها ابن الخشاب أوهاماً يسيرة اعتذر عنها ابن بري.
قلت: وأملى بالبصرة مجالس، وعمل درة الغواص في وهم الخواص، والملحة
وشرحها، وديواناً في الترسل، وغير ذلك، وخضع لنظمه نثره البلغاء.
روى عنه ابنه أبو القاسم عبد الله، والوزير علي بن طراد، وقوام الدين
علي بن صدقة، والحافظ ابن ناصر، وأبو العباس المندائي، وأبو بكر بن
النقور، ومحمد بن أسعد العراقي، والمبارك بن أحمد الأزجي، وعلي بن
المظفر الظهيري، وأحمد بن الناعم، ومنوجهر بن تركانشاه، وأبو الكرام
الكرابيسي، وأبو علي بن المتوكل، وآخرون.
وآخر من روى عنه بالإجازة أبو طاهر الخشوعي الذي أجاز لشيوخنا، فعن
الحريري قال: كان أبو زيد السروجي شيخاً شحاذاً بليغاً، ومكدياً
فصيحاً، ورد البصرة علينا، فوقف في مسجد بني حرام، فسلم، ثم سأل، وكان
الوالي حاضراً، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وذكر أسر الروم
ولده كما ذكرنا في المقامة الحرامية فاجتمع عندي جماعةٌ، فحكيت أمره،
فحكى لي كل واحد أنه شاهد منه في مسجد مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه معنى
في فصل، وكان يغير شكله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في
تلونه، وإحسانه، وعليه بنيت هذه المقامات. نقل هذه القصة التاج
المسعودي عن ابن النقور عنه.
قلت: اشتهرت المقامات، وأعجبت وزير المسترشد شرف الدين أنوشروان
القاشاني، فأشار عليه بإتمامها، وهو القائل في الخطبة: فأشار من إشارته
حكمٌ، وطاعته غنمٌ.
وأما تسميته الراوي لها بالحارث بن همام، فعنى به نفسه أخذاً بما ورد
في الحديث: "كلكم حارثٌ، وكلكم همامٌ" فالحارث: الكاسب، والهمام:
الكثير الاهتمام، فقصد الصفة فيهما، لا العلمية.
وبنو حرام: بحاء مفتوحة وراء، والمشان بالفتح: بليدة فوق البصرة معروفة
بالوخم.
قال ابن خلكان: وجدت في عدة تواريخ أن الحريري صنف المقامات بإشارة
أنوشروان، إلى أن رأيت بالقاهرة نسخة بخط المصنف، وقد كتب أنه صنفها
للوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير المسترشد، فهذا أصح، لأنه بخط
المصنف.
وفي تاريخ النحاة للقفطي أن أبا زيد السروجي اسمه مطهر ابن سلار، وكان
بصرياً لغوياً، صحب الحريري، وتخرج به، وتوفي بعد عام أربعين وخمس مئة،
سمع أبو الفتح المندائي منه الملحة بسماعه من الحريري.
وقيل: إن الحريري عمل المقامات أربعين وأتى بها إلى بغداد، فقال بعض
الأدباء: هذه لرجل مغربي مات بالبصرة، فادعاها الحريري، فسأله الوزير
عن صناعته، فقال: الأدب، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعةٍ عنه،
فانفرد وقعد زماناً لم يفتح عليه ما يكتبه، فقام خجلاً. وقال علي بن
أفلح الشاعر:
شيخٌ لنا من ربيعة الفـرس |
|
ينتف عثنونه من الهـوس |
أنطقه الله بالمشـان كـمـا |
|
رماه وسط الديوان بالخرس |
وكان
يذكر أنه من ربيعة الفرس، وكان يعبث بلحيته، فلما رد إلى بلده، كملها
خمسين ونفذها، واعتذر عن عيه بالهيبة.
وقيل: بل كره المقامة ببغداد، فتجاهل، وقبّل صغيراً بحلقة. وكان غنياً
له ثمانية عشر ألف نخلة.
وقيل: كان عفشاً زري اللباس فيه بخل، فنهاه الأمير عن نتف لحيته،
وتوعده، فتكلم يوماً بشيء أعجب الأمير، فقال: سلني ما شئت، قال: أقطعني
لحيتي، فضحك، وقال: قد فعلت.
توفي الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمس مئة بالبصرة، وخلف ابنين:
نجم الدين عبد الله، وقاضي البصرة ضياء الإسلام عبيد الله، وعمره سبعون
سنة.
الشيخ
الإمام، المحدث المتقن، أبو محمد عبد الله بن المقرئ المحقق أحمد بن
عمر بن أبي الأشعث بن السمرقندي، الدمشقي المولد، البغدادي الدار،
اللغوي، أخو المحدث إسماعيل. سمع أبا بكر الخطيب، وعبد العزيز الكتاني،
وأبا نصر بن طلاب، وعبد الدائم الهلالي بدمشق، وأبا الحسين بن النقور،
والصريفيني، وعدةً ببغداد، وعبد الرحمن بن محمد بن عفيف ببوشنج، وعلي
بن موسى الموسوي بمرو، وكامل بن إبراهيم الخندقي بجرجان، والفضل بن
المحب، وعدةٌ بنيسابور، وأبا منصور بن شكرويه وطبقته بأصبهان.
وعني بالحديث، وكتب الكثير، وكان يفهم ويدري، مع الإتقان والتحري
والدين، وسعة الأدب، وكان يقرأ لنظام الملك على الشيوخ، ويفيده.
خرج لنفسه المعجم. مولده سنة 444.
حدث عنه السلفي، وقال: كان فاضلاً عالماً، ثقةً، ذا لسنٍ وعربيةٍ، إذا
قرأ أعرب وأغرب.
قلت: مات في ربيع الآخر سنة ست عشرة وخمس مئة، وكان أبوه من كبار
تلامذة أبي علي الأهوازي في القراءات، وسيأتي أخوه إسماعيل بن
السمرقندي.
قال ابن النجار: كان أبو محمد يكتب مليحاً، ويضبط صحيحاً، كان موصوفاً
بالحفظ والثقة. روى عنه أخوه وبنته كمال، وابن ناصر، وهبة الله بن
مكرم، وشيخانا ذاكر بن كامل، ويحيى بن بوش.
وقال عبد الغافر في السياق: أبو محمد السمرقندي شاب، فاضلٌ، حافظ، حديد
الخاطر، خفيف الروح. إلى أن قال: كان حافظ وقته.
الشيخ
الصدوق المسند، أبو سعدٍ أحمد بن عبد الجبار بن أحمد ابن القاسم
الصيرفي بن الطيوري البغدادي، المقرئ الدلال في الكتب، أخو المحدث أبي
الحسين.
كان صالحاً، مقرئاً، مكثراً.
سمع أبا طالب بن غيلان، وأبا محمد الخلال، وأبا الطيب الطبري،
والجوهري، والعشاري، وعدةً. وأجاز له أبو علي الأهوازي، والحافظ محمد
بن علي الصوري، والحسن بن محمد الخلال، وطائفة.
قال ابن النجار: قرأ بالروايات على أبي بكر محمد بن علي الخياط، وأبي
علي بن البناء.
قال: وأجاز له عبد العزيز بن علي الأزجي وغيره.
حدث عنه: أبو طاهر السلفي، والصائن بن عساكر، وابن بوش، وذاكر بن كامل
وعدة، وتفرد بإجازته يحيى بن بوش، وعفيفة الفارفانية.
توفي في رجب سنة سبع عشرة وخمس مئة، وكان مولده في سنة أربعٍ وثلاثين
وأربع مئة.
قال ابن النجار: صدوقٌ، صحيح السماع، دلالٌ في الكتب.
أنبأنا أحمد بن سلامة، أنبأنا يحيى بن بوش، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار
قراءةً عليه، أخبرنا محمد بن محمد، أخبرنا أبو بكر الشافعي، حدثنا
الحارث بن محمد، حدثنا يزيد، أخبرنا ابن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، عن
عبادة بن الصامت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب
بالذهب، مثلاً بمثلٍ، يداً بيدٍ" وذكر الحديث.
الشيخ
الجليل، الصالح العدل الصادق، أبو الغنائم محمد بن محمد بن أحمد بن
محمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي، البغدادي الحريمي، الخطيب، من
بقايا المسندين ببغداد.
سمع أبا القاسم بن لؤلؤ، وأبا الحسن القزويني، وأبا إسحاق البرمكي،
وأبا محمد الجوهري.
حدث عنه ابن ناصر، والسلفي، وذاكر بن كامل، وأبو طاهر المبارك بن
المعطوش، وآخرون، وأجاز للخشوعي.
مولده في سنة ستٍّ وثلاثين وأربع مئة، ومات في ربيع الأول سنة 517.
الشيخ
أبو المعالي هبة الله بن محمد بن أحمد بن مسلم البغدادي الفرضي، أخو
نصر الله.
سمع أبا طالب بن غيلان، وأبا محمد بن الخلال، والجوهري.
روى عنه المبارك بن كامل، ويحيى بن بوش، وغيرهما. ذكره ابن النجار.
مات في رمضان سنة سبع عشرة وخمس مئة، وله تسعون سنة رحمه الله.
الإمام المحدث، الفقيه الخطيب الكبير، أبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن
إبراهيم بن محمد بن محمد بن نوح النوحي النسفي الحنفي، شيخ الحنفية،
راوي كتاب تنبيه الغافلين عن محمد بن عبد الرحمن نافلة محمد بن علي
الترمذي صاحب المؤلف أبي الليث السمرقندي، وروى أيضاً عن عمر بن أحمد
بن شاهين السمرقندي، وعلي بن الحسين السعدي، وعلي بن حسن بن مكي
النسفي، والعلامة عبد العزيز بن أحمد الحلوائي، والحافظ أبي مسعود أحمد
بن محمد البجلي.
حدث عنه: عمر بن حسن الدرغي، وإبراهيم بن يعقوب الواعظ، ومحمد بن محمد
السعدي المؤدب، ومحمد بن يوسف النجانيكثي، وأسعد بن إبراهيم القطواني،
ومحمد بن محمد بن فارس الهاشمي، ومحمود بن علي النسفي، وعلي بن عبد
الخالق اليشكري مشيخة أبي المظفر السمعاني، وعدة. أملى مدةً بسمرقند من
أصوله، وكان من كبار الأئمة.
مات في جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وخمس مئة، وله خمسٌ وثمانون سنة.
الشيخ
الإمام، الفقيه العلامة، المحدث الثبت الصالح، أبو الحسن محمد بن مرزوق
بن عبد الرزاق بن محمد البغدادي الزعفراني، الجلاب الشافعي.
مولده سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة، وكان تاجراً جوالاً.
سمع أبا بكر الخطيب، فأكثر، وأبا جعفر بن المسلمة، وعبد الصمد بن
المأمون، وأبا الحسين بن المهتدي بالله، وابن النقور، وسمع بدمشق أبا
نصر بن طلاب، وبالبصرة محمد بن علي السيرفي، وأبا علي التستري،
وبأصبهان أبا منصور بن شكرويه، وطائفةً، وبمصر من صالح بن إبراهيم بن
رشدين، وكتب الكثير، وحرر، وقيد وجمع وصنف، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق،
فبرع في المذهب.
حدث عنه: يوسف بن مكي، وأبو طاهر بن الحصني، وهبة الله ابن الحسن
الصائن، وأبو طاهر السلفي، وعبد الحق اليوسفي، وأخوه عبد الرحيم، ويحيى
بن بوش، وآخرون.
مات ببغداد في صفر سنة سبع عشرة وخمس مئة.
وفيها مات أبو سعد بن الطيوري، وأبو عبد الله أحمد بن محمد ابن علي بن
الخياط التغلبي، شاعر الشام، وأبو محمد حمزة بن العباس العلوي، وظريف
بن محمد النيسابوري، وأبو نهشل عبد الصمد ابن أحمد العنبري، وأبو
الغنائم بن المهتدي بالله، وأبو صادق مرشد ابن يحيى المديني، وأبو
عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الشاطبي.
الشيخ
المعمر، مسند الوقت، أبو طاهر عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن الهيثم
الأصبهاني الذهبي، الصباغ الدشتي، ويقال: الدشتج.
خاتمة من روى عن أبي نعيم الحافظ، وعبد الرحمن بن أحمد بن عمر الصفار.
وقد سمع أيضاً من أبي بكر بن ريذه، وأبي الوفاء مهدي بن محمد، وعبيد
الله بن المعتز، وغيرهم.
حدث عنه: السلفي، وأبو موسى المديني، وأحمد بن الفضل الكراني، وعفيفة
الفارفانية، وعبد الواحد بن أبي المطهر، وآخرون، وبالحضور يحيى الثقفي،
وأبو جعفر الصيدلاني، وسماعه من أبي نعيم حضور.
مات في ثاني عشر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وخمس مئة، وله نيف وتسعون
سنة.