الشبلي

الشبلي

الشيخ المسند، بقية المشايخ، خاتم من سمع من أبي نصر محمد ابن محمد الزينبي، أبو المظفر هبة الله بن أحمد بن محمد بن الشبلي البغدادي القصار الدقاق المؤذن.
ولد سنة سبعين وأربع مئة.
وسمع أيضاً من: أبي الغنائم بن أبي عثمان، وطراد بن محمد الزينبي، وأبي نصر بن المجلي. حدث عنه: أحمد بن صالح الجيلي، وأبو بكر الباقدرائي، وأبو العلاء العطار، وعبد المغيث بن زهير، وأحمد بن طارق، وأبو طالب بن عبد السميع، وعلي بن أبي سعد بن تميرة، وأبو الفتوح بن الحصري، وزيد ابن يحيى البيع، وظفر بن سالم البيطار، وأخته ياسمين، والشيخ شهاب الدين عمر السهروردي، والنفيس بن كرم، وهبة الله بن عمر بن كمال القطان، وعدة. وآخر من روى عنه بالإجازة عجيبة الباقدارية.
توفي في سلخ ذي الحجة سنة سبع وخمسين وخمس مئة.
ومن غريب الاتفاق أن فيها مات سميه أبو بكر هبة الله بن أحمد بن محمد الحفار ببغداد، سمع من رزق الله التميمي، وأجاز لكريمة.

الموسوي

السيد العالم الزاهد الصالح، شيخ هراة، أبو الحسن، علي بن حمزة ابن إسماعيل بن حمزة، الهاشمي العلوي الموسوي الهروي.
ولد سنة ثمان وستين وأربع مئة.
وسمع من: محمد بن علي العميري، ونجيب بن مروان، وأبي عامر الأزدي، وصاعد بن سيار، والحافظ عبد الله بن يوسف الجرجاني، وجماعة.
وخرج الحافظ أبو النضر عبد الرحمن الفامي له جزءاً عن مشايخه.
ومن مروياته كتاب العوالي لابن عدي.
وسمع جامع أبي عيسى من الأزدي.
حدث عنه: السمعاني وولده، وعبد الله بن عيسى بن أبي حبيب، وحفيده محمد بن إسماعيل بن علي، وحفيده الآخر علي بن محمد بن علي، ويحيى بن محمد المروزي، وأبو روح عبد المعز بن محمد البزاز، وآخرون.
وعاش نيفاً وتسعين سنة.
قال السمعاني: علوي حسن السيرة، مرضي، جميل الظاهر والباطن، كثير العبادة والخير، يتفقد الفقراء، ويراعيهم، محترم عند أهل بلده، مات سنة تسع وخمسين وخمس مئة.

الزيادي

الشيخ أبو عبد الله، محمد بن يوسف البغوي المقرىء الصوفي، بقية الكبار.
سمع جامع أبي عيسى من محمد بن أبي صالح الدباس في سنة ثمان وثمانين وأربع مئة.
ذكره ابن نقطة وأنه توفي بهراة سنة ستين وخمس مئة، فلو أنه كان ببغداد لبقي أصحابه إلى بعد الأربعين وست مئة.
عاش أكثر من تسعين سنة.

أبو حكيم

العلامة القدوة، أبو حكيم، إبراهيم بن دينار النهرواني الحنبلي، أحد أئمة بغداد.
إمام زاهد ورع خير حليم، إليه المنتهى في علم الفرائض.
أنشأ بباب الأزج مدرسةً، وانقطع بها يتعبد.
وكان يؤثر الخمول والقنوع، ويقتات من الخياطة، فيأخذ على القميص حبتين فقط، ولد جهد جماعة في إغضابه، فعجزوا، وكان يخدم الزمنى والعجائز بوجه طلق، وسماعه صحيح.
سمع أبا الحسن بن العلاف، وأبا القاسم بن بيان.
وعنه: ابن الجوزي، وابن الأخضر، وأبو نصر عمر بن محمد.
عاش خمساً وسبعين سنة، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وخمس مئة.

الزيات

الشيخ الصالح، أبو الندى، حسان بن تميم بن نصر، الدمشقي الزيات.
سمع من الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي من مجالسه.
وعاش بضعاً وثمانين سنة.
روى عنه: ابن عساكر وابنه، وعبد الخالق بن أسد، وأبو المواهب التغلبي، ومكرم القرشي، وكريمة بنت الحبقبق، وآخرون.
توفي في تاسع عشر رجب سنة ستين وخمس مئة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
وفيها مات أبو الفضل عبد الواحد بن إبراهيم بن القزة الدمشقي راوي الصحيح عن الفقيه نصر، عن ابن السمسار.

الصالح

وزير مصر، الملك الصالح، أبو الغارات، طلائع بن رزيك الأرمني المصري الرافضي، واقف جامع الصالح الذي بالشارع.
ولي نواحي الصعيد، فلما قتل الظافر، نفذ آل الظافر وحرمه إلى ابن رزيك كتباً مسخمة في طيها شعور أهله مقصوصةً، يستنفرونه ليأخذ بالثأر، فحشد وجمع، وأقبل، واستولى على مصر.
وكان أديباً عالماً شاعراً سمحاً جواداً ممدحاً شجاعاً سائساً.
ولد ديوان صغير.
ولما مات الفائز، أقام العاضد، فتزوج العاضد ببنته، وكان الحل والعقد إلى الصالح، وكان العاضد محتجباً عن الأمور لصباه، واغتر الصالح بطول السلامة، ونقص أرزاق الأمراء، فتعاقدوا على قتله، ووافقهم العاضد، وقرر قتله مع أولاد الداعي، وأكمنهم في القصر، فشدوا عليه، وجرحوه عدة جراحات، فبادر مماليكه، فقتلوا أولئك، وحمل، فمات ليومه في تاسع عشر رمضان سنة ست وخمسين وخمس مئة، وخلع على ابنه العادل رزيك، وولي الوزارة. قال الشريف الجواني: كان في نصر المذهب كالسكة المحماة لا يفري فريه، ولا يباري عبقريه، وكان يجمع العلماء، ويناظرهم على الإمامة.
قلت: صنف في الرفض والقدر. ولعمارة اليمني فيه مدائح ومراثي.
ولقد قال لعلي بن الزبد لما ضجت الغوغاء يوم خلافة العاضد وهو حدث: يا علي، ترى هؤلاء القوادين دعاة الإسماعيلية يقولون: ما يموت الإمام حتى ينصها في آخر، وما علموا أني من ساعة كنت أستعرض لهم خليفةً كما أستعرض الغنم.

المقتفي لأمر الله

أمير المؤمنين، أبو عبد الله، محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بالله عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر، الهاشمي العباسي البغدادي الحبشي الأم.
مولده في ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربع مئة.
وسمع من أبي الحسن بن العلاف، ومن مؤدبه أبي البركات السيبي.
وبويع بالإمامة في سادس عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمس مئة.
قال السمعاني: وأظنه سمع جزء ابن عرفة من ابن بيان، كتبت إليه قصة أسأله الإنعام بالإذن في السماع منه، فأنعم، وفتش على الجزء، ونفذه إلي على يد إمامه ابن الجواليقي، فسمعته من ابن الجواليقي عنه، حدثنا أبو منصور بن الجواليقي، أخبرنا المقتفي لأمر الله... فذكر حديثاً. قرأته على الأبرقوهي، أخبرنا أبو علي بن الجواليقي، أخبرنا الوزير عون الدين، أخبرنا المقتفي، أخبرنا أحمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو محمد الصريفيني، أخبرنا أبو طاهر المخلص، أخبرنا إسماعيل الوراق، حدثنا حفص الربالي، حدثنا أبو سحيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزداد الأمر إلا شدةً، ولا الناس إلا شحاً، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس.
وأنبأناه جماعة سمعوه من أبي اليمن الكندي، أخبرنا أبو الفتح البيضاوي، أخبرنا الصريفيني.
كان المقتفي عاقلاً لبيباً، عاملاً مهيباً، صارماً، جواداً، محباً للحديث والعلم، مكرماً لأهله، وكان حميد السيرة، يرجع إلى تدين وحسن سياسة، جدد معالم الخلافة، وباشر المهمات بنفسه، وغزا في جيوشه.
قال أبو طالب بن عبد السميع: كانت أيامه نضرةً بالعدل زهرة بالخير، وكان على قدم من العبادة قبل الخلافة ومعها، ولم ير مع لينه بعد المعتصم في شهامته مع الزهد والورع، ولم تزل جيوشه منصورة.
قلت: وكان من حسناته وزيره عون الدين بن هبيرة، وقيل: كان لا يجري في دولته شيء إلا بتوقيعه، وكتب في خلافته ثلاث ربعات، ووزر له علي بن طراد، ثم أبو نصر بن جهير، ثم علي بن صدقة، ثم ابن هبيرة، وحجبه أبو المعالي بن الصاحب، ثم كامل بن مسافر، ثم ابن المعوج، ثم أبو الفتح بن الصيقل، ثم أبو القاسم بن الصاحب.
وكان أسمر آدم، مجدور الوجه، مليح الشيبة، أقام حشمة الخلافة، وقطع عنها أطماع السلاطين السلجوقية وغيرهم، وكان من سلاطين خلافته صاحب خراسان سنجر بن ملكشاه، والملك نور الدين صاحب الشام، وأبوه قسيم الدولة.
أنبؤونا عن ابن الجوزي قال: قرأت بخط أبي الفرج الحداد قال: حدثني من أثق به أن المقتفي رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: سيصل هذا الأمر إليك، فاقتف بي. فلذا لقب المقتفي لأمر الله.
وكان قد قدم بغداد السلطان مسعود السلجوقي، وذهب الراشد من بغداد، فاجتمع القضاة والكبراء، وخلعوا الراشد كما ذكرنا لعدم أهليته، وحكم بخلعه ابن الكرخي القاضي، وبايعوا عمه.
قال السديد بن الأنباري: نفذ السلطان إلى عمه سنجر: من نستخلف ؟ فكتب إليه: لا تول إلا من يضمنه الوزير، وصاحب المخزن، وابن الأنباري. قال: فاجتمع بنا مسعود، فقال الوزير: نولي الدين الزاهد محمد بن المستظهر. قال: تضمنه ؟ قال: نعم. وكان صهراً للوزير على بنته تزوج بها في دولة أبيه.
وأخذ مسعود كل حواصل دار الخلافة بحيث لم يدع في إصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس وثمانية بغال. فقيل: بايعوا محمداً على أن لا يكون عنده خيل ولا عدة سفر، وفي الثانية من سنيه صادر مسعود أهل بغداد، فخرج إليه ابن الكواز الزاهد، ووعظه، فترك، ولم يدع للخليفة سوى العقار، ثم تزوج الخليفة بأخت مسعود. وفيها اقتتل مسعود وعساكر أذربيجان والراشد المخلوع، وتمت وقعة مهولة، وكتب الخليفة لزنكي بعشرة بلاد، وأن لا يعين الراشد، فخطب بالموصل للمقتفي، فنفذ الراشد يقول لزنكي: غدرت. قال: ما لنا طاقة بمسعود، وفارق الراشد وزيره ابن صدقة، وقل جمعه، وتحيز إلى مراغة، وبكى عند قبر أبيه، وحثا على رأسه التراب، فثار معه أهل مراغة، وبذلوا له الأموال، وقوي بالملك داود، وعمل مصافاً مع مسعود، فاستظهر داود.
وفيها هرب وزير مصر تاج الدولة بهرام الأنصاري الأرمني، وكان قد تمكن، واستعمل الأرمن، فظلم الرعية، فجمع رضوان الولخشي جيشاً، وقصد القاهرة، فسار بهرام في جيشه إلى الصعيد وأكثرهم أرمن نصارى، فمنعه أمير أسوان من دخولها، فاقتتلوا، وقتل عدة من الأرمن والسودان، ثم بعث يطلب أماناً من الحافظ العبيدي، فآمنه، فعاد وحبس بالقاهرة، ثم ترهب، ثم أطلق، ووزر للحافظ رضوان، ولقب بالملك الأفضل، ثم وقع بينه وبين الحافظ بعد سنتين، فهرب إلى الشام، فنزل على أمير الدولة كمشتكين صاحب صرخد، فأكرمه، وعظمه.
وأعيدت إلى المقتفي ضياعه ومعاملاته، وتمكن، ونصر عسكر دمشق وعليهم بزواش على فرنج طرابلس، والتقى زنكي والفرنج أيضاً فهزمهم، واستولى على قلعة لهم، ثم سار وأخذ بعلبك، وأخذت الروم بزاعة بالأمان، وتنصر قاضيها وجماعة، فلله الأمر.
وتزوج السلطان مسعود ببنت دبيس الأسدي لملاحتها، وأغلقت بغداد للعرس أسبوعاً في سنة 532.
وفيها استفحل أمر الراشد، والتف عليه عساكر، فقتلته الباطنية، ونازلت عساكر الروم حلب، وحمي الحرب، وقتل خلق من النصارى، وقتل بطريقهم، ثم نازلوا شيزر مدةً، وعاثوا في الشام، وما قحم عليهم زنكي، بل ضايقهم، وطلب النجدة من السلطان مسعود، ثم قلعهم الله.
وفي سنة 533 زلزلت جنزة. قال ابن الجوزي: فأهلكت مئتي ألف وثلاثين ألفاً، فسمعت شيخنا ابن ناصر يقول: جاء الخبر أنه خسفت جنزة، وصار مكان البلد ماء أسود. وكذا عدهم ابن الأثير في كامله لكن أرخها في سنة أربع.
وفيها حاصر زنكي دمشق غير مرة، وعزل ابن طراد من الوزارة، ووليها أستاذ الدار أبو نصر بن جهير، وعظم الخطب بالعيارين، وأخذوا الدور بالشموع والثياب من الحمامات، وأعانهم وزير السلطان، فتحزب الناس لهم، وأذن في ذلك السلطان، وتتبعوهم.
وفيها كانت وقعة عظمى بين سنجر السلطان وبين كافر ترك بما وراء النهر، فانكسر المسلمون، ونجا سنجر في طائفة، فتوصل إلى بلخ في ستة نفر، وقتل خلق كثير من الجيش حتى قيل: قتل مئة ألف، وسار اللعين في ثلاث مئة ألف فارس، وأحاطوا بسنجر في سنة ست وثلاثين.
وفي سنة تسع وثلاثين حاصر زنكي الفرنج بالرها، وافتتحها، ثم بعد سنوات أخذتها الفرنج.
وفيها افتتح عبد المؤمن مدينة تلمسان، ثم فاس.
وفي سنة إحدى وأربعين حاصر زنكي قلعة جعبر، فوثب عليه ثلاثة من غلمانه، فقتلوه، وعارضه شحنة مسعود المقتفي في دار الضرب، فأمر بحبسه، وعظم المقتفي، وأخذت الفرنج طرابلس المغرب، واستفحل أمر الملك عبد المؤمن، وغلب على ممالك المغرب.
وفي سنة اثنتين ولي ابن هبيرة ديوان الزمام، وعزل من ابن جهير، ووزر أبو القاسم علي بن صدقة.
وفي سنة 543 جاءت ثلاثة ملوك من الفرنج إلى القدس، منهم طاغية الألمان، وصلوا صلاة الموت، وفرقوا على جندهم سبع مئة ألف دينار، فلم يشعر بهم أهل دمشق إلا وقد صبحوهم في عشرة آلاف فارس وستين ألف رجل، فخرج المسلمون فارسهم وراجلهم، والتقوا، فاستشهد نحو المئتين، منهم الفندلاوي، وعبد الرحمن الحلحولي، ثم اقتتلوا من الغد، وقتل خلق من الفرنج، فلما كان خامس يوم وصل من الجزيرة غازي ابن زنكي في عشرين ألفاً، وتبعه أخوه نور الدين، وكان الضجيج والدعاء والتضرع بدمشق لا يعبر عنه، ووضعوا المصحف العثماني في صحن الجامع، وكان قسيس العدو قال: وعدني المسيح بأخذ دمشق، فحفوا به، وركب حماره وفي يده الصليب، فشد عليه الدماشقة، فقتلوه، وقتلوا حماره، وجاءت النجدات، فانهزم الفرنج. وقال ابن الأثير: سار ملك الألمان من بلاده لقصد المسلمين، وانضم إليهم فرنج الشام، فنازل دمشق، وبها الملك مجير الدين أبق وأتابكه معين الدين أنر، فنجده أولاد زنكي، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر، وأيس أهل دمشق، ووصل صاحب الموصل إلى حمص، فراسل أنر ملوك فرنج الساحل يقول: بأي عقل تساعدون الألمان علينا ؟! وإن ملكوا أخذوا منكم السواحل، وأنا إذا عجزت سلمت دمشق إلى ابن زنكي، فلا تقومون به، فتخاذلوا، وبذل لهم بانياس، فخوفوا ملك الألمان من عساكر الشرق، فرد إلى بلاده، وهي وراء قسطنطينية.
وفيها ظهور الدولة الغورية، فقصد سوري بن حسين مدينة غزنة، واستولى عليها، فجرت بينه وبين بهرام شاه وقعة، فقتل سوري، فغضبت الغور لقتله، وحشدوا، فكان خروجهم في سنة سبع وأربعين وخمس مئة، والملك في بقاياهم إلى اليوم، وافتتحوا إقليم الهند.
واشتد بإفريقية القحط، لا بل كان القحط عاماً، فقال المؤيد عماد الدين: فيها كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى بلاد المغرب.
وفي سنة 44 كسر نور الدين محمود صاحب حلب الفرنج، وقتل صاحب أنطاكية في ألف وخمس مئة منهم، وأسر مثلهم، ثم أخذ منهم حصن فامية. وكان جوسلين طاغية تل باشر قد ألهب المسلمين بالغارات، واستولى على إلبيرة وبهسنا ومرعش والراوندان وعين تاب وعزاز، فحاربه سلحدار نور الدين، فأسره جوسلين، فدس نور الدين جماعةً من التركمان، وقال: من جاءني بجوسلين فله ما طلب. فنزلوا بناحية عين تاب، وأغار عليهم جوسلين، وأخذ منهم امرأةً مليحةً، وافتضها تحت شجرة،، فكمن له التركمان، وأسروه، فأعطاهم نور الدين عشرة آلاف دينار، واستولى نور الدين على بلاده، واشتد القحط بالعراق عام أول، وزال في العام، ووزر ابن هبيرة، ونكثت فرنج السواحل، فشن أنر الغارات عليهم، وفعل مثله العرب والتركمان، حتى طلبوا تجديد الهدنة، وأن يتركوا بعض القطيعة. والتقى نور الدين الفرنج، فهزمهم، وقتل قائدهم البرنس أحد الأبطال، ومرض أنر بحوران ومات، ثم دفن بالمعينية.
ومات الحافظ صاحب مصر، وقام ولده الظافر، ووزر له ابن مصال، ثم اختلف المصريون، وقتل خلق.
وفي سنة 545 ضايق نور الدين دمشق، فأذعنوا، وخطبوا له بها بعد ملكها، فخلع على ملكها، وطوقه، ورده إلى البلد، واستدعى الرئيس مؤيد الدين إلى مخيمه، وخلع عليه، ورد إلى حلب.
وفيها أخذ ركب العراق، وقل من نجا، وقتل ابن مصال الوزير، وغلب ابن السلار.
قال ابن الجوزي: جاء باليمن مطر كله دم.
وفي سنة 46 عاود نور الدين محاصرة دمشق، وراسلهم نور الدين: إني أوثر إصلاح الرعية وجهاد الفرنج، فإن أعانني عسكركم على الغزو، فهو المراد. فنفروا، وامتنعوا، وخربت الغوطة، وعاث العسكر، وتحركت الفرنج إنجاداً لملك دمشق، فضاقت صدور الأخيار، وجرح خلق، ثم تحول نور الدين إلى البقاع لما جاءت جيوش الفرنج نجدةً، فطلبوا من دمشق مال القطيعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين، ثم عاد نور الدين إلى داريا، وبرز عسكر البلد، ووقعت المناوشة، وتصالحوا، ثم سار ملك دمشق مجير الدين إلى خدمة نور الدين إلى حلب، فأكرمه، وبقي كنائب لنور الدين بدمشق، وافتتح نور الدين أنطرطوس وتل باشر وعدة معاقل للفرنج، ونازلت أربعون ألفاً من الفرنج قرطبة ثلاثة أشهر، حتى كادوا أن يأخذوها، فكشف عنها جيش عبد المؤمن، وكانوا اثني عشر ألفاً، وقدم السلطان مسعود بغداد.
وفي سنة 47 مات مسعود، وقام بعده أخوه محمد، وعظم شأن المقتفي، وسار إلى واسط، فمهدها، وعطف إلى الكوفة، ثم عاد مؤيداً منصوراً، فعملت له قباب الزينة. وفي سنة 48 أخذت الفرنج عسقلان، واشتد الغلاء بدمشق، ومات الفقراء، فطمع نور الدين في أخذها، ففي أول سنة تسع قدم شيركوه رسولاً، فنزل في ألف فارس، فلم يخرجوا لتلقيه، وقويت الوحشة، وأقبل نور الدين، فنزل ببيت الأبار، وزحف على البلد مرتين، وأقبل عسكره إلى باب كيسان، فإذا ليس على السور كبير أحد، فتقدم راجل، فرأته يهودية، فدلت له حبلاً، فصار على السور، وتبعه جماعة، فنصبوا سنجقاً، وصاحوا: نور الدين يا منصور. وفتر القتال، وبادر قطاع خشب بفأسه، فكسر قفل باب شرقي، ودخل نور الدين، وفرحت به الرعية، فتحصن الملك مجير الدين بالقلعة طالباً للأمان، ثم نزل، فطيب نور الدين قلبه، وخرج بأمواله إلى الدار الأتابكية، ثم ذهب إلى حمص، وكتب له بها منشور.
وأقبلت الغز التركمان، فنهبوا نيسابور، وعذبوا وقتلوا بها ألوفاً، وخدموا السلطان سنجر، وأخذوه معهم، فصار في حال زرية بعد العز والملك، يركب أكدشاً، وربما جاع.
وفيها يوم الجمعة ثاني شوال وقعت صاعقة عظيمة في التاج الذي بدار الخلافة، فتأججت فيه وفي القبة والدار، فبقيت النار تعمل فيه تسعة أيام، حتى أطفئت بعد أن صيرته كالحممة، وكانت آيةً هائلةً وكائنةً مدهشة، وكان هذا التاج من محاسن الدنيا، أنشأه المكتفي في دولته، وكان شاهقاً بديع البناء، ثم رم شعثه وطري.
وفي سنة خمسين وخمس مئة سار المقتفي إلى الكوفة، واجتاز يسوقها، وقتل في العام الماضي الظافر بمصر، وقدم طلائع بن زريك من الصعيد للأخذ بثأر الظافر من قاتله عباس، ففر عباس نحو الشام بأمواله، فأخذته فرنج عسقلان، فقتلوه، وباعوا ابنه نصراً للمصريين، واضطرب أمر مصر، وعزمت الفرنج على أخذها، وأرست مراكب جاءت من صقلية على تنيس، فهجموها، وقتلوا، وسبوا، وافتتح نور الدين قلاعاً للفرنج وبعض بلاد الروم بالأمان، واتسع ملكه، فبعث إليه المقتفي تقليداً، ولقبه بالملك العادل، وأمره بقصد مصر.
وفي سنة 551 سار المقتفي والسلطان سليمان بن محمد بن ملكشاه إلى حلوان، ثم نفذ المقتفي العساكر مع السلطان، وفي رمضانها هرب سنجر من الغز في خواصه إلى ترمذ، وتمنع بها.
وكان أتسز خوارزمشاه وابن أخت سنجر الخاقان محمود يحاربان الغز، والحرب بينهم سجال، وذلت الغز بموت علي بك، وأتت الأتراك الفارغلية إلى خدمة سنجر، وعظم حاله، ورجع إلى دار ملكه مرو.
وفيها جاءت الزلزلة العظمى بالشام.
وفي سنة 52 ورد كتاب السلطان سنجر إلى الملك نور الدين يتودد فيه، وأنه انتصر على الغز بحيلة، ويعده بنصره على الفرنج، فزينت دمشق والقلعة بالمغاني، وكسر عسكر نور الدين الفرنج، وأخذ نور الدين بانياس بالسيف، ثم التقى نور الدين، ونصر عليهم، ولله الحمد.
وفيها نازل محمد شاه بن محمود وعلي كوجك بغداد في ثلاثين ألفاً، واقتتلوا أياماً، وعظم الخطب، وقتل خلق كثير، وبذل المقتفي الأموال والغلال، ثم ترحلوا، وسار المقتفي إلى أوانا، وتصيد، ومات سنجر السلطان، وهزم نور الدين الفرنج على صفد، وأخذت غزة من الفرنج.
وفي سنة 53 سار المقتفي إلى واسط، وزار مشهد الحسين، ورد، ثم سار إلى المدائن، وشهد العيد في تجمل باهر.
قال ابن الأثير: كان مصرع الإسماعيلية الخراسانيين، نزلوا وكانوا ألفاً وسبع مئة، فأخذوا زوق تركمان، فتناخت التركمان، وكروا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، فما نجا منهم إلا تسعة أنفس.
وكان ملحمة كبرى بين الغز وبين أمراء خراسان، ودام المصاف يومين، وانتصرت الغز، واستغنوا، وشرعوا في العدل قليلاً.
وفيها التقى المصريون والفرنج بفلسطين، فاستبيحت الفرنج.
وفيها التقى نور الدين والفرنج، فانهزم عسكره، ونجا نور الدين، وانهزم العدو أيضاً.
وفيها أقبل صاحب قسطنطينية في جيوش الروم، وأغار أوائلهم على بلاد أنطاكية.
وفي سنة 554 مرض نور الدين، وعهد بالملك بعده لأخيه مودود، وصالح صاحب القسطنطينية، وأطلق له مقدمين من أسرى الفرنج، فبعث هو إلى نور الدين هدايا وتحفاً، وسار نور الدين، فتملك حران، ومد سماطاً لأخيه مودود لم يسمع بمثله.
وفي سنة 4 كان الفساد بالغز عمالاً، وسار الخليفة إلى واسط، وسار عبد المؤمن سلطان المغرب، فحاصر المهدية سبعة أشهر، وأخذها بالأمان، وبها خلق من النصارى، وكانت بأيديهم من اثنتي عشرة سنة، وافتتح أيضاً قبلها تونس.
 وفي كامل ابن الأثير أن نقيب العلوية بنيسابور ذخر الدين قتل شافعي بعض أصحابه، فطلبه من رئيس الشافعية الموفقي، فحماه، فاقتتلوا أياماً، وعظم الخطب، وأحرقت المدارس والأسواق، واستحر القتل بالشافعية بحيث استؤصل البلد، فلله الأمر.
قال ابن الجوزي: مرض المقتفي بعلة التراقي، وقيل: بدمل في عنقه، فتوفي في ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مئة وله ست وستون سنة سوى ثمانية وعشرين يوماً، وكذا مات أبوه بعلة التراقي.

المستنجد بالله

الخليفة أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي.
عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة.
فلما احتضر المقتفي رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حظية المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم ليبايعوا ابنها علي بن المقتفي، قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهد يوسف ؟ قالت: أنا أكفيكموه، وهيأت جواري بسكاكين ليثبن عليه، فرأى خويدم يوسف الحركة، ورأى بيد علي وأمه سيفين، فبادر مذعوراً إلى سيده، وبعثت هي إلى يوسف: أن احضر موت أمير المؤمنين. فطلب أستاذ الدار، ولبس درعاً، وشهر سيفه، وأخذ معه جماعةً من الحواشي، والفراشين، فلما مر بالجواري ضرب جاريةً بالسيف جرحها، وتهارب الجواري، وأخذ أخاه وأمه، فحبسهما، وأباد الجواري تغريقاً وقتلاً، وتمكن. وأمه كرجية اسمها طاووس.
قال الدبيثي: كان يقول الشعر، ونقش خاتمه: من أحب نفسه عمل لها.
قال ابن النجار: حكى ابن صفية أن المقتفي رأى ابنه يوسف في الحر، فقال: أيش في فمك ؟ قال: خاتم يزدن عليه أسماء الاثني عشر، وذلك يسكن العطش. قال: ويلك يريد يزدن أن يصيرك رافضياً، سيد الاثني عشر الحسين رضي الله عنه، ومات عطشان.
وللمستنجد:

عيّرتني بالشّيب وهو وقار

 

ليتها عيّرت بما هو عار

إن تكن شابت الذّوائب منّي

 

فالليالي تزينها الأقـمـار

نبأني جماعة عن ابن الجوزي، حدثني الوزير ابن هبيرة، حدثني المستنجد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم منذ خمس عشرة سنة، فقال لي: يبقى أبوك في الخلافة خمساً وعشرين سنة. فكان كما قال، فرأيته قبل موت أبي بأربعة أشهر، فدخل بي من باب كبير، ثم ارتفعنا إلى رأس جبل، وصلى بي ركعتين، وألبسني قميصاً، ثم قال لي: قل: اللهم اهدني فيمن هديت.
ثم قال ابن الجوزي: أقر المستنجد أرباب الولايات، وأزال المكوس والضرائب.
ونقل صاحب الروضتين أنه كان موصوفاً بالعدل والرفق، وأطلق المكوس بحيث إنه لم يترك بالعراق مكساً، وكان شديداً على المفسدين، سجن عوانياً كان يسعى بالناس مدةً، فبذل رجل فيه عشرة آلاف دينار، قال المستنجد: فأنا أبذل عشرة آلاف دينار لتأتيني بآخر مثله أحبسه.
قال ابن الأثير في كامله: كان المستنجد أسمر، تام القامة، طويل اللحية، اشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدولة بن رئيس الرؤساء وقايماز المقتفوي كبير الأمراء، فواضعا الطبيب على أذيته، فوصف له الحمام، فامتنع لضعفه، ثم أدخل الحمام، وأغلق عليه، فتلف، هكذا سمعت غير واحد ممن يعلم الحال. قال: وقيل: إن الخليفة كتب إلى وزيره مع ابن صفية الطبيب يأمره بالقبض على قايماز وعضد الدولة وصلبهما، فأرى ابن صفية الخط لعضد الدولة، فاجتمع بقايماز ويزدن، فاتفقوا على قتله، فدخل إليه يزدن وآخر، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث، وأغلقاه عليه.
قلت: أول من بايع المستنجد عمه أبو طالب، ثم أخوه أبو جعفر، ثم ابن هبيرة، وقاضي القضاة الدامغاني.
وفي سنة 55 قبض الأمراء بهمذان على سليمان شاه، وملكوا أرسلان شاه، ومات بمصر الفائز بالله، وبايعوا العاضد.
وفي سنة 56 قتل بمصر الصالح وزيرها، واستولى شاور، وسافر للصيد المستنجد مرات، والتقى صاحب أذربيجان والكرج، فنصر الله، وتملك نيسابور المؤيد أيبه، واستناب مملوكه ينكز على بسطام ودامغان، وتمكن، وهزم الجيوش، وهو من تحت أمر السلطان رسلان. وفيها كسرت الفرنج نور الدين تحت حصن الأكراد، ونجا هو بالجهد، ونزل على بحيرة حمص، وحلف لا يستظل بسقف حتى يأخذ بالثأر، ثم التقاهم في سنة 59 فطحنهم، وأسر ملوكهم، وقتل منهم عشرة آلاف بحارم، ثم جهز جيوشه مع أسد الدين منجد الشاور وانتصر، وقتل ضده ضرغاماً، ثم استنجد بالفرنج، فأقبلوا، وضايقوا أسد الدين ببلبيس، وافتتح نور الدين حارم وبانياس، وضاع من يده خاتم بفص ياقوت يسمى الجبل، ثم وجدوه.
وفيها أقبل صاحب قسطنطينية بجيشه محارباً لملك الروم قلج رسلان، فنصر الله، وأخذ المسلمون منهم حصوناً.
وفي سنة 60 ولدت ببغداد بنت أبي العز الأهوازي أربع بنات جملة.
وفيها هاجت فتنة صماء بسبب العقائد بأصبهان، ودام القتال بين العلماء أياماً، وقتل خلق كثير. قال ابن الأثير.
وفي سنة 561 عملت الرافضة مأتم عاشوراء، وبالغوا، وسبوا الصحابة، وخرجت الكرج، وبدعوا في الإسلام، وغزا نور الدين مرات.
وفي سنة 62 كان مسير شيركوه إلى مصر ثاني مرة في ألفين، وحاصر مصر شهرين، واستنجد شاور بالفرنج، فدخلوا من دمياط، وحاربهم شيركوه، وانتصر، وقتلت ألوف من الفرنج، وسار شيركوه، واستولى على الصعيد، وافتتح ولد أخيه صلاح الدين الإسكندرية، ثم نازلته الفرنج، وحاصروه بها أشهراً حتى رد شيركوه، فهربت الفرنج عنها، واستقر بمصر للفرنج شحنة وقطيعة مئة ألف دينار في العام، وقدم شيركوه، وأعطاه نور الدين حمص.
وفي سنة 564 غزو شيركوه مصر ثالث مرة، وملكت الفرنج بلبيس، ونازلوا القاهرة، فذل لهم شاور، وطلب الصلح على قطيعة ألف ألف دينار في العام، فأجابه الطاغية مري إلى ذلك، فعجل له مئة ألف دينار، واستنجد بنور الدين، وسود كتابه، وجعل في طيه ذوائب النساء، وواصل كتبه يحثه، وكان في حلب، فجهز عسكره، واستخدم أسد الدين حتى قيل: كان في سبعين ألفاً من بين فارس وراجل، فتقهقر الفرنج لقدومه وذلوا، ودخل القاهرة في ربيع الآخر، وجلس في دست المملكة، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة، وكتب له التقليد وعلامة العاضد بخطه: هذا عهد لم يعهد مثله لوزير، فتقلد أمانةً رآك أمير المؤمنين لها أهلاً، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت بك بنوة النبوة، واتخذ للفوز سبيلاً، "ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ توكِيدها وقَد جَعَلْتُم اللَّهَ عَلَيكُم كَفِيلاً" النحل.
وقام شاور لضيافة الجيش، فطلبوا منه النفقة، فماطل، ثم شد عليه أمراء، فقبضوا عليه، وذبح، وحمل رأسه إلى العاضد، ومات شيركوه بعد الولاية بشهرين.
قال العماد: أحرق شاور مصر، وخاف عليها من الفرنج، ودامت النار تعمل فيها أربعةً وخمسين يوماً.
وقلد العاضد منصب شيركوه لابن أخيه صلاح الدين، فغضب عرب مصر وسودانها، وتألبوا، وأقبلوا في خمسين ألفاً، فكان المصاف بين القصرين يومين، وراح كثير منهم تحت السيف، وكانت الزلزلة العظمى بصقلية أهلكت أمماً.
وفي سنة خمس وستين جاءت زلازل عظام بالشام، ودكت القلاع، وأفنت خلقاً، وحاصرت الفرنج دمياط خمسين يوماً، فعجزوا، ورحلوا، وأخذ نور الدين سنجار، وتوجه إلى الموصل، ورتب أمورها، وبنى بها الجامع الأكبر، وسار فحاصر الكرك، ونصب عليها منجنيقين، وجد في حصارها، فأقبلت نجدة الفرنج، فقصدهم نور الدين، وحصدهم، وتمكن بمصر صلاح الدين وذهب إليه أبوه، فكان يوماً مشهوداً، ركب العاضد بنفسه لتلقيه. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، بعث إلي مدة مقام الفرنج على حصار دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
وقيل: إن المستنجد كان فيه عدل ورفق، بطل مكوساً كثيرة.
قال ابن النجار: كان موصوفاً بالفهم الثاقب، والرأي الصائب، والذكاء الغالب، والفضل الباهر، له نظم ونثر، ومعرفة بالأسطرلاب، توفي في ثامن ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة، وقام بعده ابنه المستضيء قلت: الإمام إذا كان له عقل جيد ودين متين، صلح به أمر الممالك فإن ضعف عقله، وحسنت ديانته، حمله الدين على مشاورة أهل الحزم، فتسددت أموره، ومشت الأحوال، وإن قل دينه، ونبل رأيه، تعبت به البلاد والعباد، وقد يحمله نبل رأيه على إصلاح ملكه ورعيته للدنيا لا للتقوى، فإن نقص رأيه، وقد دينه وعقله، كثر الفساد، وضاعت الرعية، وتعبوا به، إلا أن يكون فيه شجاعة وله سطوة وهيبة في النفوس، فينجبر الحال، فإن كان جباناً، قليل الدين، عديم الرأي، كثير العسف، فقد تعرض لبلاء عاجل، وربما عزل وسجن إن لم يقتل، وذهبت عنه الدنيا، وأحاطت به خطاياه، وندم والله حيث لا يغني الندم، ونحن آيسون اليوم من وجود إمام راشد من سائر الوجوه، فإن يسر الله للأمة بإمام فيه كثرة محاسن وفيه مساوىء قليلة، فمن لنابه، اللهم فأصلح الراعي والرعية، وارحم عبادك، ووفقهم، وأيد سلطانهم، وأعنه بتوفيقك.

أبو البركات

العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان، أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، اليهودي كان، ثم أسلم في أواخر عمره، خدم الخليفة المستنجد.
قال الموفق بن أبي أصيبعة: تصانيفه في غاية الجودة، وله فطرة فائقة، أضر بأخرة، وكان يملي على الجمال بن فضلان، وابن الدهان، والمهذب ابن النقاش، ووالد الموفق عبد اللطيف، كتابه المسمى بالمعتبر.
قيل: سبب إسلامه أنه دخل إلى الخليفة، فقام له الكل سوى القاضي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان القاضي لم يقم لأني غير ملته، فأنا أسلم. فأسلم.
خلف ثلاث بنات، وعاش نحو الثمانين.
وهو صاحب ترياق برشعثا، وله رسالة في ماهية العقل.
ومن تلامذته المهذب علي بن هبل.
مات سنة نيف وخمسين وخمس مئة. وبرع في علم الفلسفة إلى الغاية.

كمال

بنت المحدث أبي محمد عبد الله بن أحمد بن عمر بن السمرقندي، أم الحسن، صالحة خيرة، وهي زوجة المحدث عبد الخالق اليوسفي.
سمعت من: طراد، وابن البطر، والنعالي.
وعنها: إبراهيم بن برهان النساج، وهبة الله بن عمر بن كمال الحلاج.
توفي سنة ثمان وخمسين وخمس مئة.
أخوها:

أبو المظفر هبة الله

سمع النعالي، وجعفراً السراج.
روى عنه موفق الدين المقدسي.
مات سنة ثلاث وستين وخمس مئة.

الخزرجي

الإمام الفقيه، أبو عبد الله، محمد بن عبد الحق بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحق، الخزرجي القرطبي المالكي.
سمع الموطأ وغيره من محمد بن فرج الطلاعي، وعني بالفقه.
وسمع في كهولته من أبي محمد بن عتاب وطائفة.
روى عنه ابنه القاضي عبد الحق بن محمد، وأبو القاسم أحمد بن بقي وغيرهما.
وتوفي قريباً من سنة ستين وخمس مئة.
أخبرنا أبو محمد بن هارون في كتابه من تونس سنة سبع مئة قال: سمعت الموطأ من ابن بقي، أن محمد بن عبد الحق حدثه سماعاً عن الطلاعي.

الحرستاني

الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن أحمد بن جعفر، القرشي الحرستاني الدمشقي البستاني، راوي جزء الرافقي، سمعه في سنة ثمانين وأربع مئة من أبي عبد الله بن أبي الحديد، وهو الذي عرفهم بسماعه لما رآهم قد خرجوا يسمعون بالقرية، فقال: ما أنسى ابن أبي الحديد وقد طلع، وسمعنا عليه، وفرطت لهم من هذه الجوزة، فدخل الطلبة، فنبشوا سماعه.
روى عنه: ابن عساكر وابنه، ومحمود بن شتي، وأبو القاسم بن صصرى، وابن غسان، ومكرم، وكريمة.
توفي في شوال سنة إحدى وستين وخمس مئة عن نيف وتسعين سنة.

الفلكي

المولى الوزير الكبير الزاهد الصالح، أبو المظفر، سعيد بن سهل بن محمد بن عبد الله، النيسابوري الأصل، الخوارزمي، المشهور بالفلكي.
سمع من نصر الله بن أحمد الخشنامي، وعلي بن أحمد بن الأخرم المؤذن.
واستوطن دمشق بالسميساطية.
حدث عنه بالجزء المنسوب إليه: ابن عساكر وابنه بهاء الدين، وأبو المواهب بن صصرى، وأخوه الحسين، ومحمد بن الحسين المجاور، وزين الأمناء أبو البركات، ومحمد بن غسان، ومكرم بن أبي الصقر، وطائفة.
وقد كان وزر بخوارزم لصاحبها.
وكان ذا هيبة وشهامة ونهضة بأعباء الأمر وجود وبذل، ثم إنه خاف من الملك، فحج، وتصدق بأموال ضخمة، وقدم دمشق، ونزل بالخانقاه، وجدد بها الصفة الغربية والبركة والقناة من ماله، وباشر النظر في وقفها. وكان ثقةً متواضعاً صالحاً، حسن الاعتقاد، أثنى عليه ابن عساكر وغيره.
مات في شوال سنة ستين وخمس مئة، ودفن بمقابر الصوفية.
وفيها مات ببغداد شيخ الطب وصاحب التصانيف أمين الدولة هبة الله ابن صاعد ابن التلميذ النصراني الشقي، وكان قسيس النصارى عمر أربعاً وتسعين سنة.

العلوي

المولى الشريف، أبو طالب، محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن أبي زيد، العلوي الحسني البصري، نقيب الطالبيين ببلده.
سمع من أبي علي علي بن أحمد التستري، فحدث عنه بسنن أبي داود سماعاً للجزء الأول، وإجازةً لسائر الكتاب إن لم يكن سماعاً، وسمع أيضاً من جعفر بن محمد العباداني، وأبي عمر الحسن بن غسان النحوي، ومحمد بن علي المؤدب ابن العلاف.
قال السمعاني: قدم بغداد مرات، وانحدرت في صحبته إلى البصرة، وكان ظريفاً مطبوعاً، كان أصحابنا البصريون يقولون: إنه يكذب كثيراً فاحشاً في أحاديث الناس.
وقال ابن نقطة: قدم بغداد سنة 555، وحدث بها بسنن أبي داود، حدثنا عنه أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع، وسماعه من التستري في سنة اثنتين وسبعين.
وقال عمر بن علي القرشي: أخبرنا الشريف أبو طالب محمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبيد الله ابن عبد الله بن علي بن باغر بن عبيد الله بن عبد الله بن حسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب العلوي، ويعرف بابن أبي زيد، قال لي: ولدت في ربيع الأول سنة إحدى وستين وأربع مئة.
قال: وتوفي في ربيع الأول سنة ستين وخمس مئة.
وأما السمعاني، فقال: ولد سنة تسع وستين.
وقال ابن النجار: سألت النقيب أبا جعفر محمد بن محمد عن والده: متى ولد ؟ فقال: سنة تسع وستين.
قلت: استقدمه الوزير ابن هبيرة، وسمع منه السنن لأبي داود، وقد حدث به عنه الحافظ أبو الفتوح نصر بن الحصري بالسماع المتصل، وقال: أخبرت أن سماعه له ظهر بعد ذلك.
ثم قال ابن نقطة: هذا القول عندي فيه نظر، لأنا لم نسمع أحداً قاله غير ابن الحصري، والصحيح عندي ما قيده أبو المحاسن القرشي يعني الجزء الأول فقط، وآخره كراهية مس الذكر في الاستبراء.
قلت: قد روى الكتاب المقداد بن أبي القاسم القيسي سماعاً من ابن الحصري متصلاً، وأجاز لي روايته.
وأنبأنا أحمد بن سلامة، عن أحمد بن طارق، أن أبا طالب العلوي أنشدهم لنفسه:

لا تشكون دهراً سطا

 

شكواكه عين الخطـا

واصبر على حدثانـه

 

إن جار يوماً وامتطى

الدّهر دهـرٌ قـلّـبٌ

 

يوماه بؤسٌ أو عطـا

وفيها مات أبو العباس بن الحطيئة، وأبو الندى حسان بن تميم الزيات، وخزيفة بن سعد بن الهاطرا، والوزير سعيد بن سهل الخوارزمي الفلكي بدمشق، وأبو الفضل عبد الواحد بن إبراهيم بن القزة، وعلي بن أحمد بن محمد الأصبهاني اللباد، وعلي بن أحمد بن مقاتل السوسي، ومفتي الجزيرة أبو القاسم عمر بن محمد بن البزري الشافعي عن تسع وثمانين سنة، والعدل محمد بن عبد الله بن العباس الحراني ببغداد، وأبو يعلى الصغير محمد بن أبي حازم بن أبي يعلى بن الفراء شيخ الحنابلة، والوزير عون الدين بن هبيرة، وصاحب ملطية ياغي أرسلان بن دانشمد.

ابن هبيرة

الوزير الكامل، الإمام العالم العادل، عون الدين، يمين الخلافة، أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم، الشيباني الدوري العراقي الحنبلي، صاحب التصانيف.
مولده بقرية بني أوقر من الدور أحد أعمال العراق في سنة تسع وتسعين وأربع مئة.
ودخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وجالس الفقهاء، وتفقه بأبي الحسين بن القاضي أبي يعلى والأدباء، وسمع الحديث، وتلا بالسبع، وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف المذهب والعربية والعروض، سلفياً أثرياً، ثم إنه أمضه الفقر، فتعرض للكتابة، وتقدم، وترقى، وصار مشارف الخزانة، ثم ولي ديوان الزمام للمقتفي لأمر الله، ثم وزر له في سنة 544، واستمر ووزر من بعده لابنه المستنجد.
وكان ديناً خيراً متعبداً عاقلاً وقوراً متواضعاً، جزل الرأي، باراً بالعلماء، مكباً مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه، كبير الشأن، حسنة الزمان.
سمع أبا عثمان بن ملة، وهبة الله بن الحصين، وخلقاً بعدهما. وسمع الكثير في دولته، واستحضر المشايخ، وبجلهم، وبذل لهم.
قال ابن الجوزي: كان يجتهد في اتباع الصواب، ويحذر من الظلم ولا يلبس الحرير، قال لي: لما رجعت من الحلة، دخلت على المقتفي، فقال لي: ادخل هذا البيت، وغير ثيابك، فدخلت، فإذا خادم وفراش معهم خلع الحرير، فقلت: والله ما ألبسها. فخرج الخادم، فأخبر الخليفة، فسمعت صوته يقول: قد والله قلت: إنه ما يلبسه. وكان المقتفي معجباً به، ولما استخلف المستنجد، دخل ابن هبيرة عليه، فقال: يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن أبيك، فقال: صدقت.
قال: وقال مرجان الخادم: سمعت المستنجد بالله ينشد وزيره وقد قام بين يديه في أثناء مفاوضة ترجع إلى تقرير قواعد الدين والصلاح، وأنشده لنفسه:

ضفت نعمتان خصّتاك وعـمّـتـا

 

فذكرهما حتّـى الـقـيامة يذكـر

وجودك والـدّنـيا إلـيك فـقـيرةٌ

 

وجودك والمعروف في النّاس ينكر

فلو رام يا يحيى مكانك جـعـفـرٌ

 

ويحيى لكفّا عنه يحيى وجعـفـر

ولم أر من ينوي لك السّوء يا أبا ال

 

مظفّر إلا كنت أنت المـظـفّـر

قال ابن الجوزي: وكان مبالغاً في تحصيل التعظيم للدولة، قامعاً للمخالفين بأنواع الحيل، حسم أمور السلاطين السلجوقية، وقد كان آذاه شحنة في صباه، فلما وزر، استحضره وأكرمه، وكان يتحدث بنعم الله، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وقال: نزلت يوماً إلى دجلة وليس معي رغيف أعبر به. وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء، ويبذل لهم الأموال، فكانت السنة تدور وعليه ديون، وقال: ما وجبت علي زكاة قط. وكان إذا استفاد شيئاً من العلم، قال: أفادنيه فلان. وقد أفدته معنى حديث، فكان يقول: أفادنيه ابن الجوزي، فكنت أستحييى، وجعل لي مجلساً في داره كل جمعة، ويأذن للعامة في الحضور، وكان بعض الفقراء يقرأ عنده كثيراً، فأعجبه، وقال لزوجته: أريد أن أزوجه بابنتي، فغضبت الأم. وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر، فحضر فقية مالكي، فذكرت مسألة، فخالف فيها الجمع، وأصر، فقال الوزير: أحمار أنت ! أما ترى الكل يخالفونك ؟! فلما كان من الغد، قال للجماعة: إنه جرى مني بالأمس في حق هذا الرجل ما لا يليق، فليقل لي كما قلت له، فما أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء، واعتذر الفقيه، قال: أنا أولى بالاعتذار، وجعل يقول: القصاص القصاص، فلم يزل حتى قال يوسف الدمشقي: إذ أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير: له حكمه. فقال الفقيه: نعمك علي كثيرة، فأي حكم بقي لي ؟ قال: لا بد. قال: علي دين مئة دينار. فأعطاه مئتي دينار، وقال: مئة لإبراء ذمته، ومئة لإبراء ذمتي.
وما أحلى شعر الحيص بيص فيه حيث يقول:

يهزّ حديث الجود ساكن عـطـفـه

 

كما هزّ شرب الحيّ صهباء قرقف

إذا قيل عون الدّين يحيى تـألّـق ال

 

غمام وماس السّمهريّ المثـقّـف

قال ابن الجوزي: كان الوزير يتأسف على ما مضى، ويندم على ما دخل فيه، ولقد قال لي: كان عندنا بالقرية مسجد فيه نخلة تحمل ألف رطل، فحدثت نفسي أن أقيم في ذلك المسجد، وقلت لأخي مجد الدين: أقعد أنا وأنت، وحاصلها يكفينا، ثم انظر إلى ما صرت. ثم صار يسأل الله الشهادة، ويتعرض لأسبابها، وفي ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة ستين وخمس مئة استيقظ وقت السحر، فقاء، فحضر طيبه ابن رشادة، فسقاه شيئاً، فيقال: إنه سمه، فمات، وسقي الطبيب بعده بنصف سنة سماً، فكان يقول: سقيت فسقيت، فمات، ورأيت أنا وقت الفجر كأني في دار الوزير وهو جالس، فدخل رجل بيده حربة، فضربه بها، فخرج الدم كالفوارة، فالتفت فإذا خاتم ذهب، فأخذته، وقلت: لمن أعطيه ؟ أنتظر خادماً يخرج فأسلمه إليه، فانتبهت، فأخبرت من كان معي، فما استتممت الحديث حتى جاء رجل، فقال: مات الوزير، فقال رجل: هذا محال، أنا فارقته في عافية أمس العصر، فنفذوا إلي، وقال لي ولده: لا بد أن تغسله، فغسلته، ورفعت يده ليدخل الماء في مغابنه، فسقط الخاتم من يده حيث رأيت ذلك الخاتم، ورأيت آثاراً بجسده ووجهه تدل على أنه مسموم، وحملت جنازته إلى جامع القصر، وخرج معه جمع لم نره لمخلوق قط، وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر والعدل، ورثته الشعراء. قلت: له كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح شرح فيه صحيحي البخاري ومسلم في عشر مجلدات، وألف كتاب العبادات على مذهب أحمد، وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأخرى في علم الخط، واختصر كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت.
وقيل: إن الحيص بيص دخل على الوزير، فقال الوزير: قد نظمت بيتين، فعززهما:

زار الخيال نحيلاً مثل مرسـلـه

 

فما شفاني منه الضّمّ والقـبـل

ما زارني الطّيف إلا كي يوافقني

 

على الرّقاد فينفـيه ويرتـحـل

فقال الحيص بيص بديهاً:

وما درى أنّ نومي حيلةٌ نصبت

 

لوصله حين أعيا اليقظة الحيل

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: وقد اضطر ورثة الوزير ابن هبيرة إلى بيع ثيابهم وأثاثهم، وبيعت كتب الوزير الموقوفة على مدرسته، حتى لقد أبيع البستان لأبي الليث السمرقندي في الرقائق بخط منسوب وكان مذهباً بدانقين وحبة، وقيمته عشرة دنانير، فقال واحد: ما أرخص هذا البستان ! فقال جمال الدين بن الحصين: لثقل ما عليه من الخراج يشير إلى الوقفية فأخذ وضرب وحبس.
قلت: وزر بعده الوزير أبو جعفر أحمد بن البلدي، فشرع في تتبع بني هبيرة، فقبض على ولدي عون الدين محمد وظفر، ثم قتلهما، وجرى بلاء عظيم، نسأل الله السلامة بمنه.
قرأت على أحمد بن إسحاق بن الوبري، أخبرك الحسن بن إسحاق الكاتب، أخبرنا أبو المظفر يحيى بن محمد الوزير قال: قرأت على المقتفي لأمر الله محمد بن أحمد العباسي، حدثكم أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب السيبي، أخبرنا عبد الله بن محمد الصريفيني وأخبرنا أحمد أخبرنا المبارك بن أبي الجود، أخبرنا أحمد بن أبي غالب، أخبرنا عبد العزيز بن علي، قالا: أخبرنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أبو حامد الحضرمي، حدثنا عيسى بن مساور، حدثنا يغنم بن سالم، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن رآني وآمن بي، ومن رأى من رآني، ومن رأى من رأى من رآني.
هذا الحديث تساعي لنا، لكنه واه لضعف يغنم، فإنه مجمع على تركه.

الرستمي

الشيخ الإمام المفتي القدوة المسند، شيخ أصبهان، أبو عبد الله، الحسن بن العباس بن علي بن حسن بن علي بن الحسن محمد بن الحسن بن علي بن رستم، الرستمي الأصبهاني، الفقيه الشافعي، الزاهد.
مولده في صفر سنة ثمان وستين وأربع مئة.
وسمع أبا عمرو عبد الوهاب بن مندة، ومحمود بن جعفر الكوسج، والمطهر بن عبد الواحد البزاني، وإبراهيم بن محمد الطيان، وأبا بكر محمد ابن أحمد السمسار، والفضل بن عبد الواحد، وعبد الكريم بن عبد الواحد الصحاف، وأبا عيسى عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وأبا منصور بن شكرويه، وسليمان بن إبراهيم الحافظ، وأحمد بن عبد الرحمن الذكواني، وسهل بن عبد الله الغازي، وأبا الخير محمد بن أحمد بن ررا، ورزق الله التميمي، والرئيس الثقفي، وطراداً الزينبي، وطائفةً.
حدث عنه: السمعاني، وابن عساكر، وأبو موسى المديني، وشرف ابن أبي هاشم البغدادي، وأحمد بن سعيد الخرقي، وأبو الوفاء محمود بن مندة، وعدد أمثالهم.
وروى عنه بالإجازة: أبو المنجا ابن اللتي، وكريمة وصفية بنتا عبد الوهاب بن الحبقبق، وعجيبة بنت الباقداري.
قال السمعاني: إمام فاضل، مفتي الشافعية، وهو على طريقة السلف، له زاوية بجامع أصبهان، ملازمها في أكثر أوقاته.
وقال عبد الله الجبائي: ما رأيت أحداً أكثر بكاءً من الرستمي.
وقال الجبائي: سمعت محمد بن سالار، سمعت أبا عبد الله الرستمي يقول: وقفت على ابن ماشاذه وهو يتكلم على الناس، فلما كان في الليل، رأيت رب العزة في المنام وهو يقول لي: يا حسن، وقفت على مبتدع، ونظرت إليه، وسمعت كلامه، لأحرمنك النظر في الدنيا. فاستيقظت كما ترى.
قال الجبائي: كانت عيناه مفتوحتين وهو لا ينظر بهما.
قلت: وممن روى عنه الحافظ عبد القادر الرهاوي، وقال فيه: كان فقيهاً زاهداً ورعاً بكاءً، عاش نيفاً وتسعين سنةً، ومات سنة ستين. كذا قال، ثم قال: وحضرته يوم موته وخرج الناس إلى قبره أفواجاً، وأملى شيخنا الحافظ أبو موسى عند قبره مجلساً في مناقبه، وكان عامة فقهاء أصبهان تلامذته حتى شيخنا أبو موسى عليه تفقه، وكان أهل أصبهان لا يثقون إلا بفتواه، وسألني شيخنا أبو طاهر السلفي عن شيوخ أصبهان، فذكرته له، فقال: أعرفه فقيهاً متنسكاً. وقال السمعاني: إمام متدين ورع، يزجي أكثر أوقاته في نشر العلم والفتيا.
وقال أبو موسى المديني: أقرأ الرستمي المذهب كذا كذا سنةً، وكان من الشداد في السنة.
قال عبد القادر: سمعت بعض أصحابنا الأصبهانيين يحكي عنه أنه كان في كل جمعة ينفرد يبكي فيه، فبكى حتى ذهبت عيناه، وكنا نسمع عليه وهو في رثاثة من الملبس والمفرش لا يساوي طائلاً، وكذلك منزله، وكانت الفرق مجتمعةً على محبته.
قال أبو موسى: توفي مساء يوم الأربعاء ثاني صفر سنة إحدى وستين وخمس مئة.

ابن رفاعة

الشيخ الفقيه العالم الفرضي الإمام، مسند وقته، أبو محمد، عبد الله بن رفاعة بن غدير بن علي بن أبي عمر بن أبي الذيال بن ثابت بن نعيم، السعدي المصري الشافعي.
مولده في ذي القعدة سنة سبع وستين وأربع مئة.
ولازم القاضي أبا الحسن الخلعي وأكثر عنه، وتفقه به، وسمع منه السيرة الهشامية، والفوائد العشرين، والسنن لأبي داود، وغير ذلك، فكان خاتمة من سمع منه.
حدث عنه: التاج المسعودي، وأبو الجود المقرىء، ومحمد بن يحيى بن أبي الرداد، ويحيى بن عقيل بن شريف بن رفاعة، والقاضي عبد الله بن محمد بن مجلي الشافعي، والحسن بن عقيل، وأبو البركات عبد القوي بن الجباب، وهبة الله بن حيدرة، ومحمد بن عماد، وأبو صادق ابن صباح، وآخرون.
وكان مقدماً في الفرائض والحساب.
ولي قضاء الجيزة مدةً، ثم استعفى، فأعفي، واشتغل بالعبادة.
مات في ذي القعدة سنة إحدى وستين وخمس مئة.
قال حماد الحراني: حكى لي ابن رفاعة قال: كنت يتيماً، وكان الخلعي يؤويني، فمررت يوماً بجامع مصر، فجلست في حلقة حديث، وسمعت جزءاً، فسألت: من ذا الشيخ ؟ فقيل: هو الحبال، فعدت إلى الخلعي، فأخبرته، فعنفني، وطردني، وكان بينهما شيء أظنه من جهة الاعتقاد، فلم أعد إلى الحبال، ولم أظفر بما سمعت منه.
قال الحافظ أبو الطاهر إسماعيل بن الأنماطي: سمعت أبي وكان قد صحب ابن رفاعة كثيراً وسمع منه يقول: كان ابن رفاعة قد انقطع في مسجد بقرافة مصر، وكانت كتبه عنده في علية يحيي الليل كله فيها، وكانت له زوجة صالحة، وكان يمنعها من المبيت في العلية، فسألته ليلةً المبيت بها، فأجابها، فجلست، وقام يصلي ورده، فسمعت صوت إنسان يعذب، فغشي عليها، وبكت واضطربت، وأصبحت مريضةً، وماتت بعد أيام، وأراني أبي قبرها.
قال عمر بن محمد العليمي: تطلبت سماع ابن رفاعة لفوائد الخلعي، وهو عشرون جزءاً في يده، فإذا سماعه فيها سوى الأول والسادس لم أجد سماعه، والثاني عشر قد سمع منه قطعةً، والجزء العشرين لم أقف على الأصل به، بل رأيت بيد الشيخ به فرعاً. قلت: هذا نقلته من خط ابن سامة، عن نقل علي بن عبد الكافي، عن أبي الحسن الحصني، قال: وجدت ذلك بخط الرشيد العطار عن الأصل، ثم كتب ابن الأنماطي تحت خط العليمي: لقد طلب واجتهد، ولكن وجد غيره ما لم يجد. وكان ابن رفاعة صادقاً في ذكر سماعه، فإنه خدم الخلعي، ولزمه، وكان ألزم الناس له، حدثني غير واحد عنه أنه قال: مذ لزمت الخلعي ما انقطعت عنه إلا يوماً واحداً، حضرت مجلس الحبال.. فذكر الحكاية، ثم قال: ولم أنقطع عن شيء قرىء عليه إلى أن مات.
قال ابن الأنماطي: أخرج إلينا شيخنا حماد الحراني بخطه وحدثني قال: رأيت على ظهر الجزء الثاني من حديث الزعفراني ثبت كتب سمعها شيخنا عبد الله بن غدير السعدي، والنسخة للمسعودي، سمع جميع كتاب السنن لأبي داود على الخلعي، على محمد الروحاني بقراءة أبي علي الحسين بن محمد الصدفي وخادم القاضي أبي محمد عبد الله بن رفاعة ابن غدير. قال: وسمعوا عليه السيرة تهذيب ابن هشام، وجميع الفوائد عشرين جزءاً للخلعي، وجميع أحاديث الزعفراني، وأحاديث يونس، ومعجم ابن الأعرابي، وفوائد أخرى بقراءة المذكور وغيره، وذلك في مدة سنة ثمان وسنة تسع وثمانين وأربع مئة، وأكثر ذلك بالقرافة.
قال ابن الأنماطي: ثم رأيت أصل الثبت في ذلك، وأكثر ذلك بقرافة مصر، وسمع معهم عبد الله بن عبد المؤمن النحوي والخط له، كتبه تذكرةً لأبي الحسن الروحاني. أخبرنا محمد بن الحسين القرشي، أخبرنا محمد بن عماد، أخبرنا ابن رفاعة، أخبرنا أبو الحسن الخلعي، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء.

خزيفة

الإمام المقرىء المجود، أبو المعمر، عبد الله بن سعد بن الحسين ابن الهاطر، البغدادي العطار الوزان الأزجي، يعرف بخزيفة.
تلا بالروايات، وتفق على أبي الخطاب.
وسمع الكثير من: نصر بن البطر، والنعالي، وأبي الفضل بن خيرون، والحسين بن البسري.
وكان صالحاً صادقاً، صابراً على التحديث، حسن الأخلاق.
قال ابن النجار: حدثنا عنه ابن الأخضر، وأحمد بن البندنيجي، وعمر بن السهروردي، وطاووس بن أحمد الدقاق، ولد سنة ثمانين وأربع مئة، ومات في رجب سنة ستين وخمس مئة ببغداد.

الشيخ عبد القادر

الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة، شيخ الإسلام، علم الأولياء، محيي الدين، أبو محمد، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي الحنبلي، شيخ بغداد.
مولده بجيلان في سنة إحدى وسبعين وأربع مئة.
وقدم بغداد شاباً، فتفقه على أبي سعد المخرمي.
وسمع من: أبي غالب الباقلاني، وأحمد بن المظفر بن سوس، وأبي القاسم بن بيان، وجعفر بن أحمد السراج، وأبي سعد بن خشيش، وأبي طالب اليوسفي، وطائفة.
حدث عنه: السمعاني، وعمر بن علي القرشي، والحافظ عبد الغني، والشيخ موفق الدين ابن قدامة، وعبد الرزاق وموسى ولداه، والشيخ علي بن إدريس، وأحمد بن مطيع الباجسرائي، وأبو هريرة، محمد ابن ليث الوسطاني، وأكمل بن مسعود الهاشمي، وأبو طالب عبد اللطيف بن محمد بن القبيطي، وخلق، وروى عنه بالإجازة الرشيد أحمد بن مسلمة.
أخبرنا القاضي تاج الدين عبد الخالق بن علوان ببعلبك، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الفقيه سنة إحدى عشرة وست مئة، أخبرنا شيخ الإسلام عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، أخبرنا أحمد ابن المظفر التمار، أخبرنا أبو علي بن شاذان، أخبرنا أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني، حدثنا محمد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: إن بني إسرائيل استخلفوا خليفةً عليهم بعد موسى، فقام يصلي في القمر فوق بيت المقدس، فذكر أموراً كان صنعها، فخرج، فتدلى بسبب، فأصبح السبب معلقاً في المسجد، وقد ذهب، فانطلق حتى أتى قوماً على شط البحر، فوجدهم يصنعون لبناً، فسألهم: كيف تأخذون هذا اللبن ؟ فأخبروه، فلبن معهم، وكان يأكل من عمل يده، فإذا كان حين الصلاة، تطهر فصلى، فرفع ذلك العمال إلى قهرمانهم، أن فينا رجلاً يفعل كذا وكذا، فأرسل إليه، فأبى أن يأتيه ثلاث مرات ثم إنه جاءه بنفسه يسير على دابته، فلما رآه فر، واتبعه فسبقه، فقال: أنظرني أكلمك. قال: فقام حتى كلمه، فأخبره خبره، فلما أخبره خبره، وأنه كان ملكاً، وأنه فر من رهبة الله، قال: إني لأظن أني لاحق بك. فلحقه، فعبدا الله حتى ماتا برملة مصر.
قال عبد الله: لو كنت ثم لاهتديت إلى قبريهما من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصف.
هذا حديث غريب عال.
قال السمعاني: كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح دين خير، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة، تفقه على المخرمي، وصحب الشيخ حماداً الدباس، وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درساً ما فهمت منه شيئاً، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلهم فهموا لإلفهم بكلامه وعبارته.
قال ابن الجوزي: كان أبو سعد المخرمي قد بنى مدرسةً لطيفةً بباب الأزج، ففوضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد، وكان له سمت وصمت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستنداً إلى الرباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمرت المدرسة، ووسعت، وتعصب في ذلك العوام، وأقام فيها يدرس ويعظ إلى أن توفي. أنبأني أبو بكر بن طرخان، أخبرنا الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة وسئل عن الشيخ عبد القادر فقال: أدركناه في آخر عمره، فأسكننا في مدرسته، وكان يعنى بنا، وربما أرسل إلينا ابنه يحيى، فيسرج لنا السراج، وربما يرسل إلينا طعاماً من منزله، وكان يصلي الفريضة بنا إماماً، وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب الخرقي غدوةً، ويقرأ عليه الحافظ عبد الغني من كتاب الهداية في الكتاب، وما كان أحد يقرأ عليه في ذلك الوقت سوانا، فأقمنا عنده شهراً وتسعة أيام، ثم مات، وصلينا عليه ليلاً في مدرسته، ولم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه، ولا رأيت أحداً يعظمه الناس للدين أكثر منه، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة.
قرأت بخط الحافظ سيف الدين ابن المجد، سمعت محمد بن محمود المراتبي، سمعت الشيخ أبا بكر العماد رحمه الله يقول: كنت قرأت في أصول الدين، فأوقع عندي شكاً، فقلت: حتى أمضي إلى مجلس الشيخ عبد القادر، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر، فمضيت وهو يتكلم، فقال: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة. فقلت في نفسي: هذا قاله اتفاقاً، فتكلم ثم التفت إلى ناحيتي، فأعاده، فقلت، الواعظ قد يلتفت، فالتفت إلي ثالثةً، وقال: يا أبا بكر، فأعاد القول: ثم قال: قم قد جاء أبوك. وكان غائباً، فقمت مبادراً، وإذا أبي قد جاء.
وحدثنا أبو القاسم بن محمد الفقيه، حدثني شيخنا جمال الدين يحيى ابن الصيرفي، سمعت أبا البقاء النحوي قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه بالألحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا ؟ فقال: يجيء واحد قد قرأ أبواباً من الفقه ينكر. فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري، فقال: إياك نعني بالقول، فتبت في نفسي من اعتراضي، فقال: قد قبل الله توبتك.
وسمعت الإمام أبا العباس أحمد بن عبد الحليم، سمعت الشيخ عز الدين الفاروثي، سمعت شيخنا شهاب الدين السهروردي يقول: عزمت على الاشتغال بأصول الدين، فقلت في نفسي: أستشير الشيخ عبد القادر، فأتيته، فقال قبل أن أنطق: يا عمر، ما هو من عدة القبر، يا عمر، ما هو من عدة القبر.
قال الفقيه محمد بن محمود المراتبي: قلت للشيخ الموفق: هل رأيتم من الشيخ عبد القادر كرامةً؟ قال: لا أظن، لكن كان يجلس يوم الجمعة، فكنا نتركه ونمضي لسماع الحديث عند ابن شافع فكل ما سمعناه لم ننتفع به. قال الحافظ السيف: يعني لنزول ذلك.
قال شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمد: سمعت الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الفقيه الشافعي يقول: ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا الشيخ عبد القادر، فقيل له: هذا مع اعتقاده، فكيف هذا ؟ فقال: لازم المذهب ليس بمذهب.
قلت: يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم رحمه الله إلا من يشذ منهم، وتوسع في العبارة.
قال ابن النجار في تاريخه: دخل الشيخ عبد القادر بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، فتفقه على ابن عقيل، وأبي الخطاب، والمخرمي، وأبي الحسين بن الفراء، حتى أحكم الأصول والفروع والخلاف، وسمع الحديث، وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه، ثم لازم الخلوة والرياضة والمجاهدة والسياحة والمقام في الخراب والصحراء، وصحب الدباس، ثم إن الله أظهره للخلق، وأوقع له القبول العظيم، فعقد مجلس الوعظ في سنة إحدى وعشرين، وأظهر الله الحكمة على لسانه، ثم درس، وأفتى، وصار يقصد بالزيار والنذور، وصنف في الأصول والفروع، وله كلام على لسان أهل الطريقة عال. وكتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبائي: قال لي الشيخ عبد القادر: طالبتني نفسي يوماً بشهوة، فكنت أضاجرها، وأدخل في درب، وأخرج من آخر أطلب الصحراء، فرأيت رقعةً ملقاةً، فإذا فيها: ما للأقوياء والشهوات، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء. فخرجت الشهوة من قلبي. قال: وكنت أقتات بخروب الشوك وورق الخس من جانب النهر. قال ابن النجار: قرأت بخط أبي بكر عبد الله بن نصر بن حمزة التيمي، سمعت الشيخ عبد القادر يقول: بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياماً لا آكل طعاماً، بل أتبع المنبوذات، فخرجت يوماً إلى الشط، فوجدت قد سبقني الفقراء، فضعفت، وعجزت عن التماسك، فدخلت مسجداً، وقعدت، وكدت أصافح الموت، ودخل شاب أعجمي ومعه خبز وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع لقمةً أن أفتح فمي، فالتفت فرآني، فقال: باسم الله، فأبيت، فأقسم علي، فأكلت مقصراً، وأخذ يسألني، ما شغلك، ومن أين أنت ؟ فقلت: متفقه من جيلان. قال: وأنا من جيلان، فهل تعرف لي شاباً جيلانياً اسمه عبد القادر، يعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد ؟ فقلت: أنا هو. فاضطرب لذلك، وتغير وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك، فلما كان هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أيام، وحلت لي الميتة، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء، فكل طيباً، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن. فقلت: وما ذاك ؟ قال: أمك وجهت معي ثمانية دنانير، والله ما خنتك فيها إلى اليوم، فسكنته، وطيبت نفسه، ودفعت إليه شيئاً منها.
قال ابن النجار: كتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبائي، قال: قال لي الشيخ عبد القادر: كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة، فقال لي قائل لم أر شخصه: اقترض ما تستعين به على طلب الفقه، فقلت: كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي ؟ قال: اقترض وعلينا الوفاء. فأتيت بقالاً، فقلت: تعاملني بشرط إذا سهل الله أعطيتك، وإن مت تجعلني في حل، تعطيني كل يوم رغيفاً ورشاداً. فبكى، وقال: أنا بحكمك. فأخذت منه مدةً، فضاق صدري، فأظن أنه قال: فقيل لي: امض إلى موضع كذا، فأي شيء رأيت على الدكة، فخذه، وادفعه إلى البقال. فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة، فأعطيتها البقلي.
ولحقني الجنون مرةً، وحملت إلى المارستان، فطرقتني الأحوال حتى حسبوا أني مت، وجاؤوا بالكفن، وجعلوني على المغتسل، ثم سري عني، وقمت، ثم وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن، فخرجت إلى باب الحلبة، فقال لي قائل: إلى أين تمشي ؟! ودفعني دفعةً خررت منها، وقال: ارجع فإن للناس فيك منفعةً. قلت: أريد سلامة ديني. قال: لك ذاك ولم أر شخصه . ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال، فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظفرية، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر، أيش طلبت البارحة ؟ فنسيت، فسكت، فاغتاظ، ودفع الباب في وجهي دفعةً عظيمة، فلما مشيت ذكرت، فرجعت أطلب الباب، فلم أجده، قال: وكان حماداً الدباس، ثم عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت، يقول: أيش جاء بك إلينا، أنت فقيه، مر إلى الفقهاء، وأنا أسكت، فلما كان يوم جمعة خرجت مع الجماعة في شدة البرد، فدفعني ألقاني في الماء، فقلت: غسل الجمعة، باسم الله، وكان علي جبة صوف، وفي كمي أجزاء، فرفعت كمي لئلا تهلك الأجزاء، وخلوني، ومشوا، فعصرت الجبة، وتبعتهم، وتأذيت بالبرد كثيراً، وكان الشيخ يؤذيني ويضربني، وإذا جئت يقول: جاءنا اليوم الخبز الكثير والفالوذج، وأكلنا وما خبأنا لك وحشةً عليك، فطمع فيّ أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا ؟ فلما رآهم يؤذونني، غار لي؛ وقال: يا كلاب لم تؤذونه ؟ والله ما فيكم مثله، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلاً، لا يتحرك، ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، فلم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحل لي المشكل علي، ثم قال لي: تكلم على الناس، فقلت: يا سيدي، أنا رجل أعجمي قح أخرس، أتكلم على فصحاء بغداد !؟ فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو واللغة وتفسير القرآن لا يصلح لك أن تتكلم ؟! اصعد على الكرسي، وتكلم، فإني أرى فيك عذقاً سيصير نخلةً. قال الجبائي: وقال لي الشيخ عبد القادر: كنت أومر وأنهى في النوم واليقظة، وكان يغلب علي الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم علي الخلق، حتى صار يحضر مجلسي نحو من سبعين ألفاً. وقال: فتشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم أبيتها، وكان إذا جاءه أحد بذهب، يقول: ضعه تحت السجادة، وقال لي: أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني. ثم قال: أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يدي أكثر من خمس مئة، وتاب على يدي أكثر من مئة ألف، وهذا خير كثير، وترد علي الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض، وأقول: إن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني. وقال: إذا ولد لي ولد أخذته على يدي، وأقول: هذا ميت، فأخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثر عندي موته شيئاً.
قال عبد الرزاق ابن الشيخ: ولد لأبي تسعة وأربعون ولداً، سبعة وعشرون ذكراً، والباقي إناث.
وقال الجبائي: كنت أسمع في الحلية على ابن ناصر، فرق قلبي، وقلت: اشتهيت لو انقطعت، وأشتغل بالعبادة، ومضيت، فصليت خلف الشيخ عبد القادر، فلما جلسنا، نظر إلي، وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب، وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ريشت.
وعن أبي الثناء النهرملكي قال: تحدثنا أن الذباب ما يقع على الشيخ عبد القادر، فأتيته، فالتفت إلي، وقال: أيش يعمل عندي الذباب، لا دبس الدنيا، ولا عسل الآخرة.
قال أبو البقاء العكبري: سمعت يحيى بن نجاح الأديب يقول: قلت في نفسي: أريد أن أحصي كم يقص الشيخ عبد القادر شعر تائب، فحضرت المجلس ومعي خيط، فلما قص شعراً، عقدت عقدة تحت ثيابي من الخيط وأنا في آخر الناس، وإذا به يقول: أنا حل وأنت تعقد ؟! قال ابن النجار: سمعت شيخ الصوفية عمر بن محمد السهروردي يقول: كنت أتفقه في صباي، فخطر لي أن أقرأ شيئاً من علم الكلام، وعزمت على ذلك من غير أن أتكلم به، فصليت مع عمي أبي النجيب، فحضر عنده الشيخ عبد القادر مسلماً، فسأله عمي الدعاء لي، وذكر له أني مشتغل بالفقه، وقمت فقبلت يده، فأخذ يدي، فقال: تب مما عزمت عليه من الاشتغال به، فإنك تفلح، ثم سكت، ولم يتغير عزمي عن الاشتغال بالكلام حتى شوشت علي جميع أحوالي، وتكدر وقتي، فعلمت أن ذلك بمخالفة الشيخ.
ابن النجار: سمعت أبا محمد بن الأخضر يقول: كنت أدخل على الشيخ عبد القادر في وسط الشتاء وقوة برده وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، وحوله من يروحه بالمروحة. قال: والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدة الحر.
ابن النجار: سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني، سمعت الحافظ عبد الغني، سمعت أبا محمد بن الخشاب النحوي يقول: كنت وأنا شاب أقرأ النحو، وأسمع الناس يصفون حسن كلام الشيخ عبد القادر، فكنت أريد أن أسمعه ولا يتسع وقتي، فاتفق أني حضرت يوماً مجلسه، فلما تكلم لم أستحسن كلامه، ولم أفهمه، وقلت في نفسي: ضاع اليوم مني. فالتفت إلى ناحيتي، وقال: ويلك تفضل النحو على مجالس الذكر، وتختار ذلك ؟! اصحبنا نصيرك سيبويه.
قال أحمد بن ظفر بن هبيرة: سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغاً من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلمت عليه، وتحرجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك ولا عليك من الناس، وسلم على الوزير.
قال صاحب مرآة الزمان: كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه، وكان يتكلم على الخواطر، وظهر له صيت عظيم وقبول تام، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط، وتاب على يده معظم أهل بغداد، وأسلم خلق، وكان يصدع بالحق على المنبر، وكان له كرامات ظاهرة.
قلت: ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر، لكن كثيراً منها لا يصح، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة.
قال الجبائي: كان الشيخ عبد القادر يقول: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك. عاش الشيخ عبد القادر تسعين سنة، وانتقل إلى الله في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمس مئة، وشيعه خلق لا يحصون، ودفن بمدرسته رحمه الله تعالى.
وفيها مات أبو المحاسن إسماعيل بن علي بن زيد بن شهريار الأصبهاني، سمع من رزق الله التميمي، والمحدث العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد الأشيري المغربي ودفن بظاهر بعلبك، والإمام الرئيس أبو طالب عبد الرحمن بن الحسن ابن العجمي واقف المدرسة بحلب، وعلي ابن أحمد الحرستاني راوي جزء الرافقي، وأبو رشيد محمد بن علي بن محمد بن عمر الأصبهاني الباغبان، وأبو عبد الله الرستمي، وأبو طاهر إبراهيم بن الحسن ابن الحصني الشافعي بدمشق، والقاضي مهذب الدين الحسن بن علي بن الرشيد ابن الزبير الأسواني الشاعر أخو الرشيد أحمد، وأبو محمد عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي المقرىء الشاعر، والمسند ابن رفاعة، والفقيه المقرىء عبد الصمد ابن الحسين بن أحمد بن تميم التميمي الدمشقي، وشيخ القراء أبو حميد عبد العزيز بن علي السماني الإشبيلي والشيخ علي بن أحمد الحرستاني راوي جزء الرافقي.
وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، والله الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه.

عبد الجليل بن أبي سعد

منصور بن إسماعيل بن أبي سعد بن أبي بشر، العدل الجليل الصالح المعمر، مسند هراة، أبو محمد الهروي الفامي.
آخر من سمع في الدنيا من بيبى بنت عبد الصمد الهرثمية، وعبد الرحمن بن محمد كلار البوشنجي، وسمع أيضاً من شيخ الإسلام عبد الله ابن محمد الأنصاري.
حدث عنه: السمعاني وولده أبو المظفر، وعبد الباقي بن عبد الواسع الأزدي، والحافظ عبد القادر الرهاوي، وهو أكبر شيخ لقيه في سعة راحلته.
قال السمعاني: هو شيخ من أهل الخير والصدق، ولد في شهر شعبان سنة سبعين وأربع مئة.
قلت: وتوفي في سنة اثنتين وستين وخمس مئة.
وهو آخر من روى حديث أبي القاسم البغوي عالياً.

عبد الهادي

ابن أبي سعيد بن عبد الله بن عمر بن مأمون، الإمام القدوة الزاهد العابد، أبو عروبة السجستاني الذي ارتحل إليه الحافظ عبد القادر الرهاوي، وبالغ في تعظيمه، وقال: سمع من جده في سنة خمس وثمانين وأربع مئة، ولما حج قرأ عليه ابن ناصر مسلسلات ابن حبان.
وقال: عاش تسعاً وثمانين سنة، وما عرفت له زلةً، وكان منتشر الذكر، وله رباط كان يعظ فيه ومريدون. توفي سنة اثنتين وستين وخمس مئة رحمه الله.

البسطامي

الشيخ الإمام العلامة المحدث، أبو شجاع، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن نصر بالتحريك البسطامي، ثم البلخي، إمام مسجد راغوم.
قال: ولدت سنة خمس وسبعين وأربع مئة.
سمع أباه، وأبا القاسم أحمد بن محمد الخليلي، وإبراهيم بن محمد الأصبهاني، وأبا جعفر محمد بن الحسين السمنجاني، وتفقه عليه.
وكان طلابةً للعلم، صاحب فنون.
قال السمعاني: هو مجموع حسن، وجملة مليحة، مفت مناظر محدث مفسر واعظ أديب شاعر حاسب، ومع فضائله كان حسن السيرة، مليح الأخلاق، مأمون الصحبة، نظيف الظاهر والباطن، لطيف العشرة، فصيح العبارة، مليح الإشارة، في وعظه كثير النكت والفوائد، وكان على كبر السن حريصاً على طلب الحديث والعلم، مقتبساً من كل أحد، كتبت عنه بمرو وهراة وبخارى وسمرقند، وكتب عني الكثير، وحصل نسخةً بما ذيلته على تاريخ الخطيب، وكتب إلي من بلخ:

يا آل سمعان ما أسنى فضائلـكـم

 

قد صرن في صحف الأيّام عنوانا

معاهداً ألفتها النّـازلـون بـهـا

 

فما وهت بمرور الدّهر أركانـا

حتّى أتاها أبو سعـدٍ فـشـيّدهـا

 

وزادها بعلوّ الـشّـأن بـنـيانـا

كانوا ملاذ بني الآمال فانقرضـوا

 

مخلّفين به مثـل الّـذي كـانـا

لولا مكان أبي سعدٍ لمـا وجـدوا

 

على مفاخرهم للنّاس برهـانـا

وقاه ربّي من عين الكمال فـمـا

 

أبقت علاه لردّ العين نقصـانـا

قلت: سمع أبو شجاع من الخليلي مسند الهيثم الشاشي، وغريب الحديث لابن قتيبة، وكتاب الشمائل، وقد صنف كتاباً حسناً في أدب المريض والعائد. وقال السمعاني في مكان آخر: لا يعرف أجمع للفضائل منه مع الورع التام، وسمع أيضاً من أبي حامد أحمد بن محمد الشجاعي، وأبي نصر محمد بن محمد الماهاني، وعبد الرحمن بن عبد الرحيم القاضي.
قلت: روى عنه: السمعاني وابنه أبو المظفر، وأبو الفرج ابن الجوزي، والافتخار عبد المطلب الهاشمي، والتاج الكندي، وأبو أحمد ابن سكينة، وأبو الفتح المندائي، وأبو روح عبد المعز الهروي، وجماعة.
توفي ببلخ في سنة اثنتين وستين وخمس مئة، وكان محدث تلك الديار ومسندها.
قال علي بن محمويه اليزدي الفقيه: ما رأيت في مشايخ أصحابنا مثل أبي شجاع عقلاً وعلماً ولطفاً وجداً.
وقال ابن النجار: توفي في ربيع الآخر.

الكيزاني

الإمام المقرىء الزاهد الأثري، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن ثابت، المصري الكيزاني الواعظ، له تلامذة وأصحاب، وله شعر كثير مدون، وكلام في السنة.
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: كان يقول: أفعال العباد قديمة، وبينه وبين أهل بلده نزاع، وكان قد دفن عند ضريح الشافعي، فتعصب عليه الخبوشاني، ونبشه، وقال: هذا حشوي لا يكون عند الإمام. ودفن في موضع آخر.
ومن شعره:

يا من يتيه على الزّمان بحسـنـه

 

اعطف على الصّبّ المشوق التّائه

أضحى يخاف على احتراق فؤاده

 

أسفاً لأنّك مـنـه فـي سـودائه

توفي في المحرم سنة اثنتين وستين وخمس مئة.

القنطري

العلامة الحافظ، أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن أحمد بن مسعود ابن مفرج، الأندلسي الشلبي، المعروف بالقنطري.
سمع أبا بكر بن غالب، وأبا الحسين بن صاعد، وبإشبيلية أبا الحكم بن برجان، والقاضي ابن العربي، وبقرطبة يونس بن مغيث، وابن أبي الخصال، وعدة.
ذكره الأبار، فقال: كان من أهل المعرفة الكاملة بصناعة الحديث، بعيد الصيت في الحفظ والإتقان، جماعةً للكتب، وقد شوور في الأحكام، وله زيادة على ابن بشكوال في تاريخه، روى عنه يعيش بن القديم وغيره، توفي بمراكش في ذي الحجة سنة إحدى وستين وخمس مئة.

السمعاني

الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة، محدث خراسان، أبو سعد عبد الكريم بن الإمام الحافظ الناقد أبي بكر محمد بن العلامة مفتي خراسان أبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار، التميمي السمعاني الخراساني المروزي، صاحب المصنفات الكثيرة.
ولد بمرو في شعبان سنة ست وخمس مئة.
وحضره أبوه في الرابعة على مسند زمانه عبد الغفار بن محمد الشيروي، وعبيد بن محمد القشيري، وسهل بن إبراهيم السبعي، وطائفة.
وسمع باعتناء أبيه من أبي منصور محمد بن علي بن الكراعي، والمحدث محمد بن عبد الواحد الدقاق.
وتوفي الوالد وأبو سعد صغير، فكفله عمه وأهله، وحبب إليه الحديث، ولازم الطلب من الحداثة.
ورحل إلى نيسابور على رأس الثلاثين وخمس مئة، فأكثر عن أبي عبد الله الفراوي، وأبي المظفر بن القشيري، وهبة الله بن سهل السيدي، وإسماعيل بن أبي بكر القارىء، وفاطمة بنت زعبل، وزاهر بن طاهر، وأخيه وجيه، وطبقتهم.
وتوجه إلى أصبهان، فسمع الحسين بن عبد الملك الخلال، وسعيد ابن أبي الرجاء، وأم المجتبى فاطمة، والموجودين، وأكثر عن الحافظ إسماعيل بن محمد التيمي.
وبادر إلى بغداد، فأكثر عن القاضي أبي بكر الأنصاري، وإسماعيل ابن السمرقندي، وأبي منصور الشيباني، وعبد الوهاب الأنماطي، وأبي سعد الزوزني، وخلق كثير.
ثم حج، وقدم دمشق، فسمع بها من أبي الفتح نصر الله بن محمد المصيصي، والقاضي أبي المعالي محمد بن يحيى القرشي، والموجودين.
ولا يوصف كثرة البلاد والمشايخ الذين أخذ عنهم.
وقد ألف كتاب التحبير في معجمه الكبير، يكون ثلاث مجلدات.
فسمع بآمل طبرستان من أبي نصر الفضل بن أحمد بن الفضل بن أحمد البصري وطبقته.
وبأبيورد من عبد الملك بن علي الزهري.
وبإسفرايين من طلحة بن الحسين بن محمد بن الحسين القاضي حدثه عن جده.
وبالأنبار من يحيى بن علي بن محمد بن الأخضر حدثه عن الخطيب الحافظ.
وببخارى من عثمان بن علي البيكندي وعدة.
وببروجرد من القاضي أبي المظفر شبيب بن الحسين، وأبي تمام إبراهيم بن أحمد حدثاه عن يوسف بن محمد الهمذاني.
وببسطام من المحسن بن النعمان المعلم حدثه عن طاهر الشحامي. وبالبصرة من طلحة بن علي الشاهد روى له عن جعفر العباداني.
وببغشور من صالح بن أحمد بن مدوسة المقرىء وغيره من جامع الترمذي.
وببلخ من القاضي عمر بن علي المحمودي صاحب الوخشي.
وبترمذ من أسعد بن علي.
وبجرجان من أبي عامر سعد بن علي العصاري وجماعة عن عبد الله بن عبد الواسع الجرجاني.
وبحلب من الرئيس أبي الحسن علي بن عبد الله الأنطاكي.
وبحماة من كامل بن علي بن سالم السنبسي عن أبيه.
وبحمص من قاضيها أبي البيان محمد بن عبد الرزاق التنوخي.
وبخرتنك عند قبر البخاري من أبي شجاع عمر بن محمد البسطامي.
وبخسروجرد من عبد الحميد بن محمد بن أحمد الخواري صاحب البيهقي.
وبخوار الري من محمد بن عبد الواحد بن محمد المغازلي، عن أبي منصور بن شكرويه.
وبالرحبة من الحافظ أبي سعد أحمد بن محمد بن البغدادي.
وبالري من القاضي أبي محمد الحسن بن محمد الحنفي حدثه عن محمد بن إسماعيل بن كثير إملاءً، حدثنا ابن الصلت المجبر.
وبساوة من أبي حاتم محمد بن عبد الرحمن الرازي.
وبسرخس من أبي نصر محمد بن محمود الشجاعي وآخر قالا: أخبرنا عبد الله بن العباسي العبدوسي، حدثنا أحمد بن أبي إسحاق الحجاجي، حدثنا الحافظ أبو العباس الدغولي.
وبسمرقند من الخطيب أبي المعالي محمد بن نصر بن منصور المديني حدثه عن السيد أبي المعالي محمد بن محمد بن زيد الحافظ.
وبسمنان من أحمد بن محمد بن العالم المضري عن أبي الحسن بن الأخرم.
وبسنجار من القاضي أبي منصور المظفر بن القاسم الشهرزوري، سمع أبا نصر الزينبي.
وبهمذان وهراة والحرمين والكوفة وطوس والكرخ ونسا وواسط والموصل ونهاوند والطالقان وبوشنج والمدائن، وبقاع يطول ذكرها بحيث إنه زار القدس والخليل وهما بأيدي الفرنج، تحيل، وخاطر في ذلك، وما تهيأ ذلك للسلفي ولا لابن عساكر.
ذكره أبو القاسم الحافظ في تاريخ دمشق، فقال: أبو سعد السمعاني الفقيه الشافعي الحافظ الواعظ الخطيب... إلى أن قال: سمع ببلاد كثيرة، اجتمعت به بنيسابور وبغداد ودمشق، وعاد إلى خراسان، ودخل هراة وبلخ وما وراء النهر، وهو الآن شيخ خراسان غير مدافع، عن صدق ومعرفة وكثرة رواية وتصانيف، سمع ببلاد كثيرة، وحصل النسخ الكثيرة، وكتب عني، وكتبت عنه، وكان متصوناً عفيفاً حسن الأخلاق. ثم قال: حدثنا أبو سعد بدمشق، أخبرنا عبد الغفار الشيروي.. فذكر من جزء ابن عيينة حديث: يا رسول الله، متى الساعة ؟ ورواه معه ابنه أبو محمد القاسم. ثم ذكر وفاته.
حدث أيضاً عن أبي سعد: ولداه أبو المظفر عبد الرحيم ومحمد، وأبو روح عبد المعز بن محمد الهروي، وأبو الضوء شهاب الشذياني، والافتخار أبو هاشم عبد المطلب الحلبي الحنفي، وعبد الوهاب بن سكينة، وأبو الفتح محمد بن محمد الصائغ، وعبد العزيز بن منينا، وآخرون. قال ابن النجار: نقلت أسماء تصانيفه من خطه: الذيل على تاريخ الخطيب أربع مئة طاقة، تاريخ مرو خمس مئة طاقة، معجم البلدان خمسون طاقة، معجم شيوخه ثمانون طاقة، أدب الطلب مئة وخمسون طاقة، الإسفار عن الأسفار خمس وعشرون طاقة، الإملاء والاستملاء خمس عشرة طاقة، تحفة المسافر مئة وخمسون طاقة، الهدية خمس وعشرون طاقة، عز العزلة سبعون طاقة، الأدب واستعمال الحسب خمس طاقات، المناسك ستون طاقة، الدعوات أربعون طاقة، الدعوات النبوية خمس عشرة طاقة، دخول الحمام خمس عشرة طاقة، صلاة التسبيح عشر طاقات، تحفة العيد ثلاثون طاقة التحايا ست طاقات، فضل الديك خمس طاقات، الرسائل والوسائل خمس عشرة طاقة، صوم الأيام البيض خمس عشرة طاقة، سلوة الأحباب خمس طاقات، فرط الغرام إلى ساكني الشام خمس عشرة طاقة، مقام العلماء بين يدي الأمراء إحدى عشرة طاقة المساواة والمصافحة ثلاث عشرة طاقة، ذكرى حبيب رحل وبشرى مشيب نزل عشرون طاقة، التحبير في المعجم الكبير ثلاث مئة طاقة، الأمالي له مئتا طاقة، خمس مئة مجلس، فوائد الموائد مئة طاقة، فضل الهر ثلاث طاقات، ركوب البحر سبع طاقات، الهريسة ثلاث طاقات، وفيات المتأخرين خمس عشرة طاقة، كتاب الأنساب ثلاث مئة وخمسون طاقة، الأمالي ستون طاقة، بخار بخور البخاري عشرون طاقة، تقديم الجفان إلى الضيفان سبعون طاقة، صلاة الضحى عشر طاقات، الصدق في الصداقة، الربح في التجارة، رفع الارتياب عن كتابة الكتاب أربع طاقات، النزوع إلى الأوطان خمس وثلاثون طاقة، تخفيف الصلاة في طاقتين، لفتة المشتاق إلى ساكني العراق أربع طاقات، من كنيته أبو سعد ثلاثون طاقة، فضل الشام في طاقتين، فضل يس في طاقتين.
قلت: وانتخب على غير واحد من مشايخه، وخرج لولده أبي المظفر معجماً في مجلد كبير.
وكان ظريف الشمائل، حلو المذاكرة، سريع الفهم، قوي الكتابة سريعها، درس وأفتى ووعظ، وساد أهل بيته، وكانوا يلقبونه بلقب والده تاج الإسلام، وكان أبوه يلقب أيضاً معين الدين.
قال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخ أبي سعد سبعة آلاف شيخ. قال: وهذا شيء لم يبلغه أحد، وكان مليح التصانيف، كثير النشوار والأناشيد، لطيف المزاج، ظريفاً، حافظاً، واسع الرحلة، ثقةً صدوقاً ديناً، سمع منه مشايخه وأقرانه.
قلت: حكى أبو سعد في الذيل أن شيخه قاضي المرستان رأى معه جزءاً قد سمعه من شيخ الكوفة عمر بن إبراهيم الزيدي. قال: فأخذه، ونسخه، وسمعه مني.
قلت: رأيت ذلك الجزء بخط القاضي أبي بكر.
والطاقة يخال إلي أنها الطلحية.
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله بن تاج الأمناء قراءةً عليه، أخبرنا عبد المعز بن محمد في كتابه، أخبرنا عبد الكريم بن محمد الحافظ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد حضوراً، أخبرنا أبو بكر الحيري، أخبرنا محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، متى الساعة ؟ قال: وما أعددت لها ؟ فلم يذكر كبيراً إلا أن يحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت متفق عليه.
وقد مر أن الحافظ أبا القاسم وابنه المحدث بهاء الدين روياه عن أبي سعد، وقد سمعناه من جماعة سمعوه من جماعة قالوا: أخبرنا أبو طاهر السلفي، أخبرنا مكي بن علان. وسمعناه من عائشة بنت عيسى، عن جدها الفقيه أبي محمد، عن أبي زرعة، عن محمد بن أحمد الكامخي قالا: أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري.. فذكره.
مات الحافظ أبو سعد في مستهل ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمس مئة بمرو وله ست وخمسون سنة.
ومات معه في السنة مسند وقته عبد الجليل بن أبي سعد المعدل بهراة، ومحدث ما وراء النهر الإمام أبو شجاع عمر بن محمد بن عبد الله البسطامي ثم البلخي، ومسند بغداد أبو المعالي محمد بن محمد بن الحيان اللحاس، ومسند أصبهان بل الدنيا الرئيس مسعود بن الحسن بن الرئيس أبي عبد الله الثقفي عن مئة عام، ومسند العراق أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن هلال الدقاق في عشر المئة، وعالم سجستان أبو عروبة عبد الهادي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن مأمون، وعالم دمشق جمال الأئمة علي بن الحسن ابن الماسح، وخطيب دمشق أبو البركات الخضر ابن شبل بن عبد الحارثي، وآخرون. قال السمعاني: كنت أنسخ بجامع بروجرد، فدخل شيخ رث الهيئة، ثم قال: أيش تكتب ؟ فكرهت جوابه، وقلت: الحديث. فقال: كأنك طالب حديث ؟ قلت: بلى. قال: من أين أنت ؟ قلت: من مرو. قال: عمن يروي البخاري من أهلها ؟ قلت: عن عبدان وصدقة بن الفضل وعلي ابن حجر. فقال: ما اسم عبدان ؟ فقلت: عبد الله بن عثمان. فقال: ولم قيل له: عبدان ؟ فتوقفت، فتبسم، ونظرت إليه بعين أخرى، وقلت: يذكر الشيخ. فقال: كنيته أبو عبد الرحمن، فاجتمع في اسمه وفي كنيته العبدان، فقيل: عبدان. فقلت عمن ؟ قال: سمعت ابن طاهر يقوله. وإذا هو الحافظ أبو الفضل محمد بن هبة الله بن العلاء البروجردي، فروى لنا عن أبي محمد الدوني وطائفة.

ابن اللحاس

الشيخ الثقة المسند، أبو المعالي، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد الحريمي العطار، عرف بابن الجبان اللحاس.
سمع من جده محمد في سنة ثمان وسبعين في أيام أبي نصر الزينبي، وسمع من عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، والحسين بن محمد السراج، وطراد بن محمد النقيب، وروى الكثير بإجازة أبي القاسم علي بن أحمد بن البسري.
حدث عنه: السمعاني، وأبو بكر محمد بن المبارك المستعمل، ومحمد بن أبي البركات بن صعنين، ومحمد بن الحسن بن البواب، وأنجب ابن أبي السعادات الحمامي، وأبو المنجا عبد الله بن اللتي، ومحمد بن محمد بن السباك، وأحمد بن يعقوب المارستاني، وآخرون.
قال الدبيثي: ثقة، صحيح السماع.
وقال ابن النجار: كان شيخاً صالحاً عفيفاً صدوقاً، حسن الأخلاق، لطيفاً، روى الكثير.
قلت: مولده في سنة ثمان وستين وأربع مئة.
وتوفي في تاسع عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وخمس مئة عن أربع وتسعين سنة.

الأشيري

الإمام العلامة، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي، الصنهاجي الأشيري.
وأشير: بليدة آخر إقليم إفريقية مما يلي الغرب، وهي قلعة لبني حماد ملوك إفريقية.
سمع ببغداد مع ولده في أيام ابن هبيرة، وكان من كبار المالكية، فحدث عن: أحمد بن علي بن غزلون، وعلي بن عبد الله بن موهب الجذامي، والقاضي عياض، وجماعة.
روى عنه: أبو الفتوح بن الحصري، وأبو محمد بن علون الأسدي.
قال ابن الحصري: كان إماماً في الحديث، ذا معرفة بفقهه ورجاله، وله يد باسطة في النحو واللغة، وجرى بينه وبين الوزير ابن هبيرة كلام في دعائه عليه السلام يوم بدر: إن تهلك هذه العصابة وكان الصواب معه.
قلت: نازع الوزير بعنف، فأحرجه حتى قال له الوزير: تهذي ! ليس كلامك بصحيح. وانفض الناس، ثم اعتذر إليه الوزير بكل طريق، ووصله بمال، وما ودعه حتى قال له مثل قوله له.
قال ابن عساكر: كان يكتب لصاحب المغرب، فلما مات، خاف ونزح، وقرر له الملك نور الدين بحلب كفايته، ثم حج. اتفق موته باللبوة في شوال سنة إحدى وستين وخمس مئة.