ابن مجبر

ابن مجبر

شاعر زمانه الأوحد، البليغ، أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر، الفهري المرسي، ثم الإشبيلي.
مدح الملوك، وشهد له بقوة عارضته، وسلامة طبعه، وفحولة نظمه قصائده التي سارت أمثالاً، وبعدت منالاً.
أخذ عنه أبو القاسم بن حسان، وغيره.
بالغ ابن الأبار في وصفه.
ومات بمراكش ليلة النحر سنة ثمان وثمانين وخمس مئة كهلاً، وقيل: سنة سبع. وله هذه:

أتـراه يتـرك الـعـذلا

 

وعليه شبّ واكتـهـلا

كلفٌ بالغيد ما علـقـت

 

نفسه السّلوان مذ عقـلا

غير راضٍ عن سجيّة من

 

ذاق طعم الحبّ ثمّ سـلا

نظرت عيني لشقوتـهـا

 

نظراتٍ وافقـت أجـلا

غادةً لمّا مثـلـت لـهـا

 

تركتني في الهوى مثلا

خشيت أنّي سأُحرقـهـا

 

إذ رأت رأسي قد اشتعلا

ليتنا نلقى السّـيوف ولـم

 

نلق تلك الأعين النّجـلا

أشرعوا الأعطاف مائسةً

 

حين أشرعنا القنا الذّبـلا

نصروا بالحسن فانتهبـوا

 

كلّ قلبٍ بالهوى خـذلا

منها:

ثم قالوا سوف نتركها

 

سلباً للحبّ أو نفـلا

قلت أوما وهي عالقةٌ

 

بأمير المؤمنين فـلا

وله:

دعا الشّوق قلبي والركائب والركبا

 

فلبّوا جميعاً وهو أوّل من لـبّـى

ومنها:

يقولون داو القلب يسل عن الهوى

 

فقلت لنعم الرأي لو أنّ لي قلبـا

الحضرمي

قاضي الإسكندرية، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان بن محمد بن منصور بن محمد بن الفضل الحضرمي العلائي، نسبةً إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الصقلي، ثم الإسكندراني، المالكي، الفقيه.
ولد سنة أربع عشرة وخمس مئة.
وسمع من أبي عبد الله الرازي عدة أجزاء.
روى عنه: ابن المفضل الحافظ، وعبد الغني الحافظ، وابن رواج، وعبد الرحمان بن علاس القصديري، وعلي بن عمر بن ركاب، وآخرون.
مات سنة تسع وثمانين وخمس مئة.

أخوه

الإمام الفقيه أبو الفضل أحمد بن عبد الرحمان الحضرمي المالكي، من كبار الفقهاء.
روى عن: أبي عبد الله الرازي، وأبي الوليد بن خيرة، ويوسف بن محمد الأموي، وأبي عبد الله بن رفاعة.
ودرس. وسماعه من الرازي حضور، فإنه قال: ولدت في أول سنة اثنتين وعشرين.
روى عنه جماعة، وهو أقدم شيخ لقيه التقي ابن الأنماطي.
مات سنة خمس وثمانين وخمس مئة.
وكان أبوهما الشيخ أبو القاسم آخر من حدث بالإجازة عن الحبال.
وكان جدهما من مشايخ السلفي، فهم بيت علم ورواية.

سلطان شاه

صاحب مرو، محمود بن خوارزمشاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن نوشتكين الخوارزمي، أخو السلطان علاء الدين خوارزمشاه تكش. تملك بعد أبيه سنة 548، وجرت له حروب وخطوب. وكان أخوه قد ملكه أبوه بعض خراسان، فحشد، وأقبل، وحارب أخاه، وكان كفرسي رهان في الحزم والعزم والشجاعة والرأي.
حضر محمود غير مصاف، واستعان بالخطا، وافتتح مدناً، وقد أسر أخوه تكش والدة محمود، وذبحها، واستولى على خزائن أبيه.
ولهم سير وأحوال.
وقيل: إن محموداً طرد الغز عن مرو، وتملكها، ثم تحزبوا عليه، وكسروه، وقتلوا فرسانه، فاستنجد بالخطا، وأقبل بعسكر عظيم، وأخرج الغز عن سرخس، ونسا، ومرو، وأبيورد، وتملك ذلك.
ثم إنه كاتب غياث الدين الغوري، ليسلم إليه هراة، وبعث إليه الغياث يأمره أن يخطب له، فأبى، وشن الغارات، وظلم، وتمرد، فأقبل الغوري لحرب محمود، فتقهقر، وجمع، فتحزب له غياث الدين، وأخوه صاحب الهند شهاب الدين، ثم التقى الجمعان، فتفلل جمع محمود، وتحصن هو بمرو، فبادر أخوه تكش، وآذى محموداً، وضايقه حتى كل، وخاطر، وسار إلى خدمة الغياث، فبالغ في احترامه، وأنزله معه، فبعث تكش إلى الغياث يأمره باعتقال أخيه، فأبى، فبعث يتوعده، فتهيأ الغياث لقصده. وأما محمود، فمات في سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمس مئة، فأحسن الغياث إلى أجناد محمود، واستخدمهم.

أبو مدين

شعيب بن حسين الأندلسي الزاهد، شيخ أهل المغرب، كان من أهل حصن منتوجت من عمل إشبيلية.
جال وساح، واستوطن بجاية مدةً، ثم تلمسان.
ذكره الأبار بلا تاريخ وفاة، وقال: كان من أهل العمل والاجتهاد، منقطع القرين في العبادة والنسك. قال: وتوفي بتلمسان في نحو التسعين وخمس مئة، وكان آخر كلامه: الله الحي، ثم فاضت نفسه.
قال محيي الدين ابن العربي: كان أبو مدين سلطان الوارثين، وكان جمال الحفاظ عبد الحق الأزدي قد آخاه ببجاية، فإذا دخل عليه، ويرى ما أيده الله به ظاهراً وباطناً، يجد في نفسه حالةً سنيةً لم يكن يجدها قبل حضور مجلس أبي مدين، فيقول عند ذلك: هذا وارث على الحقيقة.
قال محيي الدين: كان أبو مدين يقول: من علامات صدق المريد في بدايته انقطاعه عن الخلق، وفراره، ومن علامات صدق فراره عنهم وجوده للحق، ومن علامات صدق وجوده للحق رجوعه إلى الخلق، فأما قول أبي سليمان الداراني لو وصلوا ما رجعوا فليس بمناقض لقول أبي مدين، فإن أبا مدين عنى رجوعهم إلى إرشاد الخلق، والله أعلم.

ابن بنان

المولى الفاضل الأثير، ذو الرياستين، أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي الطاهر محمد بن بنان الأنباري الأصل، المصري الكاتب، ولد القاضي الأجل أبي الفضل.
ولد بالقاهرة سنة سبع وخمس مئة.
وسمع من أبي صادق مرشد المديني، ووالده، وأبي البركات محمد ابن حمزة العرقي، والقاضي محمد بن هبة الله بن عرس.
وتلا على أبي العباس بن الحطيئة.
حدث عنه: الشريف محمد بن عبد الرحمان الحسيني الحلبي، والرشيد أبو الحسين العطار، وجماعة سواهما.
قال الدبيثي: قدم بغداد رسولاً من صاحب اليمن سيف الإسلام، فحدث بالسيرة عن والده عن الحبال. وحدث بصحاح الجوهري، وكتبوا عنه من شعره.
وقال المنذري: سمع منه جماعة من رفقائنا، وكتب الكثير، وخطه في غاية الجودة. ولي ديوان النظر في الدولة المصرية، وتقلب في الخدم، وعاش تسعاً وثمانين سنةً.
قال الموفق عبد اللطيف: كان أسمر طوالاً رقيقاً، له أدب وترسل، وكان صاحب الديوان، والقاضي الفاضل، ممن يغشى بابه ويمتدحه، ويفخر بالوصول إليه، فلما جاءت الدولة الصلاحية، قال الفاضل: هذا رجل كبير القدر ينبغي أن يجري عليه ما يكفيه، ويجلس في بيته، ففعل ذلك، ثم توجه إلى اليمن، ووزر بها، وترسل إلى بغداد، فعظم وبجل، ولما صرت إلى مصر، وجدت ابن بنان في ضنك، وعليه دين ثقيل أدى أمره إلى أن حبسه الحاكم بالجامع، وكان ينتقص بالقاضي الفاضل، ويراه بالعين الأولى، فقصر الفاضل في حقه، وكان الدين لأعجمي، فصعد إليه إلى سطح الجامع، وسفه عليه، وقبض على لحيته وضربه، ففر، وألقى نفسه من السطح، فتهشم، فحمل إلى داره، ومات بعد أيام، فسير الفاضل لتجهيزه خمسة عشر ديناراً مع ولده، ثم إن الفاضل مات بعد ثلاثة أيام فجاءةً.
مات ابن بنان في ثالث ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمس مئة. وكان فيها القحط بمصر والفناء، وخرب الإقليم، وجلا أهله، وأكلوا الميتة والآدميين، وهلكوا؛ لأن النيل كسر من ثلاثة عشر ذراعاً وأصابع، وقيل: ما كمل الثلاثة عشر فلله الأمر.

ابن حيدرة

الشريف، أبو المعمر محمد بن أبي المناقب حيدرة ابن الإمام عمر بن إبراهيم الزيدي، العلوي، الكوفي.
عاش تسعين سنةً.
وهو آخر من روى عن أبي الغنائم النرسي، وروى عن جده، وعن سعيد بن محمد الثقفي.
روى عنه: أحمد بن طارق، وابن خليل.
قال تميم البندنيجي: كان رافضياً.
قلت: مات سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة.
وفيها مات ابن بوش، وصاحب اليمن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، ومقرئ واسط ابن الباقلاني، والوزير جلال الدين عبيد الله بن يونس الأزجي، وقاضي القضاة أبو طالب علي بن علي بن أبي البركات هبة الله ابن البخاري الشافعي، والشيخ عمر الكميماتي الزاهد، ومحمد بن سيدهم الدمشقي ابن الهراس، وأبو الفتح ناصر بن محمد بن أبي الفتح الويرج القطان.

أبو طالب الكرخي

الإمام الأوحد، شيخ الشافعية، وصاحب الخط المنسوب، أبو طالب المبارك بن المبارك بن المبارك الكرخي، صاحب أبي الحسن ابن الخل، وهو المبارك بن أبي البركات.
ولد سنة نيف وخمس مئة.
وسمع من: هبة الله بن الحصين، وقاضي المارستان.
حدث عنه: أحمد بن أحمد البندنيجي، وغيره.
كان ذا جاه وحشمة لكونه أدب أولاد الناصر لدين الله.
قال ابن النجار: شهد عند قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي في سنة ثلاثين وخمس مئة، ثم درس بمدرسة شيخه ابن الخل بعده، ثم ولي النظامية في سنة إحدى وثمانين. وكان إمام وقته في العلم والدين والزهد والورع، لازم ابن الخل حتى برع في المذهب والخلاف. إلى أن قال: وكان من الورع والزهد والعفة والنزاهة والسمت على طريقة اشتهر بها، وكان أكتب أهل زمانه لطريقة ابن البواب، وعليه كتب الظاهر بأمر الله.
قال: وكان ضنيناً بخطه، حتى إنه كان إذا شهد، وكتب في فتيا، كسر القلم، وكتب به خطاً ردياً.
قلت: درس، وأفتى، ودرس بالنظامية بعد أبي الخير القزويني.
وروى عنه أبو بكر الحازمي.
وعاش نيفاً وثمانين سنةً.
قال الموفق عبد اللطيف بن يوسف: كان رب علم وعمل وعفاف ونسك، وكان ناعم العيش، يقوم على نفسه وبدنه قياماً حكيماً، رأيته يلقي الدرس، فسمعت منه فصاحةً رائعةً، ونغمةً رائقة، فقلت: ما أفصح هذا الرجل ! فقال شيخنا ابن عبيدة النحوي: كان أبوه عواداً، وكان هو معي في المكتب، فضرب بالعود، وأجاد، وحذق حتى شهدوا له أنه في طبقة معبد، ثم أنف، واشتغل بالخط إلى أن شهد له أنه أكتب من ابن البواب، ولا سيما في الطومار والثلث، ثم أنف منه، واشتغل بالفقه، فصار كما ترى، وعلم ولدي الناصر لدين الله، وأصلحا مداسه.
قال ابن النجار: توفي في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمس مئة، وكان قد خرج في عصر هذا اليوم للصلاة بالجماعة بالرباط، فلما توجه للصلاة، عرضت له سعلة، وتتابعت، فسقط، وحمل إلى منزله، فمات في وقته، وحضره خلق كثير، رحمة الله عليه.

القاضي الفاضل

هو العلامة، صاحب الطريقة، أبو طالب محمود بن علي بن أبي طالب التميمي، الأصبهاني الشافعي، تلميذ محيي الدين محمد بن يحيى الشهيد.
له تعليقة في الخلاف باهرة جداً، وكان عجباً في إلقاء الدروس.
تخرج به أئمة، وكان آيةً في الوعظ، صاحب فنون.
أرخ ابن خلكان موته في شوال سنة خمس وثمانين وخمس مئة.

ابن أبي حبة

الشيخ الكبير، أبو ياسر عبد الوهاب بن هبة الله بن أبي ياسر عبد الوهاب بن علي بن أبي حبة البغدادي، الطحان، راوي المسند بحران.
سمع: هبة الله بن الحصين، وأبا غالب ابن البناء، وأبا الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى، وهبة الله ابن الطبر، وزاهر بن طاهر، ومحمد بن الحسين المزرفي، وعدةً.
وكان فقيراً، قانعاً، متعففاً.
حدث عنه: البهاء عبد الرحمان، وعبد العزيز بن صديق، وأحمد بن سلامة النجا، وأهل حران.
قال ابن النجار: كان لا بأس به، صبوراً على فقره.
وقال ابن الدبيبثي: كان فقيراً، صبوراً، صحيح السماع.
ولد سنة ست عشرة وخمس مئة، وأدركه الأجل بحران في الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمس مئة. وفيها مات: أبو العباس أحمد بن الحسين العراقي الحنبلي المقرئ، أحد الأئمة بدمشق، وإسماعيل الجنزوي الشروطي، ومفتي واسط أبو علي الحسن ابن الإمام أبي جعفر هبة الله ابن البوقي الشافعي، والمحدث الصالح أبو عبد الله الحسين بن يوحن اليماني عن نيف وثمانين سنة، والوزير المنشئ موفق الدين خالد بن محمد بن نصر ابن القيسراني الحلبي بها، والمسند أبو منصور طاهر بن مكارم الموصلي المؤدب راوي مسند المعافى، والشيخ أبو جعفر عبيد الله بن أحمد ابن السمين، والأمير الكبير سيف الدين علي بن أحمد ابن الملك أبي الهيجا الهكاري، المشطوب، وقاسم بن إبراهيم المقدسي بمصر، وأبو محمد فارس بن أبي القاسم بن فارس الحفار الحربي، عن بضع وتسعين سنةً، وصاحب الروم عز الدين قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي، والنسابة أبو علي محمد بن أسعد الجواني الشريف بمصر، وآخرون.

رجب

ابن مذكور بن أرنب، الشيخ الأمي أبو الحرم الأزجي الأكاف.
شيخ، صحيح السماع، عالي الرواية، عري من الفضيلة.
سمع: أبا العز بن كادش، وقراتكين بن أسعد، وهبة الله بن الحصين، وأبا غالب ابن البناء، وعلي بن الموحد وعدةً، وتفرد بأجزاء.
سمع منه: عمر بن علي القرشي، ومات قبله بمدة.
وروى عنه: سالم بن صصرى، والبهاء عبد الرحمان، وابن الدبيثي، وابن خليل، وآخرون.
قال ابن النجار: لا بأس به، وهو أخو ثعلب.
مات في رمضان سنة تسع وثمانين وخمس مئة.
وفيها مات: سلطان الوقت صلاح الدين، والشيخ سنان صاحب حصون الإسماعيلية، وطغدي بن ختلغ الأميري المقرئ، وأبو منصور بن عبد السلام، وأبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن كوثر المحاربي الغرناطي، وصاحب الموصل عز الدين مسعود الأتابكي، والمكرم بن هبة الله بن مكرم الصوفي.

والد كريمة

العدل أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن خضر الأسدي، الزبيري، الدمشقي، الشروطي، ويعرف بالحبقبق، وهو أخو الحافظ أبي المحاسن عمر بن علي القرشي، وأبو الشيختين كريمة وصفية.
مولده سنة خمس عشرة.
وسمع من: جمال الإسلام علي بن المسلم، وياقوت الرومي، ونصر بن محمد المصيصي، وطائفة.
روى عنه: أخوه، وولداه علي وكريمة، وأبو المواهب بن صصرى، وأبو الحجاج بن خليل.
مات في ثالث صفر سنة تسعين وخمس مئة.

قاضي خان

هو العلامة شيخ الحنفية، أبو المحاسن حسن بن منصور بن محمود البخاري الحنفي، الأوزجندي، صاحب التصانيف.
سمع الكثير من الإمام ظهير الدين الحسن بن علي بن عبد العزيز. ومن إبراهيم بن عثمان الصفاري وطائفة.
وأملى مجالس كثيرةً رأيتها.
روى عنه: العلامة جمال الدين محمود بن أحمد الحصيري، أحد تلامذته.
بقي إلى سنة تسع وثمانين وخمس مئة، فإنه أملى في هذا العام.

المرغيناني

العلامة، عالم ما وراء النهر، برهان الدين، أبو الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني الحنفي، صاحب كتابي الهداية والبداية في المذهب.
كان في هذا الحين، لم تبلغنا أخباره، وكان من أوعية العلم رحمه الله.

الجويني

الكاتب المجود الأوحد، أبو علي حسن بن علي الجويني، الأديب الشاعر، ويعرف بابن اللعيبة.
قال العماد: هو من أهل بغداد، له الخط الرائق، والفضل الفائق، واللفظ الشائق، والمعنى اللائق، له فصاحة ولسن، وخط كاسمه حسن، من ندماء الأتابك زنكي، ثم ابنه، ثم سافر إلى مصر، وليس بها من يكتب مثله.
قلت: مدح صلاح الدين والفاضل.
قال العماد: حدثني سعد الكاتب بمصر، قال: كان الجويني صديقي، وكان يشرب الخمر، فحدثني أنه كان يكتب مصحفاً، وبين يديه مجمرة وقنينة خمر، ولم يكن بقربي ما أندي به الدواة، فصببت من القنينة في الدواة، وكتبت وجهةً، ونشفتها على المجمرة، فصعدت شرارة أحرقت الخط دون بقية الورقة، فرعبت، وقمت، وغسلت الدواة والأقلام، وتبت إلى الله.
مات سنة ست وثمانين وخمس مئة.

الجنزوي

الشيخ الفاضل، المحدث، الفرضي، الشروطي، العدل، أبو الفضل إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي الأصل، الدمشقي، الكاتب، ويقال فيه: الجنزي والكنجي.
مولده في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين، فهو أسن من الحافظ ابن عساكر بسنة.
تفقه على جمال الإسلام، وأبي الفتح المصيصي. وسمع من الأمين هبة الله ابن الأكفاني، وعبد الكريم بن حمزة، وطاهر بن سهل، ويحيى بن بطريق، وطبقتهم.
واعتنى بالرواية، وكتب، ورحل، فسمع بغداد من أبي البركات هبة الله ابن البخاري، وأبي الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني، والحافظ أبي محمد ابن السمرقندي، والحسن بن إسحاق الباقرحي، وهبة الله بن الطبر، وعدة.
روى عنه: أبو المواهب بن صصرى، والقاسم بن عساكر، وابن الأخضر، وعبد القادر الرهاوي، وابن خليل، والشيخ الضياء، والبهاء عبد الرحمان، والتاج القرطبي، وعبد الله ابن الخشوعي، وإبراهيم بن خليل، والعماد بن عبد الهادي، وابن عبد الدائم، وخلق.
وجنزة من مدن أران، وهو إقليم صغير، بين أذربيجان وأرمينية.
كان من كبار الشهود والمحدثين.
مات في سلخ جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، وله تسعون عاماً وشهران. رحمه الله.

ابن عبد السلام

الشيخ الجليل المعمر، المسند، أبو منصور، عبد الله بن محمد بن أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام البغدادي الكاتب.
من بيت الرواية والكتابة.
ولد في ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة ست وخمس مئة.
وسمع من: أبي القاسم بن بيان، ومن أبي علي بن نبهان، وهو في الخامسة، ومحمد بن عبد الباقي الدوري، وأبي طالب بن يوسف، وجعفر بن المحسن السلماسي، وجده، وطائفة.
حدث عنه: الشيخ موفق الدين المقدسي، ويوسف بن خليل، والجلال عبد الله بن الحسن قاضي دمياط، وعلي بن عبد اللطيف ابن الخيمي، ومحمد بن نفيس الزعيمي، وأحمد بن شكر الكندي، وعدة.
قال أبو محمد بن الأخضر: سمعت منه، ومن أبيه، وجده.
قلت: مات في تاسع ربيع الأول سنة تسع وثمانين وخمس مئة.
روى عنه ابن خليل جزء ابن عرفة. وهو والد مسند وقته الفتح بن عبد السلام.
وقال فيه الحافظ ابن النجار: كان شيخاً نبيلاً، وقوراً، من ذوي الهيئات وأولاد الرؤساء والمحدثين. حدث بالكثير. وسمعت محمد بن النفيس بن منجب يقول: كان ثقةً يتشيع.

صاحب الموصل

الملك عز الدين أبو المظفر مسعود ابن الملك مودود بن الأتابك زنكي ابن آقسنقر، الأتابكي، التركي، الذي عمل المصاف مع صلاح الدين على قرون حماة، فانكسر مسعود سنة سبعين، ثم ورث حلب، أوصى له بها ابن عمه الصالح إسماعيل، فساق، وطلع إلى القلعة، وتزوج بوالدة الصالح، فحاربه صلاح الدين، وحاصر الموصل ثلاث مرات، وجرت أمور، ثم تصالحا، وكان موتهما متقارباً.
تعلل مسعود، وبقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادة والتلاوة، وإن تكلم بشيء، استغفر، وختم له بخير. وكان يزور الصالحين، وفيه حلم وحياء ودين وقيام ليل، وفيه عدل. مات في شعبان سنة تسع وثمانين وخمس مئة.
 قال ابن خلكان في ترجمة صاحب الموصل عز الدين مسعود بن مودود: لما سار السلطان صلاحا لدين من مصر، وأخذ دمشق بعد موت نور الدين، خاف منه صاحب الموصل غازي، فجهز أخاه مسعوداً هذا ليرد صلاح الدين عن البلاد، فترحل صلاح الدين عن حلب في رجب سنة سبعين، وأخذ حمص، فانضم الحلبيون مع مسعود، وعرف بذلك صلاح الدين، فسار، فوافاهم على قرون حماة، فتراسلوا في الصلح، فأبى مسعود، وظن أنه يهزم صلاح الدين، فالتقوا، فانكسر مسعود، وأسر عدة من أمرائه في رمضان، وأطلقوا، وعاد صلاح الدين، فنزل على حلب، فصالح ابن نور الدين على بذل المعرة وكفرطاب وبارين، فترحل، ثم تسلطن بالموصل مسعود، فلما احتضر ولد نور الدين، أوصى بحلب لمسعود ابن عمه، واستخلف له الأمر، فبادر إليها مسعود، فدخلها في شعبان سنة 77، وتمكن، وتزوج بأم الصالح، وأقام بها نحو شهرين، ثم خاف من صلاح الدين، وألح عليه الأمراء بطلب إقطاعات، ففارق حلب، واستناب عليها مظفر الدين ابن صاحب إربل، ثم اجتمع بأخيه زنكي، فقايضه عن حلب بسنجار، وتحالفا، وقدم زنكي، فتملك حلب في المحرم سنة 78، ورد صلاح الدين إلى مصر، فبلغته الأمور، فكر راجعاً، وبلغه أن مسعوداً راسل الفرنج يحثهم على حرب صلاح الدين، فغضب وسار، فنازل حلب في جمادى الأولى سنة ثمان، ثم ترحل بعد ثلاث، فانحاز إليه مظفر الدين ابن صاحب إربل، وقوى عزمه على قصد ممالك الجزيرة، فعدى الفرات، وأخذ الرقة، والرها، ونصيبين، وسروج، ثم نازل الموصل في رجب، فرآها منيعةً، فنزل على سنجار أياماً، وافتتحها، فأعطاها لتقي الدين عمر صاحب حماة، ثم نازل الموصل في سنة إحدى وثمانين، فنزلت إليه أم مسعود في نسوة، فما أجابهن، ثم ندم، وبذلت المواصلة نفوسهم في القتال ليالي، فأتاه موت صاحب خلاط شاه أرمن، وتملك مملوكه بكتمر، فلان بكتمر أن يملك صلاح الدين خلاط، ويكون من دولته، وترددت الرسل، وأقبل بهلوان صاحب أذربيجان ليأخذ خلاط، فراوغ بكتمر الملكين، ونزل صلاح الدين على ميافارقين، فجد في حصارها إلى أن فتحها، وأخذها من قطب الدين الأرتقي، وكر إلى الموصل، فتمرض مدةً، ورق، وصالح أهل الموصل، وحلف لهم، وتمكن حينئذ مسعود، واطمأن، إلى أن مات بعد صلاح الدين بأشهر بعلة الإسهال، ودفن بمدرسته الكبرى، وتملك بعده ابنه نور الدين مدةً، ثم مات عن ابنين: القاهر مسعود، والمنصور زنكي.

الشيرازي

الشيخ الإمام، المحدث، الحافظ، الرحال، أبو يعقوب يوسف ابن أحمد بن إبراهيم، الشيرازي، ثم البغدادي، الصوفي، صاحب الأربعين البلدية.
ولد سنة تسع وعشرين وخمس مئة ببغداد.
فسمعه أبوه من أبي القاسم ابن السمرقندي، ويحيى بن علي الطراح، وأبي الحسن بن عبد السلام، وأبي سعد بن البغدادي الحافظ.
ثم طلب بنفسه، فسمع من عبد الملك الكروخي، وابن ناصر، وبالكوفة من أبي الحسن بن غبرة، وبكرمان من أبي الوقت السجزي، وبالبصرة من عبد الله بن سليخ، وبواسط من أحمد بن بختيار المندائي، وبهراة من المعمر عبد الجليل بن أبي سعد، وبنيسابور من محمد بن علي الطوسي، وببلخ من أبي شجاع البسطامي، وبأصبهان من إسماعيل الحمامي، وبهمذان من نصر البرمكي، وبدمشق من أبي المكارم بن هلال.
وكان ذا رحلة واسعة، ومعرفة جيدة، وصدق وإتقان.
وثقه ابن الدبيثي.
وكتب عنه أبو المواهب بن صصرى.
وكان حلو المحاضرة، ظريفاً، دمث الأخلاق.
توصل وساد وذهب رسولاً عن ديوان العزيز إلى الملوك، وكثر ماله، وروى شيئاً يسيراً.
توفي في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمس مئة.
وقد أجاد تأليف الأربعين وهي في مجلد.
أخبرنا أبو اليمن في كتابه، أخبرنا محمد بن أبي جعفر، أخبرنا يوسف ابن أحمد بمكة، أخبرنا إسماعيل بن أحمد، أخبرنا أحمد بن محمد، حدثنا ابن حبابة، حدثنا البغوي، حدثنا هدبة، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ .. الحديث.

ابن الفخار

الشيخ الإمام، الحافظ البارع، المجود، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن خلف، الأندلسي، المالقي، ابن الفخار.
ولد سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
سمع شريح بن محمد الرعيني، وأبا جعفر البطروجي، والقاضي أبا بكر ابن العربي، وأبا مروان بن مسرة، ومحمد بن محمد بن عبد الرحمان القرشي، وطبقتهم. قال أبو عبد الله الأبار: كان صدراً في الحفاظ، مقدماً، معروفاً بسرد المتون والأسانيد، مع معرفة بالرجال وحفظ للغريب. سمع منه جلة، وحدثني عنه أئمة. سمعت أبا سليمان بن حوط الله يذكر عن ابن الفخار أنه حفظ في شبيبته سنن أبي داود، فأما في مدة لقائي إياه، فكان يذكر صحيح مسلم. وكان موصوفاً بالورع والفضل، مسلماً له في جلالة القدر، ومتانة العدالة، طلب إلى حضرة السلطان بمراكش ليسمع عليه بها، فتوفي هناك في شعبان سنة تسعين وخمس مئة.
قال أبو الربيع بن سالم: ومن شيوخي ابن الفخار، مسلم له في جلالة القدر، ومتانة الأمانة والعدالة، اختص بابن العربي، وأكثر عنه، لقيته برباط الفتح، قرأت عليه وعلى ابن حبيش، وابن عبيد الله، قالوا: أخبرنا ابن العربي، أخبرنا طراد، فذكر حديثاً.
وفيها مات الشاطبي، وأبو الخير القزويني، وأبو المظفر عبد الخالق ابن فيروز الجوهري، ووالد كريمة، ومحمد بن عبد الملك بن بونه أخو عبد الحق.
وله إجازة من ابن سكرة.

ابن بوش

الشيخ المعمر، الرحلة، أبو القاسم يحيى بن أسعد بن يحيى بن محمد بن بوش، البغدادي الأزجي الخباز.
سمع بإفادة خاله من أبي طالب بن يوسف، وأبي الغنائم محمد بن محمد، والحسن بن محمد الباقرحي، وأبي سعد بن الطيوري، وأبي غالب عبيد الله بن عبد الملك الشهرزوري، وأبي البركات هبة الله ابن البخاري، وأبي نصر أحمد بن هبة الله ابن النرسي، وأبي العز بن كادش، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وهبة الله بن الحصين، وأبي عبيد الله البارع، وعدة.
وأجاز له أبو القاسم بن بيان، وأبو علي الحداد، وأبو الغنائم النرسي، وجماعة.
قال ابن الدبيثي: كان سماعه صحيحاً، وبورك في عمره، وأحتيج إليه، وحدث أربعين سنةً، ولم يكن عنده علم.
قلت: من سماعه المسند كله على ابن الحصين.
حدث عنه: الشيخ موفق الدين، والبهاء عبد الرحمان، والتقي بن باسويه، ومحمد بن عبد العزيز الصواف، ومحمد بن عبد القادر البندنيجي، وتميم بن منصور الرصافي، وجعفر بن ثناء ابن القرطبان، وداود بن شجاع، وعلي بن فائزة، وعلي بن الأخضر، وفضل الله الجيلي، وعلي بن معالي الرصافي، ومحيي الدين ابن الجوزي، وابن خليل، واليلداني، وابن المهير الحراني، وعدة.
وأجاز لشيخنا أحمد بن أبي الخير.
وكان يعطى على الرواية لفقره في بعض الوقت.
مات في ثالث ذي القعدة فجاءةً، غص بلقمة، سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة، وله بضع وثمانون سنةً.

الطرسوسي

الشيخ الجليل، مسند أصبهان، أبو جعفر محمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي الفتح، الطرسوسي، ثم الأصبهاني، الحنبلي، الفقيه.
ولد سنة اثنتين وخمس مئة، في صفرها.
وسمع من: أبي علي الحداد، ومحمد بن طاهر، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، ومحمود بن إسماعيل الأشقر، وأبي نهشل عبد الصمد العنبري.
حدث عنه: أبو موسى عبد الله بن عبد الغني، ويوسف بن خليل، وطائفة.
وأجاز لأحمد بن أبي الخير.
مات في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وخمس مئة.
أنبأنا أحمد بن سلامة، عن محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة.
أخرجه البخاري عن ابن راهويه عن يحيى به.

الكاغدي

القاضي الإمام المعمر، الخطيب، أبو الفضائل، عبد الرحيم بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد، الأصبهاني، الكاغدي، المعدل.
ولد في سنة إحدى وخمس مئة.
سمع أبا علي الحداد، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، وإسماعيل الإخشيذ، وفاطمة الجوزدانية.
حدث عنه: يوسف بن خليل، وهو أحد العشرة الذين أدركهم من أصحاب الحداد.
أجاز لشيخنا أحمد بن سلامة.
وتوفي في ذي القعدة سنة أربع وتسعين.
وفيها مات أبو طاهر علي بن سعيد بن فاذشاه بأصبهان، وهو أحد العشرة.

ابن الباقلاني

الشيخ الإمام، المقرئ البارع، مسند القراء، أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران بن ربيعة، الربعي، الواسطي، ابن الباقلاني.
ولد في أول سنة خمس مئة.
وتلا بالعشر على أبي العز القلانسي، وعلي بن علي بن شيران، وسبط الخياط. وسمع من خميس الحوزي، وأبي عبد الله البارع، وهبة الله بن الحصين، وأبي العز بن كادش، وأبي علي الفارقي، وأبي بكر المزرفي، وأبي الكرم نصر الله بن الجلخت، وجماعة.
روى عنه: السمعاني، وابن عساكر أناشيد، وكان شاعراً محسناً.
وحدث عنه، وتلا عليه بالعشر: التقي ابن باسويه، والمرجى بن شقيرة، وأبو عبد الله بن الدبيثي، والحسين بن أبي الحسن بن ثابت الطيبي، والإمام أبو الفرج ابن الجوزي، وولده محيي الدين يوسف، والشريف الداعي، وقصد من الآفاق لعلو الإسناد.
قال الدبيثي: انفرد بالعشرة عن أبي العز، وادعى رواية شيء من الشواذ، فتكلم الناس فيه، ووقفوا في ذلك، وكان عارفاً بوجوه القراءات. وسمعت عبد المحسن بن أبي العميد الصوفي يقول: رأيت في المنام بعد وفاة ابن الباقلاني كأن من يقول لي: صلى عليه سبعون ولياً لله.
وقال ابن نقطة: حدث بسنن أبي داود عن الفارقي، وسماعه منه سنة ثماني عشرة.
وقال المحدث محمد بن أحمد بن الحسن الواسطي: قرأ ابن الباقلاني على أبي العز بالإرشاد وما سوى ذلك، فإنه كان يزوره.
توفي ابن الباقلاني في سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة.

النوقاني

العلامة المفتي، أبو المفاخر، محمد بن أبي علي بن أبي نصر، النوقاني، الشافعي.
تفقه بمحمد بن يحيى، وبرع في المذهب والخلاف، ثم سكن بغداد، وأخذوا عنه طريقته، ثم درس بمدرسة أم الخليفة الناصر، وله معرفة تامة بالتفسير.
تخرج به أئمة، وكان ذا صلاح وصيانة وملازمة للعلم مع سخاء ومروءة وبذل وقناعة.
حدث بالأربعين التي لابن يحيى، وكان شيخاً مهيباً.
روى عنه: عبد الرحمان بن عمر الغزال، وغيره.
قال ابن النجار: سمعت الفقيه نصر بن عبد الرزاق غير مرة يثني على النوقاني ثناءً كثيراً، ويصف خلقه وبذله لتلامذته، وغزارة علمه وسعة فهمه.
قال ابن النجار: وسمعت الفقيه محمد بن أبي بكر بن الدباس يثني على النوقاني، ويقول: كان ولياً لله.
مولده سنة ست عشرة وخمس مئة بنوقان.
وتوفي قافلاً من حجه بالكوفة في صفر سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة.

ذاكر بن كامل

ابن أبي غالب محمد بن حسين، الشيخ المعمر، المسند، أبو القاسم البغدادي الخفاف.
سمعه أخوه المبارك الحافظ من الحسن محمد بن إسحاق الباقرحي، وأبي علي ابن المهدي، والمعمر بن محمد البيع، وأبي سعد ابن الطيوري، وعبد الله ابن السمرقندي، وأبي طالب بن يوسف، وأبي العز القلانسي، ومحمد بن عبد الباقي الدوري، وعدة.
وأجاز له أبو القاسم بن بيان، وعبد الغفار الشيرويي، وأبو الغنائم النرسي، وأبو علي الحداد، وأبو طاهر الحنائي الدمشقي، وأبو القاسم علي بن إبراهيم النسيب، وعدة.
وروى الكثير، وتفرد، وكان صالحاً خيراً، قليل الكلام، ذاكراً الله، يسرد الصوم، ويتقوت من عمله، وكان أمياً لا يكتب.
حدث عنه: سالم بن صصرى، وأبو عبد الله الدبيثي، وابن خليل، ومحمد بن عبد الجليل، وعلي بن معالي الرصافي، وعدة.
وقد سمع منه معمر بن الفاخر، وأبو سعد السمعاني، لمكان اسمه.
وآخر من روى عنه بالإجازة مسند بغداد محمد بن الدينة.
توفي في سادس رجب سنة إحدى وتسعين وخمس مئة.
وفيها مات أبو العباس أحمد بن أبي منصور بن الزبرقان الأصبهاني في عشر المئة، وشيخ القراء شجاع بن محمد بن سيدهم المدلجي بمصر، ومقرئ بغداد أبو جعفر عبد الله بن أحمد بن جعفر الواسطي، وأبو محمد عبيد الله الحجري، وأبو المحاسن محمد بن الحسن الأصفهبذ بأصبهان، وأبو الحسن نجبة بن يحيى الرعيني المقرئ، وأبو منصور يحيى بن علي ابن الخراز الحريمي من شيوخ ابن خليل، سمع أبا علي ابن المهدي.

الحجري

الشيخ الإمام، العلامة المعمر، المقرئ المجود، المحدث الحافظ، الحجة، شيخ الإسلام، أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله بن سعيد بن محمد بن ذي النون، الرعيني، الحجري، الأندلسي، المريي، المالكي، الزاهد، نزيل سبتة.
ولد سنة خمس وخمس مئة.
 وسمع صحيح مسلم من أبي عبد الله بن زغيبة، وسمع من أبي القاسم بن ورد، وأبي الحسن بن موهب، ولقي أبا الحسن بن مغيث لقيه بقرطبة، وأبا القاسم بن بقي، وأبا عبد الله بن مكي، وأبا جعفر البطروجي سمع منه سنن النسائي عالياً، وأبا بكر ابن العربي، وأبا الحسن شريحاً، وتلا عليه بالسبع، وقرأ عليه صحيح البخاري سنة أربع وثلاثين، وعني بالحديث، وتقدم فيه.
قال الأبار: كان غايةً في الورع والصلاح والعدالة. ولي خطابة المرية، ودعي إلى القضاء، فأبى، ولما تغلب العدو، نزح إلى مرسية، وضاقت حاله، فتحول إلى فاس، ثم إلى سبتة، فتصدر بها، وبعد صيته، ورحل إليه الناس، وطلب إلى السلطان بمراكش ليأخذ عنه، فبقي بها مدةً، ورجع، حدثنا عنه عالم من الجلة، سمعت أبا الربيع بن سالم يقول: صادف وقت وفاته قحط، فلما وضعت جنازته، توسلوا به إلى الله، فسقوا، وما اختلف الناس إلى قبره مدة الأسبوع إلا في الوحل.
قال: وهو رأس الصالحين، ورسيس الأثبات الصادقين، حالف عمره الورع، وسمع من العلم الكثير، وأسمع، وكان ابن حبيش شيخنا كثيراً ما يقول: لم تخرج المرية أفضل منه، وكان زماناً يخبر أنه يموت في المحرم لرؤيا رآها، فكان كل سنة يتهيأ، قرأت عليه صحيح مسلم في ستة أيام وكتباً، ثم سماها.
قلت: تلا بالسبع أيضاً على يحيى بن الخلوف، وأبي جعفر بن الباذش.
تلا عليه أبو الحسن علي بن محمد الشاري، وأكثر عنه.
وقال ابن فرتون: ظهرت لأبي محمد بن عبيد الله كرامات، حدثنا شيخنا الراوية محمد بن الحسن بن غاز، عن بنت عمه وكانت صالحةً، وكانت استحيضت مدةً قالت: حدثت بموت ابن عبيد الله، فشق علي أن لا أشهده، فقلت: اللهم إن كان ولياً من أوليائك، فأمسك عني الدم حتى أصلي عليه، فانقطع عني لوقته، ثم لم أره بعد.
قلت: وحدث عنه: ابن غازي المذكور، وأبو عمرو محمد بن محمد ابن عيشون، ومحمد بن أحمد اليتيم الأندرشي، ومحمد بن محمد اليحصبي، ومحمد بن عبد الله بن الصفار القرطبي، وشرف الدين محمد بن عبيد الله المرسي، وأبو الخطاب بن دحية، وأخوه أبو عمرو، وأبو بكر محمد بن أحمد بن محرز الزهري، وعبد الرحمان بن القاسم السراج، وأبو الحسن علي بن الفخار الشريشي، وأبو الحسن علي بن فطرال، وأبو الحجاج يوسف بن محمد الأزدي، وإبراهيم بن عامر الطوسي بفتح الطاء ومحمد بن إبراهيم بن الجرج، ومحمد بن عبد الله الأزدي الذي بقي إلى سنة ستين وست مئة.
أخبرني عبد المؤمن بن خلف الحافظ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الأنصاري، أخبرنا الحافظ عبد الله بن محمد الحجري، أخبرنا أحمد بن محمد بن بقي، وأحمد بن عبد الرحمان البطروجي، قالا: حدثنا محمد ابن الفرج الفقيه، حدثنا يونس بن عبد الله القاضي، أخبرنا أبو عيسى يحيى ابن عبد الله، أخبرنا عم أبي عبيد الله بن يحيى بن يحيى، أخبرنا أبي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله.
مات ابن عبيد الله في المحرم، وقيل: في أول صفر سنة إحدى وتسعين وخمس مئة، وكانت جنازته مشهودةً بسبتة.
وقيل: بل ولد في سنة ثلاث وخمس مئة.
قال طلحة بن محمد: ثلاثة من أعلام المغرب في هذا الشأن: ابن بشكوال، وأبو بكر بن خير، وابن عبيد الله.
وقال ابن سالم: إذا ذكر الصالحون، فحي هلا بابن عبيد الله.
وقال ابن رشيد: كان يجمع إلى الزهد والحفظ المشاركة في أنواع من العلم رحمه الله.
وقال ابن رشيد: وقيل: مكث أربعين سنةً لا يحضر الجمعة لعذر به، ثم أنكر ابن رشيد هذا، وقال: لم ينقطع هذه المدة كلها عن الجمعة.
قلت: كأنه انقطع بعض ذلك لكبره وسنه، وكان أهل سبتة يتغالون فيه، ويتبركون برؤيته، رحمه الله.

المجير

الشيخ الإمام العلامة، الأصولي، كبير الشافعية، مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بن علي بن المبارك، الواسطي، ثم البغدادي.
تفقه على أبي منصور الرزاز، وغيره.
وأخذ الكلام عن أبي الفتوح محمد بن الفضل الإسفراييني، وعبد السيد الزيتوني. وبرع، وتقدم، وفاق الأقران، وكان يضرب بذكائه المثل.
ولد سنة 517.
وسمع من ابن الحصين، والقاضي أبي بكر وجماعة. وقدم دمشق، فدرس، وناظر، وتخرج به الأصحاب، ثم سار إلى شيراز، فدرس بها، وبعسكر مكرم، وواسط، ثم درس بالنظامية ببغداد، وخلع عليه بطرحة، ثم بعث رسولاً إلى همذان، فأدركه الأجل.
قال ابن الدبيثي: برع في الفقه حتى صار أوحد زمانه، وتفرد بمعرفة الأصول، قرأت عليه، وما رأيت أجمع لفنون العلم منه، مع حسن العبارة. نفذ رسولاً إلى خوارزمشاه، فمات في طريقه بهمذان في ذي القعدة سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة.
قلت: حدث عنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، وروى ابن النجار عن ابن خليل عنه.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان طوالاً، ذكياً، دقيق الفهم، غواصاً على المعاني، يشتغل سراً بالمنطق وفنون الحكمة على أبي البركات صاحب المعتبر، وكان بين المجير وبين ابن فضلان مناظرة كمحاربة، وكان المجير يقطعه كثيراً. وله بنيت بدمشق الجاروخية.

ابن فضلان

شيخ الشافعية، أبو القاسم يحيى الواثق بن علي بن الفضل بن هبة الله بن بركة، البغدادي.
قال له ابن هبيرة: لا يحسن أن تكتب بخطك إلى الخليفة: الواثق، لأنه لقب خليفة. قال: فكتبت يحيى.
مولده سنة سبع عشرة وخمس مئة.
سمع أبا غالب ابن البناء، وإسماعيل ابن السمرقندي، ومن أبي الفضل الأرموي.
روى عنه: ابن خليل في معجمه، فسماه واثقاً، وابن الدبيثي، وجماعة.
وكان بارعاً في الخلاف والنظر، بصيراً بالقواعد، ذكياً، يقظاً، لبيباً، عذب العبارة، وجيهاً، معظماً، كثير التلامذة، ارتحل إلى ابن يحيى صاحب الغزالي مرتين، ووقع في السفر، فانكسر ذراعه، وصارت كفخذه، ثم أدته الضرورة إلى قطعها من المرفق، وعمل محضراً بأنها لم تقطع في ريبة. فلما ناظر المجير مرةً، وكان كثيراً ما ينقطع في يد المجير، فقال: يسافر أحدهم في قطع الطريق، ويدعي أنه كان يشتغل، فأخرج ابن فضلان المحضر، وأخذ يشنع على المجير بالفلسفة.
وكان ابن فضلان ظريف المناظرة، ذا نغمات موزونة، يشير بيده بوزن مطرب أنيق، يقف على أواخر الكلم خوفاً من اللحن. قاله الموفق عبد اللطيف، ثم قال: وكان يداعبني كثيراً، ثم رمي بالفالج في أواخر عمره رحمه الله.
قلت: وتفقه ببغداد على أبي منصور الرزاز، وتخرج به أئمة، وسمع بخراسان من أبي الأسعد القشيري، وعمر بن أحمد ابن الصفار.
درس بمدرسة دار الذهب، وقد تلا بالروايات على محمد ابن العالمة، وكان على دروسه إخبات وجلالة.
مات في شعبان سنة خمس وتسعين وخمس مئة.

ابن كليب

الشيخ الجليل الأمين، مسند العصر، أبو الفرج، عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن خضر بن كليب، الحراني، ثم البغدادي، الحنبلي، التاجر، الآجري؛ لسكناه في درب الآجر.
ولد في صفر سنة خمس مئة.
وسمع: أبا القاسم بن بيان، وأبا علي بن نبهان، وأبا بكر بن بدران، وأبا عثمان بن ملة، وأبا منصور محمد بن أحمد بن طاهر الخازن، وأبا الخطاب الفقيه، وصاعد بن سيار، ونور الهدى أبا طالب الزينبي.
ولقي بالإجازة أبا علي ابن المهدي، وأبا العز محمد بن المختار، ومحمد بن عبد الباقي الدوري، وأبا طاهر بن يوسف، والمبارك بن الحسين الغسال، وابن بيان، وابن نبهان أيضاً.
وله مشيخة مروية.
حدث عنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، وابن النجار، وعمر بن بدر، وأبو موسى ابن الحافظ، واليلداني، وأحمد بن سلامة الحراني، ومحيي الدين ابن الجوزي، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري، وشمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف، وخلق كثير.
وبالإجازة: ابن أبي اليسر، والقطب ابن عصرون، والخضر بن حمويه، وأحمد بن أبي الخير، والعز عبد العزيز بن الصيقل، ومحمد بن أبي الدينة.
وانتهى إليه علو الإسناد، ومتع بحواسه وذهنه، وكان صبوراً محباً للرواية.
دخل مصر مع أبيه، وسكن دمياط مدةً، وحج سبع مرات، وفاتته عرفة في الثامنة، تعوق بالبحر.
قال المنذري في الوفيات: سمعت قاضي القضاة أبا محمد الكناني، سمعت ابن كليب يقول: تسريت بمئة وثمان وأربعين جاريةً، قال: وكان يخاصم أولاده في ذلك السن، فيقول: اشتروا لي جاريةً. قال ابن النجار: ألحق الصغار بالكبار، ومتع بصحته، وذهنه، وحسن صورته، وحمرة وجهه، وكان لا يمل من السماع، كتب جزء ابن عرفة بخطه، وله بضع وتسعون سنةً بخط مليح، وحدث به من لفظه، وكان من أعيان التجار، ذا ثروة واسعة، ثم تضعضع، واحتاج إلى الأخذ، وبقي لا يحدث بجزء ابن عرفة إلا بدينار، وكان صدوقاً قرأت عليه كثيراً.
توفي ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول سنة ست وتسعين وخمس مئة.

جاكير

الزاهد، من كبار مشايخ العراق، صاحب أحوال وتأله وتعبد.
صحب الشيخ علياً الهيتي وغيره.
وجاكير لقب، واسمه محمد بن دشم الكردي الحنبلي، لم يتزوج، وتذكر عنه كرامات، وله زاوية كبيرة بقرية راذان، على بريد من سامراء.
وجلس في المشيخة بعده أخوه أحمد، وبعد أحمد ولده الغرس، وبعد الغرس ابنه محمد.

الشاطبي

الشيخ الإمام، العالم العامل، القدوة، سيد القراء، أبو محمد، وأبو القاسم القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، الأندلسي، الشاطبي، الضرير، ناظم الشاطبية والرائية.
من كناه أبا القاسم كالسخاوي وغيره، لم يجعل له اسماً سواها. والأكثرون على أنه أبو محمد القاسم.
وذكره أبو عمرو بن الصلاح في طبقات الشافعية.
ولد سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة.
وتلا ببلده بالسبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل، وعرض عليه التيسير، وسمع منه الكتب، ومن أبي الحسن ابن النعمة، وأبي عبد الله ابن سعادة، وأبي محمد بن عاشر، وأبي عبد الله بن عبد الرحيم، وعليم بن عبد العزيز. وارتحل للحج، فسمع من أبي طاهر السلفي، وغيره.
وكان يتوقد ذكاءً. له الباع الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث، وله النظم الرائق، مع الورع والتقوى والتأله والوقار.
استوطن مصر، وتصدر، وشاع ذكره.
حدث عنه: أبو الحسن بن خيرة، ومحمد بن يحيى الجنجالي، وأبو بكر بن وضاح، وأبو الحسن علي بن الجميزي، وأبو محمد بن عبد الوارث قارئ مصحف الذهب.
وقرأ عليه بالسبع: أبو موسى عيسى بن يوسف المقدسي، وعبد الرحمان بن سعيد الشافعي، وأبو عبد الله محمد بن عمر القرطبي، وأبو الحسن السخاوي، والزين أبو عبد الله الكردي، والسديد عيسى بن مكي، والكمال علي بن شجاع، وآخرون.
قال أبو شامة: أخبرنا السخاوي: أن سبب انتقال الشاطبي من بلده أنه أريد على الخطابة، فاحتج بالحج، وترك بلده، ولم يعد إليه تورعاً مما كانوا يلزمون الخطباء من ذكرهم الأمراء بأوصاف لم يرها سائغةً، وصبر على فقر شديد، وسمع من السلفي، فطلبه القاضي الفاضل للإقراء بمدرسته، فأجاب على شروط، وزار بيت المقدس سنة سبع وثمانين وخمس مئة.
قال السخاوي: أقطع بأنه كان مكاشفاً، وأنه سأل الله كف حاله.
قال الأبار: تصدر بمصر، فعظم شأنه، وبعد صيته، انتهت إليه رياسة الإقراء، وتوفي بمصر في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمس مئة.
قلت: وله أولاد رووا عنه منهم أبو عبد الله محمد.
أخبرنا أبو الحسين الحافظ ببعلبك، أخبرنا علي بن هبة الله، أخبرنا الشاطبي، أخبرنا ابن هذيل بحديث ذكرته في التاريخ الكبير.
وجاء عنه قال: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله، لأنني نظمتها لله.
وله قصيدة دالية نحو خمس مئة بيت، من قرأها، أحاط علماً بالتمهيد لابن عبد البر.
وكان إذا قرئ عليه الموطأ والصحيحان، يصحح النسخ من حفظه، حتى كان يقال: إنه يحفظ وقر بعير من العلوم.
قال ابن خلكان: قيل: اسمه وكنيته واحد، ولكن وجدت إجازات أشياخه له: أبو محمد القاسم. وكان نزيل القاضي الفاضل فرتبه بمدرسته لإقراء القرآن، ولإقراء النحو واللغة، وكان يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق إلا لضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة.

ابن صصرى

الإمام العالم، الحافظ، المجود، البارع، الرئيس النبيل، أبو المواهب، الحسن ابن العدل أبي البركات هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى، التغلبي، البلدي الأصل، الدمشقي، الشافعي.
ولد سنة سبع وثلاثين وخمس مئة.
وكان اسمه نصر الله، فغيره. سمع من: جده، والفقيه نصر الله بن محمد المصيصي، فهو أكبر شيخ له. ومن عبدان بن زرين، وعلي بن حيدرة، ونصر بن مقاتل، والحسين بن البن، وأبي يعلى بن الحبوبي، وحمزة بن كروس، وحمزة بن أسد القلانسي، وعدة.
ولازم الحافظ ابن عساكر، وأكثر عنه، وتخرج به، وعني بهذا الشأن جداً.
وارتحل، وسمع بحماة محمد بن ظفر الحجة، وبحلب من أبي طالب ابن العجمي، وبالموصل الحسن بن علي الكعبي، ويحيى بن سعدون، وسليمان بن خميس، وببغداد هبة الله الدقاق، وابن البطي، وعدةً، وبهمذان أبا العلاء العطار وغيره، وبأصبهان محمد بن أحمد بن ماشاذه، وأبا رشيد عبد الله بن عمر، وعدةً، وبتبريز حفدة العطاري.
وجمع المعجم، وصنف التصانيف، وصنف في فضائل الصحابة وعوالي ابن عيينة وفضائل القدس ورباعيات التابعين، وقد احترقت كتبه بالكلاسة، ثم إنه وقف خزانةً أخرى.
وثقه أبو عبد الله الدبيثي، وقال: كتب إلينا بالإجازة.
مات سنة ست وثمانين وخمس مئة وله تسع وأربعون سنةً.
أخبرنا القاسم بن محمد الحافظ، أخبرنا إسماعيل بن إسحاق، أخبرنا جدي الحسين بن هبة الله بن محفوظ، أخبرنا أخي أبو المواهب، أخبرنا أبو الفتح المصيصي، أخبرنا محمد بن أحمد، أخبرنا محمد بن إبراهيم اليزدي، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي جويرية، قال: والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقةً.
رواه البخاري عن إبراهيم.

أبوه الرئيس أبو البركات

تفقه، وقرأ القرآن، وله صدقة وبر. كان يختم في رمضان ثلاثين ختمةً.
روى عن: جمال الإسلام، ويحيى بن بطريق.
روى عنه: ابناه، وشهد على القضاء.
مات سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة، وله اثنتان وستون سنةً.

جده محفوظ

قيل: يكنى أبا البركات، من رؤساء البلد وعدولهم.
سمع جزءاً في سنة ست وثمانين وأربع مئة من نصر بن أحمد الهمذاني.
سمع منه: الحافظ ابن عساكر، وابنه البهاء، وولده أبو المواهب.
توفي في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمس مئة، وله ثمانون سنةً، ودفن بباب توما.

طغرل

الملك طغرل شاه بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه التركي، آخر ملوك السلجوقية الملكشاهية.
خرج على الخليفة الناصر، فالتقاه الجيش، عليهم ابن يونس الوزير، فانهزموا، وأسر الوزير، ثم ندب الناصر خوارزمشاه لحربه، فالتقاه على الري، فقتل طغرل في المصاف، وكان من ملاح زمانه وشجعانهم.
قتل سنة تسعين، ودخلوا إلى بغداد برأسه وسناجقه المنكسة. وكان حاكماً على أذربيجان وهمذان وعدة مدائن، ملكوه وهو صبي.

الجمال

الشيخ المعمر، مسند أصبهان، أبو الحسن، مسعود بن أبي منصور ابن محمد بن حسن، الأصبهاني، الجمال، الخياط.
ولد سنة ست وخمس مئة.
سمع: أبا علي الحداد، ومحمود بن إسماعيل، وأبا نهشل عبد الصمد، وحمزة بن العباس العلوي.
وسمع حضوراً من غانم البرجي، وأجاز له من نيسابور عبد الغفار الشيرويي صاحب أبي بكر الحيري. وعمر دهراً، وتفرد، ورحل.
حدث عنه: محمد بن عمر العثماني، وأبو موسى بن عبد الغني، وأبو الحجاج بن خليل، وآخرون.
وأجاز لأحمد بن سلامة.
مات في الخامس والعشرين من شوال سنة خمس وتسعين وخمس مئة.

الراراني

الشيخ الجليل المسند، شيخ الشيوخ، أبو سعيد، خليل بن أبي الرجاء بدر بن أبي الفتح ثابت بن روح بن محمد بن عبد الواحد، الأصبهاني، الراراني، الصوفي.
ولد سنة خمس مئة.
سمع: أبا علي الحداد، ومحمود بن إسماعيل الأشقر، وجعفر بن عبد الواحد، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق.
حدث عنه: أبو موسى بن عبد الغني، ويوسف بن خليل، وعبد العزيز بن علي الواعظ، وولده محمد بن خليل وحفيدته ليلة البدر بنت محمد، وجماعة.
وأجاز لأحمد بن أبي الخير، وكان من مريدي حمزة بن العباس العلوي.
مات في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمس مئة.

ابن ياسين

الشيخ المسند الصالح العابد، أبو الطاهر، إسماعيل بن أبي التقى صالح بن ياسين بن عمران، المصري، الشارعي الشفيقي، نسبةً إلى خدمة شفيق الملك، الجبلي، نسبةً إلى سكنى جبل مصر، البناء.
ولد سنة أربع عشرة وخمس مئة.
وسمع من: أبي عبد الله الرازي مشيخته بإفادة الرديني الزاهد.
وهو آخر من حدث بمصر عن الرازي.
حدث عنه: الحافظ عبد الغني، والحافظ الضياء، وابن خليل، وأخوه يونس، وأبو الحسن السخاوي، وأبو عمرو بن الحاجب، والشهاب القوصي، والرضي عبد الرحمان بن محمد، وخطيب مردا، والزين أحمد ابن عبد الملك، وإسماعيل بن ظفر، والمعين أحمد بن علي بن يوسف، وعبد الله بن علاق، والرشيد يحيى العطار، وإسماعيل بن عزون، وخلق سواهم.
توفي في ثاني عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وخمس مئة.
لم يجز لابن أبي الخير.

أحمد بن طارق

ابن سنان، المحدث العالم، أبو الرضا، الكركي، ثم البغدادي، التاجر، الشيعي.
ولد سنة سبع وعشرين وخمس مئة.
وسمع من: أبي الفضل الأرموي، وموهوب ابن الجواليقي، وهبة الله بن أبي شريك، ومحمد بن طراد، وابن ناصر، وسعد الخير، وعدة.
وسمع بدمشق من ناصر بن عبد الرحمان النجار، وأبي القاسم ابن البن، وطائفة، وبالثغر من السلفي، وبمصر من ابن رفاعة، وعدة.
وحدث في هذه البلاد، وكتب الكثير.
قال ابن الدبيثي: كان حريصاً على السماع، وعلى تحصيل الأجزاء، مع قلة معرفته، وكان ثقةً.
قلت: أبوه من كرك نوح، قيده بالسكون ابن نقطة، والمنذري. وأما كرك الشوبك، فبالتحريك.
روى عنه: الدبيثي، وابن خليل، وقبلهما الحافظ ابن المفضل.
وأجاز لأحمد بن أبي الخير.
قال الشيخ الضياء: كان شيعياً غالياً.
وقال ابن النجار: لم يزل يطلب، وكان يوادني، وكان صديقاً طيب المعاشرة، إلا أنه غال في التشيع، شحيح مقتر، يشتري من لقم المكديين، ويتبع المحدثين ليأكل معهم، ولا يوقد ضوءاً، خلف تجارةً بثلاثة آلاف دينار، ومات وحده، ولم يعلم به.
وقال عبد الرزاق الجيلي: كان ثقةً ثبتاً، مع فساد دينه.
وقال ابن نقطة: خبيث الاعتقاد، رافضي.
وقيل: أكلت الفأر أنفه وأذنيه.
مات في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة.
وكان جده قاضي كرك نوح.
وفيها مات قاضي قرطبة أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمان بن حريث اللخمي عن نحو الثمانين، وأبو طاهر إبراهيم بن محمد بن أحمد بن حمدية العكبري أخو عبد الله من أصحاب ابن الحصين، وبلقيس بنت سليمان بن النظام، وعبد الخالق بن عبد الوهاب الصابوني الخفاف، ومحمد بن أحمد ابن محمد الأصبهاني المهاد، ومحمد بن أبي بكر بن محمد الجلالي البغدادي عن مئة عام، وشاعر وقته أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس ابن المعلم الواسطي في عشر المئة، ووزير العراق مؤيد الدين أبو الفضل محمد ابن علي ابن القصاب، وأبو محمد محمد بن معالي بن شدقيني، والإمام فخر الدين محمد بن أبي علي النوقاني صاحب الغزالي، والإمام مجير الدين محمود بن المبارك بن علي البغدادي صاحب أبي منصور الرزاز، ويوسف بن معالي الكتاني المقرئ.

ابن حمدية

الشيخ المسند، أبو منصور، عبد الله بن محمد بن أحمد بن حمدية، العكبري، ثم البغدادي.
سمع أبا العز بن كادش، وأبا عبد الله البارع، وزاهر بن طاهر، وأبا علي ابن السبط، وأبا بكر المزرفي، وعدةً.
وعنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، وطائفة.
مات في صفر سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة عن أربع وثمانين سنة.
ومات معه في صفر بعد أيام أخوه:

أبو طاهر إبراهيم بن محمد

وكان قد كتب بخطه، وروى الكثير عن ابن الحصين، وزاهر، وهبة الله الشروطي، وأبي غالب الماوردي.
روى عنه أيضاً: ابن الدبيثي وابن خليل.
ونيف هذا على الثمانين.
ولم أرهما أجازا لأحمد بن سلامة.

الصابوني

الإمام المقرئ، المسند، أبو محمد عبد الخالق ابن الشيخ أبي الفتح عبد الوهاب بن محمد بن الحسين ابن الصابوني، البغدادي، الخفاف.
ولد في جمادى الآخرة سنة سبع وخمس مئة.
وسمعه أبوه من علي بن عبد الواحد الدينوري، وأحمد بن محمد بن البخاري، وهبة الله بن الحصين، وقراتكين بن أسعد، وأبي العز بن كادش، وأحمد بن أحمد المتوكلي، وزاهر بن طاهر، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وهبة الله بن الطبر، وعدة.
 وعنه: ابن الأخضر، وولده علي، وابن خليل، وجماعة.
قال ابن النجار: كان شيخاً صدوقاً لا بأس به، عسراً في الرواية.
مات في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة.

ابن بونه

الشيخ الفاضل، المحدث، المعمر، أبو محمد، عبد الحق بن عبد الملك بن بونه بن سعيد، العبدري، المالقي، المعروف بابن البيطار، نزيل مدينة المنكب من مدائن الأندلس.
حدث عن: أبيه، وأبي محمد بن عتاب، وأبي بحر بن العاص، وغالب بن عطية، وابن مغيث، وأبي الحسن بن الباذش.
وأجاز له أبو علي الصدفي.
روى عنه: هانئ بن هانئ، وابنا حوط الله، وأبو الربيع بن سالم، وابن دحية، وآخرون.
قال الأبار: سمعه أبوه صغيراً، ورحل به، فأورثه ذلك نباهةً.
وقال ابن سالم: هو الشيخ الراوية العدل الثقة أبو محمد الغرناطي، أخذت عنه.
توفي بالمنكب سنة سبع وثمانين وخمس مئة. عاش ثلاثاً وثمانين سنةً.

ابن مأمون

الإمام، المقرئ المجود، النحوي، المحدث، قاضي بلنسية، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن أحمد بن حميد بن مأمون، الأموي، مولاهم، البلنسي، ثم الغرناطي.
أخذ القراءات عن ابن هذيل، وأبي الحسن بن ثابت، وأبي الحسن شريح بن محمد، وأبي عبد الله بن أبي سمرة.
وأخذ بجيان علوم اللسان عن أبي بكر بن مسعود الخشني، وسمع بالمرية من القاضي أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي، وطائفة.
حمل عنه أبو الربيع بن سالم، وقال: أتقن كتاب سيبويه تفقهاً وتفهماً على ابن أبي ركب الخشني، ثم تصدر بمرسية للإقراء والعربية، وكان في النحو إماماً مقدماً، سمعت منه في سنة إحدى وثمانين صحيح البخاري وغيره عن شريح بفوت، والتيسير، والكافي، والتلخيص لأبي معشر سمعه من ابن ثعبان، بسماعه من أبي معشر.
قلت: وأجاز له أبو الحسن بن مغيث.
قال ابن سالم: توفي بمرسية صادراً عن حضرة الملك في سابع عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمس مئة، ودفن إلى جنب أبي القاسم ابن حبيش. وكان مولده سنة ثلاث عشرة وخمس مئة.

بكتمر

صاحب خلاط، الملك سيف الدين، مملوك الملك ظهير الدين شاه أرمن.
استولى على أرمينية، وكان محارباً للسلطان صلاح الدين، فلما بلغه موته، أمر بضرب البشائر، وعمل تختاً، فجلس عليه، وسمى نفسه عبد العزيز، وتلقب بالسلطان المعظم صلاح الدين، فما أمهله الله، وقتل غيلةً بعد شهر في أول جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وخمس مئة، خرج عليه خشداشه، وزوج بنته الأمير هزار ديناري، ثم تملك بعده، ولقبه بدر الدين، فبقي خمس سنين، ومات، فملكوا محمد بن بكتمر، ثم قبض على نائبه شجاع الدين، ثم ثار أمراء، وخنقوا محمداً، وتملك بلبان سنةً، ثم تسلمها الأوحد ابن الملك العادل.

صلاح الدين وبنوه

السلطان الكبير، الملك الناصر، صلاح الدين، أبو المظفر، يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب، الدويني، ثم التكريتي المولد.
ولد في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة إذ أبوه نجم الدين متولي تكريت نيابةً.
ودوين: بليدة بطرف أذربيجان من جهة أران والكرج، أهلها أكراد هذبانية.
سمع من أبي طاهر السلفي، والفقيه علي ابن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري. وحدث.
وكان نور الدين قد أمره، وبعثه في عسكره مع عمه أسد الدين شيركوه، فحكم شيركوه على مصر، فما لبث أن توفي، فقام بعده صلاح الدين، ودانت له العساكر، وقهر بني عبيد، ومحا دولتهم، واستولى على قصر القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت الذي وزنه سبعة عشر درهماً؛ قال مؤلف الكامل ابن الأثير: أنا رأيته ووزنته.
وخلا القصر من أهله وذخائره. وأقام الدعوة العباسية.
وكان خليقاً للإمارة، مهيباً، شجاعاً حازماً، مجاهداً كثير الغزو، عالي الهمة، كانت دولته نيفاً وعشرين سنةً.
وتملك بعد نور الدين، واتسعت بلاده.
ومنذ تسلطن، طلق الخمر واللذات، وأنشأ سوراً على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثم افتتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق من ابن نور الدين.
وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه.
وفي سنة ثلاث كسرته الفرنج على الرملة، وفر في جماعة، ونجا.
وفي سنة خمس التقاهم وكسرهم.
وفي سنة ست أمر ببناء قلعة الجبل. وفي سنة ثمان عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصر الموصل، ثم تملك حلب، وعوض عنها صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانياً وثالثاً، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج.
وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفاً، فحال بينهم وبين الماء على تل، وسلموا نفوسهم، وأسرت ملوكهم، وبادر، فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر القدس، وجد في ذلك فأخذها بالأمان.
وسار عسكر لابن أخيه تقي الدين عمر فأخذوا أوائل المغرب، وخطبوا بها لبني العباس.
ثم إن الفرنج قامت قيامتهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطع الليل المظلم براً وبحراً وأحاطوا بعكا ليستردوها وطال حصارهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقاً، فأحاط بهم السلطان، ودام الحصار لهم وعليهم نيفاً وعشرين شهراً، وجرى في غضون ذلك ملاحم وحروب تشيب النواصي، وما فكوا حتى أخذوها، وجرت لهم وللسلطان حروب وسير. وعندما ضرس الفريقان، وكل الحزبان، تهادن الملتان.
وكانت له همة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر.
قال ابن واصل في حصار عزاز: كانت لجاولي خيمة كان السلطان يحضر فيها، ويحض الرجال، فحضر باطنية في زي الأجناد، فقفز عليه واحد ضربه بسكين لولا المغفر الزرد الذي تحت القلنسوة، لقتله فأمسك السلطان يد الباطني بيديه، فبقي يضرب في عنق السلطان ضرباً ضعيفاً، والزرد تمنع، وبادر الأمير بازكوج، فأمسك السكين، فجرحته، وما سيبها الباطني حتى بضعوه، ووثب آخر، فوثب عليه ابن منكلان، فجرحه الباطني في جنبه، فمات، وقتل الباطني، وقفز ثالث، فأمسكه الأمير علي بن أبي الفوارس، فضمه تحت إبطه، فطعنه صاحب حمص، فقتله، وركب السلطان إلى مخيمه، ودمه يسيل على خده، واحتجب في بيت خشب، وعرض جنده، فمن أنكره، أبعده.
قال الموفق عبد اللطيف: أتيت، وصلاح الدين بالقدس، فرأيت ملكاً يملأ العيون روعةً، والقلوب محبةً، قريباً بعيداً، سهلاً، محبباً، وأصحابه يتشبهون به، يتسابقون إلى المعروف كما قال تعالى: "ونَزَعْنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخواناً" الحجر وأول ليلة حضرته وجدت مجلسه حفلاً بأهل العلم يتذاكرون، وهو يحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار، وحفر الخنادق، ويأتي بكل معنىً بديع، وكان مهتماً في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه، ويتولى ذلك بنفسه، وينقل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به الخلق حتى القاضي الفاضل، والعماد إلى وقت الظهر، فيمد السماط، ويستريح، ويركب العصر، ثم يرجع في ضوء المشاعل، قال له صانع: هذه الحجارة التي تقطع من أسفل الخندق رخوة، قال: كذا تكون الحجارة التي تلي القرار والنداوة، فإذا ضربتها الشمس، صلبت. وكان يحفظ الحماسة، ويظن أن كل فقيه يحفظها، فإذا أنشد، وتوقف، استطعم فلا يطعم، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكن يحفظها، وخرج، فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين ديناراً في الشهر، وأطلق أولاده لي رواتب، فأشغلت بجامع دمشق.
وكان أبوه ذا صلاح، ولم يكن صلاح الدين بأكبر أولاده.
وكان صلاح الدين شحنة دمشق، فكان يشرب الخمر، ثم تاب، وكان محبباً إلى نور الدين يلاعبه بالكرة.
وكانت وقعته بمصر مع السودان، وكانوا نحو مئتي ألف، فنصر عليهم، وقتل أكثرهم. وفي هذه الأيام استولى ملك الخزر على دوين، وقتل من المسلمين ثلاثين ألفاً.
حم صلاح الدين، ففصده من لا خبرة له، فخارت القوة، ومات، فوجد الناس عليه شبيهاً بما يجدونه على الأنبياء، وما رأيت ملكاً حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محبباً، يحبه البر والفاجر، والمسلم والكافر، ثم تفرق أولاده وأصحابه أيادي سبأ، وتمزقوا. ولقد صدق العماد في مدحه حيث يقول:

وللنّاس بالملك النّاصر الصّلا

 

ح صلاحٌ ونصرٌ كـبـير

هو الشّمس أفلاكه في البلا

 

د ومطلعه سرجه والسّرير

إذا ما سطا أو حبا واحتبـى

 

فما اللّيث من حاتمٍ ما ثبـير

قال ابن خلكان: بلغني أن صلاح الدين قدم به أبوه وهو رضيع، فناب أبوه ببعلبك إلى آخذها أتابك زنكي، وقيل: إنهم خرجوا من تكريت في ليلة مولد صلاح الدين، فتطيروا به، فقال شيركوه أو غيره: لعل فيه الخير وأنتم لا تعلمون. إلى أن قال: وكان شيركوه أرفع منزلةً عند نور الدين، فإنه كان مقدم جيوشه.
وولي صلاح الدين وزارة العاضد، وكانت كالسلطنة، فولي بعد عمه سنة 564، ثم مات العاضد سنة 67، فاستقل بالأمر مع مداراة نور الدين ومراوغته، فإن نور الدين عزم على قصد مصر؛ ليقيم غير صلاح الدين، ثم فتر، ولما مات نور الدين، أقبل صلاح الدين ليقيم نفسه أتابكاً لولد نور الدين، فدخل البلد بلا كلفة، واستولى على الأمور في ربيع الأول سنة سبعين، ونزل بدار العقيقي، ثم تسلم القلعة، وشال الصبي من الوسط ثم سار، فأخذ حمص، ثم نازل حلب، وهي الوقعة الأولى، فجهز السلطان غازي من الموصل أخاه عز الدين مسعوداً في جيش، فرحله، وقدم حمص، فأقبل مسعود ومعه الحلبيون، فالتقوا على قرون حماة، فانهزم مسعود، واسر أمراؤه، وساق صلاح الدين، فنازل حلب ثانياً، فصالحوه ببذل المعرة وكفرطاب، وبلغ غازي كسرة أهله وأخيه، فعبر الفرات، وقدم حلب، فتلقاه ابن عمه الملك الصالح، ثم التقوا هم وصلاح الدين، فكانت وقعة تل السلطان، ونصر صلاح الدين أيضاً، ورجع صاحب الموصل. ثم أخذ صلاح الدين منبج وعزاز، ونازل حلب ثالثاً، فأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوهبها عزاز. ورد إلى مصر، واستناب على دمشق أخاه صاحب اليمن تورانشاه، ثم خرج من مصر سنة ثلاث وسبعين، فالتقى الفرنج، فانكسر.
ثم في سنة تسع وسبعين نازل حلب، وأخذها، وعوض عنها عماد الدين زنكي بسنجار وسروج، ورتب بحلب ولده الملك الظاهر. ثم حاصر الكرك، وجاءت إمدادات الفرنج.
وفي شعبان سنة إحدى وثمانين نازل صلاح الدين الموصل، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها عز الدين، وتمرض، وتأخر إلى حران، واشتد مرضه، وحلفوا لأولاده بأمره، وأوصى عليهم أخاه العادل، ثم مر بحمص، وقد مات صاحبها ناصر الدين محمد، ابن عمه، فأعطاها لولده المجاهد شيركوه وله ثنتا عشرة سنةً.
وفي سنة ثلاث وثمانين افتتح صلاح الدين بلاد الفرنج، وقهرهم، وأباد خضراءهم، وأسر ملوكهم على حطين. وكان قد نذر أن يقتل أرناط صاحب الكرك، فأسره يومئذ، كان قد مر به قوم من مصر في حال الهدنة، فغدر بهم، فناشدوه الصلح، فقال ما فيه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقتلهم، فاستحضر صلاح الدين الملوك، ثم ناول الملك جفري شربة جلاب ثلج، فشرب، فناول أرناط، فشرب، فقال السلطان للترجمان: قل لجفري: أنت الذي سقيته، وإلا أنا فما سقيته، ثم استحضر البرنس أرناط في مجلس آخر، وقال: أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم منك، ثم عرض عليه الإسلام، فأبى، فحل كتفه بالنيمجاه. وافتتح عامه ما لم يفتحه ملك، وطار صيته في الدنيا، وهابته الملوك.
ثم وقع النوح والمأتم في جزائر البحر وإلى رومية، ونودي بالنفير إلى نصرة الصليب، فأتى السلطان من عساكر الفرنج ما لا قبل له به، وأحاطوا بعكا.
وقال آخر: أول فتوحاته الإسكندرية في سنة اثنتين وستين، وقاتل معه أهلها لما حاصرتهم الفرنج أربعة أشهر، ثم كشفهم عنه عمه أسد الدين، فتركها، وقدما الشام. ثم تملك وزارة العاضد، واستتب له الأمر، وأباد آل عبيد وعبيدهم، وتملك دمشق ثم حمص، وحماة، وحلب، وآمد، وميافارقين، وعدة بلاد بالجزيرة. وديار بكر. وبعث أخاه، فافتتح له اليمن، وسار بعض عسكره. فافتتح له بعض المغرب، ولم يزل سلطانه في ارتقاء إلى أن كسر الفرنج نوبة حطين. ثم افتتح عكا، وبيروت، وصيدا، ونابلس، وقيسارية، وصفورية، والشقيف، والطور، وحيفا، وطبرية، وتبنين، وجبيل، وعسقلان، وغزة، والقدس، وحاصر صور مدةً، وافتتح أنطرطوس، وهونين، وكوكب، وجبلة، واللاذقية، وصهيون، وبلاطنس والشغر، وبكاس، وسرمانية، وبرزية، ودربسان، وبغراس، ثم هادن برنس أنطاكية، ثم افتتح الكرك بالأمان، والشوبك وصفد وشقيف أرنون، محضر عدة وقعات. وخلف من الأولاد: صاحب مصر الملك العزيز عثمان، وصاحب حلب الظاهر غازياً، وصاحب دمشق الأفضل علياً، والملك المعز فتح الدين إسحاق، والملك المؤيد مسعوداً، والملك الأعز يعقوب، والملك المظفر خضراً، والملك الزاهر مجير الدين داود، والملك المفضل قطب الدين موسى، والملك الأشرف عزيز الدين محمداً، والملك المحسن جمال المحدثين ظهير الدين أحمد، والمعظم فخر الدين تورانشاه، والملك الجواد ركن الدين أيوب، والملك الغالب نصير الدين ملكشاه، وعماد الدين شاذي، ونصرة الدين مروان، والملك المظفر أبا بكر، والسيدة مؤنسة زوجة الملك الكامل.
وحدث عنه: يونس الفارقي، والقاضي العماد الكاتب.
مرض بحمى صفراوية، واحتد المرض، وحدث به في التاسع رعشة وغيبة، ثم حقن مرتين، فاستراح، وسرب، ثم عرق حتى نفذ من الفراش، وقضى في الثاني عشر.
توفي بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مئة.
محاسن صلاح الدين جمة، لا سيما الجهاد، فله فيه اليد البيضاء ببذل الأموال والخيل المثمنة لجنده. وله عقل جيد، وفهم، وحزم، وعزم.
قال العماد: أطلق في مدة حصار عكا اثني عشر ألف فرس. قال: وما حضر اللقاء إلا استعار فرساً، ولا يلبس إلا ما يحل لبسه كالكتان والقطن، نزه المجالس من الهزل، ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع الحديث بالأسانيد، حليماً، مقيلاً للعثرة، تقياً نقياً، وفياً صفياً، يغضي ولا يغضب، ما رد سائلاً، ولا خجل قائلاً، كثير البر والصدقات، أنكر علي تحلية دواتي بفضة، فقلت: في جوازه وجه ذكره أبو محمد الجويني. وما رأيته صلى إلا في جماعة.
قلت: وحضر وفاته القاضي الفاضل.
وذكر أبو جعفر القرطبي إمام الكلاسة: إنني انتهيت في القراءة إلى قوله تعالى: "هُوَ اللّهُ الَّذِيْ لا إلهَ إلاّ هُوَ عَاْلِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ" الحشر فسمعت صلاح الدين، وهو يقول: صحيح. وكان ذهنه قبل ذلك غائباً، ثم مات، وغسله الخطيب الدولعي، وأخرج في تابوت، فصلى عليه القاضي محيي الدين ابن الزكي، وأعيد إلى الدار التي في البستان التي كان متمرضاً فيهاً، ودفن في الصفة، وارتفعت الأصوات بالبكاء، وعظم الضجيج، حتى إن العاقل ليخيل له أن الدنيا كلها تصيح صوتاً واحداً، وغشي الناس ما شغلهم عن الصلاة عليه، وتأسف الناس عليه حتى الفرنج لما كان من صدق وفائه. ثم بنى ولده الأفضل قبةً شمالي الجامع، ونقله إليها بعد ثلاث سنين، فجلس هناك للعزاء ثلاثاً.
وكان شديد القوى، عاقلاً، وقوراً، مهيباً، كريماً، شجاعاً.
وفي الروضتين لأبي شامة: أن السلطان لم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعةً وأربعين درهماً، وديناراً صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا عقاراً رحمه الله، ولم يختلف عليه في أيامه أحد من أصحابه، وكان الناس يأمنون ظلمه، ويرجون رفده، وأكثر ما كان يصل عطاؤه إلى الشجعان، وإلى العلماء، وأرباب البيوتات، ولم يكن لمبطل ولا لمزاح عنده نصيب.
قال الموفق: وجد في خزانته بعد موته دينار وثلاثون درهماً، وكان إذا نازل بلداً، وأشرف على أخذه، ثم طلبوا منه الأمان، آمنهم، فيتألم لذلك جيشه، لفوات حظهم.
قال القاضي بهاء الدين ابن شداد: قال لي السلطان في بعض محاوراته في عقد الصلح: أخاف أن أصالح، وما أدري أيش يكون مني، فيقوى هذا العدو، وقد بقيت لهم بلاد، فيخرجون لاستعادة ما في أيدي المسلمين، وترى كل واحد من هؤلاء يعني أخاه وأولادهم قد قعد في رأس تله يعني قلعته ويقول: لا أنزل، ويهلك المسلمون.
قال ابن شداد: فكان والله كما قال، اختلفوا، واشتغل كل واحد بناحيته، وبعد، فكان الصلح مصلحةً.
قلت: من لطف الله لما تنازع بنو أيوب، واختلفوا يسر الله بنقص همة الأعداء، وزالت تلك الشهامة منهم. وكتب القاضي الفاضل تعزيةً إلى صاحب حلب: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُوْلِ اللّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" الأحزاب. "إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيْمٌ" الحج كتبت إلى مولانا الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف من السلف في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حضرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله وحده مغلوب الحيلة، ضعيف القوة، راضياً عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبالباب من الجنود المجندة، والأسلحة المعمدة ما لم يدفع البلاء، ولا ما يرد القضاء، تدمع العين، ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا، فما تحتاج إليها، والآراء، فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر، فإنه إن وقع اتفاق، فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك، فالمصائب المستقبلة أهونها موته.
وللعلم الشاتاني فيه قصيدة مطلعها:

أرى النّصر مقروناً برايتك الصّفرا

 

فسر وأملك الدّنيا فأنت بها أحرى

وبعث إليه ابن التعاويذي بقصيدته الطنانة التي أولها:

إن كان دينك في الصّبابة دينـي

 

فقف المطيّ برملتـي يبـرين

والثم ثرىً لو شارفت بي هضبه

 

أيدي المطيّ لثمته بجفـونـي

وانشد فؤادي في الظّباء معرّضاً

 

فبغير غزلان الصّريم جنونـي

ونشيدتي بين الـخـيام وإنّـمـا

 

غالطت عنها بالظّباء ألـعـين

للّه ما اشتملت عليه فتـاتـهـم

 

يوم النّوى من لؤلؤٍ مكـنـون

من كلّ تائهةٍ على أتـرابـهـا

 

في الحسن غانيةٍ عن التّحسـين

خودٍ يرى قمر السماء إذا رنت

 

ما بين سالفةٍ لـهـا وجـبـين

يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم

 

فأنا الذي استودعت غير أمـين

هيهات ما للبيض في ودّ امرئٍ

 

أربٌ وقد أربى على الخمسين

ليت البخيل على المحبّ بوصله

 

لقن السّماحة من صلاح الدّين

العزيز

السلطان، الملك العزيز، أبو الفتح، عماد الدين، عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر.
ولد في سنة سبع وستين وخمس مئة في جمادى الأولى.
وحدث عن: أبي طاهر السلفي، وابن عوف.
وتملك بعد أبيه، وكان لا بأس بسيرته. قدم دمشق، وحاصر أخاه الأفضل.
نقلت من خط الضياء الحافظ، قال: خرج إلى الصيد، فجاءته كتب من دمشق في أذية أصحابنا الحنابلة، يعني في فتنة الحافظ عبد الغني ، فقال: إذا رجعنا من هذه السفرة، كل من كان يقول بمقالتهم أخرجناه من بلدنا، قال: فرماه فرس، ووقع عليه، فخسف صدره، كذا حدثني يوسف ابن الطفيل، وهو الذي غسله.
وقال المنذري: عاش ثمانياً وعشرين سنةً. مات في العشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمس مئة.
قلت: دفن بقبة الشافعي رحمه الله تعالى.
وأقيم بعده ولد له صبي فلم يتم ذلك.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان العزيز شاباً، حسن الصورة، ظريف الشمائل، قوياً، ذا بطش، وأيد، وخفة حركة، حيياً، كريماً، عفيفاً عن الأموال والفروج، بلغ من كرمه أنه لم تبق له خزانة، ولا خاص، ولا برك، ولا فرس. وبيوت أمرائه تفيض بالخيرات، وكان شجاعاً مقداماً، بلغ من عفته أنه كان له غلام تركي بألف دينار يقال له أبو شامة، فوقف، فراعه حسنه، فأمره أن ينزع ثيابه، وجلس منه مجلس الخنا، فأدركه توفيق، فأسرع إلى سرية له، فقضى وطره. إلى أن قال: وأما عفته عن المال، فلا أقدر أن أصف حكاياته في ذلك.
وقال ابن واصل: كانت الرعية يحبونه محبةً عظيمةً شديدةً، وكانت الآمال متعلقةً بأنه يسد مسد أبيه. ولما سار أخوه الأفضل مع العادل، ونازلا بلبيس، وتزلزل، بذلت له الرعية أموالها، فامتنع. قال ابن واصل: وحكي عنه أن عبد الكريم ابن البيساني أخا القاضي الفاضل كان يتولى البحيرة مدةً، وحصل، ووقع بينه وبين أخيه، فعزل، وكان مزوجاً ببنت ابن ميسر، فأساء عشرتها لسوء خلقه، فتوجه أبوها، وأثبت عند قاضي الإسكندرية ضررها، وأنه قد حصرها في بيت، فمضى القاضي بنفسه، ورام أن يفتح عنها، فلم يقدر، فأحضر نقاباً، فنقب البيت، وأخرجها، ثم سد النقب، فهاج عبد الكريم، وقصد الأمير جهاركس بمصر، وقال: هذه خمسة آلاف دينار لك، وأربعون ألف دينار للسلطان، وأولى قضاء الإسكندرية. فأتى العزيز ليلاً، وأحضر الذهب، فسكت، ثم قال: رد عليه ماله، وقل له: إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلاً، أنا ما أبيع أهل الإسكندرية بهذا المال. قال جهاركس: فوجمت، وظهر علي، فقال: أراك أخذت شيئاً، قلت: نعم خمسة آلاف دينار، قال: أعطاك مالاً ينفع مرةً، وأنا أعطيك ما تنتفع به مرات، ثم وقع لي بإطلاق طنبذة، كنت أستغلها سبعة آلاف دينار.
قلت: تملك دمشق، وأنشأ بها العزيزية إلى جانب تربة أبيه.
وخلف ولده الناصر محمداً، فحلفوا له، فامتنع عماه المؤيد والمعز إلا أن يكون لهما الأتابكية، ثم حلفا، واختلفت الآراء، ثم كاتبوا الملك الأفضل من مصر، فخرج من صرخد إليهم في عشرين راكباً. ثم جرت أمور، وأقبل العادل، وتمكن، وأجلس ابنه الكامل، وضعف حال الأفضل، وعزل الناصر، وانضم إلى عمه بحلب.

الأفضل

أبو الحسن علي بن يوسف.
تملك دمشق، ثم حاربه العزيز أخوه، وقهره، ثم لما مات العزيز، أسرع الأفضل إلى مصر، وناب في الملك، وسار بالعسكر المصري، فقصد دمشق، وبها عمه العادل، قد بادر إليها من ماردين قبل مجيء الأفضل بيومين، فحصره الأفضل، وأحرق الحواضر والبساتين، وعمل كل قبيح، ودخل البلد، وضجت الرعية بشعاره، وكان محبوباً، فكاد العادل أن يستسلم، فتماسك، وشد أصحابه على أصحاب الأفضل، فأخرجوهم، ثم قدم الظاهر ومعه صاحب حمص، وهموا بالزحف، فلم يتهيأ أمر، ثم سفل أمر الأفضل، وعاد إلى صرخد، ثم تحول إلى سميساط، وقنع بها، وفيه تشيع بلا رفض.
وله نظم وفضيلة، وإليه عهد أبوه بالسلطنة لما احتضر، وكان أسن إخوته، وهو القائل في عمه العادل:

ذي سنّةٍ بين الأنـام قـديمةٍ

 

أبداً أبو بكرٍ يجور على عليّ

وقد كتب من نظمه إلى الخليفة الناصر، وفي الناصر تشيع:

مولاي إنّ أبا بكـرٍ وصـاحـبـه

 

عثمان قد غصبا بالسيف حقّ علي

وهو الذي كـان قـد ولاّه والـده

 

عليهما واستقام الأمر حـين ولـي

فخالفاه وحـلاّ عـقـد بـيعـتـه

 

والأمر بينهما والنّصّ فيه جـلـي

فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقي

 

من الأواخر ما لاقـى مـن الأُول

فأجابوه من الديوان:

وافى كتابك يا ابن يوسف معلنـاً

 

بالودّ يخبر أنّ أصلك طـاهـر

غصبوا عليّاً حقّـه إذ لـم يكـن

 

بعد الرسول له بطيبة نـاصـر

فابشر فإنّ غداً عليه حسابـهـم

 

واصبر، فناصرك الإمام النّاصر

مات الأفضل فجاءةً بسميساط في صفر سنة اثنتين وعشرين وست مئة، فتملك بعده أخوه موسى، ولقب بلقبه، وعاش إلى سنة نيف وثلاثين وست مئة، وهي قلعة على الفرات قريبة من الكختا، وقد دثرت الآن.
عاش ستاً وخمسين سنةً، وله ترسل وفضيلة وخط منسوب.
قال عز الدين ابن الأثير: وكان من محاسن الدنيا، لم يكن له في الملوك مثل. كان خيراً، عادلاً، فاضلاً، حليماً، كريماً، رحمه الله تعالى.
ومن شعره:

يا من يسوّد شيبه بخضـابـه

 

لعساه في أهل الشّبيبة يحصل

ها فأختضب بسواد حظّي مرّةً

 

ولك الأمان بأنّه لا ينـصـل

الظاهر

سلطان حلب، الملك الظاهر، غياث الدين، أبو منصور، غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
مولده بمصر في سنة ثمان وستين وخمس مئة.
وسمع من: أبي الطاهر بن عوف، وعبد الله بن بري النحوي، والفضل ابن البانياسي. وحدث.
تملك حلب ثلاثين سنةً.
وكان بديع الحسن في صباه، مليح الشكل في رجوليته، له عقل وغور ودهاء وفكر صائب.
كان يصادق ملوك الأطراف ويباطنهم، ويوهمهم أنه لولاه، لقصدهم عمه العادل، ويوهم عمه أنه لولاه، لتعامل عليه الملوك، ولشقوا العصا. وكان كريماً معطاءً، يتحف الملوك بالهدايا السنية، ويكرم الرسل والشعراء والقصاد.
وكان عمه يرعى له لمكان بنته، فماتت، فزوجه بأختها والدة ابنه الملك العزيز، فلما ولدت، زينت حلب مدة شهرين، وأنفق على ولادته كرائم الأموال، وكان قد انضم إليه إخوته وأولادهم، فزوج ذكرانهم بإناثهم، بحيث أنه عقد بينهم في يوم نيفاً وعشرين عقداً.
وعمر أسوار حلب أكمل عمارة.
ويقال: إنه عبث بالشاعر الحلي، وألح عليه، فقال الحي: أنظم ؟ يعرض بالهجاء. فقال الظاهر: أنثر ؟ وقبض على السيف.
قال سبط الجوزي: كان مهيباً سائساً، فطناً، دولته معمورة بالعلماء، مزينة بالملوك والأمراء، وكان محسناً إلى الرعية، وشهد معظم غزوات والده، وكان يزور الصالحين، ويتفقدهم، وله ذكاء مفرط، مات بعلة الذرب.
قال أبو شامة: أوصى في موته بالملك لولده من بنت العادل، وأراد أن يراعيها إخوتها، ثم من بعده لأحمد، ثم للمنصور محمد ابن أخيه الملك العزيز، وفوض القلعة إلى طغريل الخادم الرومي. توفي سنة ثلاث عشرة وست مئة عن خمس وأربعين سنةً.
قلت: كان يفيق، ويتشهد، ويقول: اللهم بك أستجيز.
ورثاه شاعره راجح الحلي، فقال:

سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه

 

بمن علقت أنـيابـه ومـخـالـبـه

نشدتك عاتـبـه عـلـى نـائبـاتـه

 

وإن كان لا يلوي على من يعـاتـبـه

إلى الله أرمي بـطـرفـي ضـلالةً

 

إلى أُفق مجدٍ قد تهاوت كـواكـبـه

فمالي أرى الشّهباء قد حال صبحـهـا

 

عليّ دجىً لا تستـنـير غـياهـبـه

أحقّاً حمى الغازي الغياث بن يوسـفٍ

 

أُبيح وعادت خـائبـاتٍ مـواكـبـه

وهل مخبري عن ذلك الطّود هل وهت

 

قواعده أم لان للخـطـب جـانـبـه