ابن يونس

ابن يونس

الوزير الكبير، جلال الدين، أبو المظفر، عبيد الله بن يونس بن أحمد البغدادي الأزجي الفقيه.
تفقه على أبي حكيم النهرواني، وقرأ الأصول والكلام على صدقة بن الحسين، وتلا بالروايات بهمذان على أبي العلاء العطار.
وسمع من نصر بن نصر العكبري، وجماعة.
ثم داخل الكبراء إلى أن توكل لأم الناصر، ثم ترقى أمره إلى أن وزر في سنة ثلاث وثمانين. ثم سار بالجيوش لحرب طغريل آخر السلجوقية، فعمل معه مصافاً، فانكسر الوزير، وتفلل جمعه، وأسر هو وأخذ إلى توريز، ثم هرب إلى الموصل، وجاء بغداد متستراً، ولزم بيته مدةً، ثم ظهر، فولي نظر الخزانة، ثم الأستاذ دارية في سنة سبع وثمانين، فلما وزر المؤيد ابن القصاب عام تسعين، قبض على ابن يونس، وسجنه، فلما مات ابن القصاب عام اثنتين، رمي ابن يونس في مطمورة، فكان آخر العهد به.
قال ابن النجار: كان يدري الكلام، صنف كتاباً في الأصول، فسمعه منه الفضلاء.
وروى عنه: أبو الحسن القطيعي، وابن دلف، ولم يكن في ولايته محموداً.
قيل: مات في السرداب في صفر سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة.

الفراتي

شيخ الشافعية، أبو القاسم، يعيش بن صدقة، الفراتي الضرير، صاحب ابن الخل.
تلا بالروايات على الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم.
وسمع من إسماعيل ابن السمرقندي، وجماعة.
روى عنه: التقي بن باسويه، وابن الدبيثي، وابن خليل، واليلداني، وبالإجازة أحمد بن أبي الخير.
وهو منسوب إلى نهر الفرات.
وكان إماماً صالحاً، رأساً في المذهب والخلاف، تخرج به الفقهاء، ودرس بالثقتية، وبالكمالية، وكان سديد الفتاوى، قوي المناظرة، كبير القدر.
مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة وقد شاخ وأسن.

الفارسي

الزاهد العابد، شيخ العراق، أبو علي، الحسن بن مسلم بن أبي الجود، الفارسي، العراقي، من أهل قرية الفارسية.
قرأ القرآن، وتفقه على أبي البدر الكرخي.
حدث عنه: ابن باسويه، وابن الدبيثي، وابن خليل، واليلداني، وآخرون.
وكان منقطع القرين، صواماً، قواماً، متبتلاً، خاشعاً، صحب الشيخ عبد القادر، وكان يقصد بالزيارة، زاره الخليفة الناصر بقريته، بالغ في تعظيمه وتوقيره ابن الجوزي.
مات في المحرم سنة أربع وتسعين وخمس مئة، وكان من أبناء التسعين، وكان يدري الفقه والفرائض، وتذكر عنه كرامات وتأله رحمه الله.

طاهر بن مكارم

ابن أحمد بن سعد، الشيخ المعمر، أبو منصور الموصلي القلانسي، البقال، المؤدب.
سمع مسند المعافى بن عمران من أبي القاسم نصر بن أحمد بن صفوان سنة اثنتي عشرة وخمس مئة.
روى عنه: عز الدين علي ابن الأثير، وشمس الدين ابن خليل، وغيرهما.
توفي بالموصل في رمضان سنة ثمان وثمانين وخمس مئة.

مسلم بن علي

ابن محمد، الشيخ أبو منصور، ابن السيحي، الموصلي.
آخر من حدث عن أبي البركات محمد بن محمد بن خميس.
روى عنه: ابن خليل، والتقي اليلداني، وجماعة لقيهم الدمياطي.
توفي في منتصف المحرم سنة خمس وتسعين وخمس مئة.

أبو جعفر القرطبي

الإمام، المقرئ، المحدث، أحمد بن علي بن أبي بكر عتيق بن إسماعيل، الأندلسي، الفنكي، الشافعي، نزيل دمشق، وإمام الكلاسة، وأبو إمامها.
مولده سنة ثمان وعشرين وخمس مئة.
سمع بقرطبة من الحافظ أبي الوليد ابن الدباغ كتاب الموطأ بقراءة والده بعد الأربعين وخمس مئة بسماعه من الخولاني بسماعه من القبحطالي.
وتلا بالسبع على ابن صاف، وبمكة على رجل من تلامذة أبي العز القلانسي، وبالموصل على ابن سعدون.
وسمع الكثير من ابن عساكر، وأبي نصر اليوسفي، ويحيى الثقفي، وخلق. ونسخ شيئاً كثيراً.
وكان ديناً صالحاً، قانتاً لله، بصيراً بالقراءات.
روى عنه: ابناه: تاج الدين محمد، وإسماعيل، وابن خليل، والشهاب القوصي، وعدة.
وأجاز لأحمد بن أبي الخير.
وفنك من أعمال قرطبة.
مات في رمضان سنة ست وتسعين وخمس مئة رحمه الله.

العراقي

العلامة، أبو إسحاق، إبراهيم بن منصور بن المسلم، المصري الشافعي، الخطيب المشهور بالعراقي.
ولد بمصر سنة عشر وخمس مئة.
وارتحل، فتفقه، وبرع في المذهب على أبي بكر محمد بن الحسين الأرموي تلميذ الشيخ أبي إسحاق، ثم تفقه على أبي الحسن ابن الخل، وتفقه بمصر على القاضي مجلي بن جميع، وتصدر، وتخرج به الأصحاب، وولي خطابة جامع مصر.
وصنف شرحاً للمهذب مفيداً.
وهو جد العلامة العلم العراقي لأمه.
وكان على سداد وأمر جميل.
توفي سنة ست وتسعين وخمس مئة في جمادى الأولى. وله نظم وفضائل.

الساوي

الإمام، أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الجليل ابن الشيخ أبي الفتح، الساوي، ثم البغدادي، الحنفي، نائب الحكم ببغداد. وكان حميد السيرة.
حدث عن: ابن الحصين، وهبة الله بن الطبر، وجماعة.
وعنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، والبغداديون.
مات في المحرم سنة ست وتسعين وخمس مئة وله ثلاث وثمانون سنةً.

الويرج

الشيخ المسند، أبو الفتح ناصر بن محمد بن أبي الفتح الأصبهاني المقرئ القطان، المعروف بالويرج.
صدوق ومكثر.
سمع من ابن الإخشيذ، وجعفر بن عبد الواحد الثقفي، وابن أبي ذر، وفاطمة الجوزدانية، وسعيد بن أبي الرجاء.
وعنه: أبو الجناب الخيوقي، وأبو رشيد الغزال، وابن خليل، وآخرون.
أنبأني أبو العلاء الفرضي أن ناصراً سمع مسند أبي حنيفة لابن المقرئ، وكتاب معاني الآثار للطحاوي من إسماعيل ابن الإخشيذ بسماعه للأول من ابن عبد الرحيم، وللكتاب الثاني من منصور بن الحسين، عن ابن المقرئ عنه، وسمع المعجم الكبير من فاطمة الجوزدانية.
قلت: توفي في ثامن ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة.

ابن رشد الحفيد

العلامة. فيلسوف الوقت، أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي.
مولده قبل موت جده بشهر سنة عشرين وخمس مئة.
عرض الموطأ على أبيه.
وأخذ عن أبي مروان بن مسرة وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول، ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم، حتى صار يضرب به المثل في ذلك.
قال الأبار: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالاً وعلماً وفضلاً، وكان متواضعاً، منخفض الجناح، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود في ما ألف وقيد نحواً من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة. وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وقيل: كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي.
وله من التصانيف: بداية المجتهد في الفقه، والكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، ومؤلف في العربية. وولي قضاء قرطبة، فحمدت سيرته.
قال ابن أبي أصيبعة في تاريخ الحكماء: كان أوحد في الفقه والخلاف، وبرع في الطب، وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة، وقيل: كان رث البزة، قوي النفس، لازم في الطب أبا جعفر بن هارون مدةً، ولما كان المنصور صاحب المغرب بقرطبة، استدعى ابن رشد، واحترمه كثيراً، ثم نقم عليه بعد، يعني لأجل الفلسفة . وله شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، والمقدمات في الفقه، كتاب الحيوان، كتاب جوامع كتب أرسطوطاليس، شرح كتاب النفس، كتاب في المنطق، كتاب تلخيص الإلاهيات لنيقولاوس، كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو، كتاب تلخيص الاستقصات لجالينوس، ولخص له كتاب المزاج، وكتاب القوى، وكتاب العلل، وكتاب التعريف، وكتاب الحميات، وكتاب حيلة البرء ولخص كتاب السماع الطبيعي، وله كتاب تهافت التهافت، وكتاب منهاج الأدلة أصول، وكتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، كتاب شرح القياس لأرسطو، مقالة في العقل، مقالة في القياس، كتاب الفحص في أمر العقل، الفحص عن مسائل في الشفاء، مسألة في الزمان، مقالة فيما يعتقده المشاؤون وما يعتقده المتكلمون في كيفية وجود العالم، مقالة في نظر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو، مقالة في اتصال العقل المفارق للإنسان، مقالة في وجود المادة الأولى، مقالة في الرد على ابن سينا، مقالة في المزاج، مسائل حكمية، مقالة في حركة الفلك، كتاب ما خالف فيه الفارابي أرسطو.
قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد؛ لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوساً بداره بمراكش في أواخر سنة أربع.
وقال غيره: مات في صفر، وقيل: ربيع الأول سنة خمس.
ومات السلطان بعده بشهر.
وقد روى عنه: أبو محمد بن حوط الله، وسهل بن مالك، ولا ينبغي أن يروى عنه.

ابن ملاح الشط

الشيخ الصالح المسند، أبو الفرج عبد الرحمان بن محمد بن هبة الله ابن محمد بن عيسى، القصري، البواب، ويعرف بابن ملاح الشط.
كان يسكن بقصر علي بن عيسى الهاشمي.
سمع الكثير من: أبي القاسم بن الحصين، وأبي غالب ابن البناء، وأبي البركات يحيى بن حبيش الفارقي، وأبي الحسن علي ابن الزاغوني، وعدة.
قال ابن النجار: كتبت عنه كثيراً، وكان شيخاً صالحاً، حسن الأخلاق، محباً للرواية، لا يسأم، ولا يضجر، وكان بواباً بمدرسة أم الخليفة. سالت عن مولده، فقال: أذكر خلافة المستظهر. مات شيخنا في صفر سنة سبع وتسعين وخمس مئة.
قلت: لعله جاوز التسعين.
وروى عنه: ابن خليل، والضياء، وابن عبد الدائم، والنجيب الحراني، وآخرون. وبالإجازة ابن أبي الخير، والقطب ابن أبي عصرون، والفخر ابن البخاري.
وفيها مات ابن الجوزي، وأبو المكارم اللبان، والمحدث تميم ابن البندنيجي، وعبد الله بن المبارك ابن الطويلة، وأبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم ابن الفرس الأنصاري الغرناطي، شيخ المالكية، والواعظ عمر بن علي الحربي، ومحمد بن أبي زيد الكراني، والعماد الكاتب، وشيخ المالكية أبو المنصور ظافر بن الحسين الأزدي بمصر، والأمير بهاء الدين قراقوش الخادم الأبيض مولى شيركوه الذي بنى سور مصر وقلعة الجبل، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الفارفاني أخو عفيفة، والمقرئ محمد بن محمد بن الكال الحلي، وأبو شجاع محمد بن أبي محمد المقرون اللوزي المقرئ.

صاحب المغرب

السلطان الكبير، الملقب بأمير المؤمنين المنصور، أبو يوسف، يعقوب ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي، القيسي، الكومي، المغربي، المراكشي، الظاهري، وأمه أمة رومية اسمها سحر.
عقدوا له بالأمر سنة ثمانين وخمس مئة عند مهلك أبيه، فكان سنه يومئذ ثنتين وثلاثين سنةً.
وكان تام القامة، أسمر، صافياً، جميل الصورة، أعين، أفوه، أقنى، أكحل، سميناً، مستدير اللحية، جهوري الصوت، جزل العبارة، صادق اللهجة، فارساً، شجاعاً، قوي الفراسة، خبيراً بالأمور، خليقاً للإمارة، ينطوي على دين وخير وتأله ورزانة.
عمل الوزارة لأبيه، وخبر الخير والشر، وكشف أحوال الدواوين. وزر له عمر بن أبي زيد، ثم أبو بكر بن عبد الله بن الشيخ عمر إينتي، ثم ابن عم هذا محمد الذي تزهد، وأختفى، ثم أبو زيد الهنتاني، وزير ولده من بعده. وكتب له السر ابن محشوة، ثم ابن عياش الأديب. وقضى له ابن مضاء، ثم الوهراني، ثم أبو القاسم بن بقي.
ولما تملك، كان حوله منافسون له من عمومته وإخوته، ثم تحول إلى سلا، وبها تمت بيعته، وأرضى آله بالعطاء، وبنى مدينةً تلي مراكش على البحر، فما عتم أن خرج عليه علي ابن غانية الملثم، فأخذ بجاية، وخطب للناصر العباسي، فكان الخطيب بذلك عبد الحق مصنف الأحكام، ولولا حضور أجله، لأهلكه المنصور.
ثم تملك ابن غانية قلعة حماد، فسار المنصور، واسترد بجاية، وجهز جيشه، فالتقاهم ابن غانية فمزقهم، فسار المنصور بنفسه، فكسر ابن غانية، وذهب مثخناً بالجراح، فمات في خيمة أعرابية، وقدم جيشه عليهم أخاه يحيى، فانحاز بهم إلى الصحراء مع العرب، وجرت له حروب طويلة، واسترد المنصور قفصة، وقتل في أهلها، فأسرف، ثم قتل عميه سليمان وعمر صبراً، ثم ندم، وتزهد، وتقشف، وجالس الصلحاء والمحدثين، ومال إلى الظاهر، وأعرض عن المالكية، وأحرق ما لا يحصى من كتب الفروع.
قال عبد الواحد بن علي: كنت بفاس، فشهدت الأحمال يؤتى بها، فتحرق، وتهدد على الاشتغال بالفروع، وأمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من الكتب الخمسة، والموطأ، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي، كما جمع ابن تومرت في الطهارة. ثم كان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته، وحفظ ذلك خلق، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة. إلى أن قال: وكان قصده محو مذهب مالك من البلاد، وحمل الناس على الظاهر، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، فلم يظهراه، فأخبرني غير واحد أن ابن الجد أخبرهم قال: دخلت على أمير المؤمنين يوسف، فوجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال: أنا أنظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين، أرأيت المسألة فيها أقوال، ففي أيها الحق ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له، فقطع كلامي، وقال: ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى سنن أبي داود، أو هذا، وأشار إلى السيف.
قال يعقوب: يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه أمر، فزع إلى قبيلته، وهؤلاء يعني طلبة العلم لا قبيل لهم إلا أنا، قال: فعظموا عند الموحدين.
وفي سنة خمس وثمانين غزا الفرنج، ثم رجع، فمرض، وتكلم أخوه أبو يحيى في الملك، فلما عوفي، قتله، وتهدد القرابة.
وفي سنة تسعين انتقضت الهدنة، فتجهز، وعرض جيوشه بإشبيلية، وأنفق الأموال، فقصده ألفنش فالتقوا، وكان نصراً عزيزاً، ما نجا ألفنش إلا في شريذمة، واستشهد من الكبار جماعة، واستولى يعقوب على قلاع، ونازل طليطلة، ثم رجع، ثم غزا، ووغل، بحيث انتهى إلى أرض ما وصلت إليها الملوك، فطلب ألفنش المهادنة، فعقدت عشراً، ثم رد السلطان إلى مراكش بعد سنتين، وصرح بقصد مصر.
وكان يتولى الصلاة بنفسه أشهراً، فتعوق يوماً، ثم خرج، وهم ينتظرونه، فلامهم، وقال: قد قدم الصحابة عبد الرحمان بن عوف للعذر، ثم قرر إماماً عنه. وكان يجلس للحكم، حتى اختصم إليه اثنان في نصف، فقضى، ثم أدبهما، وقال: أما كان في البلد حكام ؟.
وكان يسمع حكم ابن بقي من وراء الستر، ويدخل إليه أمناء الأسواق، فيسألهم عن الأمور.
وتصدق في الغزوة الماضية بأربعين ألف دينار.
وكان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف ورمانة.
وبنى مارستان ما أظن مثله، غرس فيه من جميع الأشجار، وزخرفه وأجرى فيه المياه، ورتب له كل يوم ثلاثين ديناراً للأدوية، وكان يعود المرضى في الجمعة.
وورد عليه أمراء من مصر، فأقطع واحداً تسعة آلاف دينار.
وكان لا يقول بالعصمة في ابن تومرت.
وسأل فقيهاً: ما قرأت ؟ قال: تواليف الإمام، قال: فزورني، وقال: ما كذا يقول الطالب ! حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت من السنة، ثم بعد ذا قل ما شئت. قال تاج الدين ابن حمويه: دخلت مراكش في أيام يعقوب، فلقد كانت الدنيا بسيادته مجملةً، يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده، فأعذب موردي، وأنجح مقصدي، وكانت مجالسه مزينةً بحضور العلماء والفضلاء، تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث، ثم يدعو هو، وكان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وينسبونه إلى مذهب الظاهر. وكان فصيحاً، مهيباً، حسن الصورة، تام الخلقه، لا يرى منه اكفهرار، ولا عن مجالسه إعراض، بزي الزهاد والعلماء، وعليه جلالة الملوك، صنف في العبادات، وله فتاو، وبلغني أن السودان قدموا له فيلاً فوصلهم، ورده، وقال: لا نريد أن نكون أصحاب الفيل، ثم طول التاج في عدله وكرمه، وكان يجمع الزكاة، ويفرقها بنفسه، وعمل مكتباً للأيتام، فيه نحو ألف صبي، وعشرة معلمون. حكى لي بعض عماله: أنه فرق في عيد نيفاً وسبعين ألف شاة.
وقال عبد الواحد: كان مهتماً بالبناء، كل وقت يجدد قصراً أو مدينةً، وأن الذين أسلموا كرهاً أمرهم بلبس كحلي وأكمام مفرطة الطول، وكلوتات ضخمة بشعة، ثم ألبسهم ابنه العمائم الصفر، حمل يعقوب على ذلك شكه في إسلامهم، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع المغرب كنيسة، وإنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام، ويصلون، ويقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا.
قلت: هؤلاء مسلمون، والسلام.
وكان ابن رشد الحفيد قد هذب له كتاب الحيوان وقال: الزرافة رأيتها عند ملك البربر، كذا قال غير مهتبل، فأحنقهم هذا، ثم سعى فيه من يناوئه عند يعقوب، فأروه بخطه حاكياً عن الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة، فطلبه، فقال: أهذا خطك ؟ فأنكر، فقال: لعن الله من كتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أقامه مهاناً، وأحرق كتب الفلسفة سوى الطب والهندسة. وقيل: لما رجع إلى مراكش، أحب النظر في الفلسفة، وطلب ابن رشد ليحسن إليه، فحضر، ومات، ثم بعد يسير مات يعقوب.
وقد كتب صلاح الدين إلى يعقوب يستنجد به في حصار عكا، ونفذ إليه تقدمةً، وخضع له، فما رضي لكونه ما لقبه بأمير المؤمنين، ولقد سمح بها، فامتنع منها كاتبه القاضي الفاضل.
وقيل: إن يعقوب أبطل الخمر في ممالكه، وتوعد عليها فعدمت، ثم قال لأبي جعفر الطبيب: ركب لنا ترياقاً، فأعوزه خمر، فأخبره بذلك، فقال: تلطف في تحصيله سراً، فحرص، فعجز، فقال الملك: ما كان لي بالترياق حاجة، لكن أردت اختبار بلادي.
قيل: إن الأدفنش كتب إليه يهدده، ويعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: وأنت تماطل نفسك، وتقدم رجلاً، وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطأ بك، أو التكذيب بما وعدك نبيك ؟ فلما قرأ الكتاب، تنمر، وغضب، ومزقه، وكتب على رقعة منه: "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ..." الآية، الجواب ما ترى لا ما تسمع.

ولا كتب إلاّ المشرفيّة عنـدنـا

 

ولا رسل إلاّ للخميس العرمرم

ثم استنفر سائر الناس، وحشد، وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مئة ألف، ومن المطوعة مثلهم، وعدى إلى الأندلس، فتمت الملحمة الكبرى، ونزل النصر والظفر، فقيل: غنموا ستين ألف زردية.
قال ابن الأثير: قتل من العدو مئة ألف وستة وأربعون ألفاً، ومن المسلمين عشرون ألفاً.
وذكره أبو شامة، وأثنى عليه، ثم قال: وبعد هذا فاختلفت الأقوال في أمره، فقيل: إنه ترك ما كان فيه، وتجرد، وساح، حتى قدم المشرق متخفياً، ومات خاملاً، حتى قيل: إنه مات ببعلبك. ومنهم من يقول: رجع إلى مراكش، فمات بها، وقيل: مات بسلا، وعاش بضعاً وأربعين سنةً.
قلت: إليه تنسب الدنانير اليعقوبية.
قال ابن خلكان: حكى لي جمع كبير بدمشق أن بالبقاع بالقرب من المجدل قريةً يقال لها: حمارة، بها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك المغرب، وكل أهل تلك الناحية متفقون على ذلك.
قيل: الأظهر موته بالمغرب، فقيل: مات في أول جمادى الأولى، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: مات في صفر سنة خمس وتسعين.
وقد يقال: لو مات مثل هذا السلطان في مقر عزه، لم يختلف هكذا في وفاته، فالله أعلم، لكن بويع في هذا الحين ولده محمد بن يعقوب المؤمني.

صاحب غزنة

السلطان الكبير، غياث الدين، أبو الفتح محمد بن سام بن حسين الغوري، أخو السلطان شهاب الدين الغوري. قال عز الدين ابن البزوري: كان ملكاً عادلاً، وللمال باذلاً، فكان محسناً إلى الرعية، رؤوفاً بهم، كانت به ثغور الأيام باسمةً، وكلها بوجوده مواسم. قرب العلماء، وأحب الفضلاء، وبنى المساجد والربط والمدارس، وأدر الصدقات، وبنى الخانات.
قلت: كان ابتداء دولتهم محاربتهم لسلطانهم بهرام شاه بن مسعود السبكتكيني، وكان رأس أهل الغور علاء الدين الحسين بن الحسن، فهزمه بهرام شاه غير مرة، وقتل إخوته، ثم تمكن علاء الدين، وتسلطن، وأمر ابني أخيه غياث الدين وشهاب الدين ابني سام، ثم قاتلاه، وأسراه، ثم تأدبا معه، ورداه إلى ملكه، فخضع، وصاهرهما على بنيه، وجعلهما وليي عهده، فلما مات في سنة ست وخمسين، تسلطن غياث الدين المذكور، واستولى على غزنة، ثم قهره الغز، واستولوا على غزنة خمس عشرة سنةً. ثم نهض شهاب الدين، وهزم الغز، وقتل منهم خلائق، وافتتح البلاد الشاسعة، وقصد لها، ورد بها خسرو شاه بن بهرام شاه آخر ملوك الهند السبكتكينية، فأخذها سنة تسع وسبعين، وأمن خسرو شاه، ثم بعثه مع ولده، وأسلمهما إلى أخيه، فسجنهما، وكان آخر العهد بهما، وكان دولتهم أزيد من مئتي عام.
ويقال: بل مات خسرو كما قدمنا في حدود سنة خمسين، وتسلطن بعده ابنه ملكشاه، فيحرر هذا.
وحكم الغوري على الهند والأقاليم، وتلقب بقسيم أمير المؤمنين، ثم سار الأخوان، وافتتحا هراة وبوشنج وغير ذلك، ثم حشدت ملوك الهند، وعملوا المصاف، وانكسر المسلمون، وجرح شهاب الدين، وسقط، ثم جمع، والتقى الهند، فاستأصلهم، وطوى الممالك.
نعم، وكان غياث الدين واسع البلاد مظفراً في حروبه، وفيه دهاء، ومكر، وشجاعة، وإقدام.
وتمرض بالنقرس.
وقيل: إنه أسقط مكوس بلاده. وكان يرجع إلى فضيلة وأدب.
وكان يقول: التعصب في المذاهب قبيح.
وقد امتدت أيامه، وتملك بعد عمه، وله غزوات وفتوحات.
مات في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمس مئة، فتملك بعده أخوه السلطان شهاب الدين مدةً، ثم قتل غيلةً، وتسلطن بعده ابن أخيه السلطان غياث الدين محمود بن محمد، ثم تملك غلامهم السلطان تاج الدين إلدز، واستولى على مدائن، وعظم أمره، ثم قتل في مصاف.
ولهذه المملكة جيوش عظيمة جداً.

أخوه السلطان شهاب الدين

أبو المظفر محمد بن سام.
قتلته الباطنية في شعبان سنة اثنتين وست مئة.
قال ابن الأثير: قتل صاحب الهند شهاب الدين بمخيمه بعد عوده من لهاوور، وذلك أن نفراً من الكفار الكوكرية لزموا عسكره ليغتالوه، لما فعل بهم من القتل والسبي، فتفرق خواصه عنه ليلةً، وكان معه من الخزائن ما لا يوصف؛ لينفقها في العساكر لغزو الخطا، فثار به أولئك، فقتلوا من حرسه رجلاً، فثارت إليه الحرس عن مواقفهم، فخلا ما حول السرادق، فاغتنم أولئك الوقت، وهجموا عليه، فضربوه بسكاكينهم، ونجوا، ثم ظفر بهم، وقتلوا، وحفظ الوزير والأمراء والأموال، وصيروا السلطان في محفة، وداروا حولها بالحشم والصناجق، وكانت خزائنه على ألفي جمل ومئتين، فقدموا كرمان، فخرج إليهم الأمير تاج الدين إلدز، فشق ثيابه، وبكى، وكان يوماً مشهوداً، وتطلع تاج الدين إلى السلطنة، ودفن شهاب الدين بتربة له بغزنة، وكان بطلاً شجاعاً مهيباً جيد السيرة، يحكم بالشرع.
بلغنا أن فخر الدين الرازي وعظ مرةً عنده، فقال: يا سلطان العالم، لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى، "وأَنَّ مَرَدَّنا إلى اللّه وأَنَّ المُسْرِفِيْنَ هُمْ أصحَابُ النَّار" غافر. قال: فانتحب السلطان بالبكاء.
وكان شافعياً كأخيه. وقيل: كان حنفياً.

ابن القصاب

الوزير الكبير، مؤيد الدين، أبو الفضل محمد بن علي بن أحمد ابن القصاب، البغدادي.
من رجال الدهر شهامةً، وهيبةً، وحزماً، وغوراً، ودهاءً، مع النظم والنثر والبلاغة.
ناب في الوزارة، وخدم في ديوان الإنشاء، وسار في العساكر، فافتتح همذان وأصبهان، وحاصر الري، ورجع، فولي الوزارة، وسار في جيش عظيم إلى همذان، فجاءه الموت في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة، وقد جاوز سبعين سنةً. وكان أبوه قصاباً عجمياً بسوق الثلاثاء، ثم نبشه خوارزمشاه من قبره، وقطع به، وطاف به على رمح بخراسان.

ابن المقرون

الإمام القدوة العابد، شيخ القراء، أبو شجاع محمد بن أبي محمد ابن أبي المعالي ابن المقرون، البغدادي، اللوزي، من محلة اللوزية.
ولد سنة بضع عشرة وخمس مئة.
وجود القراءات على أبي محمد سبط الخياط، وأبي الكرم الشهرزوري.
وسمع من أبي الحسن بن عبد السلام كتاب الجعديات بكماله.
وقرأه عليه الزين ابن عبد الدائم.
وسمع من علي ابن الصباغ، وأبي الفتح البيضاوي، وسبط الخياط، وأبي الفضل الأرموي، وعدة.
وروى الكثير، وأقرأ الكتاب العزيز ستين عاماً، وكان محققاً لحروفه، عاملاً بحدوده، يأكل من كسب يده، ويتعفف ويتعبد، ويأمر بالمعروف، ولا يخاف في الله لومة لائم.
لقن الأولاد والآباء والأجداد.
قرأ عليه بالروايات خلق، منهم: أبو عبد الله ابن الدبيثي، وقال: نعم الشيخ.
كان دفنه بصفة بشر الحافي.
قلت: وحدث عنه: الشيخ الضياء، وابن خليل، والتقي اليلداني، والنجيب الحراني، وابن عبد الدائم، وآخرون.
قال ابن النجار: لقن خلقاً لا يحصون، وحملت جنازته على الرؤوس، ما رأيت جمعاً أكثر من جمع جنازته.
قال: وكان مستجاب الدعوة، وقوراً. مات في سابع عشر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمس مئة.
قلت: ومن مروياته: الجمع بين الصحيحين للحميدي، تحمله عن أبي إسحاق الغنوي عن المؤلف، قرأه عليه العز محمد بن عبد الغني سنة ست. أجاز مروياته لأحمد بن سلامة، وعلي ابن البخاري، وجماعة.

ابن زهر

العلامة، جالينوس زمانه، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر، الإيادي، الإشبيلي.
أخذ الطب عن جده أبي العلاء، وعن أبيه، وبلغ الغاية والحظ الوافر من اللغة والآداب والشعر وعلو المرتبة في العلاج عند الدولة، مع السخاء والجود والحشمة.
أخذ عنه: ابن دحية، وأبو علي الشلوبين.
قال الأبار: كان أبو بكر بن الجد يزكيه، ويحكي عنه أنه يحفظ صحيح البخاري متناً وإسناداً. مات بمراكش في ذي الحجة سنة خمس وتسعين وخمس مئة، وولد سنة سبع وخمس مئة.
قال ابن دحية: مكانه مكين في اللغة، ومورده معين في الطب، كان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث اللغة، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب، مع سمو النسب، وكثرة النشب، صحبته زماناً، وله أشعار حلوة، وقد رحل أبو جده إلى المشرق، وولي رياسة الطب ببغداد، ثم بمصر، ثم بالقيروان، ثم نزل دانية، وطار ذكره.
قلت: كان أبو بكر هذا يقال له: الحفيد، كما يقال لصديقه ابن رشد: الحفيد، وكان في رتبة الوزراء، وقيل: كان ديناً عدلاً، قوي النفس، مليح الشكل، يجر قوساً قوياً، وله نظم رائق، فمنه:

للّه ما فعل الغـرام بـقـلـبـه

 

أودى له لـمّـا ألـمّ بـلـبّـه

يأبى الذي لا يستطيع لعـجـبـه

 

ردّ السّلام وإن شككت فعج بـه

ظبيٌ من الأتراك ما تركت ضنىً

 

ألحاظه من سلوةٍ لـمـحـبّـه

إن كنت تنكر ما جنى بلحـاظـه

 

في سلبه يوم الغوير فسـل بـه

يا ما أُميلـحـه وأعـذب ريقـه

 

وأعزّه وأذلّـنـي فـي حـبّـه

بل ما أُليطف وردةً فـي خـدّه

 

وأرقّها وأشدّ قسـوة قـلـبـه

ابن زريق الحداد

الإمام، شيخ المقرئين، أبو جعفر، المبارك ابن الإمام أبي الفتح المبارك بن أحمد بن زريق، الواسطي، ابن الحداد، إمام جامع واسط بعد والده.
مولده سنة تسع وخمس مئة.
تلا على أبيه، ومهر، ثم سافر معه إلى بغداد في سنة 532، فقرأ بها بالمبهج وغيره على أبي محمد سبط الخياط.
وسمع من: قاضي المارستان، وإسماعيل ابن السمرقندي، وطائفة، وبواسط من علي بن علي بن شيران، والقاضي أبي علي الفارقي، وجماعة، وتفرد عن ابن شيران الفارقي، وتفرد بإجازة خميس الحوزي، وأبي الحسين محمد ابن غلام الهراس أبي علي، ورزين بن معاوية العبدري، وأجاز له أيضاً أبو طالب بن يوسف، وعبد الله ابن السمرقندي.
حدث عنه: محمد بن النفيس بن منجب، ويوسف بن خليل، وإبراهيم بن محاسن، وابن الدبيثي وآخرون.
وتلا عليه بالروايات: الشريف محمد بن عمر الداعي، وغيره.
قال ابن النجار: كان من أعيان القراء الموصوفين بجودة القراءة، وحسن الأداء، وطيب الصوت، وكان بقية الأكابر، وهو صدوق متدين.
مات في رمضان سنة ست وتسعين وخمس مئة.
وزريق أوله زاي.

البندار

الشيخ الصالح القدوة، أبو محمد، عبد الخالق بن هبة الله بن القاسم بن منصور، الحريمي، البندار، أخو عبد الجبار.
سمع هبة الله بن الحصين، وأبا المواهب بن ملوك، وهبة الله الحريري، وقاضي المارستان. وسمع بالري عبد الرحمان بن أبي القاسم الحصيري.
روى عنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، وابن النجار، وجماعة.
قال ابن النجار: كان صالحاً، زاهداً، كثير العبادة، حسن السمت، على منهاج السلف، كأن النور يلوح على وجهه، ويجد الناظر إليه روحاً في نفسه. مات في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمس مئة، وله أربع وثمانون سنة.
وفيها ماتت أسماء بنت محمد ابن البزاز الدمشقية، وأختها آمنة والدة القاضي محيي الدين محمد ابن الزكي، والمحدث أبو الفرج ثابت بن محمد المديني، ودلف بن أحمد بن قوفا، وطرخان بن ماضي الشاغوري الذي أم بالملك نور الدين، وصاحب مصر الملك العزيز ابن صلاح الدين، وأتابك الموصل مجاهد الدين قيماز الرومي الخادم، والفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي الحفيد صاحب المصنفات، وأبو جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسي، وطبيب الوقت أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر الإشبيلي، ومسلم بن علي السيحي الموصلي، ومنصور بن أبي الحسن الطبري الواعظ، وشيخ الشافعية جمال الدين يحيى بن علي بن فضلان البغدادي، ويعقوب صاحب المغرب.

خوارزمشاه

السلطان علاء الدين، تكش بن أرسلان بن أتسز بن محمد بن نوشتكين.
قال أبو شامة: هو من ولد طاهر بن الحسين الأمير. قال: وكان جواداً شجاعاً، تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى بغداد، فإنه كان نوابه في حلوان، وكان جنده مئة ألف، هزم مملوكه عسكر الخليفة، وأزال هو دولة السلاجقة، وكان حاذقاً بلعب العود. هم به باطني، فأرعد، فأخذه، وقرره، فأقر، فقتله، وكان يباشر الحرب بنفسه، وذهبت عينه بسهم. عزم على قصد بغداد، ووصل دهستان، فمات، ثم قام بعده ابنه محمد، ولقب علاء الدين بلقبه.
قال لنا ابن البزوري: كان تكش عنده آداب ومعرفة بمذهب أبي حنيفة. بنى مدرسةً بخوارزم، وله المقامات المشهورة. حارب طغريل، وقتله، ثم وقع بينه وبين ابن القصاب الوزير، فكان قد نفذ إليه تشريفاً من الديوان، فرده، ثم ندم، واعتذر، وبعث إليه بتشريف، فلبسه.
مات في رمضان سنة ست وتسعين بشهر ستانة، فحمله ولده محمد، فدفنه بمدرسته بخوارزم. وقيل: مات بالخوانيق.

العجلي

رأس الشيعة، وعالم الرافضة، العلامة أبو عبد الله محمد بن إدريس ابن أحمد بن إدريس، العجلي، الحلي.
صاحب التصانيف، منها كتاب الحاوي لتحرير الفتاوي، وكتاب السرائر، وكتاب خلاصة الاستدلال، ومناسك وأشياء في الأصول والفروع.
أخذ عن الفقيه راشد، والشريف شرف شاه.
وله بالحلة شهرة كبيرة وتلامذة، ولبعض الجهلة فيه قصيدة يفضله فيها على محمد بن إدريس إمامنا.
مات في سنة سبع وتسعين وخمس مئة.

صاحب اليمن

سيف الإسلام، طغتكين بن أيوب بن شاذي.
كان أخوه الملك المعظم تورانشاه قد افتتح اليمن سنة تسع وستين، ثم رجع بعد عامين، واستناب عنه، وقدم دمشق، ثم بعث صلاح الدين أخاه سيف الإسلام إلى اليمن سنة تسع وسبعين، فتملك اليمن كله، وحارب الزيدية، وبعد أعوام أخذ صنعاء، وكانت دولته أربع عشرة سنةً، فلما احتضر، سلطن مملوكه بوزبا، ومات في شوال سنة ثلاث وتسعين، ثم تملك ولده المعز، وقتل بوزبا وجماعةً من مماليك أبيه، وحارب رأس الزيدية، وهزمه، وأنشأ بزبيد مدرسةً، وادعى أنه أموي، ورام الخلافة، وله ديوان شعر، فقتله أمراؤه الأكراد، وملكوا أخاه الناصر أيوب بن طغتكين.

عبد اللطيف

ابن أبي البركات إسماعيل بن الشيخ أبي سعد محمد بن دوست شيخ الشيوخ، أبو الحسن النيسابوري الأصل البغدادي الصوفي، أخو شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم الذي مات بالرحبة.
كان أبو الحسن شيخاً عامياً بليداً عرياً من العلم.
سمع من القاضي أبي بكر، وإسماعيل ابن السمرقندي، وعلي بن علي الأمين، وأبي الحسن بن عبد السلام، وطائفة.
وتمشيخ برباط جده بعد أخيه في سنة ثمانين، وقد حج، وركب البحر، وقدم مصر وبيت المقدس زائراً ودمشق. وحدث، فأدركته المنية بدمشق في رابع عشر ذي الحجة سنة ست وتسعين وخمس مئة، وله ثلاث وسبعون سنةً. ذكر هذا أو معناه ابن النجار، وروى عنه هو وابن خليل، واليلداني، وعثمان ابن خطيب القرافة، وفرج الحبشي، وعبد الله وعبد الرحمان ابنا أحمد بن طعان، والقاضي صدر الدين ابن سني الدولة، وابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، وعدد كثير. وبالإجازة أحمد ابن أبي الخير.
قال ابن الدبيثي: كان بليداً لا يفهم، قال مرةً فيما بلغني لمن قصده في سماع جزء: امض به إلى ابن سكينة يسمعك عني، فإني مشغول.
وفيها مات ابن كليب، والإمام أبو جعفر أحمد بن علي القرطبي، وأحمد بن محمد بن أحمد ابن البخيل، والعلامة أبو إسحاق إبراهيم بن منصور العراقي الخطيب، وإسماعيل بن صالح بن ياسين الشارعي، وأبو علي الحسن بن عبد الرحمان الفارسي الزاهد، وخليل بن أبي الرجاء الراراني، وخوارزمشاه تكش، والقاضي الفاضل، والوجيه عبد العزيز بن عيسى اللخمي بالثغر، والقاضي عبيد الله بن محمد بن عبد الجليل الساوي، والفقيه عسكر بن خليفة الحموي، والنظام محمد بن عبد الله ابن الظريف البلخي، والأمير ابن بنان، والشهاب محمد بن محمود الطوسي شيخ الشافعية بمصر.

ابن زبادة

الصاحب الأثير، رئيس ديوان الإنشاء، قوام الدين، أبو طالب يحيى ابن سعيد بن هبة الله بن علي بن علي بن زبادة الواسطي ثم البغدادي.
كان رب فنون: فقه، وأصول، وكلام، ونظم، ونثر. سارت الركبان بترسله المؤنق.
ولي المناصب الجليلة.
وروى عن: أبي الحسن بن عبد السلام، وأبي القاسم علي ابن الصباغ، وأبي بكر أحمد بن محمد الأرجاني الشاعر، وأبي منصور ابن الجواليقي، وأخذ عنه العربية.
ولي نظر واسط، وولي حجابة الحجاب، ثم الأستاذدارية، ثم نقل إلى كتابة السر.
روى عنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، وغيرهما.
وكان ديناً صيناً، حميد السيرة، وهو القائل:

لا تغبطنّ وزيراً للـمـلـوك وإن

 

أناله الدهر منهم فوق هـمّـتـه

واعلم بأنّ له يوماً تمـور بـه ال

 

أرض الوقور كما مارت بهيبتـه

هارون وهو أخو موسى الشقيق له

 

لولا الوزارة لم يأخذ بلـحـيتـه

أنبؤونا عن ابن الدبيثي، أنشدنا أبو طالب بن زبادة، أنشدني القاضي الأرجاني لنفسه:

ومقسومة العينين من دهش النّوى

 

وقد راعها بالعيس رجع حـداء

تجيب بإحدى مقلتيها تـحـيّتـي

 

وأُخرى تراعي أعين الرّقـبـاء

ولما بكت عيني غداة رحيلـهـم

 

وقد روّعتني فرقة الـقـرنـاء

بدت في محيّاها خيالات أدمعـي

 

فغاروا وظنّوا أن بكت لبكـائي

توفي ابن زبادة في سابع عشر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمس مئة، وله اثنتان وسبعون سنةً وأشهر.

القاضي الفاضل

المولى الإمام العلامة البليغ، القاضي الفاضل، محيي الدين، يمين المملكة، سيد الفصحاء، أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن الحسن بن أحمد بن المفرج، اللخمي، الشامي، البيساني الأصل، العسقلاني المولد، المصري الدار، الكاتب، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحي.
ولد سنة تسع وعشرين وخمس مئة.
سمع في الكهولة من أبي طاهر السلفي، وأبي محمد العثماني، وأبي القاسم بن عساكر، وأبي الطاهر بن عوف، وعثمان بن فرج العبدري.
وروى اليسير.
وفي انتسابه إلى بيسان تجوز، فما هو منها، بل قد ولي أبوه القاضي الأشرف أبو الحسن قضاءها.
انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفن اليد البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع الكثرة.
قال ابن خلكان: يقال إن مسودات رسائله ما يقصر عن مئة مجلد، وله النظم الكثير. أخذ الصنعة عن الموفق يوسف بن الخلال صاحب الإنشاء للعاضد، ثم خدم بالثغر مدةً، ثم طلبه ولد الصالح بن رزيك، واستخدمه في ديوان الإنشاء. قال العماد: قضى سعيداً، ولم يبق عملاً صالحاً إلا قدمه، ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عقد بر إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب، وأوقافه متجاوزة الحساب، لا سيما أوقافه لفكاك الأسرى، وأعان المالكية والشافعية بالمدرسة، والأيتام بالكتاب، كان للحقوق قاضياً، وفي الحقائق ماضياً، والسلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه، ومقاليد غناه وغنائه، وكنت من حسناته محسوباً، وإلى آلائه منسوباً، وكانت كتابته كتائب النصر، ويراعته رائعة الدهر، وبراعته باريةً للبر، وعبارته نافثةً في عقد السحر، وبلاغته للدولة مجملةً، وللمملكة مكملةً، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مفضلةً. نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب، وأعربه من الإبداع، ما ألفيته كرر دعاءً في مكاتبة، ولا ردد لفظاً في مخاطبة. إلى أن قال: فإلى من بعده الوفادة ؟، وممن الإفادة ؟، وفيمن السيادة ؟، ولمن السعادة ؟.
وقال ابن خلكان: وزر للسلطان صلاح الدين بن أيوب، فقال هبة الله بن سناء الملك قصيدةً منها:

قال الزّمان لغيره لـو رامـهـا

 

تربت يمينك لست من أربابهـا

اذهب طريقك لست من أربابهـا

 

وارجع وراءك لست من أترابها

وبعزّ سـيّدنـا وسـيّد غـيرنـا

 

ذلّت من الأيّام شمس صعابهـا

وأتت سعادتـه إلـى أبـوابـه

 

لا كالذي يسعى إلى أبوابـهـا

فلتفخر الدّنيا بسائس ملـكـهـا

 

منه ودارس علمها وكتـابـهـا

صوّامها قوّامهـا عـلاّمـهـا

 

عمّالها بـذّالـهـا وهّـابـهـا

وبلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مئة ألف مجلد، وكان يحصلها من سائر البلاد.
حكى القاضي ضياء الدين ابن الشهرزوري أن القاضي الفاضل لما سمع أن العادل أخذ مصر، دعا بالموت خشية أن يستدعيه وزيره ابن شكر، أو يهينه، فأصبح ميتاً، وكان ذا تهجد ومعاملة.
وللعماد في الخريدة: وقبل شروعي في أعيان مصر أقدم ذكر من جميع أفاضل العصر كالقطرة في بحره المولى القاضي الفاضل. إلى أن قال: فهو كالشريعة المحمدية نسخت الشرائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، هو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه، إن شاء، أنشأ في يوم ما لو دون، لكان لأهل الصناعة خير بضاعة، أين قس من فصاحته، وقيس في حصافته، ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته، لا من في فعله، ولا مين في قوله، ذو الوفاء والمروءة والصفاء والفتوة، وهو من الأولياء الذين خصوا بالكرامة، لا يفتر مع ما يتولاه من نوافل صلاته ونوافل صلاته، يتلو كل يوم .. إلى أن قال: وأنا أوثر أن أفرد لنظمه ونثره كتاباً.
قيل: كان القاضي أحدب، فحدثني شيخنا أبو إسحاق الفاضلي أن القاضي الفاضل ذهب في الرسلية إلى صاحب الموصل، فأحضرت فواكه، فقال بعض الكبار منكتاً: خياركم أحدب، يوري بذلك، فقال الفاضل: خسنا خير من خياركم.
قال الحافظ المنذري: ركن إليه السلطان ركوناً تاماً، وتقدم عنده كثيراً، وكان كثير البر، وله آثار جميلة. توفي ليلة سابع ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمس مئة.
وقال الموفق عبد اللطيف: كانوا ثلاثة أخوة: أحدهم: خدم بالاسكندرية، وخلف من الخواتيم صناديق، ومن الحصر والقدور بيوتاً مملوءةً، وكان متى سمع بخاتم، سعى في تحصيله.
وأما الآخر: فكان له هوس مفرط في تحصيل الكتب، عنده نحو مئتي ألف كتاب. والثالث: القاضي الفاضل كان ذا غرام بالكتابة وبالكتب أيضاً، له الدين، والعفاف، والتقى، مواظب على أوراد الليل والصيام والتلاوة. لما تملك أسد الدين، أحضره، فأعجب به، ثم استخلصه صلاح الدين لنفسه، وكان قليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، يشتغل بالتفسير والأدب، وكان قليل النحو، لكنه له دربة قوية، كتب من الإنشاء ما لم يكتبه أحد، أعرف عند ابن سناء الملك من إنشائه اثنين وعشرين مجلداً، وعند ابن القطان عشرين مجلداً، وكان متقللاً في مطعمه ومنكحه وملبسه، لباسه البياض، ويركب معه غلام وركابي، ولا يمكن أحداً أن يصحبه، ويكثر تشييع الجنائز، وعيادة المرضى، وله معروف معروف في السر والعلانية، ضعيف البنية، رقيق الصورة، له حدبة يغطيها الطيلسان، وكان فيه سوء خلق يكمد به نفسه، ولا يضر أحداً به، ولأصحاب العلم عنده نفاق، يحسن إليهم، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان أو الإعراض عنهم، وكان دخله ومعلومه في العام نحواً من خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند والمغرب. توفي مسكوتاً، أحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال وإقبال الإدبار، وهذا يدل على أن لله به عنايةً.
قال العماد: تمت الرزية بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء في منزله بالقاهرة في سادس ربيع الآخر، وكان ليلتئذ صلى العشاء، وجلس مع مدرس مدرسته، وتحدث معه ما شاء، وانفصل إلى منزله صحيحاً، وقال لغلامه: رتب حوائج الحمام، وعرفني حتى أقضي منى المنام، فوافاه سحراً، فما اكترث بصوته، فبادر إليه ولده، فألفاه وهو ساكت باهت، فلبث يومه لا يسمع له إلا أنين خفي، ثم قضى رحمه الله.
قيل: وقف منجم على طالع القاضي، فقال: هذه سعادة لا تسعها عسقلان.
حفظ القرآن، وكتب ختمةً، ووقفها، وقرأ الجمع بين الصحيحين على ابن فرح، عن رجل، عن الحميدي، وصحب أبا الفتح محمود بن قادوس المنشئ، وكان موت أبيه سنة 46، وكان لما جرى على أبيه نكبة اتصلت بموته، ضرب، وصودر حتى لم يبق له شيء، ومضى إلى الإسكندرية، وصحب بني حديد، فاستخدموه.
قال جماد الدين ابن نباتة: رأيت في بعض تعاليق القاضي: لما ركبت البحر من عسقلان إلى الإسكندرية، كانت معي رزمة فيها ثياب، ورزمة فيها مسودات، فاحتاج الركاب أن يخففوا، فأردت أن أرمي رزمة المسودات، فغلطت، ورميت رزمة القماش.
وذكر القاضي ابن شداد أن دخل القاضي كان في كل يوم خمسين ديناراً.

العماد

القاضي الإمام، العلامة المفتي، المنشئ البليغ، الوزير، عماد الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي ابن محمود بن هبة الله بن أله الأصبهاني الكاتب، ويعرف بابن أخي العزيز.
ولد سنة تسع عشرة وخمس مئة بأصبهان.
وقدم بغداد، فنزل بالنظامية، وبرع في الفقه على أبي منصور سعيد ابن الرزاز. وأتقن العربية والخلاف، وساد في علم الترسل، وصنف التصانيف، واشتهر ذكره.
وسمع من: أبي منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، وأبي الحسن بن عبد السلام، وعلي بن عبد السيد ابن الصباغ، والمبارك بن علي السمذي، وأبي بكر ابن الأشقر.
وأجاز له الفراوي من نيسابور، وابن الحصين من بغداد، ورجع إلى أصبهان مكباً على العلم، وتنقلت به الأحوال.
حدث عنه: يوسف بن خليل، والخطير فتوح بن نوح، والعز عبد العزيز بن عثمان الإربلي، والشهاب القوصي، وجماعة.
وأجاز مروياته لشيخنا أحمد بن أبي الخير.
وأله: فارسي معناه عقاب، وهو بفتح أوله وضم ثانيه وسكون الهاء.
اتصل بابن هبيرة، ثم تحول إلى دمشق سنة اثنتين وستين، واتصل بالدولة، وخدم بالإنشاء الملك نور الدين. وكان ينشئ بالفارسي أيضاً، فنفذه نور الدين رسولاً إلى المستنجد، وولاه تدريس العمادية سنة سبع وستين، ثم رتبه في اشراف الديوان. فلما توفي نور الدين، أهمل، فقصد الموصل، ومرض، ثم عاد إلى حلب، وصلاح الدين محاصر لها سنة سبعين، فمدحه، ولزم ركابه، فاستكتبه، وقربه، فكان القاضي الفاضل ينقطع بمصر لمهمات، فيسد العماد في الخدمة مسده. صنف كتاب خريدة القصر وجريدة العصر ذيلاً على زينة الدهر للحظيري، وهي ذيل على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي التي ذيل بها على يتيمة الدهر للثعالبي التي هي ذيل على البارع لهارون بن علي المنجم، فالخريدة مشتمل على شعراء زمانه من بعد الخمس مئة، وهو عشر مجلدات.
وله البرق الشامي سبع مجلدات، والفتح القسي في الفتح القدسي مجلدان، وكتاب السيل والذيل مجلدان، ونصرة الفترة في أخبار بني سلجوق، وديوان رسائل كبير، وديوانه في أربع مجلدات.
وكان بينه وبين الفاضل مخاطبات ومكاتبات. قال مرةً للفاضل مما يقرأ منكوساً: سر فلا كبا بك الفرس، فأجابه بمثله فقال: دام علا العماد.
قال ابن خلكان: ولم يزل العماد على مكانته إلى أن توفي صلاح الدين، فاختلت أحواله، فلزم بيته، وأقبل على تصانيفه.
قال الموفق عبد اللطيف: حكى لي العماد، قال: طلبني كمال الدين لنيابته في الإنشاء، فقلت: لا أعرف الكتابة، قال: إنما أريد منك أن تثبت ما يجري، فتخبرني به، فصرت أرى الكتب تكتب إلى الأطراف، فقلت: لو طلب مني أن أكتب مثل هذا، ما كنت أصنع ؟ فأخذت أحفظ الكتب، وأحاكيها، وأروض نفسي، فكتبت إلى بغداد كتباً، ولم أطلع عليها أحداً، فقال كمال الدين يوماً: ليتنا وجدنا من يكتب إلى بغداد، ويريحنا، فقلت: أنا، فكتبت، وعرضت عليه، فأعجبه، واستكتبني، فلما توجه أسد الدين إلى مصر المرة الثالثة، صحبته.
قال الموفق: وكان فقهه على طريقة أسعد الميهني. ويوم تدريسه تسابق الفقهاء لسماع كلامه، وحسن نكته، وكان بطيء الكتابة، لكنه دائم العمل، وله توسع في اللغة لا النحو. توفي بعد ما قاس مهانات ابن شكر، وكان فريد عصره نظماً ونثراً، وقد رأيته في مجلس ابن شكر مزحوماً في أخريات الناس.
وقال زكي الدين المنذري: كان العماد جامعاً للفضائل: الفقه، والأدب، والشعر الجيد، وله اليد البيضاء في النثر والنظم. صنف تصانيف مفيدةً، وللسلطان الملك الناصر معه من الإغضاء والتجاوز والبسط وحسن الخلق ما يتعجب من وقوع مثله. توفي في أول رمضان سنة سبع وتسعين وخمس مئة، ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله.
أنبأني محفوظ ابن البزوري في تاريخه، قال: العماد إمام البلغاء، شمس الشعراء، وقطب رحى الفضلاء، أشرقت أشعة فضائله وأنارت، وأنجدت الركبان بأخباره وأغارت، هو في الفصاحة قس دهره، وفي البلاغة سحبان عصره، فاق الأنام طراً، نظماً ونثراً.
أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه، عن محمد بن محمد الكاتب، أخبرنا علي بن عبد السيد، أخبرنا أبو محمد الصريفيني، أخبرنا ابن حبابة، حدثنا البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن أبي ذبيان هو خليفة بن كعب قال: سمعت ابن الزبير يقول: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة.
ومن نظمه فيما أجاز لنا ابن سلامة عنه:

يا مالكاً رقّ قـلـبـي

 

أراك مـالـك رقّـه

ها مهجتي لك خذهـا

 

فإنّها مسـتـحـقّـه

فدتك نفسـي بـرفـقٍ

 

فما أُطيق المـشـقّة

ويا رشـيقـاً أتـانـي

 

من سهم عينيه رشقه

لصارم الجفن مـنـه

 

في مهجتي ألف مشقه

وخصره مثل معـنـىً

 

بلاغـيٍّ فـيه دقّـه

وله من قصيدة:

كالنجم حين هدا كالدّهـر حـين عـدا

 

كالصّبح حين بدا كالعضب حين بـرى

في الحكم طود علاً في الحلم بحر نهىً

 

في الجود غيث نداً في الباس ليث شرا

وله من أخرى:

وللناس بالملك الناصر الصّـلاح

 

صلاحٌ ونـصـرٌ كـبـــير

هو الشمس أفلاكه في الـبـلاد

 

ومطلعه سـرجـه والـسّـرير

إذا ما سطا أو حبـا واحـتـبـى

 

فما الليث ؟ من حاتمٌ ؟ ما ثبير ؟

وارتحل في موكب، فقال في القاضي الفاضل:

أمّا الـغـبـار فـإنّـه

 

ممّا أثارته السّـنـابـك

فالجوّ مـنـه مـظـلـمٌ

 

لكن تباشير السّنـا بـك

يا دهر لي عبد الرحـي

 

م فلست أخشى مسّ نابك

الدولعي

الشيخ الإمام العالم المفتي، خطيب دمشق، ضياء الدين، عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد التغلبي الأرقمي الموصلي الدولعي الشافعي.
ولد سنة سبع وخمس مئة.
سمع ببغداد من أبي الفتح عبد الملك الكروخي جامع أبي عيسى الترمذي، وسمع سنن النسائي من علي بن أحمد بن محمويه اليزدي. وتفقه ببغداد، وبرع، وسكن دمشق، وسمع بها من الفقيه فضل الله بن محمد المصيصي. وعمر دهراً.
حدث عنه: أبو الطاهر ابن الأنماطي، وأبو الحجاج بن خليل، والشهاب القوصي، والتقي بن أبي اليسر، وجماعة.
وبالإجازة أبو الغنائم بن علان وأبو العباس بن أبي الخير. ولي خطابة دمشق دهراً، ودرس بالغزالية، وكان متصوناً، حميد الطريقة.
مات في ثاني عشر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وخمس مئة، وله إحدى وتسعون سنةً.
والدولعية: من قرى الموصل.
وولي خطابة دمشق بعده ابن أخيه وتلميذه الإمام جمال الدين محمد بن أبي الفضل الدولعي، واقف المدرسة التي بجيرون، وبها دفن عام خمسة وثلاثين وست مئة.

السبط

الشيخ المسند المعمر، أبو القاسم، هبة الله بن الحسن بن أبي سعد المظفر بن الحسن الهمذاني الأصل البغدادي المراتبي.
ولد في حدود سنة عشر وخمس مئة.
وسمع من: أبيه أبي علي، وأبي نصر أحمد بن عبد الله بن رضوان، وأبي العز بن كادش، وأبي القاسم بن الحصين، وأبي بكر المزرفي، وأبي الحسين بن الفراء، وأبي غالب بن البناء، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وطائفة.
قال ابن الدبيثي: هو صحيح السماع، فيه تسامح في الأمور الدينية.
وقال ابن نقطة: كان غير مرضي السيرة في دينه.
قلت: حدث عنه: ابن الدبيثي، وابن النجار، وابن خليل، والشيخ الضياء اليلداني، والنجيب الحراني، وابن عبد الدائم، وعدة.
وبالإجازة: الفخر علي، وأحمد بن أبي الخير.
توفي في العشرين من المحرم سنة ثمان وتسعين وخمس مئة.
وقيل: كان مولده في رجب سنة ثلاث عشرة.
قال ابن النجار: كان فهماً ذكياً، حفظةً للنوادر، عمل مرةً شطرنجاً وزنه خروبتان، ورزة من عاج وأبنوس، ثم كبر وساء خلقه، وكان يتعاسر، ويسب أباه الذي سمعه، وفيه قلة دين، الله يسامحه.

الطاووسي

العلامة، ركن الدين، أبو الفضل، العراقي ابن محمد ابن العراقي القزوني الطاووسي، المتكلم، صاحب الطريقة المشهورة في الجدل.
كان رأساً في الخلاف والنظر، مفحماً للخصوم.
أخذ عن الرضي النيسابوري الحنفي صاحب الطريقة.
صنف ثلاث تعاليق، وبعد صيته، ورحلوا إليه.
مات سنة ست مئة بهمذان.
ومن تلامذته القاضي نجم الدين ابن راجح.

الحربي

الإمام الواعظ، المسند، الأديب، أبو علي عمر بن علي بن عمر الحربي، ابن النوام.
سمع هبة الله بن الحصين، والقاضي أبا الحسين بن أبي يعلى.
حدث عنه: ابن الدبيثي، وابن خليل، والضياء، وابن النجار، وابن عبد الدائم، وجماعة.
وبالإجازة: أحمد بن سلامة، والفخر علي.
مات في شوال سنة سبع وتسعين وخمس مئة، وولد سنة أربع عشرة وخمس مئة.

ابن الزينبي

الرئيس الصالح الخاشع، أبو الحسن، محمد ابن قاضي القضاة أبي القاسم علي ابن الإمام قاضي القضاة نور الهدى أبي طالب الزينبي.
سمع من قاضي المارستان، وأبي بكر محمد بن القاسم الشهرزوري.
قال ابن النجار: سمعنا منه، وكان صالحاً متديناً، صدوقاً، خاشعاً، افتقر في الآخر فقراً مدقعاً، فصبر، واحتسب، ولم يكن يعرف شيئاً من العلم.
مات في المحرم سنة ثمان وتسعين وخمس مئة.

الخشوعي

الشيخ العالم، المحدث، المعمر، مسند الشام، أبو طاهر بركات ابن إبراهيم بن طاهر بن بركات بن إبراهيم الدمشقي الخشوعي الأنماطي الرفاء الذهبي، نسبةً إلى محلة حجر الذهب.
ولد في صفر سنة عشر وخمس مئة.
وسمع من: هبة الله ابن الأكفاني، فأكثر، ومن عبد الكريم بن حمزة، وطاهر بن سهل، وابن قبيس المالكي، وابن طاووس، وجمال الإسلام أبي الحسن، وعدة.
أجاز له أبو علي الحداد من أصبهان، وأبو صادق المديني، والفراء من مصر، ومحمد بن بركات السعيدي، وأبو القاسم ابن الفحام، والرازي، وعدة.
وأجاز له الحريري صاحب المقامات في سنة اثنتي عشرة، وأبو طالب اليوسفي، وأبو علي ابن المهدي، وعدة.
وروى الكثير، وتفرد، وتكاثروا عليه. حدث عنه: أولاده: إبراهيم وعبد العزيز وعبد الله، وست العجم، وستهم، والشيخ الموفق، وعبد القادر الرهاوي، والبهاء عبد الرحمان، والضياء، واليلداني، وأحمد بن يوسف التلمساني، والزين ابن عبد الدائم، والشهاب القوصي، وحفيد الشيخ بركات بن إبراهيم، والخطيب داود بن عمر، وعبيد الله بن أحمد بن طعان وأخوه عبد الرحمان، وعلي بن المظفر النشبي وابنه محمد، والخطيب عماد الدين عبد الكريم ابن الحرستاني، وفرج الحبشي، وفراس ابن العسقلاني، والشيخ الفقيه محمد اليونيني، والتاج مظفر ابن الحنبلي وابن عمه يحيى ابن الناصح، ويوسف بن يعقوب الإربلي، ويوسف بن مكتوم الحبال، وأيوب بن أبي بكر الحمامي، وعلي بن عبد الواحد الأنصاري، والمجد محمد بن عساكر، والتقي ابن أبي اليسر، وعبد الوهاب بن محمد القنبيطي، والكمال عبد العزيز بن عبد، وخلق كثير.
وبالإجازة القطب بن عصرون، وأحمد بن أبي الخير، وأبو الغنائم بن علان، والفخر علي، وعدة.
قال القوصي: كان أعلاهم إسناداً مع تواضع وافر، ودين ظاهر، ومروءة تدل على أصل طاهر، لازمته إلى حين موته.
قال ابن نقطة: سماعاته وإجازاته صحيحة.
قلت: ما ظهرت له إجازة الحداد إلا بعد موته، وقد خبط القوصي، وزعم أنه سمع عليه بها جملةً.
وقال الحافظ المنذري في نسب الخشوعي: الفرشي يعني بالفاء، وقال: قال والده إبراهيم: كان جدنا الأعلى يؤم بالناس، فمات في المحراب، والفرشي: نسبة إلى بيع الفرش.
قلت: وقد ضبطه بالقاف ابن خليل والضياء، وترك جماعة هذه النسبة للخلف الواقع فيها.
وقد روى عدة من آبائه وأولاده.
مات في صفر سنة ثمان وتسعين وخمس مئة.
وقد روى كتباً كباراً بالسماع وبالإجازة.

ابن الزكي

قاضي دمشق، محيي الدين، أبو المعالي، محمد ابن القاضي علي ابن محمد بن يحيى بن الزكي القرشي الدمشقي الشافعي.
من بيت كبير، صاحب فنون وذكاء، وفقه وآداب وخطب ونظم.
ولي القضاء والده زكي الدين، وجده مجد الدين، وجد أبيه الزكي، وولي القضاء ولداه زكي الدين الطاهر، ومحيي الدين يحيى ابن محمد.
وكان صلاح الدين يعزه ويحترمه، ثم ولاه القضاء سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، وقد مدحه بقصيدة في سنة تسع وسبعين منها ذلك:

وفتحك القلعة الشّهباء في صفرٍ

 

مبشّراً بفتوح القدس في رجب

فاتفق فتح القدس في رجب بعد أربع سنين، وذكر أنه أخذ ذلك من تبشير ابن برجان في: "آلم غُلِبَت الرُّوم" الروم.
قال ابن خلكان: وجدته حاشية لا أصلاً.
توفي في شعبان سنة ثمان وتسعين وخمس مئة عن ثمان وأربعين سنةً.

ابن أبي المجد

الشيخ المعمر، الثقة، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد بن غنائم الحربي العتابي الإسكاف.
راوي مسند الإمام أحمد عن أبي القاسم بن الحصين، ويروي أيضاً عن أبي الحسين ابن الفراء.
حدث عنه: الضياء، وابن الدبيثي، وابن خليل، وشرف الدين عبد العزيز الأنصاري، وابن عبد الدائم، والنجيب عبد اللطيف، وعدد كثير من مشيخة الدمياطي.
حدث بالمسند غير مرة ببغداد، وبالموصل، وقد أجاز لسعد الدين الخضر بن حمويه، ولقطب الدين ابن عصرون، وللفخر ابن البخاري. واسم جده صاعد.
مات أبو محمد بالموصل في ثاني عشر المحرم سنة ثمان وتسعين وخمس مئة رحمه الله.
ومات أبوه أحمد بن صاعد في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة وله سبعون سنة، وهو أخو المقرئ عمر بن عبد الله الحربي لأمه، وقد سمعا من ابن طلحة النعالي، والمبارك بن الطيوري.
قال ابن النجار: وهم ابن السمعاني، فجعله أحمد بن عبد الله بن علي الحربي، وظنه أخاً لعمر من أبيه.
قال ابن النجار: روى لنا عنه ابن الأخضر، ومحمد بن محمد بن ياسين البزاز، وكان صالحاً ورعاً، حافظاً لكتاب الله، كثير البكاء، يؤم بالناس، ويغسل الموتى حسبةً، مكث على ذلك زماناً.

اللبان

القاضي العالم، مسند أصبهان، أبو المكارم، أحمد بن أبي عيسى محمد بن محمد ابن الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الرحمان بن محمد ابن المحدث عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبد السلام، التيمي الأصبهاني الشروطي، ابن اللبان.
ولد في صفر سنة سبع، وقال مرةً: سنة ست وخمس مئة.
وهو من تيم الله بن ثعلبة.
وقيل: بل ولد سنة أربع وخمس مئة، حكاه الحافظ الضياء. وهو مكثر عن أبي علي الحداد، وتفرد بإجازة عبد الغفار الشيرويي الراوي عن أصحاب الأصم.
حدث عنه: العز محمد، وأبو موسى ولد الحافظ عبد الغني، وإسماعيل بن ظفر، ويوسف بن خليل، وأبو رشيد الغزال، وعدة.
وبالإجازة أحمد بن سلامة، والفخر ابن البخاري، وطائفة.
مات في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمس مئة.

الكراني

الشيخ المعمر، الصدوق، مسند أصبهان، أبو عبد الله، محمد بن أبي زيد بن حمد بن أبي نصر الكراني الأصبهاني الخباز.
ولد سنة سبع وتسعين وأربع مئة، وعاش مئة عام.
سمع الحداد، ومحموداً الأشقر، وفاطمة الجوزدانية.
حدث عنه: بدل التبريزي، وأبو موسى ابن الحافظ، وابن خليل، وابن ظفر، وعدة.
وأجاز لابن أبي الخير، وابن البخاري.
مات في ثالث شوال سنة سبع.
وكران: محلة بأصبهان.

ابن الفرس

الشيخ الإمام، شيخ المالكية بغرناطة في زمانه، أبو محمد ابن الفرس، واسمه عبد المنعم ابن الإمام محمد بن عبد الرحيم بن أحمد الأنصاري الخزرجي.
سمع أباه وجده العلامة أبا القاسم، وبرع في الفقه والأصول، وشارك في الفضائل، وعاش بضعاً وسبعين سنة.
وسمع أبا الوليد بن بقوة، وأبا الوليد بن الدباغ، وتلا بالسبع على ابن هذيل، وأجاز له أبو عبد الله بن مكي، وأبو الحسن بن موهب. بلغ الغاية في الفقه.
قال أبو الربيع بن سالم: سمعت أبا بكر بن الجد وناهيك به يقول غير مرة: ما أعلم بالأندلس أحفظ لمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس بعد أبي عبد الله بن زرقون.
قال الأبار: ألف في أحكام القرآن كتاباً من أحسن ما وضع في ذلك. قيل: أصابه فالج وخدر غير حفظه قبل موته بعامين، فترك الأخذ عنه إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمس مئة.
قلت: حدث عنه: إسماعيل بن يحيى العطار، وعبد الغني بن محمد، وأبو الحسين يحيى بن عبد الله الداني الكاتب، والشرف المرسي؛ سمع منه الموطأ.

أبو الفرج ابن الجوزي

الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ الإسلام، مفخر العراق، جمال الدين، أبو الفرج عبد الرحمان بن علي بن محمد بن علي ابن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن الفقيه عبد الرحمان ابن الفقيه القاسم بن محمد ابن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق، القرشي التيمي البكري البغدادي، الحنبلي، الواعظ، صاحب التصانيف.
ولد سنة تسع أو عشر وخمس مئة.
وأول شيء سمع في سنة ست عشرة.
سمع من أبي القاسم بن الحصين، وأبي عبد الله الحسين بن محمد البارع، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وأحمد بن أحمد المتوكلي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، والفقيه أبي الحسن ابن الزاغوني، وهبة الله بن الطبر الحريري، وأبي غالب ابن البناء، وأبي بكر محمد بن الحسين المزرفي، وأبي غالب محمد بن الحسن الماوردي،، وأبي القاسم عبد الله ابن محمد الأصبهاني الخطيب، والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، وإسماعيل ابن السمرقندي، ويحيى ابن البناء، وعلي بن الموحد، وأبي منصور بن خيرون، وبدر الشيحي، وأبي سعد أحمد بن محمد الزوزني، وأبي سعد أحمد بن محمد البغدادي الحافظ، وعبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحافظ، وأبي السعود أحمد بن علي بن المجلي، وأبي منصور عبد الرحمان بن زريق القزاز، وأبي الوقت السجزي، وابن ناصر، وابن البطي، وطائفة مجموعهم نيف وثمانون شيخاً قد خرج عنهم مشيخة في جزءين.
ولم يرحل في الحديث، لكنه عنده مسند الإمام أحمد والطبقات لابن سعد، وتاريخ الخطيب، وأشياء عالية، والصحيحان، والسنن الأربعة، والحلية وعدة تواليف وأجزاء يخرج منها.
وكان آخر من حدث عن الدينوري والمتوكلي.
وانتفع في الحديث بملازمة ابن ناصر، وفي القرآن والأدب بسبط الخياط، وابن الجواليقي، وفي الفقه بطائفة.
حدث عنه: ولده الصاحب العلامة محيي الدين يوسف أستاذ دار المستعصم بالله، وولده الكبير علي الناسخ، وسبطه الواعظ شمس الدين يوسف بن قزغلي الحنفي صاحب مرآة الزمان، والحافظ عبد الغني، والشيخ موفق الدين ابن قدامة، وابن الدبيثي، وابن النجار، وابن خليل، والضياء، واليلداني، والنجيب الحراني، وابن عبد الدائم، وخلق سواهم. وبالإجازة الشيخ شمس الدين عبد الرحمان، وابن البخاري، وأحمد ابن أبي الخير، والخضر بن حمويه، والقطب ابن عصرون.
وكان رأساً في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهاً، ويسهب، ويعجب، ويطرب، ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله، فهو حامل لواء الوعظ، والقيم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحراً في التفسير، علامةً في السير والتاريخ، موصوفاً بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهاً، عليماً بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، وإكباب على الجمع والتصنيف، مع التصون والتجمل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفت أحداً صنف ما صنف.
توفي أبوه وله ثلاثة أعوام، فربته عمته. وأقاربه كانوا تجاراً في النحاس، فربما كتب اسمه في السماع عبد الرحمان بن علي الصفار.
ثم لما ترعرع، حملته عمته إلى ابن ناصر، فأسمعه الكثير، وأحب الوعظ، ولهج به، وهو مراهق، فوعظ الناس وهو صبي، ثم ما زال نافق السوق معظماً متغالياً فيه، مزدحماً عليه، مضروباً برونق وعظه المثل، كماله في ازدياد واشتهار، إلى أن مات رحمه الله وسامحه، فليته لم يخض في التأويل، ولا خالف إمامه.
صنف في التفسير المغني كبير، ثم اختصره في أربع مجلدات، وسماه: زاد المسير، وله تذكرة الأريب في اللغة مجلد، الوجوه والنظائر مجلد، فنون الأفنان مجلد، جامع المسانيد سبع مجلدات وما استوعب ولا كاد، الحدائق مجلدان، نقي النقل مجلدان، عيون الحكايات مجلدان، التحقيق في مسائل الخلاف مجلدان، مشكل الصحاح أربع مجلدات، الموضوعات مجلدان، الواهيات مجلدان. الضعفاء مجلد، تلقيح الفهوم مجلد، المنتظم في التاريخ عشرة مجلدات، المذهب في المذهب مجلد، الانتصار في الخلافيات مجلدان، مشهور المسائل مجلدان، اليواقيت وعظ، مجلد، نسيم السحر مجلد، المنتخب مجلد، المدهش مجلد، صفوة الصفوة أربع مجلدات، أخبار الأخيار مجلد، أخبار النساء مجلد، مثير العزم الساكن مجلد، المقعد المقيم مجلد، ذم الهوى مجلد، تلبيس إبليس مجلد، صيد الخاطر ثلاث مجلدات، الأذكياء مجلد، المغفلين مجلد، منافع الطب مجلد، صبا نجد مجلد، الظرفاء مجلد، الملهب مجلد، المطرب مجلد، منتهى المشتهى مجلد، فنون الألباب مجلد، المزعج مجلد، سلوة الأحزان مجلد، منهاج القاصدين مجلدان، الوفا بفضائل المصطفى مجلدان، مناقب أبي بكر مجلد، مناقب عمر مجلد، مناقب علي مجلد، مناقب إبراهيم بن أدهم مجلد، مناقب الفضيل مجلد، مناقب بشر الحافي مجلد، مناقب رابعة جزء، مناقب عمر بن عبد العزيز مجلد، مناقب سعيد بن المسيب جزءان، مناقب الحسن جزءان، مناقب الثوري مجلد، مناقب أحمد مجلد، مناقب الشافعي مجلد، موافق المرافق مجلد، مناقب غير واحد جزء جزء، مختصر فنون ابن عقيل في بضعة عشر مجلداً، مناقب الحبش مجلد، لباب زين القصص، فضل مقبرة أحمد، فضائل الأيام، أسباب البداية، واسطات العقود، شذور العقود في تاريخ العهود، الخواتيم، المجالس اليوسفية، كنوز العمر، إيقاظ الوسنان بأحوال النبات والحيوان، نسيم الروض، الثبات عند الممات، الموت وما بعده مجلد، ديوانه عدة مجلدات، مناقب معروف، العزلة، الرياضة، النصر على مصر، كان وكان في الوعظ خطب اللآلئ، الناسخ والمنسوخ، مواسم العمر، أعمار الأعيان وأشياء كثيرة تركتها، ولم أرها.
وكان ذا حظ عظيم وصيت بعيد في الوعظ، يحضر مجالسه الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء، لا يكاد المجلس ينقص عن ألوف كثيرة، حتى قيل في بعض مجالسه: إن حزر الجمع بمئة ألف. ولا ريب أن هذا ما وقع، ولو وقع، لما قدر أن يسمعهم، ولا المكان يسعهم.
قال سبطه أبو المظفر: سمعت جدي على المنبر يقول: بأصبعي هاتين كتبت ألفي مجلدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألفاً. وكان يختم في الأسبوع، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجمعة أو المجلس.
قلت: فما فعلت صلاة الجماعة ؟. ثم سرد سبطه تصانيفه، فذكر منها كتاب المختار في الأشعار عشر مجلدات، درة الإكليل في التاريخ، أربع مجلدات، الأمثال مجلد، المنفعة في المذاهب الأربعة مجلدان، التبصرة في الوعظ، ثلاث مجلدات، رؤوس القوارير مجلدان، ثم قال: ومجموع تصانيفه مئتان ونيف وخمسون كتاباً.
قلت: وكذا وجد بخطه قبل موته أن تواليفه بلغت مئتين وخمسين تأليفاً.
ومن غرر ألفاظه: عقارب المنايا تلسع، وخدران جسم الآمال يمنع، وماء الحياة في إناء العمر يرشح.
يا أمير: اذكر عند القدرة عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، ولا تشف غيظك بسقم دينك.
وقال لصديق: أنت في أوسع العذر من التأخر عني لثقتي بك، وفي أضيقه من شوقي إليك.
وقال له رجل: ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس قال: لأنك تريد الفرجة، وإنما ينبغي الليلة أن لا تنام.
وقام إليه رجل بغيض، فقال: يا سيدي: نريد كلمةً ننقلها عنك، أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال: اجلس، فجلس، ثم قام، فأعاد مقالته، فأقعده، ثم قام، فقال: اقعد، فأنت أفضل من كل أحد.
وسأله آخر أيام ظهور الشيعة، فقال: أفضلهما من كانت بنته تحته.
وهذه عبارة محتملة ترضي الفريقين.
وسأله آخر: أيما أفضل: أسبح أو أستغفر ؟ قال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.
وقال في حديث أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين: إنما طالت أعمار الأوائل لطول البادية فلما شارف الركب بلد الإقامة، قيل: حثوا المطي.
وقال: من قنع، طاب عيشه، ومن طمع، طال طيشه.
وقال يوماً في وعظه: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت، خفت منك، وإن سكت، خفت عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك، فقول الناصح: اتق الله خير من قول القائل: أنتم أهل بيت مغفور لكم.
وقال: يفتخر فرعون مصر بنهر ما أجراه، ما أجرأه !.
وهذا باب يطول، ففي كتبه النفائس من هذا وأمثاله.
وجعفر الذي هو جده التاسع: قال ابن دحية: جعفر هو الجوزي، نسب إلى فرضة من فرض البصرة يقال لها: جوزة. وقيل: كان في داره جوزة لم يكن بواسط جوزة سواها. وفرضة النهر ثلمته، وفرضة البحر محط السفن.
قال أبو المظفر: جدي قرأ القرآن، وتفقه على أبي بكر الدينوري الحنبلي، وابن الفراء.
قلت: وقرأ القرآن على سبط الخياط.
وعني بأمره شيخه ابن الزاغوني، وعلمه الوعظ، واشتغل بفنون العلوم، وأخذ اللغة عن أبي منصور ابن الجواليقي، وربما حضر مجلسه مئة ألف، وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة.
قال: وكان زاهداً في الدنيا، متقللاً منها، وكان يجلس بجامع القصر والرصافة وبباب بدر وغيرها. إلى أن قال: وما مازح أحداً قط، ولا لعب مع صبي، ولا أكل من جهة لا يتيقن حلها.
وقال أبو عبد الله ابن الدبيثي في تاريخه: شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك. وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلاماً، وأتمهم نظاماً، وأعذبهم لساناً، وأجودهم بياناً. تفقه على الدينوري، وقرأ الوعظ على أبي القاسم العلوي، وبورك له في عمره وعلمه، وحدث بمصنفاته مراراً، وأنشدني بواسط لنفسه:

يا ساكن الدّنيا تـأهّـب

 

وانتظر يوم الفـراق

وأعدّ زاداً للـرّحـيل

 

فسوف يحدى بالرّفاق

وابك الذّنوب بـأدمـعٍ

 

تنهلّ من سحب المآقي

يا من أضاع زمـانـه

 

أرضيت ما يفنى بباق

وسألته عن مولده غير مرة، ويقول: يكون تقريباً في سنة عشر، وسألت أخاه عمر، فقال: في سنة ثمان وخمس مئة تقريباً. ومن تواليفه التيسير في التفسير مجلد، فنون الأفنان في علوم القرآن مجلد، ورد الأغصان في معاني القرآن مجلد، النبعة في القراءات السبعة مجلد، الإشارة في القراءات المختارة جزء، تذكرة المنتبه في عيون المشتبه، الصلف في المؤتلف والمختلف مجلدان، الخطأ والصواب من أحاديث الشهاب مجلد، الفوائد المنتقاة ستة وخمسون جزءاً، أسود الغابة في معرفة الصحابة، النقاب في الألقاب مجيليد، المحتسب في النسب مجلد، المدبج مجلد، المسلسلات مجيليد، أخاير الذخاير مجلد، المجتنى مجلد، آفة المحدثين جزء، المقلق مجلد، سلوة المحزون في التاريخ مجلدان، المجد العضدي مجلد، الفاخر في أيام الناصر مجلد، المضيء بفضل المستضيء مجيليد، الأعاصر في ذكر الإمام الناصر مجلد، الفجر النوري مجلد، المجد الصلاحي مجلد، فضائل العرب مجلد، كف التشبيه بأكف أهل التنزيه مجيليد، البدايع الدالة على وجود الصانع مجيليد، منتقد المعتقد جزء، شرف الإسلام جزء، مسبوك الذهب في الفقه مجلد، البلغة في الفقه مجلد، التلخيص في الفقه مجلد، الباز الأشهب مجلد، لقطة العجلان مجلد، الضيا في الرد على إلكيا مجلد، الجدل ثلاثة أجزاء، درء الضيم في صوم يوم الغيم جزء، المناسك جزء، تحريم الدبر جزء، تحريم المتعة جزء، العدة في أصول الفقه جزء، الفرائض جزء، قيام الليل ثلاثة أجزاء، مناجزة العمر جزء، الستر الرفيع جزء، ذم الحسد جزء، ذم المسكر جزء، ذكر القصاص مجلد، الحفاظ مجلد، الآثار العلوية مجلد، السهم المصيب جزآن، حال الحلاج جزآن، عطف الأمراء على العلماء جزآن، فتوح الفتوح جزآن، إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء جزآن، الحث على العلم مجلد، المستدرك على ابن عقيل جزء، لفتة الكبد جزء، الحث على طلب الولد جزء، لقط المنافع في الطب مجلدان، طب الشيوخ جزء، المرتجل في الوعظ مجلد، اللطائف مجلد، التحفة مجلد، المقامات مجلد، شاهد ومشهود مجلد، الأرج مجلد، مغاني المعاني مجيليد، لقط الجمان جزآن، زواهر الجواهر مجيليد، المجالس البدرية مجيليد، يواقيت الخطب جزآن، لآلئ الخطب جزآن، خطب الجمع ثلاثة أجزاء، المواعظ السلجوقية، اللؤلؤة، الياقوتة، تصديقات رمضان، التعازي الملوكية، روح الروح، كنوز الرموز. وقيل: نيفت تصانيفه على الثلاث مئة.
ومن كلامه: ما اجتمع لامرئ أمله، إلا وسعى في تفريطه أجله.
وقال عن واعظ: احذروا جاهل الأطباء، فربما سمى سماً، ولم يعرف المسمى.
وكان في المجلس رجل يحسن كلامه، ويزهزه له، فسكت يوماً، فالتفت إليه أبو الفرج، وقال: هارون لفظك معين لموسى نطقي، فأرسله معي ردءاً.
وقال يوماً: أهل الكلام يقولون: ما في السماء رب، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم.
وحضر مجلسه بعض المخالفين، فأنشد على المنبر:

ما للهوى العذريّ في ديارنا

 

أين العذيب من قصور بابل

وقال وقد تواجد رجل في المجلس : واعجباً، كلنا في إنشاد الضالة سواء، فلم وجدت أنت وحدك:

قد كتمت الحبّ حتّى شفّني

 

وإذا ما كتم الداء قـتـل

بين عينيك علالات الكرى

 

فدع النّوم لربّات الحجـل

وقد سقت من أخبار الشيخ أبي الفرج كراسةً في تاريخ الإسلام. وقد نالته محنة في أواخر عمره، ووشعوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته، فجاء من شتمه، وأهانه، وأخذه قبضاً باليد، وختم على داره، وشتت عياله، ثم أقعد في سفينة إلى مدينة واسط، فحبس بها في بيت حرج، وبقي هو يغسل ثوبه، ويطبخ الشيء، فبقي على ذلك خمس سنين ما دخل فيها حماماً. قام عليه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، وكان ابن الجوزي لا ينصف الشيخ عبد القادر، ويغض من قدره، فأبغضه أولاده، ووزر صاحبهم ابن القصاب، وقد كان الركن رديء المعتقد، متفلسفاً، فأحرقت كتبه بإشارة ابن الجوزي، وأخذت مدرستهم، فأعطيت لابن الجوزي، فانسم الركن، وقد كان ابن القصاب الوزير يترفض، فأتاه الركن، وقال: أين أنت عن ابن الجوزي الناصبي ؟، وهو أيضاً من أولاد أبي بكر، فصرف الركن في الشيخ، فجاء، وأهانه، وأخذه معه في مركب، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، وقد كان ناظر واسط، شيعياً أيضاً، فقال له الركن: مكني من هذا الفاعل لأرميه في مطمورة، فزجره، وقال: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك ؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي، لبذلت روحي في خدمته، فرد الركن إلى بغداد. وكان السبب في خلاص الشيخ أن ولده يوسف نشأ واشتغل، وعمل في هذه المدة الوعظ وهو صبي، وتوصل حتى شفعت أم الخليفة، وأطلقت الشيخ، وأتى إليه ابنه يوسف، فخرج، وما رد من واسط حتى قرأ هو وابنه بتلقينه بالعشر على ابن الباقلاني، وسن الشيخ نحو الثمانين، فانظر إلى هذه الهمة العالية.
نقل هذا الحافظ ابن نقطة عن القاضي محمد بن أحمد بن حسن.
قال الموفق عبد اللطيف في تأليف له: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مئة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئاً، يكتب في اليوم أربع كراريس، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي، فله فيه ملكة قوية، وله في الطب كتاب اللقط مجلدان.
قال: وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوةً، وذهنه حدةً. جل غذائه الفراريج والمزاوير، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات، ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب، وله ذهن وقاد، وجواب حاضر، ومجون ومداعبة حلوة، ولا ينفك من جارية حسناء، قرأت بخط محمد بن عبد الجليل الموقاني أن ابن الجوزي شرب البلاذر، فسقطت لحيته، فكانت قصيرةً جداً، وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات.
قال: وكان كثير الغلط فيما يصنفه، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره.
قلت: هكذا هو له أوهام وألوان من ترك المراجعة، وأخذ العلم من صحف، وصنف شيئاً لو عاش عمراً ثانياً، لما لحق أن يحرره ويتقنه.
قال سبطه: جلس جدي تحت تربة أم الخليفة عند معروف الكرخي، وكنت حاضراً، فأنشد أبياتاً، قطع عليها المجلس وهي:

اللّه أسـأل أن يطـوّل مـدّتـي

 

لأنال بالإنعام مـا فـي نـيّتـي

لي همّةٌ في العلم ما إن مثلـهـا

 

وهي التي جنت النّحول هي التي

خلقت من العلق العظيم إلى المنى

 

دعيت إلى نيل الكمال فـلـبّـت

كم كان لي من مجلسٍ لو شبّهـت

 

حالاته لتشـبّـهـت بـالـجـنّة

أشتاقه لـمّـا مـضـت أيّامـه

 

عطلاً وتعذر نـاقةٌ إن حـنّـت

يا هل لليلاتٍ بـجـمـعٍ عـودةٌ

 

أم هل على وادي منىً من نظرة

قد كان أحلى من تصاريف الصّبا

 

ومن الحمام مغنّـياً فـي الأيكة

فيه البديهات التي مـا نـالـهـا

 

خلقٌ بغير مخـمّـر ومـبـيّت

في أبيات.
ونزل، فمرض خمسة أيام، وتوفي ليلة الجمعة بين العشاءين الثالث عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وخمس مئة في داره بقطفتا. وحكت لي أمي أنها سمعته يقول قبل موته: أيش أعمل بطواويس ؟ يرددها، قد جبتم لي هذه الطواويس. وحضر غسله شيخنا ابن سكينة وقت السحر، وغلقت الأسواق، وجاء الخلق، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي اتفاقاً، لأن الأعيان لم يقدروا من الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه، وضاق بالناس، وكان يوماً مشهوداً، فلم يصل إلى حفرته بمقبرة أحمد إلى وقت صلاة الجمعة، وكان في تموز، وأفطر خلق، ورموا نفوسهم في الماء. إلى أن قال: وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا قليل، كذا قال، والعهدة عليه، وأنزل في الحفرة، والمؤذن يقول الله أكبر، وحزن عليه الخلق، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات، بالشمع والقناديل، ورآه في تلك الليلة المحدث أحمد بن سلمان السكر في النوم، وهو على منبر من ياقوت، وهو جالس في مقعد صدق والملائكة بين يديه. وأصبحنا يوم السبت عملنا العزاء، وتكلمت فيه، وحضر خلق عظيم، وعملت فيه المراثي، ومن العجائب أنا كنا بعد انقضاء العزاء يوم السبت عند قبره، وإذا بخالي محيي الدين قد صعد من الشط، وخلفه تابوت، فقلنا: نرى من مات، وإذا بها خاتون أم محيي الدين، وعهدي بها ليلة وفاة جدي في عافية، فعد الناس هذا من كراماته، لأنه كان مغرىً بها. وأوصى جده أن يكتب على قبره:

يا كثير العفو عـمّـن

 

كثر الـذّنـب لـديه

جاءك المذنب يرجو ال

 

صّفح عن جـرم يديه

أنا ضيفٌ وجـزاء ال

 

ضّيف إحسـانٌ إلـيه

أخبرنا عبد الحافظ بن بدران، أخبرنا الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد، حدثنا أبو الفرج عبد الرحمان بن علي، أخبرنا يحيى بن ثابت، أخبرنا أبي، حدثنا أبو بكر البرقاني، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، أخبرنا ابن عبد الكريم الوزان، حدثنا الحسن بن علي الأزدي، حدثنا علي بن المديني، حدثني أحمد بن حنبل، حدثنا علي بن عياش الحمصي، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له الشفاعة وأنبأناه عالياً بدرجات عبد الرحمان بن محمد، أخبرنا عمر بن طبرزد، أخبرنا هبة الله بن الحصين، أخبرنا محمد بن محمد، أخبرنا أبو بكر الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا علي بن عياش مثله، لكن زاد فيه: إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة فكأن شيخي سمعه من أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الفقيه.
وكتب إلي أبو بكر بن طرخان، أخبرنا الإمام موفق الدين، قال: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنةً، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس، وكان حافظاً للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها، وكانت العامة يعظمونه، وكانت تنفلت منه في بعض الأوقات كلمات تنكر عليه في السنة، فيستفتى عليه فيها، ويضيق صدره من أجلها.
وقال الحافظ سيف الدين ابن المجد: هو كثير الوهم جداً، فإن في مشيخته مع صغرها أوهاماً: قال في حديث: أخرجه البخاري، عن محمد ابن المثنى، عن الفضل بن هشام، عن الأعمش، وإنما هو عن الفضل بن مساور، عن أبي عوانة، عن الأعمش. وقال في آخر: أخرجه البخاري، عن عبد الله بن منير، عن عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار، وبينهما أبو النضر، فأسقطه. وقال في حديث: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الأثرم، وإنما هو محمد بن أحمد. وقال في آخر: أخرجه البخاري عن الأويسي، عن إبراهيم، عن الزهري، وإنما هو عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري. وقال في آخر: حدثنا قتيبة، حدثنا خالد بن إسماعيل، وإنما هو حدثنا حاتم. وفي آخر: حدثنا أبو الفتح محمد بن علي العشاري، وإنما هو أبو طالب. وقال: حميد بن هلال، عن عفان بن كاهل، وإنما هو هصان بن كاهل. وقال: أخرجه البخاري، عن أحمد ابن أبي إياس، وإنما هو آدم. وفي وفاة يحيى بن ثابت، وابن خضير، وابن المقرب ذكر ما خولف فيه.
قلت: هذه عيوب وحشة في جزئين.
قال السيف: سمعت ابن نقطة يقول: قيل لابن الأخضر: ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي ؟ قال: إنما يتتبع على من قل غلطه، فأما هذا، فأوهامه كثيرة.
ثم قال السيف: ما رأيت أحداً يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضياً عنه.
قلت: إذا رضي الله عنه، فلا اعتبار بهم. قال: وقال جدي: كان أبو المظفر ابن حمدي ينكر على أبي الفرج كثيراً كلمات يخالف فيها السنة.
قال السيف: وعاتبه أبو الفتح ابن المني في أشياء، ولما بان تخليطه أخيراً، رجع عنه أعيان أصحابنا وأصحابه.
وكان أبو إسحاق العلثي يكاتبه، وينكر عليه.
أنبأني أبو معتوق محفوظ بن معتوق ابن البزوري في تاريخه في ترجمة ابن الجوزي يقول: فأصبح في مذهبه إماماً يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه، درس بمدرسة ابن الشمحل، وبمدرسة الجهة بنفشا، وبمدرسة الشيخ عبد القادر، وبنى لنفسه مدرسةً بدرب دينار، ووقف عليها كتبه، برع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء مصره، وعلا على فضلاء عصره، تصانيفه تزيد على ثلاث مئة وأربعين مصنفاً ما بين عشرين مجلداً إلى كراس، وما أظن الزمان يسمح بمثله، وله كتاب المنتظم، وكتابنا ذيل عليه.
قال سبطه أبو المظفر: خلف من الولد علياً، وهو الذي أخذ مصنفات والده، وباعها بيع العبيد، ولمن يزيد، ولما أحدر والده إلى واسط، تحيل على الكتب بالليل، وأخذ منها ما أراد، وباعها ولا بثمن المداد، وكان أبوه قد هجره منذ سنين، فلما امتحن، صار ألباً عليه. وخلف يوسف محيي الدين، فولي حسبة بغداد في سنة أربع وست مئة، وترسل عن الخلفاء إلى أن ولي في سنة أربعين أستاذ دارية الخلافة. وكان لجدي ولد أكبر أولاده اسمه عبد العزيز، سمعه من الأرموي وابن ناصر، ثم سافر إلى الموصل، فوعظ بها، وبها مات شاباً، وكان له بنات: رابعة أمي، وشرف النساء، وزينب، وجوهرة، وست العلماء الصغيرة.

لؤلؤ العادلي

الحاجب من أبطال الإسلام، وهو كان المندوب لحرب فرنج الكرك الذين ساروا لأخذ طيبة، أو فرنج سواهم ساروا في البحر المالح، فلم يسر لؤلؤ إلا ومعه قيود بعددهم، فأدركهم عند الفحلتين، فأحاط بهم، فسلموا نفوسهم، فقيدهم، وكانوا أكثر من ثلاث مئة مقاتل، وأقبل بهم إلى القاهرة، فكان يوماً مشهوداً.
وكان شيخاً أرمنياً من غلمان العاضد، فخدم مع صلاح الدين، وعرف بالشجاعة والإقدام، وفي آخر أيامه أقبل على الخير والإنفاق في زمن قحط مصر، وكان يتصدق في كل يوم باثني عشر ألف رغيف مع عدة قدور من الطعام. وقيل: إن الملاعين التجؤوا منه إلى جبل، فترجل، وصعد إليهم في تسعة أجناد، فألقي في قلوبهم الرعب، وطلبوا منه الأمان، وقتلوا بمصر، تولى قتلهم العلماء والصالحون.
توفي لؤلؤ رحمه الله بمصر في صفر سنة ثمان وتسعين وخمس مئة.