عبد الحق

ابن خلف بن عبد الحق، الفقيه ضياء الدين أبو محمد الدمشقي لصالحي الحنبلي المغسل إمام مسجد الأرزة، الذي بطريق الصالحية.
ولد سنة سبع وأربعين تقريباً.
وسمع من أبي الفهم بن أبي العجائز، وأبي الغنائم بن صصرى، وأحمد بن أبي الوفاء، وأبي المعالي بن صابر، وعدة. وله مشيخة.
روى عنه حفيده العدل عز الدين عبد العزيز بن محمد، وسبطه القاضي كمال الدين علي بن أحمد الحنفي، والبرزالي، والضياء، وأبو علي ابن الخلال، والنجم ابن الخباز، والعز أحمد بن العماد، وبالحضور القاضي تقي الدين.
قال الضياء: دين خير.
وقال المنذري: مشهور بالصلاح والخير، عجز وانقطع.
توفي في شعبان سنة إحدى وأربعين وست مئة.

ابن الحبير

العلامة المفتي أبو بكر محمد بن يحيى بن مظفر بن علي بن نعيم البغدادي الشافعي القاضي، عرف بابن الحبير.
ولد سنة تسع وخمسين.
وسمع من عبد الله بن عبد الصمد السلمي، وشهدة الكاتبة، ومحمد ابن نسيم، وأبي الفتح بن المني، وتفقه به، ثم تحول شافعياً، ولزم المجير البغدادي، وتأدب على أبي الحسن ابن العصار.
حدثنا عنه تاج الدين الغرافي، وكان بصيراً بالمذهب ودقائقه، ديناً عابداً، كثير التلاوة والحج والتهجد، وله باع مديد في المناظرة، وناب في القضاء عن ابن فضلان، ثم درس بالنظامية، في سنة ست وعشرين وست مئة.
مات في شوال سنة تسع وثلاثين وست مئة.

ابن الناقد

الوزير المعظم نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد بن علي البغدادي.
قرأ النحو وتعانى الكتابة، وتنقل وكان أخا الخليفة الظاهر من الرضاع. تولى أستاذدارية الخلافة، ثم وزر سنة يسع وعشرين وست مئة، وكان في مبدئه كثير التعبد والتلاوة، وتعلل بألم المفاصل، فعجز عن الحركة، فاستناب من يعلم عنه، وحضر يوم بيعة المستعصم في محفة وجلس لأخذ البيعة، وبقي عالي الرتبة إلى أن مات في سنة اثنتين وأربعين وست مئة.

الرفيع

العلامة الأصولي الفيلسوف رفيع الدين قاضي القضاة أبو حامد عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل الجيلي الشافعي.
كان قد أمعن في علم الأوائل، وأظلم قلبه وقالبه، وقدم دمشق وتصدر، ثم ولي قضاء بعلبك للصالح إسماعيل، فنفق عليه وعلى وزيره الأمين المسلماني، ولما غلب إسماعيل على دمشق ولاه قضاءها، فكان مذموم السيرة، خبيث السريرة، وواطأه أمين الدولة على أذية الناس، واستعمل شهود زور ووكلاء، فكان يطلب ذو المال إلى مجلسه فيبث مدع عليه بألف دينار ويحضر شهوده، فيتحير الرجل ويبهت، فيقول الرفيع: صالح غريمك، فيصالح على النصف، فاستبيحت أموال المسلمين، وعظم الخطب، وتعثر خلق، وعظمت الشناعات، واستغاثوا إلى الصالح، فطلب وزيره، وقال: ما هذا؟ فخاف، وكان إسماعيل البلاء الموفق الواسطي فتح أبواب الظلم، فبادر الوزير وأهلكهما لئلا يقرا عليه وليرضي الناس ويقال: كان الصالح يدري أيضاً.
ذكر الصدر عبد الملك بن عساكر في جريدته أن القاضي الرفيع دخل من توجهه إلى بغداد رسولاً، فركب لتلقيه الوزير أمين الدولة، والمنصور ولد السلطان، فدخل في زخم عظيم، وعليه خلعة سوداء وعلى جميع أصحابه، فقيل: ما دخل بغداد ولا أخذت منه الرسالة، فزد واشترى الخلع لأصحابه من عند، قال: وشرع الصالح في مصادرة الناس على يد الرفيع، وكتب إلى نوابه في القضاء يطلب منهم إحضار ما تحت أيديهم من أموال اليتامى، وكان يسلك طريق الولاة، ويحكم بالرشوة، ويأخذ من الخصمين، ولا يعدل أحداً إلا بمال، ويأخذ جهراً، واستعار أربعين طبقاً ليهدي فيها إلى صاحب حمص فلم يردها وغارت المياه في أيامه، ويبست الشجر وصقعت، وبطلت الطواحين، ومات عجمي خلف مئة ألف فما أعطى بنته فلساً، وأذن للنساء في عبور جامع دمشق، وقال: ما هو بأعظم من الحرمين فامتلأ بالرجال والنساء ليلة النصف.
وقال سبط الجوزي: حدثني جماعة أعيان أن الرفيع كان فاسد العقيدة دهرياً يجيء إلى الجمعة سكراناً وأن داره مثل الحانة.
وحكى لي جماعة أن الوزير السامري بعث به في الليل على بغل بأكاف إلى قلعة بعلبك ونفذ به إلى مغارة أفقه فأهلكه بها، وترك أياماً بلا أكل، وأشهد على نفسه ببيع أملاكه للسامري، وأنه لما عاين الموت قال: دعوني أصلي، فصلى فرفسه داود من رأس شقيف فما وصل حتى تقطع، وقيل: بل تعلق ذيله بسن الجبل، فضربوه بالحجارة حتى مات.
وقال رئيس النيرب: سلم الرفيع إلى وإلى سيف النقمة داود، فوصلنا به إلى شقيف فيه عين ماء فقال: دعوني أغتسل، فاغتسل وصلى ودعا فدفعه داود فما وصل إلا وقد تلف، وذلك في أول سنة اثنتين وأربعين وست مئة.

ابن سلامة

رئيس البلد نجم الدين الحسن بن سالم بن سلام الكاتب. سمع يحيى الثقفي ، وابن صدقة، وجماعة.
وعنه ابن الخلال، وشرف الدين الفزاري، ومحمد ابن خطيب بيت الأبار، وآخرون.
وكان ذا أموال وحشمة.
توفي سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وهو في عشر الثمانين، وتبعه ولده، وكان كثير البر بالحنابلة.

الكردري

العلامة فقيه المشرق شمس الأئمة أبو الوحدة محمد بن عبد الستار ابن محمد العمادي الكردري الحنفي البراتقيني، وبراتقين: من أعمال كردر، وكردر: ناحية كبيرة من بلاد خوارزم. أنبأني بترجمته أبو العلاء الفرضي، فقال: هو أستاذ الأئمة على الإطلاق، والموفود عليه من الآفاق، قرأ بخوارزم على برهان الدين ناصر بن عبد السيد المطرزي، مؤلف شرح المقامات، وتفقه بسمرقند على شيخ الإسلام بران الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني وسمع منه، وتفقه ببخارى على العلامة بدر الدين عمر بن عبد الكريم الورسكي، وأبي المحاسن حسن بن منصور قاضي خان، وجماعة. وبرع في المذهب وأصوله، وتفقه على خلق، ورحلوا غليه إلى بخارى، منهم: ابن أخيه العلامة محمد بن محمود الفقيهي، والشيخ سيف الدين الباخرزي، والعلامة حافظ الدين محمد بن محمد بن نصر البخاري، وظهير الدين محمد بن عمر النوجاباذي، وطائفة، سماهم الفرضي، ثم قال: ولد سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وتوفي ببخارى في محرم سنة اثنتين وأربعين وست مئة، ودفن عند الإمام عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي.
وفيها توفي المولى تاج الدين أحمد ابن القاضي أبي نصر ابن الشيرازي في رمضان، والوزير الكبير نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد بن علي ابن الناقد البغدادي، ونجم الدين الحسن بن سالم بن سلام الدمشقي الكاتب، والد المحدث الذكي محمد، وأبو طالب خاطب بن عبد الكريم الحارثي المزي، والمقرئ سليمان بن عبد الكريم الأنصاري، والد شيختنا فاطمة، وأبو المنصور ظافر بن طاهر المطرز ابن شحم بالإسكندرية، وشيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله بن عمر بن علي بن حمويه الجويني ثم الدمشقي، والمغيث جلال الدين عمر ابن السلطان نجم الدين أيوب ابن الكامل، والحافظ أبو القاسم بن محمد بن أحمد ابن الطيلسان الأنصاري القرطبي، وأبو الضوء قمر بن هلال بن بطاح القطيعي البقال، والنفيس أبو البركات محمد بن الحسين بن رواحة الحموي الضرير، والأديب مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن علي ابن القامغار الحلي الشاعر بمصر في عشر المئة، وصاحب حماة المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر الأيوبي، والنجيب ناصر بن منصور العرضي، وجمال الدين يوسف ابن المخيلي.

ابن الطيلسان

الحافظ المفيد محدث الأندلس أبو القاسم القاسم بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.
ولد سنة خمس وسبعين وخمس مئة تقريباً.
وروى عن جده لأمه أبي القاسم ابن الشراط، وأبي العباس بن مقدام، وعبد الحق الخزرجي، وأبي الحكم بن حجاج، وخلق، وصنف الكتب وكان بصيراً بالقراءات والعربية أيضاً. ولي خطابة مالقة بعد ذهاب قرطبة وأقرأ بها، وحدث.
توفي سنة اثنتين وأربعين وست مئة.
كتب إلي ابن هارون أنه سمع من ابن الطيلسان كتاب الوعد في العوالي.

ابن العجمي

من بيت علم وسيادة بحلب العلامة كمال الدين أبو هاشم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن الشافعي.
تفقه بطاهر بن جهبل، وسمع من يحيى الثقفي وغيره.
يقال: ألقى المهذب دروساً خمساً وعشرين مرة.
وكان ذا وسواس في المياه.
روى عنه عباس بن بزوان، وغيره.
مات في رجب سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وله خمس وثمانون سنة.
ومن وسواسه أنه نزل في قدره حمام فضاق نفسه ثم مات!

ابن شحم

أبو المنصور ظافر بن طاهر بن ظافر بن إسماعيل الإسكندراني المالكي، عرف بابن شحم المطرز.
عاش ثمانياً وثمانين سنة.
سمع من السلفي وابن عوف.
روى عنه الدمياطي، والغرافي، وجماعة.
مات في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وست مئة.

ابن المخيلي

الشيخ الجليل الصدر الإمام الفقيه جمال الدين أبو الفضل يوسف بن عبد المعطي بن منصور بن نجا بن منصور الغساني الإسكندراني ابن المخيلي المالكي، من كبراء أهل الثغر، ومخيل: من بلاد برقة.
ولد سنة ثمان وستين.
وسمع من الحافظ السلفي، وأبي الطاهر بن عوف، وأبي الطيب بن الخلوف.
حدثنا عنه الضياء السبتي، والدمياطي، والأبرقوهي، ومحمد بن أبي القاسم الصقلي، وأبو الحسن علي بن المنير، والمفسر أبو عبد الله ابن النقيب وغيرهم.
قال ابن الحاجب: قال لي: إنه دخل دمشق.
قلت: توفي في سابع جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وست مئة. قرأ على محمد بن سليمان المفسر وعبد المؤمن بن خلف الحافظ، قالا: أخبرنا يوسف بن عبد المعطي، أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني، أخبرنا نصر بن أحمد، أخبرنا عمر بن أحمد العكبري، أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر الطائي، حدثنا أبو جدي علي بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن علي، قال: أحب الكلام إلى الله عز وجل أن يقول العبد وهو ساجد: رب إني ظلمت، ربي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

ابن المجد

الإمام العالم الحافظ المتقن القدوة الصالح سيف الدين أبو العباس أحمد ابن المحدث الفقيه مجد الدين عيسى ابن الإمام العلامة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المقدسي الصالحي الحنبلي.
ولد سنة خمس وست مئة.
وسمع أبا اليمن الكندي، وابن الحرستاني، وابن ملاعب، وجده، وجماعة وتخرج بخاله الحافظ ضياء الدين، وارتحل، وله ثماني عشرة سنة، فسمع من الفتح بن عبد السلام، وعلي بن بوزندار، وأبي علي ابن الجواليقي وطبقتهم، ثم ارتحل إلى بغداد أيضاً سنة ست وعشرين، وكتب الكثير، وجمع، وصنف، وبرع في الحديث.
وكان ثقة ثبتاً، ذكياً، سلفياً، تقياً، ذا ورعٍ وتقوى، ومحاسن جمة، وتبعدٍ وتألف، ومروءة تامة، وقول بالحق، ونهي عن المنكر، ولو عاش لساد في العلم والعمل فرحمه الله تعالى. وكتب لنفسه وبالأجرة وأفاد الطلبة.
روى عنه أبو بكر أحمد بن محمد الدشتي وغيره، وعاش ثمانياً وثلاثين سنة.
توفي في أول شعبان سنة ثلاث وأربعين وست مئة، ودفن عند آبائه، وله مصنف في السماع.
أخبرنا أحمد بن محمد المعلم، أخبرنا أحمد بن عيس الحافظ، أخبرنا محمد بن أبي المعالي الصوفي وغيره، قالوا: أخبرنا أبو بكر ابن الزاغوني، أخبرنا أبو القاسم ابن البسري، حدثنا أبو طاهر الذهبي، حدثنا البغوي، حدثنا أبو نصر التمار والعيشي، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" غريب تفرد به حماد. أخرجه مسلم عن القعنبي عنه، ويرويه حماد أيضاً عن خاله حميد الطويل عن أنس.

ابن المقير

الشيخ المسند الصالح رحلة الوقت أبو الحسن علي بن أبي عبيد الله الحسين بن علي بن منصور ابن المقير البغدادي الأزجي المقرئ الحنبلي النجار نزيل مصر.
ولد ليلة الفطر سنة خمس وأربعين وخمس مئة.
وأجاز له نصر بن نصر العكبري، وأبو بكر ابن الزاغوني، والحافظ ابن ناصر، وسعيد ابن البناء، وأبو الكرم ابن الشهرزوري، وأبو جعفر العباس، وعدة. وقد كان يمكنه السماع منهم.
ثم سمع بنفسه من معمر بن الفاخر، وشهدة الكاتبة، وعبد الحق بن يوسف، وأحمد بن الناعم، وعيس بن أحمد الدوشابي، وأبي علي بن شيرويه، وبدمشق من ابن صدقة الحراني.
وحدث ببغداد، ثم قدم دمشق في سنة اثنتين وثلاثين، فحدث، وأقام بها نحواً من سنتين، ثم حج، وحدث بخيبر، وبالحرم، وجاور، ثم سار إلى مصر، وروى بها الكثير.
قال الحافظ تقي الدين الحسيني: كان من عباد الله الصالحين، كثير التلاوة مشتغلاً بنفسه، مات في نصف ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
قلت: حدث عنه أئمة وحفاظ؛ وحدثني عنه الدمياطي، والسبتي، وأبو علي ابن الخلال، والجلال عبد المنعم القاضي، وزينب بنت القاضي محيي الدين، ومحمد بن يوسف الذهبي، ومحمد بن عبد الكريم المنذري، وعيسى المغازي، ومحمد بن يوسف الحنبلي، ومحمد بن مكرم الكاتب، ومحمد بن مظفر المالكي، والحافظ أبو الحسين ابن الفقيه، وشهاب بن علي، وصليح الصوابي، وبيبرس القيمري، وعبد الله بن عمر الجميزي، ومحمد بن مشرف، والبهاء ابن عساكر، وخلق، وآخر من روى عنه بالسماع يونس العسقلاني.

الغزال

حمزة بن عمر بن عتيق بن أوس، الفقيه العالم أبو القاسم الأنصاري الإسكندراني المالكي الغزال الدلال، وكان له حانوت بقيسارية الغزل بالثغر.
حدث عن السلفي.
روى عنه ابن الحلوانية، وأبو حامد ابن الصابوني، وأبو محمد الدمياطي، والضياء السبتين، وآخرون.
توفي في ثالث ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وست مئة. وفيها توفي الصريفيني المحدث، وأعز بن كرم البزاز، وعبد الحق ابن خلف الحنبلي، والمخلص عبد الواحد بن هلال، وابن القبيطي، والوفاء عبد الملك بن الحنبلي، وعلي بن زيد التسارسي، وعلي بن أبي الفخار، وقيصر بن فيروز البواب، وكريمة الزبيرية، وكريمة بنت عبد الحق القضاعية بمصر، وكريمة بنت المحدث عبد الرحمن بن نسيم الدمشقية، وابن محارب القيسي، ومحاسن الجوبري، ويونس السقباني.

السخاوي

الشيخ الإمام العلامة شيخ القراء والأدباء علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عطاس الهمداني، المصري، السخاوي، الشافعي، نزيل دمشق.
ولد سنة ثمان وخمسين، أو سنة تسع.
وقد الثغر في سنة اثنتين وسبعين، وسمع من أبي طاهر السلفي، ومن أبي الطاهر بن عوف، وبمصر من أبي الجيوش عساكر بن علي، وأبي القاسم البوصيري، وإسماعيل بن ياسين، وبدمشق من ابن طبرزذ، والكندي وحنبل، وتلا بالسبع على الشاطبي، وأبي الجود، والكندي، والشهاب الغزنوي.
وأقرأ الناس دهراً، وما أسند القراءات عن الغزنوي والكندي، وكانا أعلى إسناداً من الآخرين، امتنع من ذلك لأنه تلا عليهما بالمنهج ولم يكن بأخرة يرى الإقراء به ولا بما زاد على السبع، فقيل: إنه اجتنب ذلك لمنام رآه.
وكان إماماً في العربية، بصيراً باللغة، فقيهاً، مفتياً، عالماً بالقراءات وعللها، مجوداً لها، بارعاً في التفسير، صنف وأقرأ وأفاد، وروى الكثير وبعد صيته، وتكاثر عليه القراء، تلا عليه شمس الدين أبو الفتح الأنصاري، وشهاب الدين أبو شامة، ورشيد الدين ابن أبي الدر، وزين الدين الزواوي، وتقي الدين يعقوب الجرائدي، والشيخ حسن الصقلي، وجمال الدين الفاضلي، ورضي الدين جعفر بن دنوقا، وشمس الدين محمد ابن الدمياطي، ونظام الدين محمد بن عبد الكريم التبرزي، والشهاب ابن مزهر وعدة.
وحدث عنه الشيخ زين الدين الفارقي، والجمال ابن كثير، والرشيد ابن المعلم، ومحمد بن قايماز الدقيقي، والخطيب شرف الدين الفزاري، وإبراهيم ابن المخرمي، وأبو علي ابن الخلال، وإبراهيم بن النصير، وإسماعيل بن مكتوم، والزين إبراهيم ابن الشيرازي، وآخرون.
وكان مع سعة علومه وفضائله ديناً، حسن الأخلاق، محبباً إلى الناس وافر الحرمة، مطرحاً للتكلف، ليس له شغل إلا العلم ونشره.
شرح الشاطبية في مجلدين، والرائية في مجلد، وله كتاب جمال القراء، وكتاب منير الدياجي في الآداب، وبلغ في التفسير إلى الكهف، وذلك في أربع مجلدات، وشرح المفصل في أربع مجلدات، وله النظم والنثر.
وكان يترخص في إقراء اثنين فأكثر كل واحدٍ في سورة، وفي هذا خلاف السنة، لأننا أمرنا بالإنصات إلى قارئ لنفهم ونعقل ونتدبر.
وقد وفد على السلطان صلاح الدين بظاهر عكا في سنة ست وثمانين زمن المحاصرة فامتدحه بقصيدة طويلة، واتفق أنه امتدح أيضاً الرشيد الفارقي، وبين الممدوحين في الموت أزيد من مئة عام.
قال الإمام أبو شامة: وفي ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وست مئة توفي شيخنا علم الدين علامة زمانه وشيخ أوانه بمنزله بالتربة الصالحية، وكان على جنازته هيبة وجلالة وإخبات، ومنه استفدت علوماً جمة كالقراءات، والتفسير، وفنون العربية.
قلت: كان يقرئ بالتربة وله حلقة بالجامع.

ابن الخازن

الشيخ الجليل الصالح المسند أبو بكر محمد بن سعيد بن أبي البقاء الموفق ابن علي ابن الخازن النيسابوري ثم البغدادي الصوفي.
ولد في صفر سنة ست وخمسين وخمس مئة.
وسمع أبا زرعة المقدسي، وأبا بكر أحمد بن المقرب، وشهدة الكاتبة، وأبا العلاء بن عقيل، وجماعة، وهو من رواة مسند الشافعي.
حدث عنه مجد الدين ابن العديم، وعز الدين الفاروثي، وعلاء الدين ابن بلبان، وتقي الدين ابن الواسطي، وابن الزين، ومحيي الدين ابن النحاس، وابن عمه بهاء الدين أيوب، وجمال الدين الشريشي، وتاج الدين الغرافي، ومن القدماء ابن الدبيثي وابن النجار، وآخر من حدث عنه بيبرس العديمي.
وكان شيخاً صيناً، متديناً، مسمتاً، من جلة الصوفية، وقد روى عنه بالإجازة المطعم، وابن سعد، وابن الشيرازي، والبهاء ابن عساكر، وست الفقهاء بنت الواسطي، وهدية بنت مؤمن، وآخرون.
توفي في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وست مئة ببغداد.
?ابن أبي الدم  العلامة شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن أبي الدم الهمداني الحموي الشافعي.
سمع أبا أحمد بن سكينة.
وحدث بمصر ودمشق وحماة بجزء الغطريف. حدثنا عنه الشهاب الدشتي، وولي القضاء بحماة وترسل عن ملكها، وصنف أدب القضاة ومشكل الوسيط، وجمع تاريخاً، وألف في الفرق الإسلامية، وغير ذلك، وله نظم جيد وفضائل وشهرة.
توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وست مئة وله ستون سنة سوى أشهر رحمه الله.
?الضياء المقدسي محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق المجود الحجة بقية السلف ضياء الدين أبو عبد الله السعدي المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي صاحب التصانيف والرحلة الواسعة.
ولد سنة تسع وستين وخمس مئة بالدير المبارك بقاسيون.
وأجاز له الحافظ السلفي، وشهدة الكاتبة، وعبد الحق اليوسفي، وخلق كثير.
وسمع في سنة ست وسبعين وبعدها من أبي المعالي بن صابر، والخضر بن طاووس، والفضل ابن البانياسي، وعمر بن حمويه، ويحيى الثقفي، وأحمد بن علي بن حمزة ابن الموازيني، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر، وابن صدقة الحرانين وعبد الرحمن بن علي الخرقي، وإسماعيل الجنزوي، وبركات الخشوعي، وخلق كثير، بدمشق، وأبي القاسم البوصيري، وإسماعيل بن ياسين، وعدة بمصر، وأبي جعفر الصيدلاني، والقاسم بن أبي المطهر الصيدلاني، وعفيفة الفارفانية، وخلف بن أحمد الفراء، وأسعد بن سعيد بن روح، وزاهر بن أحمد الثقفي والمؤيد بن الإخوة، وخلق بأصبهان، والمؤيد الطوسي، وزينب الشعرية، وعدة بنيسابور، وأبي روح عبد المعز بن محمد، وطائفة، بهراة، وأبي المظفر ابن السمعاني، وجماعة، بمرو، والافتخار الهاشمي بحلب، وعبد القادر الرهاوي وغيره بحران، وعلي بن هبل بالموصل، وبهمذان، وغير ذل.
وبقي في الرحلة المشرقية مدة سنين.
نعم؛ وسمع ببغداد من المبارك بن المعطوش، وأبي الفرج ابن الجوزي، وابن أبي المجد الحربي، وأبي أحمد ابن سكينة، والحسين بن أبي حنيفة، والحسن بن أشنانة الفرغاني وخلق كثير ببغداد، وتخر بالحافظ عبد الغني، وبرع في هذا الشأن، وكتب عن أقرانه، ومن هو دونه، كخطيب مردا، والزين ابن عبد الدائم، وحصل الأصول الكثير، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وقيد وأهمل، مع الديانة والأمانة، والتقوى والصيانة، والورع والتواضع والصدق والإخلاص وصحة النقل.
ومن تصانيفه المشهورة كتاب فضائل الأعمال مجلد، كتاب الأحكام ولم يتم في ثلاث مجلدات، الأحاديث المختارة وعمل تنصفها في ست مجلدات، والموافقات في نحو من ستني جزءاً، مناقب المحدثين ثلاثة أجزاء، فضائل الشام جزآن، صفة الجنة ثلاثة أجزاء، صفة النار جزآن، سيرة المقادسة مجلد كبير، فضائل القرآن جز، ذكر الحوض جزء النهي عن سب الأصحاب جزء، وسيرة شيخيه الحافظ عبد الغني والشيخ الموفق أربعة أجزاء. قتال الترك جزء فضل العلم جزء.
ولم يزل ملازماً للعلم والرواية والتأليف إلى أن مات، وتصانيفه نافعة مهذبة، أنشأ مدرسة إلى جانب الجامع المظفري، وكان يبني فيها بيده، ويتقنع باليسير، ويجتهد في فعل الخير، ونشر السنة، وفيه تعبد وانجماع عن الناس، وكان كثير البر والمواساة، دائم التهجد، أماراً بالمعروف، بهي المنظر، مليح الشيبة، محبباً إلى الموافق والمخالف، مشتغلاً بنفسه رضي الله عنه.
قال عمر بن الحاجب فيما قرأ بخطه: سألت زكي الدين البرزالي عن شيخنا الضياء، فقال: حافظ ثقة جبل، دين خير.
وقرأ بخط إسماعيل المؤدب أنه سمع الشيخ عز الدين عبد الرحمن ابن العز يقول: ما جاء بعد الدارقطني مثل شيخنا الضياء أو كما قال.
وقال الحافظ شرف الدين يوسف بن بدر: رحم الله شيخنا ابن عبد الواحد، كان عظيم الشأن في الحفظ ومعرفة الرجال، هو كان المشار إليه في علم صحيح الحديث وسقيمه ما رأت عيني مثله.
وقال عمر بن الحاجب: شيخنا الضياء شيخ وقته ونسيج وحده علماً وحفظاً وثقة وديناً من العلماء الربانيين، وهو أكبر من أن يدل عليه مثلي. قتل: روى عنه خلق كثير، منهم: ابن نقطة، وابن النجار، وسيف الدين ابن المجد، وابن الأزهر الصريفيني، وزكي الدين البرزالي، ومجد الدين ابن الحلوانية، وشرف الدين ابن النابلسي، وابنا أخويه الشيخ فخر الدين علي ابن البخاري والشيخ شمس الدين محمد ابن الكمال عبد الرحيم، والحافظ أبو العباس ابن الظاهري، وأبو عبد الله محمد بن حازم، والعز ابن الفراء، وأبو جعفر ابن الموازيني، ونجم الدين موسى الشقراوي، والقاضي تقي الدين سليمان بن حمزة، وأخواه محمد وداود، وإسماعيل بن إبراهيم بن الخباز، وعثمان بن إبراهيم الحمصي، وسالم بن أبي الهيجاء القاضي، ومحمد ابن خطيب بيت الأبار، وأبو علي بن الخلال، وعلي بن بقاء الملقن، وأبو حفص عمر بن جعوان، وعيسى بن معالي السمسار، وعيسى بن أبي محمد العطار، وعبد الله بن أبي الطاهر المقدسي، وزينب بنت عبد الله ابن الرضي، وعدة.
قال الحافظ محب الدين ابن النجار في تاريخه: كتب أبو عبد الله بخطه، وحصل الأصول، وسمعنا منه وبقراءته كثيراً، ثم إنه سافر إلى أصبهان فسمع بها من أبي جعفر الصيدلاني ومن جماعة من أصحاب فاطمة الجوزدانية.
إلى أن قال: وأقام بهراة ومرو مدة، وكتب الكتب الكبار بخطه، وحصل النسخ ببعضها بهمة عالية، وجد واجتهاد وتحقيق وإتقان، كتب عنه ببغداد ونيسابور ودمشق، وهو حافظ متقن ثبت صدوق نبيل حجة عالم بالحديث وأحوال الرجال، له مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد عابد محتاط في أكل الحلال، مجاهد في سبيل الله ولعمري ما رأت عيناي مثله في نزاهته وعفته وحسن طريقته في طلب العلم.
ثم قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد، أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني، أخبرنا أبو علي الحداد _ يعني حضوراً _ أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا ابن خلاد، حدثنا الحارث بن محمد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حميد الطويل، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسيه فجحش شقه أو فخذه وآلى من نسائه شهراً، فجلس في مشربة له درجها من جذوع فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالساً وهم قيام، فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً". ونزل التسع وعشرين، قالوا: يا رسول الله إنك آليت شهراً قال: "إن الشهر تسع وعشرون".
أخبرني بهذا القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة قال: أخبرنا شيخنا الحافظ ضياء الدين محمد فذكره.

?ابن النجار

الإمام العالم الحافظ البارع محدث العراق مؤرخ العصر محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، ابن النجار.
مولده في سنة ثمان وسبعين وخمس مئة.
أول سماعه في سنة ثمان وثمانين وهو قليل، وأول دخوله في الطلب وهو حدث سنة ثلاث وتسعين، فسمع من أبي الفرج عبد المنعم بن كليب، ويحيى بن بوش، وذاكر بن كامل، والمبارك ابن المعطوش، وأبي الفرج ابن الجوزي، وأصحاب ابن الحصين، وقاضي المرستان، ثم أصحاب ابن ناصر، وأبي الوقت، ثم ينزل إلى أصحاب ابن البطي، وشهدة، وتلا بالعشرة وغيرها على أبي أحمد عبد الوهاب ابن سكينة، وجماعة. وارتحل إلى أصبهان، فسمع بها من عين الشمس الثقفية، والموجودين، وإلى هراة، فسمع من أبي روح عبد المعز بن محمد، وإلى نيسابور، فسمع من المؤيد الطوسي، وزينب بنت الشعري، وبمصر من الحافظ علي بن المفضل، وخلق، وبدمشق من أبي اليمن الكندي، وابن الحرستاني.
قال في أول تاريخه: كنت وأنا صبي عزمت على تذييل الذيل لابن السمعاني، فجمعت في ذلك مسودة، ورحلت وأنا ابن ثمان وعشرين سنة، فدخلت الحجاز والشام ومصر والثغر وبلاد الجزيرة والعراق والجبال وخراسان، وقرأ الكتب المطولات، ورأيت الحفاظ، وكنت كثير التتبع لأخبار فضلاء بغداد ومن دخلها.
قلت: ساد في هذا العلم.
حدث عنه أبو حامد ابن الصابوني، وأبو العباس الفاروثي، وأبو بكر الشريشي، والغرافي، وابن بلبان الناصري، والفتح محمد القزاز، وآخرون.
وبالإجازة جماعة. واشتهر وكتب عمن دب ودرج من عالٍ ونازل، ومرفوع وأثر، ونظم ونثر، وبرع وتقدم، وصار المشار إليه ببلده، ورحل ثانياً إلى أصبهان في حدود العشرين، وحج وجاور، وعمل تاريخاً حافلاً لبغداد ذيل به واستدرك على الخطيب، وهو في مئتي جزء ينبئ بحفظه ومعرفته، وكان مع حفظه فيه دين وصيانة ونسك.
قال ابن الساعي: اشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ وأربع مئة امرأة. عرضوا عليه السكني في رباط شيخ الشيوخ فأبى، وقال: معي ثلاث مئة دينار فلا يحل لي أن أرتفق من وقف، فلما فتحت المستنصرية كان قد افتقر فجعل مشغلاً بها في علم الحديث.
ألف كتاب القمر المنير في المسند الكبير فذكر كل صحابي وما له من الحديث وكتاب كنز الإمام في السنن والأحكام، وكتاب المؤتلف والمختلف ذيل به على الأمير ابن ماكولا، وكتاب المتفق والمفترق، وكتاب انتساب المحدثين إلى الآباء والبلدان، وكتاب عواليه، وكتاب جنة الناظرين في معرفة التابعين، وكتاب العقد الفائق وكتاب الكمال في الرجال، وقرأت عليه ذيل التاريخ، وله كتاب الدرر الثمينة في أخبار المدينة، وكتاب روضة الأولياء في مسجد إيلياء، وكتاب نزهة القرى في ذكر أم القرى، وكتاب الأزهار في أنواع الأشعار، وكتاب عيون الفوائد ستة أسفار، وكتاب مناقب الشافعي وغير ذلك، وأوصى إلي، ووقف كتبه بالنظامية، فنفذ إلي الشرابي مئة دينارٍ لتجهيز جنازته. ورثاه جماعة من الشعراء، وكان من محاسن الدنيا.
توفي في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وست مئة.
قال ابن النجار في ترجمة ابن دحية: لما دخلت مصر طلبني السلطان _ يعني الكامل _ فحضرت عنده، وكان يسألني عن أشياء من الحديث، وأيام الناس، وأمرني بملازمة القلعة، فكنت أحضر فيها كل يوم.
أخبرنا علي بن أحمد العلوي، أخبرنا محمد بن محمود الحافظ، أخبرنا عبد المعز بن محمد، أخبرنا يوسف بن أيوب، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا حبيب بن الحسن، أخبرنا عبد الله بن أيوب، أخبرنا أبو نصر التمار، أخبرنا حماد، عن علي بن الحكم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كتم علماً علمه ألجمه الله تعالى بلجام من نار".
وأخبرناه عالياً أحمد بن هبة الله، عن عبد المعز بن محمد.
وفي تاريخ ابن النجار أن والده مات في سنة ست وثمانين وخمس مئة، وله ثمان وأربعون سنة، وكان مقدم النجارين بدار الخلافة، وكان من العوام.

أبو الربيع بن سالم

الإمام العلامة الحافظ المجود الأديب البليغ شيخ الحديث والبلاغة بالأندلس أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الحميري الكلاعي البلنسي.
ولد سنة خمس وستين وخمس مئة.
وكان من كبار أئمة الحديث.
ذكره أبو عبد الله ابن الأبار في تاريخه فقال: سمع ببلنسية من أبي العطاء بن نذير، وأبي الحجاج بن أيوب، وارتحل فسمع أبا بكر بن الجد، وأبا القاسم بن حبيش، وأبا عبد الله بن زرقون، وأبا محمد بن بونة، وأبا الوليد بن رشد، وأبا محمد بن الفرس، وأبا عبد الله بن عروس، وأبا محمد بن جهور، وأبا الحسن نجبة بن يحيى، وخلقاً سواهم.
وأجاز له أبو العباس بن مضاء، وأبو محمد عبد الحق الأزدي مؤلف الأحكام، وعني كل العناية بالتقييد والرواية.
قال: وكان إماماً في صناعة الحديث، بصيراً به، حافظاً حافلاً، عارفاً بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، يتقدم أهل زمانه في ذلك، وفي حفظ أسماء الرجال، خصوصاً من تأخر زمانه وعاصره، وكتب الكثير وكان خطه لا نظير له في الإتقان والضبط، مع الاستبحار في الأدب والاشتهار بالبلاغة، فرداً في إنشاء الرسائل، مجيداً في النظم، خطيباً، فصيحاً، مفوهاً، مدركاً، حسن السرد والمساق لما يقوله، مع الشارة الأنيقة، والزي الحسن، وهو كان المتكلم عن الملوك في المجالس، والمبين عنهم لما يريدونه على المنبر في المحافل. ولي خطابة بلنسية في أوقات، وله تصانيف مفيدة في فنون عديدة، ألف كتاب الاكتناف في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفا وهو في أربع مجلدات، وله كتاب حافل في معرفة الصحابة والتابعين لم يكمله، وكتاب مصباح الظلم يشبه كتاب الشهاب، وكتاب أخبار البخاري وكتاب الأربعين وغير ذلك. وإليه كانت الرحلة للأخذ عنه.
إلى أن قال: انتفعت به في الحديث كل الانتفاع، وأخذت عنه كثيراً. قلت: روى عنه ابن الأبار، والقاضي أبو العباس ابن الغماز، وطائفة من المشايخ لا أعرفهم. ورأيت له إجازة كتبها الكمال بن شاذي الفاضلي وطولها، وذكر شيوخه وما روى عنهم، منهم: عبد الرحمن بن مغاور، حدثه عن أبي علي بن سكرة، وأجاز له من الإسكندرية أبو الطاهر بن عوف الزهري، والقاضي أبو عبد الله ابن الحضرمي.
قال: ومن تصانيفي كتاب الاكتفا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفا وكتاب الصحابة، إذا كمل يكون ضعف كتاب ابن عبد البر وكتاب المصباح، على نحو الشهاب، وسيرة البخاري أربعة أجزاء، وحلية الأمالي في الموافقات العوالي أربعة أجزاء، والأبدال أربعة أجزاء، ومشيخة خرجها لشيخه ابن حبيش ثلاثة أجزاء، والمسلسلات جزء، وعدة تواليف صغار، والخطب له نحو من ثمانين خطبة.
قال الحافظ ابن مسدي: لم ألق مثله جلالة ونبلاً، ورياسة وفضلاً، كان إماماً مبرزاً في فنون من منقول ومعقول ومنثور وموزون، جامعاً للفضائل، برع في علوم القرآن والتجويد. وأما الأدب فكان ابن بجديه، وأبا نجدته، وهو ختام الحفاظ، ندب لديوان الإنشاء فاستعفى، أخذ القراءات عن أصحاب ابن هذيل، وارتحل، واختص بالحفاظ أبي القاسم ابن حبيش بمرسية، أكثرت عنه.
وقال الكلاعي في إجازته للقاضي الأشرف وآله: قرأت جميع صحيح البخاري على ابن حبيش بسماعه من يونس بن مغيث سنة 503، قال سمعته في سنة 465 بقراءة الغساني على أبي عمر ابن الحذاء، حدثنا به عبد الله بن محمد بن أسد الجهني البزاز الثقة سنة خمس وتسعين وثلاث مئة، أخبرنا أبو علي بن السكن بمصر سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة عن الفربري عنه. وقرأت مصنف النسائي على ابن حبيش وسمعه من ابن مغيث، قال: قرأته على مولى الطلاع، قال: سمعته على يونس بن عبد الله، قال: قرأته على ابن الأحمر عنه.
قال أبو عبد الله ابن الأبار: كان رحمه الله أبداً يحدثنا أن السبعين منتهى عمره لرؤيا رآها، وهو آخر الحفاظ والبلغاء بالأندلس، استشهد في كائنة أنيشة على ثلاث فراسخ من مرسية مقبلاً غير مدبر في العشرين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وست مئة.
وقال الحافظ أبو محمد المنذري: توفي شهيداً بيد العدو. قال: وكان مولده بظاهر مرسية في مستهل رمضان سنة خمس وستين، وسمع ببلنسية ومرسية وشاطبة وإشبيلية وغرناطة ومالقة ودانية وسبتة، وجمع مجاميع تدل على غزارة علمه وكثرة حفظه ومعرفته بهذا الشأن، كتب إلي بالإجازة في سنة أربع عشرة وست مئة.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جابر القيسي، أخبرنا أحمد بن محمد الحاكم بتونس، أخبرنا العلامة أبو الربيع بن سالم الكلاعي، أخبرنا عبد الله بن محمد الحجري، أخبرنا محمد بن عبد العزيز بن زغيبة، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر العذري، أخبرنا أحمد بن الحسن الرازي، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا إبراهيم بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت.
أخبرناه عالياً أحمد بن هبة الله، وزينب بنت كندي، عن المؤيد بن محمد، أخبرنا محمد بن الفضل أخبرنا عبد الغافر الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى بن عمرويه فذكره. مات مع ابن سالم في العام: المحدث العالم الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وله سبع وخمسون سنة، والشيخ إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي زاهد بغداد، ومحدث مصر المفيد وجيه الدين بركات بن ظافر بن عساكر، والفقيه موفق الدين حمد بن أحمد بن محمد بن صديق الحراني، وأبو طاهر الخليل بن أحمد الجوسقي، والمعمر سعيد بن محمد بن ياسين السفار، والإمام الناصح عبد الرحمن بن نجم ابن الحنبلي، ومفتي حران الناصح عبد القادر بن عبد القاهر بن بعد المنعم، والمفتي شرف الدين عبد القادر بن محمد بن الحسن ابن البغدادي المصري، وخطيب بلنسية أبو الحسن علي بن أحمد بن خيرة المقرئ، والمسند أبو نزار عبد الواحد بن أبي نزار البغدادي الجمال، والمسند أبو الحسن علي بن محمد بن كبة ببغداد، والحافظ المؤرخ أبو الحسن محمد ابن أحمد بن عمر القطيعي، والمسند المحدث أبو الحسن مرتضى بن حاتم الحارثي المصري، والمسند أبو بكر هبة الله بن عمر بن حسن بن كمال الحلاج، والمعمرة ياسمين بنت سالم بن علي ابن البيطار.

ابن الصلاح

الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهزوري الموصلي الشافعي، صاحب علوم الحديث.
مولده في سنة سبع وسبعين وخمس مئة.
وتفقه على والده بشهزور، ثم اشتغل بالموصل مدة، وسمع من عبيد الله ابن السمين، ونصر بن سلامة الهيتي، ومحمود بن علي الموصلي، وأبي المظفر بن البرني، وعبد المحسن ابن الطوسي، وعدة، بالموصل. ومن أبي أحمد ابن سكينة، وأبي حفص بن طبرزذ وطبقتهما ببغداد، ومن أبي الفضل بن المعزم بهمذان ومن أبي الفتح منصور بن عبد المنعم ابن الفراوي، والمؤيد بن محمد بن علي الطوسي، وزينب بنت أبي القاسم الشعرية، والقاسم بن أبي سعد الصفار، ومحمد بن الحسن الصرام، وأبي المعالي بن ناصر الأنصاري، وأبي النجيب إسماعيل القارئ، وطائفة بنيسابور. ومن أبي المظفر ابن السمعاني بمرو، ومن أبي محمد ابن الأستاذ وغيره بحلب، ومن الإمامين فخر الدين ابن عساكر وموفق الدين ابن قدامة وعدة بدمشق، ومن الحافظ عبد القادر الرهاوي بحران.
نعم، وبدمشق أيضاً من القاضي أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني، ثم درس بالمدرسة الصلاحية ببيت المقدس مديدة، فلما أمر المعظم بهدم سور المدينة نزح إلى دمشق فدرس بالرواحية مدة عندما نشأها الواقف، فلما أنشئت الدار الأشرفية صار شيخها، ثم ولي تدريس الشامية الصغرى.
وأشغل، وأفتى وجمع وألف، وتخرج به الأصحاب، وكان من كبار الأئمة.
حدث عنه الإمام شمس الدين ابن نوح المقدسي، والإمام كمال الدين سلار، والإمام كمال الدين إسحاق، والقاضي تقي الدين بن رزين، وتفقهوا به. وروى عنه أيضاً العلامة تاج الدين عبد الرحمن، وأخوه الخطيب شرف الدين، ومجد الدين ابن المهتار، وفخر الدين عمر الكرجي، والقاضي شهاب الدين ابن الخوبي، والمحدث عبد الله بن يحيى الجزائري، والمفتي جمال الدين محمد بن أحمد الشريشي، والمفتي فخر الدين عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي، وناصر الدين محمد بن عربشاه، ومحمد بن أبي الذكر، والشيخ أحمد بن عبد الرحمن الشهرزوري الناسخ، وكمال الدين أحمد بن أبي الفتح الشيباني، والشهاب محمد بن مشرف، والصدر محمد بن حسن الأرموي، والشرف محمد ابن خطيب بيت الأبار، وناصر الدين محمد ابن المجد بن المهتار، والقاضي أحمد بن علي الجيلي، والشهاب أحمد ابن العفيف الحنفي، وآخرون.
قال القاضي شمس الدين ابن خلكان: بلغني أنه كرر على جميع المهذب قبل أن يطر شاربه، ثم أنه صار معيداً عند العلامة عماد الدين بن يونس. وكان تقي الدين أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وله مشاركة في عدة فنون، وكانت فتاويه مسددة، وهو أحد شيوخي الذين انتفعت بهم، أقمت عنده للاشتغال، ولازمته سنة، وهي سنة اثنتين وثلاثين، وله إشكالات على الوسيط.
وذكره المحدث عمر بن الحاجب في معجمه فقال: إمام ورع، وافر العقل، حسن السمت، متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حتى صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة. قلت: كان ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة وفصاحة وعلم نافع، وكان متين الديانة، سلفي الجملة، صحيح النحلة، كافاً عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمناً بالله، وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، معظماً عند السلطان، وقد سمع الكثير بمرو من محمد ابن إسماعيل الموسوي، وأبي جعفر محمد بن محمد السنجي، ومحمد ابن عمر المسعودي، وكان قدومه دمشق في حدود سنة ثلاث عشرة بعد أن فرغ من خراسان والعراق والجزيرة، وكان مع تبحره في الفقه مجوداً لما ينقله، قوي المادة من اللغة والعربية، متفنناً في الحديث، متصوناً، مكباً على العلم، عديم النظير في زمانه، وله مسألة ليست من قواعده شذ فيها وهي صلاة الرغائب قواها ونصرها مع أن حديثها باطلاً بلا تردد، ولكن له إصابات وفضائل.
ومن فتاويه أنه سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة فأجاب: الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف، عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين، ومن تلبس بها، قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية _ ولله الحمد _ افتقار إلى المنطق أصلاً، هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، فالواجب على السلطان أعزه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجها من المدارس ويبعدهم.
توفي الشيخ تقي الدين رحمه الله في سنة الخوارزمية في سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وحمل على الرؤوس، وازدحم الخلق على سريره، وكان على جنازته هيبة وخشوع، فصلي عليه بجامع دمشق، وشيوعه إلى داخل باب الفرج فصلوا عليه بداخله ثاني مرة، ورجع الناس لمكان حصار دمشق بالخوارزمية وبعسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب لعمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فخرج بنعشه نحو العشرة مشمرين، ودفنوه بمقابر الصوفية! وقبره ظاهر يزار في طرف المقبرة من غربيها على الطريق، وعاش ستاً وستين سنة.
وقد سمع منه علوم الحديث له الشيخ تاج الدين وأخوه، فخر الكرجي، والزين الفارقي، والمجد ابن المهتار، والمجد ابن الظهير، وظهير الدين محمود الزنجاني، وابن عربشاه، والفخر البعلي، والشريشي، والجزائري، ومحمد ابن الخرقي، ومحمد بن أبي الذكر، وابن الخوبي، والشيخ أحمد الشهرزوري، والصدر الأرموي، والصدر خطيب بعلبك، والعماد محمد ابن الصائغ، والكمال ابن العطار، وأبو اليمن ابن عساكر، وعثمان بن عمر المعدل، وكلهم أجازوا لي سوى الأول.

يعيش

ابن علي بن يعيش بن أبي السرايا محمد بن علي بن المفضل بن عبد الكريم بن محمد بن يحيى بن حيان ابن القاضي بشر بن حيان، العلامة موفق الدين أبو البقاء الأسدي الموصلي، ثم الحلبي النحوي، ويعرف قديماً بابن الصائغ.
مولده بحلب في سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة.
وسمع من القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، وأبي الحسن أحمد بن محمد ابن الطوسوسي، ويحيى الثقفي. وسمع بالموصل من خطبها أبي الفضل الطوسي مشيخته وغير ذلك. وأخذ النحو عن أبي السخاء الحلبي، وأبي العباس المغربي، وجالس الكندي بدمشق، وبرع في النحو، وصنف التصانيف، وبعد صيته، وتخرج به أئمة.
روى عنه الصاحب ابن العديم، وابنه مجد الدين. وابن هامل، وأبو العباس ابن الظاهري، وعبد الملك بن العنيقة، وأبو بكر أحمد بن محمد الدشتي، وإسحاق النحاس وأخوه بهاء الدين، وسنقر القضائي، وآخرون. وكان طويل الروح، حسن التفهم، طويل الباع في النقل، ثقة علامة كيساً، طيب المزاح، حلو النادرة، مع وقار ورزانة.
صنف شرحاً للتصريف لابن جني وشرحاً للمصل وغير ذلك.
عاش تسعين سنة. وتوفي في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وست مئة بحلب. وفيها توفي _ وتعرف بسنة الخوارزمية _ القاضي الأشرف أحمد ابن القاضي الفاضل عن سبعين سنة، والمحدث صفي الدين أحمد بن عبد الخالق بن أبي هشام القرشي عن ثمانين سنة، والعلامة كمال الدين أحمد ابن كشاسب الدزماري الشافعي، والعلامة تقي الدين أحمد ابن العز محمد ابن الحافظ الحنبلي، ومحدث وقته أبو العباس أحمد بن محمود ابن الجوهري الدمشقي، وإسحاق بن أبي القاسم بن صصرى التغلبي، ومقدم الجيوش معين الدين حسن ابن الشيخ ابن حمويه، وخطيب عقربا السديد سالم بن عبد الرزاق، وشعبان بن إبراهيم الداراني، والأمير سيف الدين علي بن قليج، ودفن بالقليجية، وأبو بكر عبد الله بن عمر ابن النخال، وخطيب الصالحية الشرف عبد الله بن أبي عمر، ومفيد بغداد أبو منصور بن الوليد كهلاً، وحافظ بغداد محب الدين أبو عبد الله بن النجار، والمفتي أبو سليمان عبد الرحمن ابن الحافظ ومحدث الجزيرة السراج عبد الرحمن ابن شحانة، ومحدث الإسكندرية أسعد الدين عبد الرحمن بن مقرب الكندي، والعلامة الوجيه عبد الرحمن بن محمد القوصي الحنفي المفتي عن ثمان وثمانين سنة، والأديب العلامة أمين الدين عبد المحسن بن حمود التنوخي، والعدل عتيق بن أبي الفضل السلماني، وهل تسعون سنة، والإمام تقي الدين أبو عمر ابن الصلاح، والمعمر أبو الحسن ابن المقبر، وقاضي كفر بطنا علي بن محاسن بن عوانة النميري، والعلامة علم الدين السخاوي ، وعيسى بن حامد الداراني، والفلك عبد الرحمن بن هبة الله المسيري الوزير، والنسابة عز الدين محمد بن أحمد بن عساكر، والمحدث تاج الدين محمد بن أبي جعفر القرطبي، ومحمد بن أحمد بن زهير بداريا، ومحمد بن تميم البنذنيجي، والمعمر أبو بكر محمد بن سعيد ابن الخازن، والظهير أبو إبراهيم محمد بن عبد الرحمن ابن الجباب، ومفيد مصر أبو بكر ابن الحافظ زكي الدين المنذري وله ثلاثون سنة، وحافظ دمشق ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، والفخر محمد بن عمر ابن المالكي الدمشقي، والفخر محمد بن عمرو بن عبد الله بن سعد المقدسي، وشيخ الحنابلة الزاهد القدوة الضياء محاسن بن عبد الملك التنوخي الحموي، ومحمد بن حمي الداراني من أصحاب ابن عساكر، والإمام معين الدين محمود بن محمد الأرموي الشافعي، وله خمس وثمانون سنة، والمفيد أبو العز مفضل بن علي القرشي، والمقرئ النحوي المنتجب بن أبي العز الهمذاني، والمعمر أبو غالب منصور بن أحمد بن السكن المراتبي ابن المعوج لقي محمد بن إسحاق ابن الصابي، والصلاح موسى بن محمد بن خلف بن راجح، والنجم نبأ بن أبي المكارم بن هجام الحنفي المصري، وابن خطيب عقربا يحيى بن عبد الرزاق، الشهاب يعقوب بن محمد ابن المجاور الوزير، ويوسف بن يونس المقرئ البغدادي سبط ابن مداح، وخلق سواهم.

العامري

المحدث الإمام صائن الدين محمد بن حسان بن رافع العامري الدمشقي المعدل خطيب المصلى.
سمع من الخشوعي فمن بعده، وكتب الكثير.
روى عنه محمد ابن خطيب بيت الأبار، وخطيب دمشق شرف الدين الفراوي، وجماعة.
مات في صفر سنة أربع وأربعين وست مئة.
وفيها مات القدوة الشيخ أبو السعود الباذبيني بمصر، والكبير الزاهد الشيخ أبو الحجاج الأقصري يوسف بن عبد الرحيم بن غزي القرشي بالصعيد، والشيخ أبو الليث بحماة، والنجم علي بن عبد الكافي بن علي الصقلي ثم الدمشقي، والركن عبد الرحمن بن سلطان التميمي الحنفي، والشيخ حسن بن عيد شيخ الأكراد، والملك المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، والعز أحمد بن معقل شيخ الرافضة، وكبير الخوارزمية بركة خان.

الكاشغري

الشيخ المعمر مسند العراق أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن يوسف بن أزرتق التركي الكاشغري ثم البغدادي الزركشي.
ولد سنة أربع وخمسين.
وسمع من أبي الفتح بن البطي، وأحمد بن محمد الكاغدي، وعلي ابن تاج القراء، وأحمد بن عبد الغني الباجسرائي، ويحيى بن ثابت، وأبي بكر بن النقور، ونفيسة البزازة، وهبة الله بن يحيى البوقي، وجماعة.
وطال عمره، وبعد صيته، وقد حدث بدمشق وحلب في سنة إحدى وعشرين وست مئة، ورجع إلى بغداد وبقي إلى هذا الوقت، وتكاثر عليه الطلبة. حدث عنه ابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن النجار، والمحب عبد الله وموسى بن أبي الفتح وعبد الرحمن ابن الزجاج، ومحيي الدين يحيى ابن القلانسي والمدرس كمال الدين إبراهيم ابن أمين الدولة، وتقي الدين ابن الواسطي وأخوه، وعز الدين ابن الفراء، والتقي بن مؤمن، ومجد الدين أبن العديم، وفتاه بيبرس، ومحيي الدين ابن النحاس، وابن عمه أيوب، ومجد الدين ابن الظهير، وأحمد بن محمد ابن العماد، وعبد الكريم بن المعذل، وعلي بن عبد الدائم، وعلي بن عثمان الطيبي، وعدد كثير.
وبالإجازة عدة.
قال ابن نقطة: سماعه صحيح.
وقال ابن الحاجب كان شيخاً سهلاً سمحاً، ضحوك السن، له أصول يحدث منها، وكان سليم الباطن، مشتغلاً بصنعته، إلا أنه كان يتشيع، ولم يظهر منه إلا الجميل.
وقال ابن الساعي: رتب مسمعاً بمشيخة المستنصرية في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وست مئة _ يعني بعد ابن القبيطي.
قلت: وقد عمر، وساء خلقه، وبقي يحدث بالأجرة، ويتعاسر، وحكاية المحب معه اشتهرت، فإنه رحل وبادر إليه بجزء البانياسي وهو على حانوت، فقال: ما لي فراغ الساعة، فألح عليه فتركه وقام فتبعه، وابتدأ في الجز، فقرأ ورقة، ووصل الشيخ إلى بيته فضربه بالعصا ضربتين وقعت الواحدة في الجزء ودخل وأغلق الباب.
قرأت هذا بخط المحب فالذنب مركب منهما!.
قال ابن النجار: هو صحيح السماع إلا أنه عسر جداً يذهب إلى الاعتزال، قال: ويقال: إنه يرى رأي الفلاسفة، ويتهاون بالأمور الدينية، مع حمق ظاهر فيه، وقلة علم.
قتل: ثم في سنة ثلاث وأربعين اندك وتعلل، ووقع في الهرم، ولزم بيته، وهو من آخر من روى حديث مالك الإمام بعلو، كان بينه وبينه خمسة أنفس.
مات في حادي عشر جمادى الأولى سنة خمس وأربعين وست مئة.
وفيها مات أبو مدين شعيب بن يحيى الزعفراني بمكة، والشيخ عبد الرحمن بن أبي حرمي المكي الناسخ، وإمام النحو أبو علي عمر بن محمد الأزدي الشلوبين، والمنشئ جلال الدين مكرم بن أبي الحسن الأنصاري، والصاحب هبة الله بن الحسن ابن الدوامي، والأمير شرف الدين يعقوب بن محمد الهذباني، وصاحب ميافارقين المظفر غازي ابن العادل، وشيخ الفقراء علي الحريري.

يوسف بن خليل

ابن قراجا عبد الله الإمام المحدث الصادق، الرحال النقال، شيخ المحدثين، راوية الإسلام، أبو الحجاج شمس الدين الدمشقي الأدمي الإسكاف، نزيل حلب وشيخها.
ولد في سنة خمس وخمسين وخمس مئة.
وتشاغل بالسبب حتى كبر وقارب الثلاثين، ثم بعد ذلك حبب إليه الحديث، وعني بالرواية، وسمع الكثير، وارتحل إلى النواحي، وكتب بخطه المتقن الحلو شيئاً كثيراً، وجلب الأصول الكبار، وكان ذا علم حسن ومعرفة جيدة ومشاركة قوية في الإسناد والمتن والعالي والنازل والانتخاب.
وسمع بدمشق بعد الثمانين من يحيى الثقفي، ومحمد بن علي بن صدقة، وعبد الرحمن بن علي الخرقي، وأحمد بن حمزة بن علي ابن الموازيني، وإسماعيل الجنزوي، وأبي طاهر الخشوعي وأقرانهم.
وصحب الحافظ عبد الغني، وتخرج به مدة، فنشطه للارتحال فمضى إلى بغداد سنة ست وثمانين، وسمع من أبي منصور عبد الله بن عبد السلام.
وذاكر بن كامل، ويحيى بن بوش، وعبد المنعم بن كليب، وأبي طاهر المبارك بن المعطوش، ورجب بن مذكور، وعدد كثير ببغداد، ومن هبة الله ابن علي البوصيري، وإسماعيل بن ياسين، وجماعة بمصر. ومن خليل ابن بدر الراراني، ومسعود بن أبي منصور الخياط، ومحمد بن إسماعيل الطرسوسي، وأبي الفضائل عبد الرحيم الكاغدي، وأبي المكارم اللبان، ومحمد بن أبي زيد الكراني، وناصر بن محمد الويرج، وعلي بن سعيد بن فاذشاه، وغانم بن محمد الصفار، ومحمد بن أحمد بن محمد المهاد المقرئ، وأبي المحاسن محمد بن الحسن الأصبهبد، ومسعود بن محمود العجلي، وأبي نعيم أحمد بن أبي الفضل الكراني بأصبهان، وطاهر بن مكارم الموصلي المؤدب، وأحمد بن عبد الله ابن الطوسي بالموصل.
ومشيخته نحو الخمس مئة، سمعتها من أصحابه.
حدث عنه جماعة من القدماء، وكتب عنه الحافظ إسماعيل ابن الأنماطي، وزكي الدين البرزالي، وشهاب الدين القوصي، ومجد الدين ابن الحلوانية، وكمال الدين ابن العديم وابنه مجد الدين. وروى لنا عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي، والحافظ أبو العباس ابن الظاهري، وشرف الدين محمود التادفي، ومحمد بن جوهر التلعفري، ومحمد بن سليمان ابن المغربي، وأبو الحسن علي بن أحمد الغرافي، وطاهر بن عبد الله ابن العجمي، وعبد الملك ابن العنيقة، وسنقر بن عبد الله الأستاذي، والصاحب فتح الدين عبد الله بن محمد الخالدي، وأمين الدين عبد الله بن شقير، وتاج الدين صالح الفرضي، والقاضي عبد العزيز ابن أبي جرادة، وأخوه عبد المحسن، وإسحاق، وأيوب، ومحمد بنو ابن النحاس، وعبد الرحمن وإسماعيل، وإبراهيم أولاد ابن العجمي ونسيبهم أحمد بن محمد، ومحمد بن أحمد النصيبي وعمته نخوة، وأحمد بن محمد المعلم، والعفيف إسحاق الآمدي، وأبو حامد المؤذن وغيرهم، وكان خاتمتهم إبراهيم ابن العجمي بحلب، وإجازته موجودة لزينب بنت الكمال بدمشق.
وكان حسن الأخلاق، مرضي السيرة، خرج لنفسه الثمانيات وأجزاء عوالي كعوالي هشام بن عروة، وعوالي الأعمش، وعوالي أبي حنيفة، وعوالي أبي عاصم النبيل، وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة، وغير ذلك.
سمعت من حديثه شيئاً كثيراً وما سمعت العشر منه، وهو يدخل في شرط الصحيح لفضيلته وجودة معرفته وقوة فهمه وإتقان كتبه وصدقه وخيره، أحبه الحلبيون وأكرموه، وأكثروا عنه، ووقف كتبه، لكنها تفرقت ونهبت في كائنة حلب سنة ثمان وخمسين، وقتل فيها أخوه المسند إبراهيم بن خليل، وكان قد سمعه من جماعة، وتفرد بأجزاء كمعجم الطبراني عن يحيى الثقفي وغير ذلك، وأخوهما الثالث يونس بن خليل الأدمي مات مع أخيه الحافظ، وقد حدث عن البوصيري وجماعة، حدثنا عنه ابن الخلال وغيره.
وكان أبو الحجاج _ رحمه الله _ ينطوي على سنة وخير. بلغني أنه أنكر على ابن رواحة أخذه على الرواية فاعتذر بالحاجة، وكذا بلغني أنه كان يذم الحريري وطريقة أصحابه، ولم يزل يسمع، ويطول روحه على الطلبة والرحالين ويكتب لهم الطباق، وإلى أن مات.
روى كتباً كباراً كالحلية، والمعجم الكبير، والطبقات لابن سعد، وسنن الدارقطني، وكتاب الآثار للحطاوي، ومسند الطيالسي، والسنن لأبي قرة، والدعاء للطبراني، وجملة من تصانيف ابن أبي عاصم، وكثيرً من تصانيف أبي الشيخ والطبراني وأبي نعيم، وانقطع بموته سماع أشياء كثيرة لخراب أصبهان.
توفي إلى رحمة الله في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وست مئة وله ثلاث وتسعون سنة.
ومات أخوه يونس قبله في المحرم، وكان قد أخذه وسمعه من البوصيري وابن ياسين ولزم الصنعة، روى عنه أبو الفضل الإربلي وابن الخلال، والعماد ابن البالسي وجماعة.
وفيها مات مسند الإسكندرية أبو محمد عبد الوهاب ابن رواج وله أربع وتسعون سنة، والعذل فخر القضاة أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز ابن الجباب السعدي بمصر، ومسند بغداد أبو محمد إبراهيم بن محمود ابن الخير الأزجي، وله خمس وثمانون سنة، والمسند مظفر بن عبد الملك ابن الفوي بالثغر، وعلي بن سالم بن أبي بكر البعقوبي والمفتي محمد بن أبي السعادات الدباس الحنبلي، حدثا عن ابن شاتيل.
أخبرنا إسحاق بن أبي بكر، أخبرنا ابن خليل، أخبرنا أبو الفتح ناصر ابن محمد القطان وغيره ابن جعفر بن عبد الواحد الثقفي أخبرهم: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة، أخبرنا سليمان الطبراني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن برة بصنعاء، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاث مئة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود ويقول?: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً". فتساقط لوجوهها.
قرأت على محمود بن محمد المقرئ: أخبرنا ابن خليل، أخبرنا مسعود بن أبي منصور، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا يحيى بن هاشم، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء قالت: ذبحنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلنا من لحمه، متفق عليه من حديث هشام ابن عروة.

المستنصر بالله

أمير المؤمنين أبو جعفر منصور ابن الظاهر بأمر الله محمد ابن الناصر لدين الله أحمد ابن المستضيئ بأمر الله حسن ابن المستنجد بالله يوسف ابن المقتفي العباسي البغدادي واقف المستنصرية التي لا نظير لها.
مولده سنة ثمان وثمانين وخمس مئة.
وأمه تركية، وكان أبيض أشقر، سميناً ربعة مليح الصورة، عاقلاً حازماً سائساً، ذا رأي ودهاء ونهوض بأعباء الملك، وكان جده الناصر يحبه ويسميه القاضي لحبه للحق وعقله.
بويع عند موت والده يوم الجمعة ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وست مئة البيعة الخاصة من إخوته وبني عمه وأسرته، وبايعه من الغد الكبراء والعلماء والأمراء.
قال ابن النجار: فنشر العدل، وبث المعروف، وقرب العلماء والصلحاء، وبنى المساجد والمدارس والربط، ودور الضيافة والمارستانات، وأجرى العطيات، وقمع المتمردة، وحمل الناس على أقوم سنن، وعمر طرق الحاج، وعمر بالحرمين دوراً للمرضى، وبعث إليها الأدوية:

تخشى الإله فما تنام عناية

 

بالمسلمين وكلهم بك نائم

إلى أن قال: ثم قام بأمر الجهاد أحسن قيام، وجمع العساكر، وقمع الطغام، وبذل الأموال، وحفظ الثغور، وافتتح الحصون، وأطاعه الملوك.
قال: وبيعت كتب العلم في أيامه بأغلى الأثمان لرغبته فيها، ولوقفها. وخطه الشيب فخضب بالحناء ثم تركه.
قلت: كان دولته جيدة التمكن وفيه عدل في الجملة، ووقع في النفوس. استجد عسكراً كثيراً لما علم بظهور التتار، بحيث إنه يقال: بلغ عدة عسكره مئة ألف، وفيه بعد، فلعل ذلك نمى في طاعته من ملوك مصر والشام والجزيرة، وكان يخطب له بالأندلس والبلاد البعيدة.
قال الساعي: حضرت بيعته فلما رفع الستر شاهدته وقد كمل الله صورته ومعناه، كان أبيض بحمرة، أزج الحاجبين، أدعج العين، سهل الخدين، أقنى، رحب الصدر، عليه ثوب أبيض وبقيار أبيض، وطرحة قصب بيضاء، فجلس إلى الظهر.
قال: فبلغني أن عدة الخلع بلغت ثلاثة آلاف وخمس مئة وسبعين خلعة.
قلت: بلغ مغل وقف المستنصرية مرة نيفاً وسبعين ألف دينار في العام، واتفق له أنه لم يكن في أيامه معه سلطان يحكم عليه، بل ملوك الأطراف خاضعون له، وفكرهم متقسم بأمر التتار واستيلائهم على خراسان.
توفي في بكرة الجمعة عاشر جمادى الأولى سنة أربعين وست مئة.
وكانت دولته سبع عشرة سنة، وعاش اثنتين وخمسين سنة.
وفي سنة أربع وعشرين: التقى خوارزم شاه التتار ببلاد أصبهان فهزمهم ومزقهم، ثم تناخوا وكروا عليه، فانفل جمعه، وبقي في أربعة عشر فارساً وأحيط به، فخرقهم على حمية، فكانت وقعت منكئة للفريقين، فتحصن بأصبهان.
وقتلت الإسماعيلية أمير كنجة، فتألم جلال الدين، وقصد بلاد الإسماعيلية، فقتل وسبى، ثم تحزبوا له، وسار جيش الأشرف مع الحاجب علي فافتتح مرند وخوي، وردوا إلى خلاط، وأخذوا زوجة خوارزم شاه، وهي بنت السلطان طغرل بن رسلان السلجوقي، وكان تزوج بها بعد أزبك ابن البهلوان صاحب تبريز، فأهملها فكاتبت الحاجب، وسلمت إليه البلاد.
ومرض المعظم فتصدق بألف غرارة وثمانين ألف درهم، وحلف الأمراء لولده الناصر داود، ومات في ذي القعدة.
وفيها مات القان جنكزجان المغلي، طاغية التتار، في رمضان، وكانت أيامه المشؤومة خمساً وعشرين سنة. وقيل: كان أول أمره حداداً يدعى تمرجين وتسلطن بعده ابنه أوكتاي.
وعاش المعظم تسعاً وأربعين سنة، وكان يعرف مذهب أبي حنيفة والقرآن والنحو، وشرح الجامع في عدة مجلدات بإعانة غيره.
وفي سنة خمس وعشرين: جاء المنشور من الكامل لابن أخيه الناصر بسلطنة دمشق، ثم بعد أشهر قدم الكامل ليأخذ دمشق، وأتاه صاحب حمص والعزيز أخوه فاستنجد الناصر بعمه الأشرف، فسار ونزل بالدهشة، فرجع الكامل، وقال: لا أقاتل أخي، فقال الأشرف: المصلحة أن أدرك السلطان وألاطفه، فاجتمع به بالقدس، واتفقا على الناصر وأن تكون دمشق للأشرف، وتبقى الكرك للناصر، فلما سمع الناصر، حصن البلد.
وفيها عزل الصدر البكري عن حسبة دمشق، ومشيخة الشيوخ.
فيها جرى الكويز الساعي من واسط إلى بغداد في يوم وليلة ورزق قبولاً وحصل له ستة آلاف دينار ونيف وعشرون فرساً.
وشرعوا في أساس المستنصرية، ودام البناء خمس سنين، وكان مشد العمارة أستاذ دار الخليفة. وكانت فرقة في التتار قد بعدهم جنكز خان، وغضب عليهم فأتوا خراسان، فوجدوها بلاقع، فقصدوا الري فالتقاهم خوارزم شاه مرتين وينهزم، فنازلوا أصبهان، ثم أقبل خوارزم شاه، وخرق التتار، ودخل إلى أصبهان وأهلها من أشجع الرجال، ثم خرج بهم فهزم التتار وطحنهم، وساق خلفهم إلى الري قتلاً وأسراً، ثم أتته رسلٌ من القان بأن هؤلاء أبعدناهم، فاطمأن لذلك ودعا إلى تبريز.
واستولى الفرنج على صيدا، وقويت نفوسهم، وجاءهم ملك الألمان الأنبرور وقد استولى على قبرس، فكاتبه الكامل ليعينه على الناصر، وخافته ملوك السواحل والمسلمون، فكاتب ملوك الفرنج الكامل بأنهم يمسكون الأنبرور، فبعث وأوقفه على عزمهم فعرفها للكامل، وأجابه إلى هواه، وترددت المراسلات، وخضع الأنبرور، وقال: أنا عتيقك وإن أنا رجعت خائباً انكسرت حرمتي، وهذه القدس أصل ديننا وهي خرابة، ولا دخل لها، فتصدق علي بقصبة البلد وأنا أحمل محصولها إلى خزانتك، فلان لذلك.
وفي سنة 626: سلم الكامل القدس إلى الفرنج فوا غوثاه بالله، وأتبع ذلك بحصار دمشق، وأذية الرعية، وجرت بينهم وقعات، منها وقعة قتل فيها خلق من الفريقين، وأحرقت الحواضر، زحفوا على دمشق مراراً، واشتد الغلاء، ودام البلاء أشهراً، ثم قنع الناصر بالكرك ونابلس والغور، وسلم الكامل دمشق للأشرف وعوض عنها بحران والرقة ورأس عين، ثم حاصروا الأمجد ببعلبك، ورموها بالمجانيق، وأخذت، فتحول الأمجد إلى داره بدمشق.
ونازل خوارزم شاه خلاط بأوباشه وبدع وأخذ حينة وقتل أهلها ثم أخذ خلاط.
وفي سنة 627: هزم الأشرف وصاحب الروم جلال الدين خوارزم شاه، وتمزق جمعه، واسترد الأشرف خلاط.
وقدم رسول محمد بن هود الأندلس بأنه تملك أكثر المغرب وخطب بها للمستنصر، فكتب له تقليد بسلطنة تلك الديار، ونفذت إليه الخلع واللواء.
وبعث خوارزم شاه يطلب من الخليفة لباس الفتوة فأجيب.
وقد أخذت العرب من مخيم خوارزم شاه يوم كسرته باطية من ذهب وزنها ربع قنطار، والعجب أن هذه الملحمة ما قتل فيها من عسكر الشام سوى واحد جرح، لكن قتل من الروميين ألوف، وأما الخوارزمية فاستحر بهم القتل وزالت هيبتهم من القلوب، وولت سعادتهم، والوقعة في رمضان.
وفي سنة 628: فيها خرج علي ابن عبد المؤمن ابن عم له وظفر بالملك، وقتله، وقتل من البربر خلائق.
وفي رجب بلغنا كسرة التتار لخوارزم شاه وتفرق جمعه وذاق الذل؛ وذاك أن خوارزم شاه لما انهزم في العام الماضي، بعثت الإسماعيلية تعرف التتار ضعفه، فسارعت طائفة تقصده بتوريز فلم يقدم على الملتقى، وأخذوا مراغة وعاثوا، وتقهقر هو إلى آمد فكبسته التتار، وتفرق جمعه في كل جهة، وطمع فيهم الفلاحون والكرد، وأخذت التتار إسعرد بالأمان، ثم غدروا كعوائدهم، ثم طنزة وبلاد نصيبين.
وفيها سجن الأشرف بعزتا علياً الحريري وأفتى جماعة بقتله.
وأسست دار الحديث الأشرفية بدمشق.
وفيها ظفر بالتاج الكحال، وقد قتل جماعة ختلاً في بيته، ففاح الدرب، فسمروه.
وفي سنة 629: انهزم جلال الدين خوارزم شاه ابن علاء الدين في جبال، فقتله كردي بأخ له. وقصدت عساكر الخليفة مع صاحب إربل التتار، فهربوا.
وأمسك الوزير مؤيد الدين القمي وابنه، وكانت دولته ثلاثاً وعشرين سنة باسم نيابة الوزارة، لكن لم يكن معه وزير فولي مكانه شمس الدين ابن الناقد، وجعل مكان ابن الناقد في الأستاذ دارية ابن العلقمي.
وفي سنة ثلاثين: حاصر الكامل آمد، فأخذها من الملك المسعود الأتابكي وكان فاسقاً يأخذ بنات الناس قهراً.
وفيها عاث الروميون بحران وماردين، وفعلوا شراً من التتار وبدعوا.
ومات مظفر الدين صاحب إربل، فوليها باتكين نائب البصرة.
وفي سنة إحدى وثلاثين: سار الكامل ليفتح الروم، فالتقى صواب مقدم طلائعه وعسكر الروم، فأسر صواب، وتمزق جنده، ورجع الكامل.
وأديرت المستنصرية ببغداد، ولا نظير لها في الحسن والسعة، وكثرة الأوقاف، بها مئتان وثمانية وأربعون فقيهاً، وأربعة مدرسين، وشيخ للحديث، وشيخ للطب، وشيخ للنحو، وشيخ للفرائض، وإذا أقبل وقفها، غل أزيد من سبعين ألف مثقال، ولعل قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار.
وفي سنة اثنتين وثلاثين: عمل جامع العقيبة، كان حانه.
وقدمت هدية ملك اليمن عمر بن رسول التركماني، فالملك في نسله إلى اليوم وفيها تركت المعاملة ببغداد بقراضة الذهب، وضربت لهم دراهم كل عشرة منها بدينار إمامي.
وعاثت التتار بأرض إربل والموصل، وقتلوا، وأخذوا أصبهان بالسيف فإنا لله وإنا إليه راجعون. فاهتم الخليفة، وبذل الأموال.
وعزل ابن مقبلٍ عن قضاء العراق وتدريس المستنصرية ودرس أبو المناقب الزنجاني، وقضى عبد الرحمن ابن اللمغاني.
وفيها سار الكامل والأشرف واستعادوا حران والرها من صاحب الروم.
ووصلت التتار إلى سنجار قتلاً وأسراً وسبياً.
ثم في آخر العام حشد صاحب الروم، وحاصر حران، وتعثر أهلها.
واستباحت الفرنج قرطبة بالسيف، وهي أم الأندلس، ما زالت دار إسلام منذ افتتحها المسلمون في دولة الوليد.
وفي سنة 634: مات صاحب حلب الملك العزيز ابن الظاهر ابن صلاح الدين، وصاحب الروم علاء الدين كيقباد، وأخذت التتار إربل بالسيف.
وفي سنة 635: مات بدمشق السلطان الملك الأشرف، وتملكها بعده أخوه الكامل، فمات بعده بها، وذلك بعد أن اقتتل بها الكامل وأخوه الصالح عماد الدين على الملك، وتعبت الرعية. وبعده تملكها الجواد، ثم ضعفت همته وأعطاها الصالح نجم الدين أيوب ابن الكامل، وتسلطن بمصر العادل أبو بكر ابن الكامل، وجرت أمور طويلة آخرها أن الصالح تملك الديار المصرية، واعتقل أخاه، وغلب على دمشق عمه الصالح، فتحاربا على الملك مدة طويلة، ثم استقرت مصر والشام لنجم الدين أيوب.
وفي سنة ست وثلاثين: أخذت الفرنج بلنسية وغيرها من جزيرة الأندلس.
وفي سنة سبع: هجم الصالح عماد الدين دمشق، وتملكها، وأخذ القلعة بالأمان، ونكث، فحبس المغيث عمر ابن الصالح، وتفلل الأمراء عن الصالح نجم الدين، وجاؤوا وحلفوا لعمه، وبقي هو في مماليكه بالغور، ثم أخذه ابن عمه الناصر صاحب الكرك، واعتقله مكرماً، ثم أخذه ومضى به إلى مصر، فتملك، فكان يقول: خلفني الناصر على أشياء يعجز عنها كل أحد، وهي أن آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب أو الجزيرة والموصل وديار بكر ونصف ديار مصر، وأن أعطيه نصف ما في الخزائن بمصر، فحلفت له من تحت قهره.
وولي خطابة دمشق بعد الدولعي الشيخ عز الدين ابن عبد السلام فأزال العلمين المذهبين، وأقام عوضها سوداً بكتابة بيضاء، ولم يؤذن قدامه سوى واحد، وأمر الصالح إسماعيل الخطباء أن يخطبوا لصاحب الروم معه.
وفي العيد خلع المستنصر على أرباب دولته، قال ابن الساعي: حزرت الخلع بثلاثة عشر ألفاً.
وفي سنة 638: فيها سلم الصالح إسماعيل قلعة الشقيف إلى الفرنج لينجدوه على المصريين، فنكر عليه ابن الحاجب وابن عبد السلام، فسجنهما مدة.
قال سبط الجوزي: قدم رسول التتار إلى شهاب الدين غازي ابن العادل، وإلى الملوك عنوان الكتاب: من نائب رب السماء ماسح وجه الأرض ملك الشرق والغرب يأمر ملوك الإسلام بالدخول في طاعة القان الأعظم، وقال الرسول لغازي: قد جعلك سلحداره، وأمرك أن تخرب أسوار بلادك.
وفيها كسر الناصر داود الفرنج بغزة.
وأخذ الركب الشامي بقرب تيماء.
والتقى صاحب حمص ومعه عسكر حلب الخوارزمية، فكسرهم بأرض حران، وخذ حران، وأخذ صاحب الروم آمد بعد حصار طويل، وكانت التتار تعيث في البلاد قتلاً وسبياً، وقلت الخوارزمية، فكانوا بالجزيرة يعيثون.
وفي سنة 639: دخلت التتار مع بايجونوين بلاد الروم، وعاثوا ونهبوا القرى، فهرب منهم صاحبها.
وفي سنة أربعين: التقى صاحب ميارفارقين غازي والحلبيون، فظهر الحلبيون، واستحر القتل بالخوارزمية، ونهبت نصيبين وغيرها، واستوى غازي على مدينة خلاط.
وفي المحرم أخذت التتار أرزن الروم، واستباحوها، وعن رجل قال: نهبت نصيبين في هذه السنة سبع عشرة مرة من المواصلة والماردانيين والفارقيين ولولا بساتينها، لجلا أهلها.
وكان للمستنصر منظرة يجلس فيها يسمع دروس المستنصرية، واستخدم جيشاً عظيماً، حتى قيل: إنهم بلغوا أزيد من مئة ألف. وكان ذا شجاعة وإقدام، وكان أخوه الخفاجي من الأبطال يقول: إن وليت، لأعبرن بالجيش جيحون، وأسترد البلاد، وأستأصل التتار، فلما مات المستنصر زواه عن الخلافة الدويدار والشرابي خوفاً من بأسه.
أنبأني ابن البزوري أن المستنصر توفي يوم الجمعة بكرة عاشر جمادى الآخرة.
وقال المنذري: جمادى الأولى، فوهم. عاش إحدى وخمسين سنة وأشهراً، وخطب يوم موته له، كتموا ذلك، فأتى إقبال الشرابي والخدم إلى ولده المستعصم، فسلموا عليه بإمرة المؤمنين وأقعدوه في سدة الخلافة، وأعلم الوزير وأستاذ الدار في الليل، فبايعاه.
وللناصر داود يرثي المستنصر:

أيا رنة الناعي عبثت بمسمـعـي

 

وأججت نار الحزن ما بين أضلعي

وأخرست مني مقـولاً ذا بـراعةٍ

 

يصوغ أفانين القريض المـوشـع

نعيت إلي البأس والجود والحجـى

 

فأوقفت آمالي وأجريت أدمـعـي

وقال صفي الدين ابن جميل:

عزٌ العزاء وأعوز الإلـمـام

 

واسترجعت ما أعطت الأيام

فدع العيون تسح يوم فراقهـم

 

عوض الدموع دماً فليس تلام

بانوا فلا قلبي يقـر قـراره

 

أسفاً ولا جفني القريح ينـام

فعلى الذين فقدتهم وعدمتهـم

 

مني تحية موجـع وسـلام

وكانت دولته سبع عشرة سنة رحمه الله وسامحه.

المستنصر

الخليفة الإمام أبو القاسم أحمد ابن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أحمد ابن المستضيئ الهاشمي العباسي البغدادي، أخو الخليفة المستنصر بالله منصور واقف المستنصرية.
بويع بالخلافة أحمد بعد خلو الوقت من خليفة عباسي ثلاث سنين ونصف سنة، وكان هذا معتقلاً ببغداد مع غيره من أولاد الخلفاء، فلما استولى هولاكو على بغداد، نجا هذا، وانضم إلى غرب العراق، فلما سمع بسلطنة الملك الظاهر وفد عليه في رجب سنة تسع وخمسين في عشرة من آل مهارش، فركب السلطان للقائه والقضاة والدولة، وشق قصبة القاهرة، ثم أثبت نسبه على القضاة، وبويع فركب يوم الجمعة من القلعة في السواد حتى أتى جامع القلعة، فصعد المنبر وخطب ولوح بشرف آل العباس، ودعا للسلطان وللرعية، وصلى بالناس.
قال القاضي جمال الدين محمد بن سومر المالكي: حدثني شيخنا ابن عبد السلام قال: لما أخذنا في بيعة المستنصر قلت للملك الظاهر: بايعه فقال: ما احسن، لكن بايعه أنت أولاً وأنا بعدك، فلما عقدنا البيعة، حضرنا من الغد عند السلطان، فأثنى على الخليفة، وقال: من جملة بركته أنني دخلت أمس الدار، فقصدت مسجداً فيها للصلاة، فأرى مصطبة نافرة، فقلت للغلمان أخربوا هذه، فلما هدموها، انفتح تحتها سرب فنزلوا فإذا فيه صناديق كثيرة مملوءة ذهباً وفضة من ذخائر الملك الكامل رحمه الله.
قلت: وهذا هو الخليفة الثامن والثلاثون من بني العباس، بويع بقلعة الجبل في ثالث عشر رجب سنة تسع. وكان أسمر آدم، شجاعاً، مهيباً، ضخماً، عالي الهمة، ورتب له السلطان أتابكاً وأستاذ دار، وشرابياً وخزنداراً وحاجباً وكاتباً، وعين له خزانة وعدة مماليك، ومئة فرس وعشر قطارات جمال وعشر قطارات بغال إلى أمثال ذلك.
قال أبو شامة: قرئ بالعادلية كتاب السلطان إلى قاضي القضاة نجم الدين ابن سني الدولة بأنه قدم عليهم أبو القاسم أحمد ابن الظاهر وهو أخو المستنصر، وجمع له الناس، وأثبت في المجلس نسبه عند قاضي القضاة، وبدأ بالبيعة السلطان، ثم الكبار على مراتبهم، ونقش اسمه على السكة، ولقب بلقب أخيه.
قال قطب الدين البعلي: وفي شعبان رسم الخليفة بعمل خلعة للسلطان وبكتابة تقليد، ونصبت خيمة بظاهر مصر، وركب المستنصر والظاهر إليها في رابع شعبان، وحضر القضاة والأمراء والوزير، فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده، وطوقه وقيده، ونصب منبر صعد عليه فخر الدين ابن لقمن كاتب السر، فقرأ التقليد الذي أنشأه، ثم ركب السلطان بالخلعة ودخل من باب النصر، وزينت القاهرة، وحمل الصاحب التقليد على رأسه راكباً والأمراء مشاة.
قلت: ثم عزم المستنصر على التوجه إلى بغداد بإشارة السلطان وإعانته، فذكر ابن عبد الظاهر في سيرة الملك الظاهر أن السلطان قال له: أنفقت على الخليفة والملوك المواصلة ألف ألف وست مئة ألف دينار.
قال قطب الدين البعلي: ثم سار هو والسلطان من مصر في تاسع عشر رمضان، ودخلا دمشق في سابع ذي القعدة، ثم سار الخليفة ومعه صاحب الموصل وصاحب سنجار بعد أيام.
قال أبو شامة: نزل الخليفة بالتربة الناصرية، ودخل يوم الجمعة إلى جامع دمشق، إلى المقصورة، ثم جاء بعده السلطان فصليا وخرجا، ومشيا إلى نحو مركوب الخليفة بباب البريد، ثم رجع السلطان إلى باب الزيادة. قال القطب: فسافر الخليفة، وصاحب الموصل إلى الرحبة، ثم افترقا، ثم وصل الخليفة بمن معه إلى مشهد علي، ولما أتوا عانة وجدوا بها الحاكم في سبع مئة نفس، فأتى إلى المستنصر وبايع، ونزل في مخيمه معه وتسلم الخليفة عانة، وأقطعها جماعة، ثم وصل إلى الحديثة، ففتحها أهلها له، فلما اتصل الخبر بمقدم المغول بالعراق، وبشحنة بغداد ساروا في خمسة آلاف، وعسكروا بالأنبار، ونهبوا أهلها وقتلوا وسار الخليفة إلى هيت فحاصرها، ثم دخلها في آخر ذي الحجة، ونهب ذمتها، ثم نزل الدور، وبعث طلائعه فأتوا الأنبار في ثالث المحرم سنة ستين، فعبرت التتار في الليل في المراكب وفي المخائض، والتقى من الغد الجمعان، فانكسر أولاً الشحنة، ووقع معظم أصحابه في الفرات، ثم خرج كمين لهم، فهربت الأعراب والتركمان، فأحاط الكمين بعسكر الخليفة، فحمل الخليفة بهم، فأفرج لهم التتار، ونجا جماعة منهم الحاكم في نحو الخمسين، وقتل عدة، والظاهر أن الخليفة قتل، ويقال: بل سلم، وأضمرته البلاد، ولم يصح، وقيل: بل قتل يومئذ ثلاثة من التتار وقتل رحمه الله في أوائل المحرم كهلا، وبعد سنتين بويع الحاكم بأمر الله أحمد.

المخزومي

الإمام العدل المحدث ظهير الدين ويلقب بالقاضي المكرم أبو المعالي عبد الرحمن بن علي بن عثمان بن يوسف المخزومي المغيري المصري الشافعي الشاهد.
ولد في صفر سنة تسع وستين.
وأجاز له من بغداد فخر النساء شهدة، وعبد الحق اليوسفي، ومن الموصل خطيبها أبو الفضل الطوسي، ومن دمشق الحافظ أبو القاسم، ومن الثغر أبو الطاهر السلفي، وطائفة سواهم، كعيس الدوشابي وابن شاتيل، ومسلم بن ثابت، وأبي شاكر السقلاطوني، وسمع من عبد الله بن بري، ومحمد بن علي الرحبي، والبوصيري، والقاسم بن عساكر، والأثير بن بنان، وعدة.
وروى الكثير، وهو من بيت رياسة وجلالة.
روى عنه المنذري والدمياطي وركن الدين بيبرس القيمري وابن العمادية، والتاج إسماعيل بن قريش، وطائفة.
وبالإجازة المعمرة وجيهية بنت أبي الحسن المؤدب.
وكان ديناً كثير التلاوة متنزهاً عن الخدم.
وهو أخو القاضي حمزة بن علي الأشرف.
مات في رمضان سنة ست وأربعين وست مئة ودفن بتربة آبائه بالقرافة.

صاحب اليمن

السلطان الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول بن هارون ابن أبي الفتح.
قيل: إنه من ولد جبلة بن الأيهم الغساني.
تملك بزبيد، وجرت له حروب وسير، وتمكن، وكان شجاعاً سائساً جواداً مهيباً، له نحو من ألف مملوك. وقد كان الكامل جهز من مصر عسكراً فقصدهم المنصور ففروا منه، وقيل: بل كتب إلى أمراء العسكر أجوبة فظفر بها مقدمهم جغريل، فخاف وقفز أميران: فيروز وابن بُرطاس إلى المنصور.
حدثني تاج الدين عبد الباقي أن مماليك المنصور قتلوه في سنة ثمان وأربعين وست مئة وسلطنوا ابن أخيه فخر الدين أبا بكر بن حسن، ولقبوه. بالمعظم، فلم يستمر ذلك، وتملك المظفر ابن المقتول.

المستعصم بالله

الخليفة الشهيد أبو أحمد عبد الله ابن المستنصر بالله منصور ابن الظاهر محمد ابن الناصر أحمد ابن المستضيئ الهاشمي العباسي البغدادي.
ولد سنة تسع وست مئة.
واستخلف سنة أربعين يوم موت أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلاً، تالياً لكتاب الله، مليح الكتابة، ختم على ابن النيار، فأكرمه يوم الختم ستة آلاف دينار، وبلغت الخلع يوم بيعته أزيد من ثلاث عشر ألف خلعة.
استجاز له ابن النجار المؤيد الطوسي وعبد المعز الهروي، وسمع منه بها شيخه أبو الحسن ابن النيار، وحدث عنه.
وحدث عنه بهذه الإجازة في حياته الباذرائي، ومحيي الدين ابن الجوزي.
وكان كريماً، حليماً ديناً سليم الباطن، حسن الهيئة.
وقد حدث عنه بمراغة ولده الأمير مبارك.
قال قطب الدين اليونيني: كان متديناً متمسكاً بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن في حزم أبيه، وتيقظه، وعلو همته، وإقدامه، وإنما قدموه على عمه الخفاجي لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه ليستبدوا بالأمور.
ثم إنه استوزر المؤيد ابن العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل، وحسن له جمع الأموال، وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم، وكان يعلب بالحمام، وفيه حرص وتوان.
وفي سنة إحدى وأربعين وست مئة: عاثت الخوارزمية بقرى الشام. وصالحت التتار صاحب الروم على ألف دينار، وفرس ومملوك وجارية في كل نهار، بعد أن استباحوا قيصرية.
وأهلك قاضي القضاة بدمشق الرفيع الجيلي.
ودخلت الفرنج القدس، ورشوا الخمر على الصخرة، وذبحوا عندها خنزيراً، وكسروا منها شقفة.
وفي سنة اثنتين وأربعين: كان حصار الخوارزمية على دمشق في خدمة صاحب مصر، واشتد القحط بدمشق ثم التقى الشاميون ومعهم عسكر من الفرنج والمصريون ومعهم الخوارزمية بين عسقلان وغزة، فانهزم الجمعان، ولكن حصدت الخوارزمية الفرنج في ساعة ثم أسروا منهم ثماني مئة، ويقال: زادت القتلى على ثلاثين ألفاً. واندك صاحب حمص، ونهبت خزائنه وبكى، وقال: قد علمت بأنا لا نفلح لما سرنا تحت الصلبان، واشتد الحصار على دمشق.
وجاءت من الحج أم المستعصم ومجاهد الدين الدويدار وقيران، وكان وفداً عظيماً.
ومات الوزير ابن الناقد، فوزر المؤيد ابن العلقمي والأستاذ دارية لمحيي الدين ابن الجوزي.
ودخلت سنة ثلاث وأربعين: والحصار على دمشق وتعثرت الرعية وخربت الحواضر، وكثر الفناء، وفي الآخر ترك البلد الصالح إسماعيل، وصاحب حمص، وترحلا إلى بعلبك، ودخل البلد معين الدين حسن ابن الشيخ، وحكم وعزل من القضاء محيي الدين ابن الزكي، وولى صدر الدين ابن سني الدولة.
وجاء رسول الخلافة ابن الجوزي بخلع السلطنة للملك الصالح نجم الدين.
وفيها جاءت فرقة من التتار إلى بعقوبا فالتقاهم الدويدار، فكسرهم.
وفي ذي القعدة بلغت غرارة القمح بدمشق ألفاً ومئتي درهم.
وفي سنة أربع وأربعين: عاثت الخوارزمية وتخربت القرى، فالتقاهم عسكر حلب وحمص، فكسروا وشر كسرة على بحيرة حمص، وقتل مقدمهم بركة خان، وحار الصالح إسماعيل في نفسه، والتجأ إلى صاحب حلب.
وفيها ختان أحمد وعبد الرحمن ولدي الخليفة وأخيه علي، فمن الوليمة ألف وخمس مئة راس شواء.
وقدم رسولان من التتار أحدهما من بركة، والآخر من بايجو، فاجتمعوا بابن العلقمي، وتعمت الأخبار.
وفيها أخذت الفرنج شاطبة.
وفي سنة خمس وأربعين: راح الصالح إلى مصر وخلف جيشه يحاصرون عسقلان وطبرية فافتتحوهما، وحاصر الحلبيون حمص أشهراً وتعب صاحبها الأشرف فسلمها وعوض عنها بتل باشر في سنة ست.
وفي سنة سبع: هجمت الفرنج دمياط في ربيع الأول فهرب الناس من الباب الآخر، وتملكها الفرنج صفواً عفواً نعوذ بالله من الخذلان، وكان للسلطان بالمنصورة فغضب على أهلها وشنق ستين من أعيان أهلها، وذاقوا ذلاً وجوعاً، واستوحش العسكر من السلطان، وقيل: هم مماليكه بقتله، فقال نائبه فخر الدين ابن الشيخ: اصبروا فهو على شفا، فمات في نصف شعبان، وأخفي موته إلى أن أحضر ابنه المعظم تورانشاه من حصن كيفا، فلم يبق إلا قليلاً وقتلوه، وكانت وقعة المنصورة في ذي القعدة، فساقت الفرنج إلى الدهليز، فخرج نائب السلطنة فخر الدين ابن الشيخ وقاتل فقتل، وانهزم المسلمون وعظم الخطب، ثم تناخى العسكر وكروا على العدو فطحنوهم، وقتلوا خلقاً، ونزل النصر.
ثم في ذي الحجة كان وصول المعظم، وكان نوى أن يفتك بفخر الدين، لأنه بلغه أنه رام السلطنة.
واستهلت سنة ثمان: والفرنج على المنصورة بإزاء المسلمين، ولكنهم في ضعف وجوع، وماتت خيلهم، فعزم الفرنسيس على الركوب ليلاً إلى دمياط، فعلم المسلمون، وكانت الفرنج قد عملوا جسراً عظيماً على النيل، فذهلوا عن قطعة، فدخل منه المسلمون فكبسوهم، فالتجأت الفرنج إلى منية أبي عبد الله، فأحاط بهم الجيش، وظفر أصطول المسلمين أصطولهم وغنموا مراكبهم، وبقي الفرنسيس في خمس مئة فارس وخذل، فطلب الطواشي رشيد وسيف الدين القيمري، فأتوه فطلب أماناً فأمناه على أن لا يمروا به بين الناس، وهرب جمهور الفرنج، وتبعهم العسكر وبقوا جملة وجملة حتى أبيدت خضراؤهم، حتى قيل: نجا منهم فارسان، ثم غرقا في البحر! وغنم المسلمون ما لا يعبر عنه.
أنبأني الخضر بن حمويه، قال: لو أراد ملكهم لنجا على فرسه ولكنه حمى ساقيه، فأسر هو وجماعة ملوك وكنود فأحصي الأسرى فكانوا نيفاً وعشرين ألفاً، وغرق وقتل سبعة آلاف، وكان يوماً ما سمع المسلمون بمثله، وما قتل من المسلمين نحو المئة، واشترى الفرنسيس نفسه برد دمياط وبخمس مئة ألف دينار. وجاء كتاب المعظم، وفيه في أول السنة ترك العدو خيامهم، وقصدوا دمياط، فعمل السيف فيهم عامة الليل، وإلى النهار، فقتلنا منهم ثلاثين ألفاً غير من ألقى نفسه في الماء، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج.
وفي أواخر المحرم قتلوا المعظم.
وفيها استولى صاحب حلب على دمشق، ثم سار ليأخذ مصر، وهزم المصريين، ثم تناخوا وهزموه وقتلوا نائبه.
واستولى لؤلؤ على جزيرة ابن عمر، وقتل ملكها في سنة تسع.
وفي سنة خمسين: أغارت التتار على ميافارقين وسروج، وعليهم كشلوخان المغلي.
وفي سنة إحدى وخمسين: أخذ المسلمون صيداً، وهرب أهلها إلى قلعتها.
وفيها قدمت بنت علاء الدين صاحب الروم، فدخل بها صاحب دمشق الملك الناصر، فكان عرساً مشهوداً وعملت القباب، وكان الخلف واقعاً بين الناصر وبين صاحب مصر المعز، ثم بعد مدة وقع الصلح.
وفي سنة أربع وخمسين: كان ظهور الآية الكبرى وهي النار بظاهر المدينة النبوية ودامت أياماً تأكل الحجارة، واستغاث أهل المدينة إلى الله وتابوا، وبكوا، ورأى أهل مكة ضوءها من مكة، وأضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وكسف فيها الشمس والقمر، وكان فيها الغرق العظيم ببغداد، وهلك خلق من أهلها، وتهدمت البيوت، وطفح الماء على السور.
وفيها سار الطاغية هولاكو بن تولي بن جنكزخان في مئة ألف، وافتتح حصن الألموت، وأباد الإسماعيلية، وبعث جيشاً عليهم باجونوين، فأخذوا مدائن الروم، وذل لهم صاحبها، وقتل خلق كثير.
وفيها كان حريق مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جميعه في أول رمضان من مسرجة القيم، فلله الأمر كله.
وفي سنة خمس وخمسين: مات صاحب مصر الملك المعز أيبك التركماني، قتلته زوجته شجر الدر في الغيرة فوسطت.
وجرت فتنة مهولة ببغداد بين الناس وبين الرافضة، وقتل عدة من الفريقين، وعظم البلاء، ونهب الكرخ، فحنق ابن العلقمي الوزير الرافضي، وكاتب هولاكو، وطمعه في العراق، فجاءت رسل هولاكوا إلى بغداد، وفي الباطن معهم فرمانات لغير واحد، والخليفة لا يردي ما يتم، وأيامه قد ولت، وصاحب دمشق شاب غر جبان، فبعث ولده الطفل مع الحافظي بتقادم وتحف إلى هولاكو فخضع له، ومصر في اضطراب بعد قتل المعز، وصاحب الروم قد هرب إلى بلاد الأشكري، فتمرد هولاكو وتجبر، واستولى على الممالك، وعاث جنده الكفرة يقتلون ويأسرون ويحرقون.
ودخلت سنة ست: فسار عسكر الناصر، وعليهم المغيث ابن صاحب الكرك، ليأخذوا مصر فالتقاهم المظفر قطز، وهو نائب للمنصور علي ولد المعز بالرمل فكسرهم، وأسر جماعة أمراء فضرب أعناقهم.
وأما هولاكو فقصد بغداد فخرج عسكرها إليه فانكسروا، وكاتب لؤلؤ صاحب الموصل وابن صلايا متولي إربل والخليفة سراً ينصحانه فما أفاد، وقضي الأمر، وأقبل هولاكو في المغول والترك والكرج ومدد من ابن عمه بركة ومدد من عسكر لؤلؤ لعيهم ابنه الملك الصالح، فنزلوا بالجانب الغربي، وأنشأوا عليهم سوراً، وقيل: بل أتى هولاكو البلد من الجانب الشرقي، فأشار الوزير على الخليفة بالمداراة وقال: أخرج إليه أنا، فخرج واستوثق لنفسه ورد، فقال: القان راغب في أن يزوج بنته بابنك أبي بكر ويبقي لك منصبك كما أبقى صاحب الروم في مملكته من تحت أوامر القان، فاخرج إليه، فخرج في كبراء دولته للنكاح يعني، فضرب أعناق الكل بهذه الخديعة، ورفس المستعصم حتى تلف، وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوماً، فأقل ما قيل: قتل بها ثمان مئة ألف نفس، وأكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمان مئة ألف، وجرت السيول من الدماء فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم بعد ذهاب البلد ومن فيه إلا اليسير نودي بالأمان، وانعكس على الوزير مرامه وذاق ذلاً وويلاً وما أمهله الله. ومن القتلى مجاهد الدين الدويدار والشرابي، وابن الجوزي أستاذ الدار، وبنوه، وقتل بايجو نوين نائب هولاكو اتهمه بمكاتبة الخليفة. ورجع هولاكو بالسبي والأموال إلى أذربيجان، فنزل إلى خدمته لؤلؤ فخلع عليه، ورده إلى الموصل، ونزل إليه ابن صلايا، فضرب عنقه، وبعث عسكراً حاصروا ميافارقين وبعث رسولاً إلى الناصر وكتابه: خدمة ملك ناصر طال عمره إنا فتحنا بغداد، واستأصلنا ملكها وملكها وكان ظن إذ ضن بالأموال ولم ينافس في الرجال أن ملكه يبقى على ذلك الحال، وقد علا قدره ونمى ذكره فخسف في الكمال بدره:

إذا تم أمر بدا نقصـه

 

توقع زوالاً إذا قيل تم

ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد، فأبد ما في نفسك، وأجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره، وتنل بره، واسع إليه ولا تعوق رسولنا والسلام.
ذكر جمال الدين سليمان بن رطلين الحنبلي، قال: جاء هولاكو في نحو مئتي ألف، ثم طلب الخليفة فطلع معه القضاة والأعيان في نحو من سبع مئة نفس فمنعوا، وأحضر الخليفة ومعه سبعة عشر كان أبي منهم، وضرب رقاب سائر أولئك، فأنزل الخليفة في خيمة والسبعة عشر في خيمة، قال أبي: فكان الخليفة يجيء إلينا في الليل ويقول: ادعوا لي، قال: فنزل على خيمته طائر فطلبه هولاكو، فقال: أيش عمل هذا الطائر، وما قال لك؟ ثم جرت له محاورة معه، وأمر به وبابنه أبي بكر فرفسا حتى ماتا، وأطلقوا السبعة عشر وأعطوهم نشابة، فقتل منهم اثنان وأتى الباقون دورهم فوجدوها بلاقع، فأتيت أبي المغيثية، فوجدته مع رفاقه فلم يعرفني أحد منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريد فخر الدين ابن رطلين، وقد عرفته فالتفت إلي وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولده، فنظر فلما تحققني، بكى وكان معي قليل سمسم فتركته بينهم.
وعمل ابن العلقمي على ترك الجماعات، وأن يبني مدرسة على مذهب الرافضة، فما بلغ أمله، وأقيمت الجمعيات.
وحدثني أبي، قال: كان قد مشى حال الخليفة بأن يكون للتتار نصف دخل العراق، وما بقي شيء، أن يتم ذلك، فقال ابن العلقمي: بل المصلحة قتله، وإلا فما يتم لكم ملك العراق.
قلت: قتلوه خنقاً، وقيل: رفساً، وقيل: غماً في بساط، وكانوا يسمونه الأبله.
وأنبأني الظهير الكازروني في تاريخه أن المستعصم دخل بغداد بعد أن خرج إلى هولاكو، فأخرج له الأموال، ثم خرج في رابع صفر، وبذل السيف في خامس صفر.
قال: وقتل المستعصم بالله يوم الأربعاء رابع عشر صفر، فقيل: جعل في غرارة ورفس إلى أن مات رحمه الله، ودفن وعفي أثره، وقد بلغ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر.
قال: وقتل ابناه أحمد وعبد الرحمن وبقي ولده مبارك وفاطمة وخديجة ومريم في أسر التتار.
قتل: وله ذرية إلى اليوم بأذربيجان، وانقطعت الإمامة العباسية ثلاث سنين وأشهراً بموت المستعصم، فكانت دولتهم من سنة اثنتين وثلاثين ومئة إلى سنة ست وخمسين وست مئة فذلك خمس مئة وأربع وعشرون سنة، ولله الأمر.

الجواد

السلطان الملك الجواد مظفر الدين يونس بن ممدود ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب الأيوبي.
نشأ في خدمة عمه الكامل، فوقع بينهما، فتألم، وجاء إلى عمه المعظم، فأكرمه، ثم عاد إلى مصر، وأصلح هو والكامل، ولما توفي الأشرف جاء الكامل ومعه هذا، ثم مات الكامل، فملكوا الجواد دمشق.
وكان جواداً مبذراً للخزائن، قليل الحزم، وفيه محبة للصالحين والتف حوله ظلمة، ثم تزلزل أمره، فكاتب الملك الصالح أيوب ابن الكامل صاحب سنجار وغيرها، فبادر إليه وأعطاه دمشق وعوضه بسنجار وعانة فخاب البيع، فذهب إلى الجزيرة، فلم يتم له أمر، وأخذت منه سنجار، وبقي في عانة حزيناً، فتركها ومضى إلى بغداد فباع عانة للمستنصر بمال، ثم قدم على الملك الصالح أيوب فما أقبل عليه، وهم باعتقاله ففر إلى الكرك، فقبض عليه الناصر، ثم هرب من مخاليبه، فقدم على صاحب دمشق يومئذ الصلاح إسماعيل عمه، فما بشر به، وتراجمته الأحوال، فقصد الفرنجي ملك بيروت، فأكرموه وحضر معهم وقعة قلنسوة من عمل نابلس، قتلوا بها ألف مسلم نعوذ بالله من المكر والخزي، ثم تحيل عمه الصالح إسماعيل عليه وذهب إليه ابن يغمور فخدعه وجاء فقبض عليه الصالح فسجنه بعزتا. وقيل: إن الجواد لما تسلطن التقى هو والناصر داود بظهر حمار، فانهزم داود، وأخذ الجواد خزائنه، ودخل دار المعظم التي بنابلس فاحتوى على ما فيها، وكان بمصر قد تملك العادل ولد الكامل، فنفذ يأمر الجواد برد بلاده إليه، وأن يرد إلى دمشق، فرد إليها، ودخلها في تجمل زائد، وزينوا البلد، وكان يخطب له بعد ذكر العادل ابن عمه، مضى هذا، ثم إن الفرنج ألحوا على الصالح، وكان مصافياً لهم، في إطلاق الجواد، وقالوا: لا بد لنا منه، وكانت أمه إفرنجية فيما قيل، فأظهر لهم أنه قد توفي، فقيل: خنقه في شوال سنة إحدى وأربعين وست مئة، وحمل قد حمل فدفن عند المعظم بسفح قاسيون سامحه الله تعالى.

صاحب تونس

الملك أبو زكريا يحيى ابن الأمير عبد الواحد ابن الشيخ عمر الهنتاني الموحدي.
كان أبوه متولياً لمدائن إفريقية لآل عبد المؤمن، فمات وولي بعده الأمير عبو، فولي مدة، ثم توثب عليه يحيى هذا، واستولى على إفريقية وتمكن، وامتدت دولته بضعاً وعشرين سنة، واشتغل عنه بنو عبد المؤمن بأنفسهم، وقوي أيضاً عليهم يغمراسن صاحب تلمسان.
مات الملك يحيى بمدينة بونة من إفريقية في جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وست مئة، وقيل: بعد ذلك سنة تسع.
وتملك بعده ابنه. وهي مملكة كبيرة في قدر مملكة اليمن بل أكبر، وعسكره نحو من سبعة آلاف فارس، وسلطانها اليوم هو أبو بكر الهنتاني أحد الشجعان مصالح للسلطان أبي الحسن المريني ومصاهر له.

صاحب الغرب

السلطان السعيد، ويقال له: المعتضد بالله، علي ابن المأمون إدريس بن يعقوب المؤمني.
تملك المغرب سنة أربعين بعد أخيه الرشيد عبد الواحد وكان أسود الجلدة.
قتل في صفر سنة ست وأربعين وست مئة، فقام بعده المرتضى عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف الذي خرج عليه أبو دبوس وقتله سنة خمس وسين وست مئة.
قال ابن خالكان: سار السعيد، وحاصر قلعة بقرب تلمسان، وقتل هناك على ظهر جواده.

الملك الصالح

السلطان الكبير الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن العادل، وأمه جارية سوداء اسمها ورد المنى.
مولده سنة ثلاث وست مئة بالقاهرة.
وناب عن أبيه لما جاء لحصار الناصر داود، فلما رجع انتقد أبوه عليه أشياء، ومال عنه إلى ولده الآخر العادل، فلما استولى الكامل على آمد وحصن كيفا وسنجار سلطن نجم الدين، وجعله على هذه البلاد، فبقي بها إلى أن جاء وتملك دمشق، ثم ساق إلى الغور فوثب على دمشق عمه إسماعيل فأخذها، ونزل عسكر الكرك، فأحاطوا بالصالح، وأخذوه إلى الكرك، ثم ذهب به الناصر لما كاتبه الأمراء الكاملية فعزلوا أخاه العادل وملكوه، ورجع الناصر بخفي حنين. قال ابن واصل: كان لا يجتمع بالفضلاء ولم يكن له مشاركة، بخلاف أبيه، وفي سنة إحدى وأربعين اصطلح الصالح وعمه الصالح على أن دمشق لعمه، وأن يقيم هو والحلبيون والحمصيون الخطبة للصالح نجم الدين، وأن يبعث إليه ولده الملك المغيث وابن أبي علي ومجير الدين ابن أبي زكري فأطلقهم عمه، واتفقت الملوك على عداوة صاحب الكرك، وبعث إسماعيل جيشاً يحاصرون عجلون، وهي بيد الناصر، ثم انحل ذلك لورقة وجدها إسماعيل من أيوب إلى الخوارزمية يحثهم على المجيء ليحاصروا عمه، فحبس حينئذ المغيث وصالح صاحب الكرك، واتفق مع صاحب حمص وصاحب حلب واعتضد بالفنرج، فأقبل المصريون عليهم بيبرس الصالحي البندقدار الكبير الذي قتله أستاذه، وأعطى إسماعيل الفرنج بيت المقدس وعمروا طبريا وعسقلان، ووضعت الرهبان قناني الخمر على الصخرة، وأبطل الأذان بالحرم، وعدت الخوارزمية الفرات في عشرة آلاف، فما مروا بشيء إلا نهبوه، وأقبلوا، فهربت الفرنج منهم من القدس فقتلوا عدة من النصارى، وهدموا قمامة ونبشوا عظام الموتى، وجاءته الخلع والنفقة من مصر، ثم سار على الشاميين المنصور صاحب حمص، ووافته الفرنج، قال المنصور: لقد قصرت يومئذ وعرفت أننا لا نفلح بالنصارى، فالتقوا. قال: فانهزم الشاميون، ثم جاء جيش السلطان نجم الدين، وعليهم معين الدين ابن الشيخ، ومعه خزانة مال فنازلوا دمشق مدة، ثم أخذت بالأمان لقلة من مع صاحبها، ولمفارقة الحلبيين له، فتركها وذهب إلى بعلبك، وحصل للخوارزمية إدلال، وطمعوا في كبار الأخباز، فلم يصح مرامهم، فغضبوا ونابذوا، ثم حلفوا لإسماعيل، وجاء تقليد الخلافة للسلطان بمصر والشام والشرق ولبس العمامة والجبة السوداء. ثم إن الصالح إسماعيل كر بالخوارزمية إلى دمشق ونازلها وما بها كبير عسكر، فكان بالقلعة رشد الخادم، وبالمدينة حسام الدين ابن أبي علي، فقام بحفظها واشتد بها القحط حتى أكلوا الجيف، حتى قيل: إن رجلاً مات في الحبس فأكلوه، وجرت أمور مزعجة، ثم التقى الحلبيون والخوارزمية، فكسرت الخوارزمية، وقتل خلق منهم، وفر إسماعيل إلى حلب، فبعث السلطان يطلبه من صاحبها الملك الناصر يوسف، فقال: كيف يليق أن يلتجئ إلي خال أبي فأسلمه، سار عسكر فأخذوا بعلبك من أولاد إسماعيل، وبعثوا تحت الحوطة إلى مصر وأمين الدولة الوزير وابن يغمور، فحبسوا، وصفت البلاد للسلطان، وبقي صاحب الكرك كالمحصور، ثم رضي السلطان عن فخر الدين ابن الشيخ، وأطلقه وجهزه في جيش، فاستولى على بلاد الناصر، وخرب قرى الكرك وحاصره، وقل ناصر الناصر، فعمل تيك القصيدة البديعة يعاتب السلطان:

قل للذي قاسـمـتـه مـلـك الـيد

 

ونهضت فيه نهضة الـمـتـأسـد

عاصيت فيه ذوي الحجى من أسرتي

 

وأطعت فيه مكـارمـي وتـوددي

يا قاطع الرحم التي صلتـي بـهـا

 

كتبت على الفلك الأثير بعسـجـد

إن كنت تقدح في صريح مناسبـي

 

فاصبر بعرضك للهيب المـرصـد

عمـي أبـوك ووالـدي عـم بـه

 

يعلو انتسابك كـل مـلـك أصـيد

صالا وجـالا كـالأسـود ضـوارياً

 

وارتد تيار الـفـرات الـمـزبـد

دع سيف مقولي البلـيغ يذب عـن

 

أعراضكم بفرنـده الـمـتـوقـد

فهو الذي قد صاغ تاج فـخـاركـم

 

بمفصل مـن لـؤلـؤ وزبـرجـد

يا محرجي بالقـول والـلـه الـذي

 

خضعت لعزته جبـاه الـسـجـد

لولا مقال الهجر منـك لـمـا بـدا

 

مني افتخار بالقريض المـنـشـد

إن كنت قلت خلاف ما هو شيمتـي

 

فالحاكمون بمسمع وبـمـشـهـد

ثم طلب السلطان حسام الدين واستنابه بمصر، وبعث على دمشق جمال الدين ابن مطروح، وقدم الشام فجاء إلى خدمته صاحب حماة المنصور صبي وصاحب حمص، ورجع إلى مصر متمرضاً، وأعدم العادل أخاه سراً، وله ثمان وعشرون سنة، وحصل له قرحة، ومرض في أنثييه، ثم جاء إلى دمشق عليلاً في محفة لما بلغه أن الحلبيين أخذوا حمص، فبلغه حركة الفرنج لقصد دمياط، فرد في المحفة، ثم خيم بأشمون، وأقبلت الفرنج مع ريذا فرنس، فأمليت دمياط بالذخائر، وأتقنت الشواني، ونزل فخر الدين ابن الشيخ بالجيش على جيزة دمياط وأرست مراكب الفرنج تلقاءهم في صفر سنة سبع وأربعين، ثم طلعوا ونزلوا في البر مع المسلمين ووقع قتال، فقتل الأمير ابن شيخ الإسلام، والأمير الوزيري، فتحول الجيش إلى البر الشرقي الذي فيه دمياط، ثم تقهقروا ووقع على أهل دمياط خذلان عجيب، فهربوا منها طول الليل، حتى لم يبق بها آدمي، وذلك بسوء تدبير ابن الشيخ، هربوا لما رأوا هرب العسكر، وعرفوا مرض السلطان، فدخلتها الفرنج بلا كلفة، مملوءة خيرات وعدة ومجانيق، فلما علم السلطان غضب وانزعج وشنق من مقاتليها ستين، ورد فنزل بالمنصورة في قصر أبيه ونودي بالنفير العام، فأقبل خلائق من المطوعة، وناوشوا الفرنج، وأيس من السلطان. وأما الكرك فذهب الناصر إلى بغداد فسار ولده الأمجد إلى باب السلطان وسلم الكرك إليه فبالغ السلطان في إكرام أولاد الناصر وأقطعهم بمصر.
قال ابن واصل: كان الملك الصالح نجم الدين عزيز النفس أبيها، عفيفاً، حيباً، طاهر اللسان والذيل، لا يرى الهزل ولا العبث، وقوراً، كثير الصمت، اقتنى من الترك ما لم يشتره ملك، حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على الأكراد وأمر منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم البحرية.
قلت: لكون التجار جلبوهم في البحر من بلاد القفجاق.
قال ابن واصل: حكى لي حسام الدين ابن أبي علي، أن هؤلاء المماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم كانوا أبلغ من يهاب السلطان، وإذا خرج يرعدون منه، وأنه لم يقع منه في حال غضبه كلمة قبيحة قط، وأكثر ما يقول: يا متخلف، وكان كثير الباه بجواريه، ثم لم يكن عنده في الآخر سوى زوجتين الواحدة شجر الدر، والأخرى بنت العالمة تزوجها بعد مملوكه الجوكندار، وكان إذا سمع الغناء لم يتزعزع، لا هو ولا من في مجلسه، وكان لا يستقل أحد من الكبار في دولته بأمر، بل يراجع مع الخدام بالقصص فيوقع هو ما يعتمده كتاب الإنشاء، وكان يحب أهل الفضل والدين، يؤثر العزلة والانفراد، لكن له نهمة في لعب الكرة، وفي إنشاء البنية العظيمة، وقيل: كان لا يجسر أحد أن يخاطبه ابتداء. وقيل: كان فصيحاً، حسن المحاورة عظيم السطوة، تعلل ووقعت الآكلة في فخذه، ثم اعتراه إسهالٌ، فتوفي ليلة النصف من شعبان، سنة سبع وأربعين وست مئة بقصر المنصورة مرابطاً، فأخفوا موته، وأنه عليل حتى أقدموا ابنه الملك المعظم تورانشاه من حصن كيفا، ثم نقل، فدفن بتربته بالقاهرة، وكان بنو شيخ الشيوخ قد ترقوا لديه، وشاركوه في المملكة، وقد غضب مدة على فخر الدين يوسف، ثم أطلقه وصيره نائب السلطنة لنبله، وكمال سؤدده، وكان جواداً محبباً إلى الناس، إلا أنه كان يتناول النبيذ.
ولما مات السلطان عين فخر الدين للسلطنة فجبن ونهض بأعباء الأمور، وساس الجيش، وأنفق فيهم مئتي ألف دينار، وأحضر توارنشاه، وسلطنه، ويقال: إن تورانشاه هم بقتله. واتفق حركة الفرنج وتأخر العساكر، فركب فخر الدين في السحر، وبعث خلف الأمراء ليركبوا، فساق في طلبه فدهمه طلب الداوية، فحملوا عليه فتفلل عنه أجناده، وطعن، وقتل، ونهبت غلمانه أمواله وخيله، فراح كأن لم يكن.
قال ابن عمه سعد الدين: كان الضباب شديداً فطعن وجاءته ضربة سيف في وجهه، وقتل معه جمداره وعدة، وتراجع المسلمون فأوقعوا بالفرنج، وقتلوا منهم ألفاً وست مئة فارس، ثم خندقت الفرنج على نفوسهم. قال: وأخربت دار فخر الدين ليومها، وبالأمس كان يصطف على بابها عصائب سبعين أميراً. قتل في رابع ذي القعدة سنة سبع وله خمس وستون سنة.