القسـم الأول - الجـزء الأول (المسلمون) - الباب الأول

المعتزلة

ويسمون‏:‏ أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية‏.‏

وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا‏:‏ لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى إحترازاً من وصمة اللقب إذ كان من الذم به متفقاً عليه لقول النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏ القدرية مجوس هذه الأمة ‏"‏‏.‏

وكانت الصفاتية تعارضهم‏:‏ بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد فكيف يطلق لفظ الضد على الضد وقد قال النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏ القدرية‏:‏ خصماء الله في القدر ‏"‏ والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على ما فعل الله وفعل العبد لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم‏.‏

والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد‏:‏ القول بأن الله تعالى قديم والقدم أخص وصف ذاته ونفا الصفات القديمة أصلاً فقالوا‏:‏ هو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة‏:‏ هي صفات قديمة ومعان قائمة به لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الإلهية‏.‏

واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه فإن ما وجد في لمحل عرض قد فنى في الحال‏.‏

واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر‏:‏ ليست معاني قائمة بذاته لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها كما سيأتي‏.‏

واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ونفى التشبيه عنه من كل وجه‏:‏ ومكانا وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالاً وزوالاً وتغيراً وتأثراً وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيه‏.‏

وسموا هذا النمط‏:‏ توحيداً‏.‏

واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة‏.‏

والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً كما لو خلق العدل كان عادلاً‏.‏

واتفقوا على أنه الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد‏.‏
وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم‏.‏

وسموا هذا النمط‏:‏ عدلاً‏.‏

واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة‏:‏ استحق الثواب والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب‏.‏

وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها‏:‏ استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار‏.‏

وسموا هذا النمط‏:‏ وعدا ووعيداً‏.‏

واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة‏:‏ واجبة قبل ورود السمع والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك‏.‏

وورود التكاليف ألطاف للباري تعلى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام‏:‏ امتحاناً واختباراً ‏"‏ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ‏"‏‏.‏

واختلفوا في الإمامة والقول فيها‏:‏ نصاً واختباراً كما سيأتي عند كل طائفة‏.‏

والآن نذكر ما يختص بطائفة طائفة من المقالة التي تميزت بها عن أصحابها‏.‏

الواصلية‏‏

أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال الألثغ كان تلميذاً للحسن البصري يقرأ عليه العلوم الأخبار وكانا في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك‏.‏

وبالمغرب في أيام أبي جعفر المنصور‏.‏

ويقال لهم‏:‏ الواصلية‏.‏

واعتزالهم يدور على أربعة قواعد‏:‏

القاعدة الأولى‏:‏ القول بنفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة‏.‏

وكانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين قال‏:‏ ‏"‏ ومن أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين ‏"‏‏.‏

وإنما شرعت أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه‏:‏ عالماً قادراً ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما‏:‏ اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي أو حالان كما قال أبو هاشم‏.‏

وميل أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة وهي العالمية وذلك عين مذهب الفلاسفة وسنذكر تفصيل ذلك‏.‏

وكان السلف يخالفهم في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة‏.‏

القاعدة الثانية‏:‏ القول بالقدر‏:‏ وغنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي‏.‏

وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات فقال إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرن ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى أقدره على ذلك كله‏.‏

وأفعال العباد محصورة في‏:‏ الحركات والسكنات والاعتمادات والنظر والعلم قال‏:‏ ويستحيل أن يخاطب العبد بالفعل وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل ومن أنكره فقد أنكر الضرورة واستدل بآيات على هذه الكلمات‏.‏

ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدل فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل ولعلها لواصل ابن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله تعالى فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم‏.‏

والعجب‏!‏ أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على‏:‏ البلاء والعافية والشدة والرخاء والمرض والشفاء والموت والحياة إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون‏:‏ الخير والشر والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد‏.‏

وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالة عن أصحابهم‏.‏

القاعدة الثالثة‏:‏ القول بالمنزلة بين المنزلتين والسبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال‏:‏ يا إمام الدين‏!‏ لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء‏:‏ أنا لا أقول‏:‏ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين‏:‏ لا مؤمن ولا كافر ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن‏:‏ اعتزل عنا واصل فسمي هو وأصحابه‏:‏ معتزلة‏.‏
ووجه تقريره انه قال‏:‏ إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمى المرء مؤمناً وهو اسم مدح والاسم لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس هو بكافر مطلقا أيضاً لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إذ ليس في الآخرة إلا فريقان‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار‏.‏

وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد بعد أن كان موافقاً له في القدر وإنكار الصفات‏.‏

القاعدة الرابعة‏:‏ قوله في الفريقين من أصحاب الجمل وأ صحاب صفين‏:‏ إن أحدهما مخطئ بعينه وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه‏.‏

قال‏:‏ إن أحد الفريقين فاسق لا محالة كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه وقد عرفت قوله في الفاسق وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين فلم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ‏.‏

هذا قولهَ‏!‏ وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة وأئمة العترة‏.‏

ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه وزاد عليه في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه بأن قال‏:‏ لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل علي ورجل من عسكره أو طلحة والزبير‏:‏ لم تقبل شهادتهما وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار‏.‏

وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث معروفاً بالزهد‏.‏

وواصل مشهوراً بالفضل والأدب الهذيلية أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف‏:‏ شيخ المعتزلة ومقدم الطائفة ومقرر الطريقة والمناظر عليها أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء‏.‏

ويقال‏:‏ أخذ واصل بن عطاء عن أبي هاشم عبد الله بن محمد الحنفية ويقال‏:‏ أخذه عن الحسن بن أبي الحسن البصري‏.‏

وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد‏:‏ الأولى‏:‏ أن الباري تعالى عالم بعلمه وعلمه بذاته قادر بقدرة وقدرته ذاته حي بحياة وحياته ذاته‏.‏
وإما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا‏:‏ أن ذاته واحدة لا ثرة فيها بوجه وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته وترجع إلى أسلوب أو اللوازم كما سيأتي‏.‏

والفرق بين قول القائل‏:‏ عالم بذاته لا بعلم وبين قول القائل‏:‏ عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات‏.‏

وإذ أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى أو أحوال أبي هاشم‏.‏

الثانية‏:‏ أنه أثبت إرادات لا محل لها يكون الباري تعالى مريداً بها‏.‏

وهو أول من أحدث هذه المقالة وتابعه عليها المتأخرون‏.‏

الثالثة‏:‏ قال في كلام الباري تعالى‏:‏ إن بعضه لا في محل وهو قوله كن وبعضه في محل كالأمر والنهي والخبر والإستخبار‏.‏

وكأن أمر التكوين عنده غير أمر التكليف‏.‏

الرابعة‏:‏ قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه إلا أنه قد ري الأولى جبري الآخرة فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين في الآخرة‏:‏ أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها وكلها مخلوقة للباري تعالى إذ كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها‏.‏

الخامسة‏:‏ قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع وإنهم يصيرون إلى سكون دائم خموداً وتجتمع للذات قي ذلك السكون لأهل الجنة وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار‏.‏

وهذا قريب من مذهب جهم‏:‏ إذ حكم بفناء الجنة والنار‏.‏

وإنما التزم أبو الهديل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم‏:‏ أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها إذ كل واحدة لا تتناهى قال‏:‏ إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخراً كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولاً بل يصيرون إلى سكون دائم وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون‏.‏

السادسة‏:‏ قوله في الاستطاعة‏:‏ إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق بين أفعال القلوب وأفعال الجوارح فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال الفعل‏.‏

وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم يوجد الفعل إلا في الحالة الثانية قال‏:‏ فحال يفعل غير حال فعل‏.‏

ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله غير اللون والطعم والرائحة ما لا يعرف كيفيته‏.‏

وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه‏:‏ إن الله تعالى يبدعهما فيه وليسا من أفعال العباد‏.‏

السابعة‏:‏ قوله في المكلف قبل ورود السمع‏:‏ إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً ويعلم أيضاً حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل والإعراض عن القبيح كالكذب والجور‏.‏

وقال أيضاً بطاعات لا يراد بها الله تعالى ولا يقصد بها التقرب إليه كالقصد إلى النظر الأول والنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد والفعل عبادة وقال في المكره‏:‏ إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزره موضوعاً عنه‏.‏

الثامنة‏:‏ قوله في الآجال والأرزاق‏:‏ إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص‏.‏

والأرزاق على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما خلق الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال خلقها رزقاً للعباد فعلى هذا من قال‏:‏ إن أحداً أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقاً فقد أخطأ لما فيه‏:‏ أن في الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى‏.‏

والثاني‏:‏ ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد فما أحل منها فهو رزقه وما حرم فليس رزقاً أي ليس مأموراً بتناوله‏.‏

التاسعة‏:‏ حكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ إرادة الله غير المراد فإرادته لما خلق‏:‏ هي خلقه له وخلقه للشيء عنده غير الشيء بل الخلق عنده قول لا في محل‏.‏

وقال إنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بمعنى سيسمع وسيبصر وكذلك لم يزل‏:‏ غفوراً رحيماً محسناً خالقاً رازقاً معاقباً موالياً معادياً آمراً ناهياً بمعنى أن ذلك سيكون منه‏.‏

العاشرة‏:‏ حكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر ولا تخلو الأرض عن جماعة هم فيها أولياء الله‏:‏ معصومون لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر فهم الحجة لا التواتر إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عدداً إذا لم يكونوا أولياء الله ول يكن فيهم واحد معصوم‏.‏

وصحب أبا الهذيل أبو يعقوب الشحام والآدمي وهما على مقالته‏.‏

وكان سنه مائة سنه توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين‏.‏

النظامية
أصحاب إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ الأولى مها‏:‏ أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله‏:‏ إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي وليست هي مقدورة للباري تعالى خلافاً لأصحابه فإنهم قضوا بأنه غير قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة‏.‏

ومذهب النظام‏:‏ أن القبح إذا كان صفة للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلاً ففي تجويزك وقوع القبيح منه قبح أيضاً فيجب أن يكون مانعاً ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم‏.‏

وزاد أيضاً على هذا الإختباط فقال‏:‏ إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا وأما أمور الآخرة فقال‏:‏ لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل الجنة ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة وليس ذلك مقدوراً له‏.‏

وقد ألزم عليه‏:‏ إن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله فإن القادر على الحقيقة‏:‏ من يتخير بين الفعل والترك فأجاب‏:‏ إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل فإن عندكم يستحيل إن يفعله وإن يفعله وإن كان مقدوراً فلا فرق‏.‏

وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه‏:‏ نظاماً وترتيباً وصلاحاً  لفعله‏.‏

الثانية‏:‏ قوله في الإرادة‏:‏ إن الباري تعالى ليس موصوفاً بها على الحقيقة فإذا وصف بها شرعاً في أفعاله فالمراد بذلك‏:‏ أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم وإذا وصف بكونه مريداً لأفعال العباد فالمعنى به أنه آمر بها وناه عنها‏.‏

وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة‏.‏

الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ إن أفعال العباد كلها حركات فحسب والسكون حركة اعتماد والعلوم والإرادات حركات النفس ز لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما كما قالت الفلاسفة‏:‏ من إثبات حركات في الكيف والكم والوضع والأين والمتى إلى أخواتها‏.‏

الرابعة‏:‏ وافقهم أيضاً في قولهم‏:‏ إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح والبدن آلتها وقالبها‏.‏

غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم‏:‏ إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقالب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والهنية في السمسم والمينة في اللبن وقال‏:‏ إن الروح هي التي لها‏:‏ قوة واستطاعة وحياة ومشيئة وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل‏.‏

الخامسة‏:‏ حكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله تعالى بإيجاب الخلقة أي إن الله تعالى طبع الحجر طبعاً وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعاً‏.‏

وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف‏.‏

السادسة‏:‏ وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ‏.‏

وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى قال‏:‏ تقطع بعضها بالمشي وبعضها بالطفرة وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر طوله خمسون ذراعاً علق عليه معلاق فيجر به الحبل المتوسط فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعاً في زمان واحد وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضاً موازية لمسافة فالإلزام لا يندفع عنه وإنما الرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه‏.‏

السابعة‏:‏ قال‏:‏ إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ووافق هشام بن الحكم في قوله‏:‏ أن الألوان والطعوم والروائح أجسام فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضاً وتارة يقضي بكون الأعراض أجساماً لا غير‏.‏

الثامنة‏:‏ من مذهبه‏:‏ أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن‏:‏ معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها‏.‏

وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة‏.‏

وأكثر ميله - أبداً - إلى تقرير‏.‏

التاسعة‏:‏ قوله في إعجاز القرآن‏:‏ إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجيزاً حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله‏:‏ بلاغة وفصاحة ونظماً‏.‏

العاشرة‏:‏ قوله في الإجماع‏:‏ إنه ليس بحجة في الشرع وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ ميله إلى الرفض ووقيعته في كبار الصحابة قال‏:‏ أولاً‏:‏ لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهراً أو مكشوفاً وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه في مواضع وأظهره إظهاراً لم يشتبه على الجماعة إلا أن عمر كتم ذلك وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة‏.‏

ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه السلام حين قال‏:‏ ألسنا على الحق أليسوا على الباطل قال‏:‏ نعم قال عمر‏:‏ فلم نعطي الدنية في ديننا قال‏:‏ هذا شك وتردد في الدين ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم‏.‏

وزاد في الفرية فقال‏:‏ إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح‏:‏ أحرقوا دارها بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين‏.‏

وقال‏:‏ تغريبه نصر بن لحجاج من المدينة إلى البصرة وإبداعه التراويح ونهيه عن متعة الحج ومصادرته العمال‏.‏

كل ذلك أحداث‏.‏

ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه‏:‏ من رده الحكيم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله عليه السلام ونفيه أبا ذر إلى الربذة وهو صديق رسول الله وتقليده الوليد بن عقبه الكوفة وهو من أفسد الناس ومعاوية الشام وعبد الله بن عامر البصرة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وهم أفسدوا عليه أمره وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف وعلى القول الذي شاقه به‏.‏
كل ذلك أحداثه‏.‏

ثم زاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبد الله بن مسعود لقولهما‏:‏ أقول فيها برأيي وكذب ابن مسعود في روايته‏:‏ السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وفي روايته‏:‏ انشقاق القمر وفي تشبيهه الجن بالزط وقد أنكر الجن رأساً‏.‏

إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في لصحابة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

الثانية عشرة‏:‏ قوله في المفكر قبل ورود السمع‏:‏ أنه إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال‏.‏

وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعاله‏.‏

وقال‏:‏ لا بد من خاطرين أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار‏.‏

الثالثة عشرة‏:‏ قد تكلم في مسائل العد والوعيد‏.‏

وزعم أن من خان في مائة وتسعين درهماً بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعداً فحينئذ يفسق وكذلك في سائر نصب الزكاة وقال في المعاد‏:‏ إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم‏.‏

ووافقه الأسواري في جميع ما ذهب إليه وزاد عليه بأن قال‏:‏ إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ولا على ما أخبر أنه لا يفعله‏:‏ مع أن الإنسان قادر على ذلك لأن قدرة العبد صالحة للضد ين ومن المعلوم أن أحد الضد ين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني‏.‏

والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه‏:‏ سيصلى ناراً ذات لهب‏.‏

ووافقه أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة‏.‏

وزاد عليه بأن قال‏:‏ إن الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين‏.‏

وكذلك الجعفران‏:‏ جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وافقاه وما زادا عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال‏:‏ في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ إذ المعتبر في الحدود‏:‏ النص والتوقيف‏.‏

وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع عن الإيمان‏.‏

وكان محمد بن شبيب وأبو شمر وموسى بن عمران‏:‏ من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد وفي المنزلة بين المنزلتين‏:‏ وقالوا‏:‏ صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بمجرد ارتكاب الكبيرة‏.‏

وكان ابن مبشر يقول في الوعيد‏:‏ إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع‏.‏

وسائر أصحابه يقولون‏:‏ التخليد لا يعرف إلا بالسمع‏.‏

ومن أصحاب النظام‏:‏ الفضل الحدثي وأحمد بن خابط‏.‏

قال الرواندي‏:‏ إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين‏:‏ أحدهما قديم وهو الباري تعالى والثاني محدث وهو المسيح عليه السلام لقوله إذ تخلق من الطين كهيئة الطير ‏"‏‏.‏

وكذبه لكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه‏.‏

الخابطية والحدثية

الخابطية‏:‏ أصحاب احمد بن خابط وكذلك الحثية أصحاب الفضل الحدثي‏:‏ كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضاً وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع‏:‏

البدعة الأولى‏:‏ إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة النصارى على اعتقادهم‏:‏ أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجاء ربك والملك صفاً صفاً ‏"‏‏.‏

وهو الذي يأتي ظلل من الغمام وهو المعني بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أو يأتي ربك ‏"‏‏.‏

وهو المراد بقول النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن ‏"‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏"‏ يضع الجبار قدمه في النار ‏"‏‏.‏

وزعم أحمد بن خابط‏:‏ أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى‏.‏

البدعة الثانية‏:‏ القول بالتناسخ‏:‏ زعما أن الله تعالى أبدع خلقه‏:‏ أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به وأسبغ عليهم نعمته ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا‏:‏ عاقلاً ناظراً معتبراً وابتدأ هو بتكليف شكره فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ذلك وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي أبدأهم فيها ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة وابتلاه‏:‏ بالبأساء والضراء والشدة والرخاء والآلام واللذات‏.‏

على صور مختلفة من صمر الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن وآلامه أقل ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح وآلامه أكثر‏.‏

ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا‏:‏ كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى مادامت في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس وهو أيضاً من تلامذة النظام وقال أيضاً مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ وخلق البرية دفعة واحدة إلا أنه قال‏:‏ متى صارت النوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف ومتى صارت النوبة إلى رتبة النبوة والملك ارتفعت التكاليف أيضاً وصارت النوبتان عالم الجزاء‏.‏

ومن مذهبهما أن الديار خمس داران للثواب إحداهما‏:‏ فيها أكل وشرب وبعال وجنات وأنهار‏.‏

والثانية‏:‏ دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال بل ملاذ روحانية وروح وريحان غير جسمانية‏.‏

والثالثة‏:‏ دار العقاب المحض وهي نار جهنم ليس فيها ترتيب بل هي على نمط التساوي‏.‏

والرابعة‏:‏ دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا وهي الجنة الأولى‏.‏

والخامسة‏:‏ دار الابتلاء وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى‏.‏

وهذا التكوير والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان‏:‏ مكيال الخير ومكيال الشر فإذا امتلأ مكيال لخير صار العمل كله طاعة والمطيع خيرا خالصاً فينقل إلى الجنة ولم يلبث طرفة عين فإن مطل الغنى ظلم وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ أعطوا الأجير أجره قبل إن يجف عرقه ‏"‏‏.‏

وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شريراً محضاً فينقل إلى النار ولم يلبث طرفة عين وذلك قوله تعالى‏:‏ فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستفيدون‏.‏

البدعة الثالثة‏:‏ حملهما كل ما ورد في الخبر‏:‏ من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ‏"‏ على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات وإياه على النبي عليه السلام بقوله‏:‏ ‏"‏ أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له‏:‏ أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال‏:‏ وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك‏!‏ بك أعز وبك أذل وبك أعطي وبك أمنع فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه فيرونه كمثل القمر ليلة البدر فأما واهب العقل فلا يرى البتة‏.‏

ولا يشبه إلا مبدع بمبدع‏.‏

وقال ابن خابط إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى‏:‏ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏.‏

ولهما طريقة أخرى في التناسخ وكأنهما مزجا كلام التناسخية والفلاسفة والمعتزلة ببعضها البعض‏.‏

البشرية

أصحاب بشر بن المعتمر كان من أفضل علماء المعتزلة‏.‏

وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل ست‏:‏

الأولى منها‏:‏ أنه زعم أن اللون والطعم والرائحة ز الإدراكات كلها‏:‏ من السمع والرؤية‏.‏

يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد إذا كانت أسبابها من فعله وإنما أخذ هذا من الطبيعيين إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين‏.‏

وقوة الفعل وقوة الانفعال‏:‏ غير القدرة التي يثبتها المتكلم‏.‏

الثانية‏:‏ قوله‏:‏ إن الاستطاعة‏:‏ هي سلامة البنية وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وقال‏:‏ لا أقول يفعل بها في الحالة الأولى ولا في الحالة الثانية لكني أقول‏:‏ الإنسان يفعل والفعل لا يكون إلا‏.‏‏.‏‏.‏

الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ولو فعل ذلك كان ظالما إياه إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه بل يقال‏:‏ لو فعل ذلك كان الطفل‏:‏ بالغاً عاقلاً عاصياً بمعصية ارتكبها مستحقاً للعقاب وهذا كلام متناقض‏.‏

الرابعة‏:‏ حكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ إرادة الله تعالى‏:‏ فعل من أفعاله وهي على وجهين‏:‏ صفة ذات وصفة فعل‏:‏ فأما صفة الذات فهي‏:‏ أن الله تعالى لم يزل مريداً لجميع أفعاله ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحاً وخيراً ولا يريده‏.‏

وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال إحداثه فهي خلقه له وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه وإن أراد بها فعل عباده فهي‏:‏ الأمر به‏.‏

الخامسة‏:‏ قال إن عند الله تعالى لطفاً لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه وليس على الله تعالى أن يفعل ذلك بعباده‏.‏

ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح فما من أصلح إلا وفوقه أصلح وإنما عليه أن يمكن العبد القدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة‏.‏

والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال وإذا كان مختارا ًفي فعله فيستغني عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان من قبل الله تعالى وإنما هما من قبل الشيطان السادسة‏:‏ قال‏:‏ من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود‏.‏

المعمرية

أصحاب معمر بن عباد السلمى وهو من أعظم القدرية فرية‏:‏ في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى والتكفير والتضليل على ذلك‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ أنه قال‏:‏ إن الله تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام‏:‏ إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق والشمس والحرارة والقمر التلوين وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق‏.‏
ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان فكيف يقول‏:‏ إنها من فعل الأجسام وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضاً فلم يحدث الجسم وفناءه فإن الحدوث عرض فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلاً‏.‏

ثم ألزم‏:‏ أن كلام الباري تعالى‏:‏ إما عرض أو جسم‏.‏

فإن قال‏:‏ هو عرض فقد أحدثه الباري تعالى فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام أو ما يلزمه‏:‏ أن لا يكون لله تعالى كلام هو عرض وإن قال هو جسم فقد أبطل قوله‏:‏ إنه أحدثه في محل فإن الجسم لا يقوم بالجسم فإذا لم يقل هو بإثبات الأزلية ولا قال بخلق الأعراض فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه‏.‏

وإذا لم يكن له كلام لم يكن له آمراً ناهياً وإذا لم يكن أمر ونهي لم تكن شريعة أصلاً فأدى واهبه إلى خزي عظيم‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قال‏:‏ إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع‏.‏

وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام وذلك يؤدي إلى التسلسل‏.‏

وعن هذه المسألة هو وأصحابه‏:‏ أصحاب المعاني‏.‏

وزاد على ذلك فقال‏:‏ الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها بل بمعنى أوجب المخالفة وكذلك مغايرة‏:‏ المثل ومماثلته وتضاد الضد الضد كل ذلك عنده بمعنى‏.‏

ومنها‏:‏ ما حكى الكعبي عنه‏:‏ أن الإرادة من الله تعالى للشيء غير الله وغير خلقه للشيء وغير‏:‏ الأمر والأخبار والحكم فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف‏.‏

وقال‏:‏ ليس للإنسان فعل سوى الإرادة‏:‏ مباشرة كانت أو توليداً وأفعاله التكليفية‏:‏ من القيام والقعود والحركة والسكون في الخير والشر‏.‏

كلها مستندة إلى إرادته لا على طريق المباشرة ولا على طريق التوليد وهذا عجب غير أنه إنما بناه على مذهبه في حقيقة الإنسان‏.‏

وعنده‏:‏ الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد وهو‏:‏ عالم قادر مختار حكيم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا متكون ولا متمكن ولا يرى ولا يمس ولا يحس ولا يجس ولا يحل موضعاً دون موضع ولا يحويه مكان ولا يحصره زمان لكنه مدبر للجسد وعلاقته مع البدن علاقة التدبير والتصرف‏.‏

وإنما أخذ هذا القول من الفلاسفة حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمراً ما هو جوهر قائم بنفسه‏:‏ لا متحيز ولا متمكن وأثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة‏.‏

ثم لما كان ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنساناً وبين القالب الذي هو جسده فقال‏:‏ فعل النفس هو الإرادة فحسب النفس إنسان ففعل الإنسان هو لإرادة وما سوى ذلك‏:‏ من الحركات والسكنات والاعتمادات - فهي من فعل الجسد‏.‏

ومنها‏:‏ أنه كان ينكر القول‏:‏ بأن الله تعالى قديم لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو قديم وهو فعل كقولك‏:‏ أخذ منه ما قدم وما حدث‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ هو يشعر بالتقادم الزماني ووجود الباري تعالى ليس زماني‏.‏

ويحكى عنه أيضاً‏:‏ أنه قال‏:‏ الخلق غير المخلوق والإحداث غير المحدث‏.‏

وحكى جعفر بن حرب عنه أنه قال‏:‏ إن الله تعالى محال أن يعرف نفسه لأنه يؤدي إلى أن لا يكون العالم والمعلوم واحداً ومحال أن يعلم غيره كما يقال‏:‏ محال أن يقدر على الموجود من حيث هو موجود‏.‏

ولعل هذا النقل فيه خلل فإن عاقلاً ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام الغير المعقول‏.‏

لعمري‏!‏ لما كان الرجل يميل إلى الفلاسفة‏.‏

ومن مذهبهم‏:‏ أنه ليس علم الباري تعالى علماً انفعالياً أي تابعاً للمعلوم بل علمه علم فعلي فهو من حيث هو فاعل وعلمه هو الذي أوجب الفعل وإنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة ولا يجوز تعلقه المعدوم على استمرار عدمه وانه علم وعقل وكونه‏:‏ عقلاً وعاقلاً ومعقولاً شيء واحد فقال ابن عباد‏:‏ لا يقال‏:‏ يعلم نفسه لأنه يؤدي إلى تمايز بين العالم والمعلوم ولا يعلم غيره لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل‏.‏

فإما لا يصح النقل وإما أن يحمل على مثل هذا المحمل‏.‏

ولسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجهاً‏.‏

المزدارية

أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بابي موسى الملقب بالمرداد‏.‏

وقد تلمذ لبشر بن المعتمر وأخذ العلم منه وتزهد ويسمى راهب المعتزلة‏.‏

وإنما انفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏

الأولى منها‏:‏ قوله في القدر‏:‏ إن الله تعالى يقدر على أن يكذب ويظلم ولو كذب وظلم كان إلهاً كاذباً وظالماً تعالى الله عن قوله‏.‏

والثانية قوله في التولد‏:‏ مثل قول أستاذه وزاد عليه‏:‏ بأن جوز وقوع فعل واحد من فاعلين على سبيل التولد‏.‏

والثالثة قوله في القرآن‏:‏ إن الناس قادرون على فعل القرآن‏:‏ فصاحة ونظما وبلاغة وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن وكفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين‏.‏

وكفر أيضاً من لابس السلطان وزعم أنه لا يرث ولا يورث وكفر أيضاً من قال‏:‏ إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ومن قال‏:‏ إنه يرى بالأبصار وغلا في التكفير حتى قال‏:‏ هم كافرون في قولهم‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقد سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم فأقبل عليه إبراهيم وقال‏:‏ الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك‏!‏ فخزي ولم يحر جواباً‏.‏

وقد تلمذ له أيضاً‏:‏ الجعفران وأبو زفر ومحمد بن سويد‏.‏

وصحب‏:‏ أبو جعفر محمد ابن عبد الله الإسكافي وعيسى ابن الهيثم‏:‏ جعفر بن حرب الأشج‏.‏

وحكى الكعبي عن الجعفرين أنهما قالا‏:‏ إن الله تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ ولا يجوز أن ينقل إذ يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة وما نقرأه فهو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ وذلك فعلنا وخلقنا‏.‏

قال‏:‏ وهو الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن‏.‏

وقالا في تحسين العقل وتقبيحه‏:‏ إن العقل يوجب معرفة الله تعالى بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع وعليه أن يعلم أنه قصر ولم يعرفه ولم يشكره‏:‏ عاقبه عقوبة دائمة فأثبت التخليد واجباً بالعقل‏.‏

أصحاب ثمامة بن أشرس النميري

كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها إذ م يمكنها إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت مثل ما إذا فعل السبب ومات ووجد المتولد بعده‏.‏

ولم يمكنه إضافتها إلى الله تعالى لأنه يؤدي إلى فعل القبيح وذلك محال‏.‏

فتحير فيه وقال‏:‏ المتولدات أفعال لا فاعل لها‏.‏

ومنها‏:‏ قوله في الكفار والمشركين والمجوس واليهود والنصارى والزنادقة والدهرية‏:‏ إنهم يصيرون في القيامة تراباً وكذلك قوله في البهائم والطيور وأطفال المؤمنين‏.‏

ومنها‏:‏ قوله‏:‏ الاستطاعة هي السلامة وصحة الجوارح وتخليتها من الآفات وهي قبل الفعل‏.‏

ومنها‏:‏ قوله‏:‏ إن المعرفة متولدة من النظر وهو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات‏.‏

ومنها‏:‏ قوله في تحسين العقل وتقبيحه وإيجاب المعرفة قبل ورود السمع‏:‏ مثل قول أصحابه غير أنه زاد عليهم فقال‏:‏ من الكفار من لا يعلم خالقه وهو معذور‏.‏

وقال‏:‏ إن المعارف كلها ضرورية وإن من لم يضطر إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فليس هو مأموراً بها وإنما خلق للعبرة ومنها‏:‏ قوله‏:‏ لا فعل للإنسان إلا الإرادة وماعداها فهو حدث لا محدث له‏.‏

وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال‏:‏ العالم فعل الله تعالى بطباعه ولعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة‏:‏ من الإيجاب بالذات دون الفلاسفة من القول بقدم العالم إذ الموجب لا ينفك عن الموجب‏.‏

وكان ثمامة في أيام المأمون وكان عنده بمكان‏.‏

الهشامية

أصحاب هشام بن عمرو الفوطي‏.‏

ومبالغته في القدر أشد وأكثر من مبالغة أصحابه‏.‏

وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الباري تعالى وإن ورد بها التنزيل‏.‏

منها قوله‏:‏ إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين بل هم المؤتلفون باختيارهم وقد ورد في التنزيل‏:‏ ‏"‏ ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ‏"‏‏.‏

ومنها قوله‏:‏ إن الله لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين ولا يزينه في قلوبهم وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ‏"‏‏.‏
ومبالغته في نفي إضافات‏:‏ الطبع والختم والسد وأمثالها - أشد وأصعب وقد ورد بجميعها التنزيل قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ بل طبع الله عليها بكفرهم ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ‏"‏‏.‏

وليت شعري‏!‏ ما يعتقده الرجل إنكار ألفاظ التنزيل وكونها وحياً من الله تعالى فبكون تصريحاً بالكفر‏!‏ أو إنكار ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعال ووجوب تأويلها وذلك عين مذهب أصحابه ومن بدعه في الدلالة على الباري تعالى قوله‏:‏ إن الأعراض لا تدل على كونه خالقاً ولا تصلح الأعراض دلالات بل الأجسام تدل على كونه خالقاً‏.‏

وهذا أيضاً عجب‏.‏

ومن بدعه في الإمامة قوله‏:‏ إنها لا تنعقد في أيام الفتنة واختلاف الناس وإنما يجوز عقدها في حال الاتفاق والسلامة‏.‏

وكذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول‏:‏ الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم‏.‏

وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي - رضي الله عنه إذ كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع أصحابه إذ بقى في كل طرف طائفة على خلافة‏.‏

ومن بدعه‏:‏ أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن إذ لا فائدة في وجودهما وهما جميعاً خاليتان ممن ينتفع ويتضرر بهما وبقيت هذه المسألة منه اعتقاداً للمعتزلة‏.‏

وكان يقول بالموافاة وأن الإيمان هو الذي يوافي الموت‏.‏

وقال‏:‏ من أطاع الله جميع عمره وقد علم الله أنه يأتي بما يحبط أعماله ولو بكبيرة لم يكن مستحقاً للوعد وكذلك على العكس‏.‏

وصاحبه عباد من المعتزلة وكان يمتنع من إطلاق القول بأن الله تعالى خلق الكافر لأن الكافر‏:‏ كفر وإنسان والله تعالى لا يخلق الكفر‏.‏
وقال النبوة جزاء على عمل وإنها باقية ما بقيت الدنيا‏.‏

وحكى الأشعري عن عباد أنه زعم‏:‏ أنه لا يقال‏:‏ إن الله تعالى لم يزل قائلاً ولا غير قائل‏.‏

ووافقه الإسكافي على ذلك‏.‏

قالا‏:‏ ولا يسمى متكلماً‏.‏

وكان الفوطي يقول‏:‏ إن الأشياء قبل كونها‏:‏ معدومة وليست أشياء وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء‏.‏

ولهذا المعنى كان يمنع القول‏:‏ بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها فإنها لا تسمى أشياء‏.‏

قال‏:‏ وكان يجوز القتل والغيلة على المخالفين لمذهبه وأخذ أموالهم غصباً وسرقة لاعتقاده كفرهم واستباحة دمائهم وأموالهم‏.‏

الجاحظية

أصحاب عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ‏.‏

كان من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم وقد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط وروج كثير أمن مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته اللطيفة‏.‏

وكان في أيام المعتصم والمتوكل‏.‏

وانفرد عن أصحابه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن المعارف كلها ضرورية طباع وليس شيء من ذلك من أفعال العباد وليس للعبد كسب سوى الإرادة وتحصل أفعاله منه طباعاً كما قال ثمامة‏.‏

ونقل عنه أيضاً‏:‏ أنه أنكر أصل الإرادة وكونها جنساً من الأعراض فقال‏:‏ إذا انتهى السهو عن الفاعل وكان عالماً بما يفعله فهو المريد على التحقيق وأما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو ميل النفس إليه‏.‏

وزاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها‏.‏

وقال باستحالة عدم الجواهر فالأعراض تتبدل والجواهر لا يجوز أن تفنى ومنها‏:‏ قوله في أهل النار‏:‏ إنهم لا يخلدون فيها عذاباً بل يصيرون إلى طبيعة النار‏.‏

وكان يقول‏:‏ البار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها‏.‏

ومذهبه‏:‏ مذهب الفلاسفة في نفي الصفات وفي إثبات القدر خيره وشره من العبد‏:‏ مذهب المعتزلة‏.‏

وحكى الكعبي عنه أنه قال‏:‏ يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله ولا الجهل ولا يجوز أن يغلب ويقهر‏.‏

وقال‏:‏ إن الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن الله تعالى خالقهم وعارفون بأنهم محتاجون إلى النبي وهم محجوجون بمعرفتهم‏.‏

ثم هم صنفان‏:‏ عالم بالتوحيد وجاهل به فالجاهل معذور والعالم محجوج‏.‏

ومن انتحل دين الإسلام فإن اعتقد أن الله تعالى ليس بجسم ولا صورة ولا يرى بالأبصار وهو عدل لا يجوز ولا يريد المعاصي وبعد الاعتقاد واليقين أقر بذلك كله فهو مسلم حقاً‏.‏

وإن لم ينظر في شيء من ذلك كله واعتقد أن الله تعالى ربه وان محمداً رسول الله فهو مؤمن لا لوم عليه ولا تكليف عليه غير ذلك‏.‏

وحكى ابن الرواندي عنه أنه قال‏:‏ إن للقرآن جسداً يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً وهذا مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم‏:‏ أن القرآن جسم مخلوق‏.‏

وأنكر الأعراض أصلاً وأنكر صفات الباري تعالى‏.‏

ومذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة إلا أن الميل منه ومن أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر من الإلهيين‏.‏

أصحاب أبى الحسين ابن أبي عمرو الخياط

أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئاً وقال‏:‏ الشيء ما يعلم ويخبر عنه والجوهر جوهر في العدم والعرض عرض في العدم وكذلك أطلق جميع أسماء الأجناس والأصناف حتى قال‏:‏ السواد سواد في العدم فلم يبق إلا صفة الوجود أو الصفات التي تلزم الوجود والحدوث وأطلق على المعدوم لفظ الثبوت وقال في نفي الصفات عن الباري مثل ما قال أصحابه وكذا القول في القدر والسمع والعقل‏.‏

وانفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل‏:‏ منها‏:‏ قوله‏:‏ إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته ولا هو مريد لذاته ولا إرادته حادثة في محل أو في لا محل بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه‏:‏ عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره‏.‏

ثم إذا قيل‏:‏ هو مريد لأفعال عباده فالمراد به‏:‏ أنه آمر بها راض عنها‏.‏

وقوله في كونه سميعاً بصيرا ًراجع إلى ذلك أيضاً فهو سميع بمعنى أنه‏:‏ عالم بالمسموعات وبصير بمعنى انه‏:‏ عالم بالمبصرات‏.‏
وقوله في الرؤية كقول أصحابه‏:‏ نفياً وإحالة غير أن أصحابه قالوا‏:‏ يرى الباري تعالى ذاته ويرى المرئيات وكونه مدركاً لذلك زائد على كونه عالماً‏.‏

وقد أنكر الكعبي ذلك قال‏:‏ معنى قولنا‏:‏ يرى ذاته ويرى المرئيات‏:‏ أنه عالم بها فقط‏.‏

الجبائية والبهشمية

أصحاب أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة‏.‏

انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل أما المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما‏:‏ فمنها‏:‏ أنهما أثبتا إرادات حادثة لا في محل يكون الباري تعالى بها موصوفا مريداً وتعظيماً لا في محل إذا أراد أن يعظم ذاته وفناء لا في محل إذا أراد أن يفني العالم‏.‏

وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع غليه من حيث إنه تعالى أيضاً لا في محل‏.‏

وإثبات موجودات هي أعراض أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر أو في حكم الجواهر لا مكان لها وذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلاً هو جوهر لا في محل ولا في مكان وكذلك النفس الكلية والعقول المفارقة‏.‏

ومنها‏:‏ أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل وحقيقة الكلام عندهما‏:‏ أصوات مقطعة وحروف منظومة والمتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام‏.‏

إلا أن الجبائي خالف أصحابه خصوصاً بقوله‏:‏ يحدث الله تعالى عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة وذلك حين ألزم‏:‏ أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام الله والمسموع منه ليس من كلام الله فالتزم هذا المحال‏:‏ من إثبات أمر غير معقول ولا مسموع وهو إثبات كلامين في محل واحد‏.‏

واتفقا على‏:‏ نفي رؤية الله تعالى في بالأبصار في دار القرار وعلى القول إثبات الفعل للعبد خلقاً وإبداعاً وإضافة الخير الشر والطاعة والمعصية إليه استقلالاً واستبداداً وان الاستطاعة قبل الفل وهي‏:‏ قدرة زائدة على سلامة البنية وصحة الجوارح وأثبتا البنية شرطاً في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة وأثبتا شريعة عقلية وردا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر وبمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي إلا أن التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع‏.‏

والإيمان عندهما اسم مدح وهو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها‏:‏ مؤمناً ومن ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقاً‏:‏ لا مؤمناً ولا كافراً وإن لم يتب ومات عليها فهو مخلد في النار‏.‏

واتفقا على أن الله تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتوبة من الصلاح والأصح واللطف لأنه‏:‏ قادر عالم جواد حكيم‏:‏ لا يضره الإعطاء ولا ينقص من خزائنه المنح ولا يزيد في ملكه الادخار‏.‏

وليس الأصلح هو الألذ بل هو‏:‏ الأعود في العاقبة والأصوب في العاجلة وإن كان ذلك مؤلماً ومكروهاً وذلك‏:‏ كالحجامة والفصد وشرب الأدوية ولا يقال‏:‏ إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما فعله بعبده‏.‏

والتكاليف كلها ألطاف وبعثة الأنبياء وشرع الشرائع وتمهيد الأحكام ومما تخالفا فيه‏:‏ أما في صفات الباري تعالى فقال الجبائي‏:‏ الباري تعالى عالم لذاته قادر حي‏.‏

لذاته ومعنى قوله لذاته أي لا يقتضي كونه عالماً صفة هي‏:‏ علم أو حال توجب كونه عالماً‏.‏

وعند أبي هاشم‏:‏ هو عالم لذاته بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالاً هي صفات‏:‏ لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة أي‏:‏ هي على حيا لهالا تعرف كذلك بل مع الذات‏.‏

قال والعقل يدرك فرقاً ضرورياً بين معرفة الشيء مطلقاً وبين معرفته على صفة فليس منم عرف الذات عرف كونه عالماً ولا من عرف الجوهر عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلاً للعرض‏.‏

ولا شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية وافترقتا في قضية وبالضرورة يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به وهذه القضايا العقلية لا ينكرها عاقل وهي لا ترجع إلى الذات ولا إلى أعراض وراء الذات فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال فكون العالم عالما حال هي صفة وراء كونه ذاتاً أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات وكذلك كونه‏:‏ قادراً حياً‏.‏

ثم أثبت للباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال‏.‏

وخالفه والده وسائر منكري الأحوال في ذلك وردوا الاشتراك والافتراق إلى الألفاظ وأسماء الأجناس وقالوا‏:‏ أليست الأحوال تشترك في كونها أحوالاً وتفترق في خصائص كذلك نقول في الصفات وإلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال ويفضي إلى التسلسل‏.‏

بل هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير لا أن مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء ويشترك فيها الكثير فإن ذلك مستحيل‏.‏

أو يرجع ذلك إلى وجوه واعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك والافتراق وتلك الوجوه‏:‏ كالنسب والإضافات والقرب والبعد وغير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق‏.‏

وهذا هو اختيار أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري‏.‏

ورتبوا على هذه المسألة‏:‏ مسألة أن المعدوم شيء فمن يثبت كونه شيئاً كما نقلنا عن جماعة من المعتزلة فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجوداً فعلى ذلك لا يثبت للقدرة في إيجادها أثراً ما سوى الوجود‏.‏

والوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى اللفظ المجرد وعلى مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود ولا بالعدم وهذا كما ترى من التناقض والاستحالة ومن نفاة الأحوال من يثبته شيئاً ولا يسميه بصفات الأجناس‏.‏

وعند الجبائي‏:‏ أخص وصف الباري تعالى هو القدم والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في الأعم‏.‏

وليت شعري‏!‏ كيف يمكن إثباته‏:‏ الاشتراك الافتراق والعموم والخصوص - حقيقة وهو من نفاة الأحوال فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته واختلفا في كونه سميعاً بصيراً فقال الجبائي‏:‏ معنى كونه سميعاً بصيراً‏:‏ أنه حي لا آفة به‏.‏

وخالفه ابنه وسائر أصحابه‏:‏ أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعاً حالة وكزنه بصيراً حالة وكونه بصيراً حالة سوى كونه عالماً لاختلاف‏:‏ القضيتين والمفهومين والمتعلقين والأثرين‏.‏

وقال غيره من أصحابه‏:‏ معناه كونه مدركا للمبصرات مدركاً للمسموعات‏.‏

واختلفا أيضاً في بعض مسائل اللطف فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته ولو أمن بلا لطف لكان ويسوى بينه وبين من المعلوم من حاله أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف ويقول‏:‏ إذ لو كلفه مع عدم اللطف لوجب أن يكون مستفسداً حاله غير مزيح لعلته‏.‏

ويخالفه أبو هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة قال‏:‏ يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على أشق لا وجهين بلا لطف‏.‏

واختلفا في فعل الألم للعوض فقال الجبائي‏:‏ يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض والاعتبار جميعاً‏.‏

وتفصيل مذهب الجبائي في الأعواض على وجهين‏:‏

أحدهما أنه يقول‏:‏ يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم متقدم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق والتفضل غير مستحق‏.‏

والثواب عندهم ينفصل عن التفضل بأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ تعظيم وإجلال للمثاب يقترن بالنعيم والثاني‏:‏ قدر زائد على التفضل فلم يجب إذاً إجراء العوض مجرى الثواب لأنه لا يتميز عن التفضل بزيادة مقدار ولا بزيادة صفة‏.‏

وقال ابنه‏:‏ يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلاً والعوض منقطع غير دائم‏.‏
وقال الجبائي‏:‏ يجوز أن يقع الانتصاف من الله تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها عليه إذا لم يكن للظالم على الله عوض لشيء ضره به‏.‏
وزعم أبو هاشم‏:‏ أن التفضل لا يقع به نتصاف لأن التفضل ليس يجب عليه فعله‏.‏

وقال الجبائي وابنه‏:‏ لا يجب على الله شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلاً وشرعاً فأما إذا كلفهم‏:‏ فعل الواجب في عقولهم واجتناب القبائح وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن وركب فيهم الأخلاق الذميمة فإنه يجب عليه عند هذا التكليف إكمال العقل ونصب الأدلة والقدرة والاستطاعة وتهيئة الآلة بحيث يكون مزيحاً لعللهم فيما أمرهم‏.‏

ويجب عليه أن يفعل بهم‏:‏ أدعى الأمور إلى فعل ما كلفهم به وأزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه ولهم في مسائل هذا الباب خبط طويل‏.‏

وأما كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة فيخالف كلام البصريين فإن مكن شيوخهم من يميل إلى الروافض ومنهم من يميل إلى الخوارج‏.‏

والجبائي وأبو هاشم قد وافقا أهل السنة في الإمامة غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء‏:‏ من الصحابة وغيرهم‏.‏

ويبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب‏:‏ كبائرها وصغائرها حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل‏.‏
والمتأخرون من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار وغيره انتهجوا أدلة الشيوخ واعترض على ذلك بالتزييف والإبطال وافرد عنهم بمسائل‏:‏ منها نفي الحال ومنها نفي المعدوم شيئاً ومنها نفي الألوان أعراضاً ومنها قوله‏:‏ كلها إلى كون الباري تعالى‏:‏ عالماً قادرا مدركاً‏.‏

وله ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها‏.‏

والرجل فلسفي المذهب إلا أنه روج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم بمسالك المذاهب‏.‏