القسـم الأول - الجـزء الأول (المسلمون) - الباب الثاني

الجبرية

الجبر‏:‏ هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى والجبرية أصناف‏:‏ فالجبرية الخالصة‏:‏ هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً والجبرية المتوسطة‏:‏ هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلاً فأما من أثبت للقدرة أثراً ما في لفعل وسمى ذلك كسباً فليس بجبري‏.‏

والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإبداع والإحداث استقلالاً‏:‏ جبرياً ويلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها‏:‏ جبرياً إذ لم يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثراً‏.‏

والمصنفون في المقالات عدوا النجارية والضرارية‏:‏ من الجبرية وكذلك جماعة الكلابية‏:‏ من الصفاتية‏.‏

والأشعرية سموهم تارة حشوية وتارة جبرية‏.‏

ونحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النجارية والضرارية فعددناهم من الجبرية ولم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من الصفاتية‏.‏

الجهمية

أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة‏.‏

ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية‏:‏ وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء‏:‏ منها قوله‏:‏ لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقضي تشبيهاً فنفى كونه‏:‏ حياً عالماً وأثبت كونه‏:‏ قادراً فاعلاً خالقاً لأنه لا يوصف شيء من خلقه‏:‏ بالقدرة والفعل والخلق‏.‏

ومنها لإثباته علوماً حادثة للباري تعالى لا في محل قال‏:‏ لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق‏!‏ أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق فإن بقى فهو جهل فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد وإن لم يبق فقد تغير والمتغير مخلوق ليس بقديم‏.‏

ووافق في هذا مذهب هشام بن الحكم كما تقرر قال‏:‏ وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو‏:‏ إما أن يحدث في ذاته تعالى وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته وأن يكون محلاً للحوادث وإما أ يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به لا الباري تعالى‏.‏

فتعين أنه لا محل له فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة‏.‏

ومنها قوله في القدرة الحادثة‏:‏ إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله‏:‏ لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات كما يقال‏:‏ أثمرت الأشجار وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وتغيمت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك‏.‏

والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر قال‏:‏ وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً‏.‏

ومنها قوله‏:‏ إن حركات أهل الخلدين تنقطع والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بحميمها إذ لا تتصور حركات لا تتناهى آخراً كما لا تتصور حركات حركات لا تتناهى أولاً وحمل قوله تعالى‏:‏ خالدين فيها على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد كما يقول‏:‏ خلد الله ملك فلان واستشهد على الانقطاع بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ‏"‏‏.‏

فالآية اشتملت على شريطة واستثناء‏.‏

والخلود والتأييد لا شرط فيه ولا استثناء‏.‏

ومنها قوله‏:‏ من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده لأن العلم والمعرفة لا يزلان بالجحد فهو مؤمن قال‏:‏ ولا يتفاضل أهله فيه فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد إذ المعارف لا تتفاضل‏.‏

وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه‏.‏

ونسبته إلى التعطيل المحض‏.‏

وهو أيضاً موافق للمعتزلة في نفي الرؤية وإثبات خلق الكلام وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع‏.‏

النجارية

أصحاب الحسين بن محمد النجار وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه وهم وإن اختلفوا أصنافاّ غلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها أصولاً وهم برغوثية وزعفرانية ومستدركة وافقوا المعتزلة في نفي الصفات‏:‏ من العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ووافقوا الصفاتية في خلق الأعمال‏.‏

قال النجار‏:‏ الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق فالتزم وقال‏:‏ هو مريد الخير والشر والنفع والضر‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب‏.‏

وقال‏:‏ هو خالق أعمال العباد‏:‏ خيرها وشرها حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها‏.‏

وأثبت تأثيراً للقدرة الحادثة وسمى ذلك كسباً على حسب ما يثبته الأشعري ووافقه أيضاً في أن الاستطاعة مع الفعل‏.‏

وأما في مسألة الرؤية فأنكر رؤية الله تعالى بالأبصار وأحالها غير أنه قال‏:‏ يجوز أن يحول الله تعالى القوة التي في القلب - من المعرفة - إلى العين فيعرف الله تعالى بها فيكون ذلك رؤية‏.‏

وقال بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء‏:‏ منها قوله‏:‏ إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض وإذا كتب فهو جسم‏.‏

ومن العجب أن الزعفرانية قالت‏:‏ كلام الله عيره وكل ما هو غيره ح فهو مخلوق ومع ذلك قالت‏:‏ كل من قال‏:‏ إن القرآن مخلوق فهو كافر ولعلهم أرادوا بذلك‏:‏ الاختلاف وإلا فالتناقض ظاهر‏.‏

والمستدركة منهم زعموا‏:‏ أن كلامه غيره وهو مخلوق لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كلام الله غير مخلوق ‏"‏ والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة فوافقناهم وحملنا قولهم غير مخلوق أي‏:‏ على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات بل هو مخلوق غير هذه الحروف بعينها وهذه حكاية عنها‏.‏

وحكى الكعبي عن النجار أنه قال‏:‏ الباري تعالى بكل مكان ذاتاً وموجوداً لا وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة‏:‏ أنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال‏.‏

وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ويجب أن يخرج من النار فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود‏.‏

ومحمد بن عيسى الملقب ببرغوث وبشر بن غياث المريسي والحسين النجار‏:‏ متقاربون في المذهب‏.‏

وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريداً - لم يزل - لكل ما علم أنه سيحدث من‏:‏ خير وشر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية‏.‏

وعامة المعتزلة يأبون ذلك‏.‏

الضرارية

أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد واتفقا‏:‏ في التعطيل وعلى أنهما قالا‏:‏ الباري تعالى قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز‏.‏
وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو وقالا‏:‏ إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة رحمه الله وجماعة من أصحابه وأرادا بذلك‏:‏ أنه يعلم نفسه شهادة لا بدليل ولا خبرن ونحن نعلمه بدليل وخبر‏.‏

وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة‏.‏

وقالا‏:‏ أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة والعبد مكتسبها حقيقة وجوزاً حصول فعل بين فاعلين‏.‏

وقالا‏:‏ يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساماً والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين‏.‏

وقالا‏:‏ الحجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإجماع فقط فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول‏.‏

ويحكى عن ضرار‏:‏ أنه كان ينكر حرف عبد الله بن مسعود وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله‏.‏

وقال في المفكر قبل ورود السمع‏:‏ إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ولا يجب على لله تعالى شيء بحكم العقل‏.‏

وزعم ضرار أيضاً‏:‏ أن الإمامة تصلح في غير قريش حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة‏.‏

والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة في غير قريش إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي‏.‏ ‏