القسـم الأول - الجـزء الأول (المسلمون) - الباب الثالث

لصفاتية

اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحداً‏.‏

وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل‏:‏ اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون‏:‏ هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها‏:‏ صفات خبرية‏.‏

ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون سمى السلف‏:‏ صفاتية والمعتزلة‏:‏ معطلة فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر فافترقوا فيه فرقتين فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ومنهم من توقف في التأويل‏.‏

وقال‏:‏ عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء‏.‏

فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الرحمن على العرش استوى ‏"‏ ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ خلقت بيدي ‏"‏ ومثل قوله‏:‏ ‏"‏ وجاء ربك إلى غير ذلك ‏"‏ ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه‏:‏ لا شريك له وليس كمثله شيء وذلك قد أثبتناه يقيناً‏.‏

ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا‏:‏ لابد من إجرائها على ظاهرها والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما أعتقده السلف‏.‏

ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظاً كثيرة تدل على ذلك‏.‏

ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير‏:‏ أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس وأما التقصير فتشبيه الغلة بواحد من الخلق‏.‏

ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلو والتقصير ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه‏.‏

وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم‏:‏ مالك ابن أنس رضي الله عنهما إذ قال‏:‏ الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة‏.‏

ومثل أحمد بن حنبل رحمه الله‏.‏

وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم‏.‏

حتى انتهى الزمان إلى‏:‏ عبد الله بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية وصنف بعضهم ودرس بعض‏.‏

حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة‏.‏

وانتقلت سمة الصفاتية إلى الاشعرية‏.‏

ولما كانت المشبهة والكرامية‏:‏ من مثبتي الصفات عددناهم‏:‏ فرقتين من جملة الصفاتية‏.‏

الأشاعرة

أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما‏.‏

وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه‏.‏

وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه‏:‏ فقال عمرو‏:‏ أين أجد أحداً أحاكم إليه ربي فقال أبو موسى‏:‏ أنا ذلك المتحاكم إليه فقال عمرو‏:‏ أو يقدر على شيئاً ثم يعذبني عليه قال‏:‏ نعم قال عمرو‏:‏ ولم قال‏:‏ لا يظلمك فسكت عمرو ولم يحر جواباً‏.‏

قال الأشعري‏:‏ الإنسان إذا فكر في خلقته‏:‏ من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً‏:‏ أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته وينقله من درجة إلى درجة ويرقيه من نقص إلى كمال‏.‏

علم بالضرورة أن له‏:‏ صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الإحكام والإتقان في الخلقة فله صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها وكما دلت الأفعال على كونه‏:‏ عالماً قادراً مريداً‏.‏

دلت على‏:‏ العلم والقدرة والإرادة لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهداً وغائباً وأيضاً لا معنى للعلم حقيقة إلا أنه ذو علم ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ولا للمريد ألا أنه ذو إرادة فيحصل بالعلم والإحكام والإتقان ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت وقدر دون قدر وشكل دون شكل‏.‏

وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حياً بحياة للدليل الذي ذكرناه‏.‏

وألزم منكري الصفات إلزاماً لامحيص لهم عنه وهو‏:‏ أنكم وافقتمونا - بقيام الدليل - على كونه عالماً قادراً فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحداً أو زائداً فإن كان واحداً فيجب أن يعلم بقادريته ويقدر بعالميته ويكون من علم الذات مطلقاً علم كونه عالما قادراً وليس الأمر كذلك فعلم أن الاعتبارين مختلفان فلا يخلو‏:‏ إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال أو إلى الصفة‏.‏

وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين ولو قدر عدم الألفاظ رأساً ما ارتاب العقل فيما تصوره‏.‏

وبطل رجوعه إلى الحال فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين‏:‏ الوجود والعدم والإثبات والنفي وذلك محال‏.‏

فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك‏:‏ مذهبه‏.‏

على أن القاضي أبا بكر الباقلاني من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر رأيه على الإثبات ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به لا أحوالاً‏.‏

وقال‏:‏ الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة‏:‏ خصوصاً إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ الباري تعالى‏:‏ عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة مريد بإرادة متكلم بكلام سميع بسمع بصير ببصر وله في البقاء اختلاف رأي‏.‏

قال‏:‏ وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى لا يقال‏:‏ هي هو ولا‏:‏ هي غيره ولا‏:‏ لا هو ولا‏:‏ لا غيره‏.‏

والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ومريد بإرادة قديمة‏:‏ أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك والملك من له الأمر والنهي فهو آمر نله فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون آمراً بأمر قديم أو بأمر محدث وإن كان محدثاً فلا يخلو‏:‏ إما أن يحدثه في ذاته أو في محل أو لا في محل‏.‏

ويستحيل أن يحدثه في ذاته لأنه يؤدي إلى أن يكون محلاً للحوادث وذلك محال ويستحيل أن يحدثه في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفاً ويستحيل أن يحدثه لا في محل لان ذلك غير معقول فتعين أنه‏:‏ قديم قائم به صفة له‏.‏

وكذلك التقسيم في الغدارة والسمع والبصر‏.‏

قال‏:‏ وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات‏:‏ المستحيل والجائز والواجب والموجود والمعدوم‏.‏

وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات‏.‏

وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص‏.‏

وكلامه واحد هو‏:‏ أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام والعبارات‏.‏

والألفاظ المذلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزلي‏.‏

والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو‏:‏ كالفرق بين الذكر والمذكور فالذكر محدث والمذكور قديم‏.‏

وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة‏.‏

والكلام عند الأشعري‏:‏ معنى قائم بالنفس سوى العبارة والعبارة دلالة عليه من الإنسان فالمتكلم عنده من قام بالكلام وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن العبارة تسمى كلاماً‏:‏ إما بالمجاز وإما باشتراك اللفظ‏.‏

قال‏:‏ وإرادته‏:‏ واحدة قديمة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة له لا من حيث أنها مكتسبة لهم فعن هذا قال‏:‏ أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل‏.‏

وخلاف المعلوم‏:‏ مقدور الجنس محال الوقوع‏.‏

وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها ولأن الاستطاعة عنده عرض والعرض لا يبقى زمانين‏:‏ ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادراً لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به‏.‏

فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلاً على الفعل فمحال إذ الإنسان يجد في نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والإرادة‏.‏

والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال‏:‏ المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة والحاصل تحت القدرة الحادثة‏.‏

ثم على أصل أبي الحسن‏:‏ لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث‏:‏ الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة‏.‏

غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها‏:‏ الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له ويسمى هذا الفعل كسباً فيكون خلقاً من الله تعالى‏:‏ إتباعاً وإحداثا وكسبا من العبد‏:‏ حصولاً تحت قدرته‏.‏

والقاضي أبي بكر الباقلاني تحظى عن هذا القدر قليلاً فقال‏:‏ الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط بل ههنا وجوه أخر هن وراء الحدوث من كون الجوهر‏:‏ متحيزاً قابلاً للعرض ومن كون العرض عرضاً ولوناً وسواداً‏.‏

وغير ذلك وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال‏.‏

قال‏:‏ فجهة كون الفعل حاصلاً بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة‏.‏

ويسمى ذلك‏:‏ كسباً وذلك هو أثر القدرة الحادثة‏.‏

قال‏:‏ وإذا جاز على أصل المعتزلة‏:‏ أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال‏:‏ هو الحدوث والوجود أو في وجه منن وجوه الفعل فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال‏:‏ هو صفة للحادث أو في وجه من وجوه الفعل وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقاً ومن العرض مطلقاً غير المفهوم من القيام والقعود وهما حالتان متمايزتان فإن كل قيام حركة وليس كل حركة قياماً‏.‏

ومن المعلوم‏:‏ أن الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا‏:‏ أوجد وبين قولنا‏:‏ صلى وصام وقعد وقام‏.‏

وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى فأثبت القاضي تأثيرً للقدرة الحادثة‏.‏

وأثرها‏:‏ هي الحالة الخاصة وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل وتلك الجهة هي المعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب خصوصا على أصل المعتزلة فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء والحسن والقبح صفتان ذاتيتان مراء الوجود فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح‏.‏

قال‏:‏ فإذا جاز لكم إثبات صفتين‏:‏ هما حالتان‏.‏

جاز إثبات حالة‏:‏ هي متعلق القدرة الحادثة‏.‏

ومن قال‏:‏ هي حالة مجهولة فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها آي هي ومثلناها كيف هي‏.‏

ثم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلاً قال‏:‏ أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلاً وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصاً والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم‏.‏

فلا بد إذا من نسبة فعل البدع إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان كما يحس من نفسه والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر‏.‏

حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب فهو‏:‏ الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني عن الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر‏.‏

وهذا الرأي إنما أخذ من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام‏.‏

وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه‏.‏

وحينئذ يلزم القول‏:‏ بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً‏.‏

وليس ذلك مذهب الإسلاميين‏.‏

كيف ورأى المحققين من الحكماء‏:‏ أن الجسم لا يؤثر فبي إيجاد الجسم قالوا‏:‏ الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ولا عن قوة ما في الجسم فإن الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر لأثر بجهتيه أعني بمادته وصورته والمادة لها طبيعة عدمية فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم والتالي محال فالمقدم إذاً محال فنقيضه حق وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم‏:‏ لا يجوز أن يؤثر في جسم‏.‏

وتخطى من هو أشد تحققاً وأغوص تفكيراً عن الجسم وقوة ما في الجسم إلى كل ما هو جائز بذاته فقال‏:‏ كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أنن يحدث شيئاً ما فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز والجواز له طبيعة عدمية فلو خلى الجائز وذاته كان عدماً فلو أثر الجواز بمشاركة العدم لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود وذلك محال‏.‏

فإذاً لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود لا محدثات لحقيقة الجود ولهذا شرح سنذكره‏.‏

ومن العجب‏:‏ أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة‏!‏ هذا ونعود إلى كلام صاحب المقالة‏.‏

قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري‏:‏ إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو‏:‏ القدرة على الاختراع‏.‏

قال‏:‏ وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله‏.‏

وقال الأستاذ أبو اسحق الإسفرايني‏:‏ أخص وصفه هو‏:‏ كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نعلم يقيناً‏:‏ أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية والباري تعالى موجود فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ولم يرد به سمع فنتوقف ثم‏:‏ هل يجوز أن يدركه العقل ففيه خلاف أيضاً‏.‏

وهذا قريب من مذهب ضرار غير أن ضراراً أطلق لفظ الماهية عليه تعالى وهو من حيث العبارة منكر‏.‏

ومن مذهب الأشعري‏:‏ أن كل موجود يصح أن يرى‏:‏ فإن المصحح للرؤية إنما هو موجود والباري تعالى موجود فيصح أن يرى وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة قال الله تعالى‏:‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها‏.‏

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار‏.‏

قال‏:‏ ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على‏:‏ جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن كل ذلك مستحيل‏.‏
وله قولان في ماهية الرؤية‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه علم مخصوص ويعني بالخصوص أنه متعلق بالوجود دون العدم

والثاني‏:‏ أنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثراً عنه‏.‏

وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود‏.‏

وأثبت اليدين والوجه صفات خبرية فيقول‏:‏ ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد‏.‏

وصاغوه إلى طريقة السلف من نرك التعرض للتأويل وله قول أيضاً في جواز التأويل‏.‏

ومذهبه في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام والسمع والعقل‏:‏ مخالف للمعتزلة من كل وجه‏.‏

قال‏:‏ الإيمان هو التصديق بالجنان وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه فمن صدق بالقلب أي‏:‏ أقر بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقاً لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمناً ناجياً ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك‏.‏

وصاحب الكبيرة‏:‏ إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى‏:‏ إما أن يغفر له برحمته وإما أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ‏"‏‏.‏

وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ثم يدخله الجنة برحمته ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار لما ورد به السمع‏:‏ بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان‏.‏

قال‏:‏ ولو تاب فلا أقول‏:‏ بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل إذ هو الموجب فلا يجب عليه شيء بلى‏:‏ ورود السمع بقبول توبة التائبين وإجابة دعوة المضطرين‏.‏

وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلو أدخل الخلائق بأجمعهم في الجنة لم يكن حيفاً ولو أدخلهم النار لم يكن جوراً إذ الظلم هو‏:‏ التصرف فيما لا يملكه المتصرف أو وضع الشيء في غير موضعه وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ولا ينسب إليه جور‏.‏

قال‏:‏ والواجبات كلها سمعية والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسينا ًو لا تقبيحاً فمعرفة الله تعالى‏:‏ بالعقل تحصل وبالسمع‏:‏ تجب قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ‏"‏‏.‏

وكذلك‏:‏ شكر المنعم وإثابة المطيع وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل‏.‏

ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل‏:‏ لا الصلاح ولا أصلح ولا اللطف‏.‏

وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة فيقتضي نقيضه من وجه آخر‏.‏

وأصل التكليف لم يكن واجباً على الله تعالى إذ لم يرجع إليه نفع ولا اندفع به عنه ضر‏.‏

وهو قادر على مجازاة العبيد‏:‏ ثواباً وعقاباً وقادر على الإفضال عليهم ابتداء‏:‏ تكرماً وتفضلاً‏.‏

والثواب والنعيم واللطف كله منه فضل والعقاب والعذاب كله عدل‏:‏ ‏"‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ‏"‏‏.‏

وإبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ولكن بعد الانبعاث تأييدهم بالمعجزات وعصمتهم من الموبقات من جملة الواجبات إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي ولا بد من إزاحة العلل فلا يقع في التكليف تناقض‏.‏

والمعجزة‏:‏ فعل خارق للعادة مقترن بالتحدي سليم عن المعارضة يتنزل منزلة التصديق بالقول من حيث القرينة وهو منقسم إلى خرق المعتاد وإلى إثبات غير المعتاد‏.‏

والكرامات للأولياء حق وهو من وجه‏:‏ تصديق للأنبياء وتأكيد للمعجزات‏.‏

والإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى والكفر والمعصية بخذلانه والتوفيق عنده‏:‏ خلق القدرة على الطاعة والخذلان عنده‏:‏ خلق القدرة على المعصية‏.‏

وعند بعض أصحابه‏:‏ تيسير أسباب الخير هو التوفيق وبضده الخذلان‏.‏

وما ورد به السمع من الأخبار عن الأمور الغائبة مثل‏:‏ القلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار فيجب إجراؤها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت إذ لا استحالة في إثباتها‏.‏

وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل سؤال القبر والثواب والعقاب فيه ومثل‏:‏ الميزان والحساب والصراط وانقسام الفريقين‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏

حتى يجب الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها إذ لا استحالة في وجودها‏.‏

والقرآن عنده معجز من حيث‏:‏ البلاغة والنظم والفصاحة إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة‏.‏

ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي وهو المنع من المعارضة ومن جهة الإخبار عن الغيب‏.‏

وقال‏:‏ الإمامة تثبت باتفاق والاختيار دون النص والتعيين إذ لو كان ثم نص لما خفي والدواعي تتوفر على نقله‏.‏

واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي الله وقال‏:‏ لا نقول في عائشة وطلحة والزبير‏:‏ إلا أنهم رجعوا عن الخطأ والزبير من العشرة الأوائل المبشرين بالجنة‏.‏

ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص‏:‏ إلا أنهما بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي‏.‏

وأما أهل النهران فهم الشراة المارقون على الدين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولقد كان علي رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله يدور الحق معه حيث دار‏.‏

المشبهة

اعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم‏:‏ جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن‏.‏

تحيروا في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في متشابهات‏:‏ آيات الكتاب الحكيم وأخبار النبي الأمين صلى الله عليه وسلم‏.‏

فأما أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث مثل‏:‏ مالك بن أنس ومقاتل إ بن سليمان وسلكوا طريق السلامة فقالوا‏:‏ نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدوره‏.‏

وكانوا يحترزون عن التشبيه إلى غاية أن قالوا‏:‏ من حرك يده عند قراءة له تعالى‏:‏ ‏:‏ ‏"‏ خلقت بيدي ‏"‏ أو أشار بإصبعيه عند روايته‏:‏ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن‏.‏

وجب قطع يده وقلع إصبعيه‏.‏

وقالوا‏:‏ إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ‏"‏ فنحن نحترز عن الزيغ‏.‏

والثاني‏:‏ أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول في صفات الباري بالظن غير جائز فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ بل نقول كما قال الراسخون في العلم‏:‏ كل من عند ربنا‏:‏ آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه‏.‏

واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ‏:‏ اليد بالفارسية ولا الوجه ولا الاستواء ولا ما ورد من جنس ذلك‏.‏

بل إن احتاج في ذكرها إلى عبارة عبر عنها بما ورد‏:‏ لفظا بلفظ‏.‏

فهذا هو طريق السلامة وليس هو من التشبيه في شيء‏.‏

غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل‏:‏ الهشاميين من الشيعة ومثل‏:‏ مضر وكهمس وجهم الهخيمي وغيرهم من الحشوية قالوا‏:‏ معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض‏:‏ إما روحانية وأما جسمانية‏.‏

ويجوز عليه‏:‏ الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن‏.‏

فأما مشبهة الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب المغالاة‏.‏

وأما مشبهة الحشوية فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن‏:‏ مضر وكهمس وأحمد الهجيمي‏:‏ أنهم أجازوا على ربهم‏:‏ الملامسة والمصافحة وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ز الآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض‏.‏

وحكى الكعبي عن بعضهم‏:‏ أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوروه ويزورهم‏.‏

وحكى عن داود الجواربي أنه قال‏:‏ اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك‏.‏

وقال‏:‏ إن معبوده‏:‏ جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من‏:‏ يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين ومع ذلك‏:‏ جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء وكذلك سائر الصفات وهو‏:‏ لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء‏.‏

وحكى عنه أنه قال‏:‏ هو‏:‏ أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وأن له وفرة سوداء وله شعر قطط‏.‏

وأما ما ورد في التنزيل من‏:‏ اللإستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية‏.‏

وغير ذلك فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام‏.‏

وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ خلق آدم على صورة الرحمن ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وضع يده أو كفه على كتفي ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ حتى وجدت برد أنامله على كتفي ‏"‏‏.‏

إلى غير ذلك‏.‏

اجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام‏.‏

وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه السلام وأكثرها مقتبسة من اليهود فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا‏:‏ اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الحل الجديد وإنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع‏.‏

وروى المشبهة عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ‏"‏‏.‏

وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن‏:‏ إن الحروف والأصوات والرقوم المكتوبة قديمة أزلية وقالوا‏:‏ لا يعقل كلام بحروف ولا كلم واستدلوا بأخبار منها ما رووا عن النبي عليه السلام‏:‏ ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأولون والآخرون ورووا‏:‏ أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل‏.‏

قالوا‏:‏ وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه‏.‏

والمخالفون في ذلك‏:‏ أما المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله وخالفونا في القدم وهم محجوجون بإجماع الأمة‏.‏

وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله وهم محجوجون أيضاً بإجماع الأمة‏:‏ أن المشار غليه هو كلام الله‏.‏

فأما إثبات كلام هو صفة قائمة بذات الباري تعالى‏:‏ لا نبصرها ولا نكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها فهو مخالفة الإجماع من كل وجه‏.‏

فنحن نعتقد‏:‏ أن ما بين الدفتين كلام الله أنزله على لسان جبريل عليه السلام فهو‏:‏ المكتوب في المصاحف وهو المكتوب في اللوح المحفوظ وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة وذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ سلام قولاً من رب رحيم ‏"‏ وهو قوله تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يا موسى إني أنا الله رب العالمين ‏"‏ ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وكلم الله موسى تكليما ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ‏"‏‏.‏

وروى عن النبي علليه السلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى كتب التوراة بيده وخلق جنة عدن بيده وخلق آدم بيده ‏"‏‏.‏

وفي التنزيل‏:‏ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏.‏

قالوا‏:‏ فنحن لا نريد من أنفسنا شيئاً ولا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف قالوا‏:‏ ما بين الدفتين كلام لله قلنا‏:‏ هو كذلك واستشهدوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ‏"‏ ومن المعلوم‏:‏ أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ إنا أنزلناه في ليلة القدر ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ‏"‏‏.‏

إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية وقال‏:‏ يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص كما كان جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشراً سوياً وعليه حمل قول النبي عليه السلام ‏"‏ رأيت ربي في أحسن صورة ‏"‏‏.‏

وفي التوراة عن موسى عليه السلام‏:‏ شافهت الله تعالى فقال لي‏:‏ كذا‏.‏

والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول‏.‏

ثم الحلول‏:‏ قد يكون بجزء وقد يكون بكل على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى‏.‏

الكرامية

أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام وإنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن يثبت الصفات غلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه‏.‏

وقد ذكرنا‏:‏ كيفية خروجه وانتسابه إلى أهل السنة فيما قدمناه ذكره‏.‏

وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة‏:‏ العابدية والتونية والزرينية والإسحاقية والواحدية وأقربهم‏:‏ الهيصمية‏.‏

ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لما يصدر ذلك من علماء معتبرين بل عن سفهاء أغتام جاهلين لم نفردها مذهباً وأوردنا مذهب صاحب نص أبو عبد الله على أن معبوده على العرش استقراراً وعلى أنه بجهة فوق ذاتاً‏.‏

وأطلق عليه اسم الجوهر فقال في كتابه المسمى عذاب القبر‏:‏ إنه إحدى الذات إحدى الجوهر وغناه مماس للعرش من الصفحة العليا‏.‏

وجوز‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ امتلأ العرش به‏.‏

وصار المتأخر ون منهم‏:‏ إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش‏.‏

ثم اختلفوا‏:‏ فقالت العابدية‏:‏ إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به‏.‏

وقال محمد بن الهيصم‏:‏ إن ابنه وبين العرش بعداً لا يتناهى وإنه مباين للعالم بينوية أزلية‏.‏

ونفى التحيز والمحاذاة وأثبت الفوقية والمباينة‏.‏

وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه‏.‏

والمقاربون منهم قالوا‏:‏ نعني بكونه جسماً‏:‏ أنه قائم بذاته وهذا هو حد الجسم عندهم‏.‏

وبنوا على هذا أن من حكم القائلين بأنفسهما‏:‏ أن يكونا متجاورين أو متباينين فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش وحكم بعضهم بالتباين‏.‏

وربما قالوا‏:‏ كل موجودين فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر وإما أن يكون بجهة منه والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه فيجب أن يكون بجهة من العالم ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق فقلنا هو بجهة فوق الذات حتى إذا رئي رئي من تلك الجهة ثم لهم اختلافات في النهاية فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات ومنهم من أثبت النهاية له من جهة تحت ومنهم من أنكر النهاية له فقال‏:‏ هو عظيم‏.‏

ولهم في معنى العظمة خلاف والعرش تحته وهو فوق كله على الوجه الذي هو فوق جزء منه وقال بعضهم‏:‏ معنى عظمته أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم‏.‏

ومن مذهبهم جميعاً‏:‏ جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى‏.‏

ومن أصلهم‏:‏ أن ما يحدث في ذاته فإنما يحدث بقدرته وما يحدث مبايناً لذاته فغنما يحدث بقدرته من الأقوال والإرادات ويعنون بالمحدث‏:‏ ما باين ذاته من الجواهر والأعراض‏.‏

ويفرقون بين الخلق والمخلوق والإيجاد والموجود والموجد وكذلك بين الإعدام والمعدوم‏:‏ فالمخلوق‏:‏ إنما يصير معدوماً بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة‏.‏

وزعموا‏:‏ أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة مثل‏:‏ الإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام ز من ذلك المسمعات والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر‏.‏

والإيجاد والإعدام‏:‏ هو القول بالإرادة وذلك قوله‏:‏ كن للشيء الذي يريد كونه‏.‏

وإرادته لوجود ذلك الشيء وقوله للشيء كن صورتان‏:‏ وفشر محمد بن الهيصم الإيجاد والإعدام‏:‏ بالإرادة والإيثار قال‏:‏ وذلك مشروط بالقول شرعاً إذ ورد في التنزيل‏:‏ ‏"‏ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له‏:‏ كن فيكون ‏"‏‏.‏

وعلى قول الأكثرين منهم‏:‏ الخلق عبارة عن القول والإرادة‏.‏

ثم اختلفوا في التفصيل‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ لكل موجود إيجاد ولكل معدوم إعدام‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إيجاد واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد‏.‏

وألزم بعضهم‏:‏ لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة فالتزم تعدد القدرة بتعدد الإيجاد‏.‏

وقال بعضهم أيضاً‏:‏ تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث التي تحدث في ذاته من‏:‏ الكاف والنون والإرادة والسمع والتبصر‏.‏

ومنهم من أثبت لله تعالى السمع والبصر أزلاً والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما‏.‏

وقد أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل الحدثات‏.‏

وأجمعوا على أن الحوادث لا توجب لله تعالى وصفاً ولا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه لحوادث من‏:‏ الأقوال والإرادات والتسمعات والتبصرات ولا يصير بها‏:‏ قائلاً ولا مريداً ولا سميعاً ولا بصيراً ولا يصير بخلق هذه الحوادث‏:‏ محدثاً ولا خالقاً‏.‏

وإنما هو‏:‏ قائل بقائليته وخالق بخالقيته ومريد بمريديته وذلك قدرته على هذه الأشياء‏.‏

ومن أصلهم‏:‏ أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها إذ لو جاز عليها العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك الجوهر في هذه القضية أيضاً فلو قدر عدمها فلا يخلو‏:‏ إما أن يقدر عدمها بالقدرة أو بإعدام يخلقه في ذاته‏.‏

ولا يجوز أن يكون عدمها بالقدرة لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم في ذاته وشرط الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعلومات بلا قدرة‏.‏

ثم يجب طرد ذلك في الموجد حتى يجوز وقوع موجد محدث في ذاته وذلك محال عندهم ولو فرض عدا معا بالإعدام لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام فيتسلسل فارتكبوا في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل ولا اثر للإحداث في حال بقائه‏.‏

ومن أصلهم‏:‏ أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى ك أمر التكوين وهو فعل التكليف ونهى التكليف وهي أفعال من حيث دلت على القدرة ولا يقع تحتها مفعولات‏.‏

هذا هو تفصيل مذاهبهم في محل الحوادث‏.‏

وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كل مسالة حتى ردها من المحال الفاحش إلى نوع يفهم فينا بين العقلاء‏:‏ مثل التجسيم فإنه قال‏:‏ أراد بالجسم‏:‏ القائم بالذات‏.‏

ومثل الفوقية فإنه حملها على العون وأثبت البينوية غير المتناهية وذلك الخلاء الذي أثبته بعض الفلاسفة‏.‏

ومثل الاستواء فإنه‏:‏ نفى المجاورة والمماسة والتمكن بالذات‏.‏

غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل الرمة فالتزمها كما ذكرنا وهي من أشنع المحالات عقلاً‏.‏

وعند القوم‏:‏ أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عوالم من الحوادث وذلك محال شنيع‏.‏

ومما أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم‏:‏ الباري تعالى‏:‏ عالم بعلم قادر بقدرة حي بحياة شاء بمشيئة وجميع هذه الصفات‏:‏ صفات قديمة أزلية قائمة بذاته‏.‏

وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري‏.‏

وربما زادوا الوجه واليدين‏:‏ صفات قديمة قائمة به وقالوا‏:‏ له يد لا كالأيدي ووجه لا كالوجوه‏.‏

وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات‏.‏

وزعم ابن الهيصم‏:‏ أن الذي أطلقه المشبهة على الله عز وجل من الهيئة والصورة والجوف والاستدارة والوفرة والمصافحة والمعانقة ونحو ذلك‏.‏

لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من ‏:‏ أنه خلق آدم بيده وأنه استوى على عرشه وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق‏.‏

وذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئاً على معنى فاسد‏:‏ من جارحتين وعضوين تفسيراً لليدين ولا مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن تفسيراً للاستواء ولا تردداً في الأماكن التي تحيط به تفسيراً للمجيء وإنما ذهبنا في ذلك على إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف وتشبيه وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة والمجسمة‏.‏

وقال الباري تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا ينقلب علمه جهلاً ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة وقائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث وهو الفرق بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق‏.‏

وقال‏:‏ نحن نثبت القدر خيره وشره من الله تعالى وأنه‏:‏ أراد الكائنات كلها خيرها وشرها وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها‏.‏

في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للباري تعالى تلك الفائدة هي مورد التكليف والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب‏.‏

واتفقوا على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع وتجب معرفة الله تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة إلا أنهم لم يثبتوا رعية الصلحة الأصلح واللطف عقلاً كما قالت المعتزلة‏.‏

وقالوا‏:‏ الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب‏.‏

ودون سائر الأعمال‏.‏

وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء فالمنافق عندهم‏:‏ مؤمن في الدنيا على الحقيقة مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة‏.‏

وقالوا في الإمامة‏:‏ إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنة‏.‏

إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين وغرضهم‏:‏ إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من أصحابه وإثبات أمير المؤمنين علي بالمدينة والعراقيين باتفاق جماعة من أصحابه‏.‏

ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من الأحكام الشرعية‏:‏ قتالاً على طلب قتله عثمان رضي الله عنه واستقلالاً ببيت المال‏.‏

ومذهبهم الأصلي اتهام علي رضي الله عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي الله عنه والسكوت عنه وذلك‏:‏ عرق نزع‏.‏ ‏