القسـم الأول - الجـزء الأول (المسلمون) - الباب الخامس

المرجئة

الإرجاء على معنيين‏:‏ أحدهما بمعنى‏:‏ التأخير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ أرجه وأخاه ‏"‏ أي‏:‏ أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد‏.‏

وأما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون‏:‏ لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة‏.‏

وقيل‏:‏ الإرجاء‏:‏ تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا‏:‏ من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار‏:‏ فعلى هذا‏:‏ المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان‏.‏

وقيل‏:‏ الإرجاء‏:‏ تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة فعلى هذا‏:‏ المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان‏.‏

والمرجئة‏:‏ أصناف أربعة‏:‏

مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية

ومرجئة الجبرية وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء‏.‏

ونحن إنما نعد مقالات المرجئة الخالصة منهم‏.‏

اليونسية

أصحاب‏:‏ يونس بن عون النميري‏.‏

زعم أن الإيمان هو‏:‏ المعرفة بالله والخضوع له وترك الاستكبار عليه والمحبة بالقلب فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصاً واليقين صادقاً‏.‏

وزعم أن إبليس كان عارفاً بالله وحده غير انه كفر باستكباره عليه‏:‏ أبى واستكبر وكان من الكافرين‏.‏

قال‏:‏ ومن تمكن في قلبه‏:‏ الخضوع لله والمحبة له على خلوص ويقين‏:‏ لم يخالفه في معصية وغن صدرت منه معصية فلا تضره بيقينه وإخلاصه‏.‏

إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته لا بعمله وطاعته العبيدية‏:‏ أصحاب‏:‏ عبيد المكتئب‏.‏

حكي عنه أنه قال‏:‏ مادون الشرك مغفور لا محالة وغن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات‏.‏

وحكى اليمان عن عبيد المكتئب وأصحابه‏:‏ انهم قالوا‏:‏ إن علم الله تعالى لم يزل شيئاً غيره وغن كلامه لم يزل شيئاً غيره وكذلك دين الله لم يزل شيئا ًغيره‏.‏

وزعم أن الله تعالى عن قولهم على صورة إنسان وحمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله خلق آدم على صورة الرحمن ‏"‏‏.‏

الغسانية

أصحاب غسان الكوفي‏.‏

زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله والإقرار بما أنزل الله وبما جاء به لرسول‏.‏

في الجملة دون التفصيل‏.‏

والإيمان‏:‏ لا يزيد ولا ينقص‏.‏

وزعم أن قائلاً لو قال‏:‏ أعلم أن الله تعالى قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه‏:‏ هذه الشاة أم غيرها كان مؤمناً‏.‏

لو قال‏:‏ أعلم أن الله تعالى قد فرض الحج إلى الكعبة غير أني لا أدري أين الكعبة ولعله بالهند‏:‏ كان مؤمناً‏.‏

ومقصودة‏:‏ أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه كان شاكاً في هذه الأمور فإن عاقلاً لا يستجيز من عقله أن يشك في أن ومن العجيب‏!‏ أن غسان كان يحكي عن حنيفة رحمه الله مثل مذهبه ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه‏.‏

لعمري‏!‏ كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه‏:‏ مرجئة السنة‏.‏

وعده كثير من أصحاب المقالات‏:‏ من جملة المرجئة ولعل السبب فيه‏:‏ أنه لما كان يقول‏:‏ الإيمان‏:‏ هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص‏:‏ ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان‏.‏

والرجل مع تخريجه في العمل كيف يفتي بترك العمل‏!‏‏.‏

وله سبب آخر والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر‏:‏ مرجئاً وكذلك الوعيدية من الخوارج فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي‏:‏ المعتزلة والخوارج‏.‏

والله أعلم‏.‏

الثوبانية

أصحاب‏:‏ أبي ثوبان المرجئ‏.‏

الذين زعموا‏:‏ إن الإيمان هو‏:‏ المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسله عليهم السلام وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله وما جاز في العقل تركه فليس من الإيمان‏.‏

وأخر العمل كله عن الإيمان‏.‏

ومن القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا‏:‏ أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي وأبي شمر ومويس بن عمران والفضل الرقاشي ومحمد بن شبيب والعتابي وصالح قبة‏.‏

وكان غيلان يقول بالقدر خيره وشره من العبد وفي الإمامة‏:‏ إنه تصلح في غير قريش وكل من كان قائماً بالكتاب والسنة كان مستحقاً لها وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة‏.‏

والعجب أن الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش وبهذا دفعت الأنصار عن قولهم‏:‏ منا والجماعة التي عددناها اتفقوا على أن الله تعالى لو عفا عن عاص في القيامة‏:‏ عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله وإن أخرج من النار واحداً‏:‏ أخرج من هو في مثل حاله‏.‏

ومن العجب أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة‏.‏

ويحكى عن مقاتل بن سليمان‏:‏ أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد والإيمان وأنه لا يدخل النار مؤمن‏.

 
والصحيح من الثقل عنه‏:‏ أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار وحرها ولهيبها فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار‏.‏

ونقل عن زياد بن غياث المريسي أه قال‏:‏ إذا دخل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها بعد أن يعذبوا بذنوبهم وأما التخليد فيها فمحال وليس بعدل‏.‏

وقيل‏:‏ إن أول من قال بالإرجاء‏:‏ الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وكان يكتب فيه الكتب في الأمصار‏.‏

غلا أمه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر إذ الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها‏.‏

التومينية

أصحاب‏:‏ أبي المعاذ التومني زعم أن الإيمان هو ما عصم عن الكفر وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر ولا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان ولا بعض إيمان‏.‏

وكل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال لصاحبها‏:‏ فاسق ولكن يقال‏:‏ فسق وعصى‏.‏

وقال‏:‏ وتلك الخصال هي المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول‏.‏

قال‏:‏ ومن ترك الصلاة وصيام مستحلاً كفر ومن تركهما على نية القضاء لم يكفر‏.‏

ومن قتل نبياً أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل‏:‏ الاستخفاف والعداوة والبغض‏.‏

وإلى هذا المذهب ميل‏:‏ ابن الرواندي وبشر الريسي قالا‏:‏ الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً والكفر هو الجحود والإنكار‏.‏

والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة الكفر‏.‏

الصالحية

أصحاب‏:‏ صالح بن عمر الصالحي‏.‏

والصالحي ومحمد بن شبيب وأبو شمر وغيلان‏:‏ كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء‏.‏

ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة إلا أنه بدا لنا في هؤلاء لانفرادهم عن المرجئة بأشياء‏.‏

فأما الصالحي فقال‏:‏ الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعاً فقط والكفر هو الجهل به على الإطلاق قال‏:‏ وقول القائل ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر غلا من كافر‏.‏

وزعم‏:‏ أن معرفة الله تعالى هي المحبة والخضوع له ويصح ذلك مع حجة الرسول‏.‏

ويصح في العقل أن يؤمن بالله ولا يؤمن برسله غير أن الرسول عليه السلام قد قال‏:‏ ‏"‏ من لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله تعالى ‏"‏‏.‏

وزعم‏:‏ أن الصلاة ليست بعبادة الله تعالى وأنه لا عبادة له إلا الإيمان به وهو معرفته وهو خصلة واحدة‏:‏ لا يزيد ولا ينقص وكذلك الكفر خصلة واحدة‏:‏ لا يزيد ولا ينقص‏.‏

وأما أبو شمر المرجئ القدري فإنه زعم‏:‏ أن الإيمان هو المعرفة بالله عز وجل والمحبة والخضوع له بالقلب والإقرار به‏:‏ أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء عليهم السلام فإذا قامت الحجة فالإقرار بهم وتصديقم من الإيمان والمعرفة والإقرار بما جاءوا به من عند الله غير داخل في الإيمان الأصلي‏.‏

وليست كل خصلة من خصال الإيمان إيماناً ولا بعض إيمان فإذا اجتمعت كانت كلها إيماناً‏.‏

وشرط في خصال الإيمان معرفة العدل يريد به‏:‏ القدر خيره وشره من العبد من غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء‏.‏

وأما غيلان بن مروان من القدرية المرجئة فإنه زعم أن الإيمان هو‏:‏ المعرفة الثانية بالله تعالى والمحبة والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله‏.‏

والمعرفة الأولى فطرية ضرورية‏.‏

فالمعرفة على أصله نوعان‏:‏ فطرية وهي علمه بأن للعالم صانعاً ولنفسه خالقاً وهذه المعرفة لا تسمى إيماناً إنما الإيمان هو المعرفة الثانية المكتسبة‏.‏

تتمة رجال المرجئة كما نقل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وعمرو بم مرة ومحارب بن زياد ومقاتل بن سليمان وذر وعمرو بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر‏.‏

وهؤلاء كلهم‏:‏ أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر الكبيرة ولم يحكموا بتخليده في النار خلافاً للخوارج والقدرية‏.