القسم الثاني - الجزء الأول (الصابئة) - الباب الثاني

أصحاب الهياكل والأشخاص

وهؤلاء من فرق الصابئة‏.‏

وقد أدرجنا مقالتهم المناظرات جملة‏.‏

ونذكرها ههنا تفصيلاً‏.‏

أصحاب الهياكل أعلم أن أصحاب الروحانيات لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجه إليه ويتقرب به ويستفاد منه‏.‏

فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها وثانياً مطالعها ومغاربها وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها ورابعاً تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها وخامساً تقدير فعملوا الخواتيم وتعلموا العزائم والدعوات وعينوا ليوم زحل مثلاً‏:‏ يوم السبت وراعوا فيه ساعته الأولى وتختموا بخاتمة المعمول على صورته وهيئته وصنعته ولبسوا اللباس الخاص به وتبخروا ببخوره الخاص ودعوا بدعواته الخاصة به وسألوا حاجتهم منه‏:‏ الحاجة التي تستدعي من زحل‏:‏ من أفعاله وآثاره الخاصة به فكان يقضي حاجتهم ويحصل في الأكثر مرامهم‏.‏

وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه‏.‏

وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب‏.‏

وكانوا يسمونها‏:‏ أرباباً آلهة والله تعالى هو رب الأرباب وإله الآلهة‏.‏

ومنهم من جعل الشمس‏:‏ إله الآلهة ورب الأرباب‏.‏

وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري تعالى لاعتقادهم بأن الهيام أبدان الروحانيات ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات وهي تتصرف في أبدانها‏:‏ تدبيراً وتصريفاً وتحريكاً كما نتصرف في أبداننا‏.‏

ولاشك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه‏.‏

ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب‏.‏

وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور‏.‏

كلها من علومهم‏.‏

أصحاب الأشخاص وأما أصحاب الأشخاص فقالوا‏:‏ إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به وشفيع يتشفع إليه والروحانيات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبها بالألسن‏:‏ لم يتحقق التقرب إليها بهياكلها‏.‏
ولكن الهياكل قد ترى في وقت ولا ترى في وقت لأن لها طلوعاً وأفولاً وظهوراً بالليل وخفاءً بالنهار فلم يصف لنا التقرب بها والتوجه إليها‏.‏

فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا نعكف عليها ونتوسل بها إلى الهياكل فنتقرب بها إلى الروحانيات ونتقرب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى فنعبدهم‏:‏ ليقربونا إلى الله زلفى‏.‏

فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة‏:‏ كل شخص في مقابلة هيكل وراعوا في ذلك جوهر الهيكل اعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه وراعوا في ذلك‏:‏ الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه‏.‏

فتقربوا إليه في يومه وساعته وتبخروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ولبسوا لباسه وتضرعوا بدعائه وعزموا بعزائمه وسألوا حاجتهم منه فيقولون‏:‏ إنه كان يقضي حوائجهم بعد رعاية الإضافات كلها‏.‏

وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم‏:‏ أنهم عبدة الكواكب والأوثان‏.‏

فأصحاب الهياكل‏:‏ هم عبدة الكواكب إذ قالوا بإلهيتها كما شرحنا‏.‏

وأصحاب الأشخاص هم مناظرات إبراهيم الخليل لأصحاب الهياكل وأصحاب الأشخاص وكسره مذاهبهما وقد ناظر الخليل عليه السلام هؤلاء الفريقين‏.‏

فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ‏"‏ وتلك الحجة‏:‏ أن كسرهم قولاً بقوله‏:‏ ‏"‏ أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ‏"‏‏!‏ ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره‏:‏ كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه إذ قال عليه السلام لأبيه آزر‏:‏ أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وقال‏:‏ يا أبت‏!‏ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً لأنك جهدت كل الجهد واستعملت كل العلم حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية فما بلفت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً وأن تغني عنك وتضر وتنفع‏.‏

وأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها لأنك خلقت‏:‏ سميعاً بصيراً نافعاً ضاراً والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً والمعمول تصنعاً فيالها من حيرة‏!‏ إذ صار المصنوع‏!‏‏:‏ يا أبت‏!‏ لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً‏:‏ با أبت‏!‏ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن‏.‏

ثم دعاه إلى الحيفية الحقة قال‏:‏ يا أبت‏!‏ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً‏.‏

قال‏:‏ أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم‏!‏‏.‏

فلم تقبل حجته القوية‏.‏

فعدل عليه السلام عن القول إلى الكسر للأصنام بالفعل فجعلهم جذاذاً غلا كبيراً لهم فقالوا‏:‏ من فعل هذا بآلهتنا‏.‏

قال‏:‏ بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا‏:‏ إنكم أنتم الظالمون ثم نكثوا عن رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون‏.‏

فافحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم كما أفحمهم بالقول حيث أحال الفعل منهم‏.‏

وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم وإلا فما كان الخليل كاذباً قط‏.‏

ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل وكما أراه الله تعالى الحجة على قومه قال‏:‏ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين‏:‏ تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها‏.‏

وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة وتقريراً‏:‏ أن الكمال في الرجال فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل‏:‏ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال‏:‏ هذا ربي على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام‏:‏ بل فعله كبيرهم هذا وإلا فما كان الخليل عليه السلام كاذباً في هذا القول ولا مشركاً في تلك الإشارة‏.‏

ثم استدل بالأفول الزرال والتغير والانتقال على أنه لا يصلح أن يكون رباً إلهاً فإن الإله القديم لا يتغير وإذا تغير احتاج إلى مغير‏.‏

هذا لو اعتقدتموه‏:‏ رباً قديماً وإلهاً أزلياً ولو اعتقدتموه‏:‏ واسطة وقبلة وشفيعاً ووسيلة فإن الأفول الزوال يخرجه أيضاً عن حد الكمال‏.‏

وعن هذا ما استدل عليه بالطلوع وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيرهم فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته وذلك أبلغ في الاحتجاج‏.‏
ثم لما رأى القمر بازغاً قال‏:‏ هذا ربي فلما أفل قال‏:‏ لأن لم يهدني ربي لأكون متن القوم الضالين فيا عجباً مما لا يعرف رباً كيف يقول‏:‏ لأن لم يهدني ربي لأكون من القوم الضالين‏!‏‏.‏

رؤية الهداية من الرب تعالى‏:‏ غاية التوحيد ونهاية المعرفة والواصل إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية‏!‏‏.‏

دع هذا كله خلف قاف وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم‏:‏ من أبلغ الحجج وأوضح المناهج وعن هذا قال لما رأى الشمس بازغة قال‏:‏ هذا ربي هذا أكبر لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك وهو رب الأرباب‏:‏ الذي يقتبسون منه الأنوار ويقبلون منه الآثار فلما أفلت قال‏:‏ يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏.‏

قرر مذهب الحنفاء وأبطل مذهب الصابئة وبين أن الفطرة هي الحنيفية وأن الطهارة فيها وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها وأن النجاة والخلاص متعلقة بها وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها وأن الأنبياء والرسل مبعوثون لتقريرها وتقديرها وأن الفاتحة والخاتمة والمبدأ والكمال منوطة بتحصيلها وتحريرها‏.‏

ذلك‏:‏ الدين القيم والصراط المستقيم والمنهج الواضح والمسلك اللائح قال الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏"‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين‏:‏ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون ‏"‏‏.‏