القسم الثاني - الجـزء الثالث (آراء العرب في الجاهلية)

بين العرب وغيرهم‏:‏ قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب‏:‏ أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأجملنا القول فيه حيث كانت المقاربة بين الفريقين والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والغالب عليهم الفطرة والطبع‏.‏

وأن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفيات الأشياء والحكم بأحكام الطبائع والغالب عليهم الاكتساب والجهد‏.‏

والآن نذكر أقاويل العرب في الجاهلية ونعقبها بذكر أقاويل الهند وبها نختم الكتاب‏.‏

حكم البيت العتيق‏:‏ وقبل أن نشرع في ذكر مذاهبهمم نريد أن نذكر حكم البيت العتيق حرسه الله تعالى ونصل بذلك حكم البوت المبنية في العالم فإن منها ما بني على الدين الحق قبلة للناس ومنها ما بني على الرأي الباطل فتنة للناس‏.‏

وقد ورد في التنزيل‏:‏ ‏"‏ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ‏"‏‏.‏

وقد اختلفت الروايات في أول من بناه‏.‏

قيل‏:‏ إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع إلى سرنديب من أرض الهند وكان يتردد في الأرض متحيراً بين فقدان زوجته ووجدان توبته حتى وافى حواء بجبل الرحمة من عرفات وعرفها وصار إلى أرض مكة ودعا وتضرع إلى الله تعالى حتى يأذن له في بناء بيت يكون قبلة لصلاته ومطافاً لعبادته كما كان قد عهد في السماء من البيت المعمور الذي هو مطاف الملائكة ومزار الروحانيين فأنزل الله تعالى عليه مثال ذلك البيت على شكل سرداق من نور فوضعه مكان البيت فكان يتوجه إليه ويطوف به‏.‏

ثم لما توفي‏:‏ تولى وصية شيث عليه السلام بناء البيت من الحجر والطين على الشكل المذكور حذو القذة بالقذة‏.‏

ثم لما خرب ذلك بطوفان نوح عليه السلام وامتد الزمان حتى غيض الماء وقضى الأمر وانتهت النبوة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وحمله هاجر أم إسماعيل ابنه إلى الموضع المبارك وولادة إسماعيل عليه السلام هناك ونشوئه وتربيته ثمة وعود إبراهيم إليه واجتماعه به في بناء البيت وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ‏"‏ فرفعا قواعد البيت على مقتضى إشارة الوحي مرعياً بينها جميع المناسبات التي بينها وبين الشرع الأخير وتقبل الله تعالى ذلك منهما وبقي الشرف والتعظيم إلى زماننا وإلى يوم القيامة‏:‏ دلالة على حسن القبول‏.‏

فاختلفت آراء العرب في ذلك‏.‏

وأول من وضع فيه الأصنام عمرو بن لحي بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة واستولى على أمر البيت‏.‏

ثم صار إلى مدينة البلقاء بالشام فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا‏:‏ هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية‏:‏ نستنصر بها فننصر ونستسقي بها فنسقي ونستشفى بها فنشفى‏.‏

فأعجبه ذلك وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة وكان معه أساف ونائلة على شكل زوجين‏.‏

فدعا الناس إلى تعظيمها والتقرب إليها والتوسل بها إلى الله تعالى وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام فأخرجت وأبطلت وبهذا يعرف كذب من قال‏:‏ إن بيت الله الحرام إنما هو بيت زحل بناه الباني الأول على طوالع معلومة واتصالات مقبولة وسماه بيت زحل المعنى اقترن الدوام به بقاء والتعظيم له لقاء لأن زحل يدل على البقاء وطول العمر أكثر مما يدل عليه سائر الكواكب وهذا خطأ لأن الباني الأول كان مستنداً إلى الوحي على يدي أصحاب الوحي‏.‏

البيوت المتخذة للعبادة‏:‏ ثم إعلم أن البيوت تنقسم إلى بيوت الأصنام وإلى بيوت النيران‏.‏

وقد ذكرنا المواضع التي كانت بيوت النيران ثم في مقالات المجوس فأما بيوت الأصنام التي كانت للعرب والهند فهي البيوت السبعة المعروفة المشهورة المبنية على السبع الكواكب‏.‏

فمنها ما كانت فيه أصنام فحولت إلى النيران ومنها ما لم تحول‏.‏

ولقد كان بين أصحاب الأصنام وبين أصحاب النيران مخالفات كثيرة والأمر دول فيما بينهم وكان كل من استولى وقهر غير البيت إلى مشاعر مذهبه ودينه‏.‏

فمنها بيت فارس على رأس جبل بأصفهان على ثلاثة فراسخ كانت فيه أصنام إلى أن أخرجها كشتاسب الملك لما تمجس وجعله بيت نار ومنها البيت الذي بمولتان من أرض الهند فيه أصنام لم تغير ولم تبدل‏.‏

ومنها بيت سدوسان من أرض الهند أيضاً وفيه أصنام كبيرة كثيرة العجب‏.‏

والهند يأتون البيتين في أوقات من السنة حجاً وقصداً إليهما‏.‏

ومنه النوبهار الذي بناه منوجهر بمدينة بلخ على اسم القمر فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ‏.‏

ومنها بيت غمدان الذي بمدينة صنعاء اليمن بناه الضحاك على اسم الزهرة وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

ومنها بيت كاوسان بناه كاووس الملك بناء عجيباً على اسم الشمس بمدينة فرغانة وخربه المعتصم‏.‏

أصناف العرب في الجاهلية‏:‏ واعلم أن العرب أصناف شتى‏:‏ فمنهم معطلة ومنهم محصلة نوع تحصيل‏.‏ ‏‏