البراهمة
انتساب البراهمة وما يجمعهم: من الناس من يظن أنهم سموا براهمة لا نتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام وذلك خطأ فإن هؤلاء القوم هم المخصوصون بنفي النبوات أصلاً ورأساً فكيف يقولون بإبراهيم عليه السلام والقوم الذين اعتقدوا نبوة إبراهيم عليه السلام من أهل الهند فهم الثنوية منهم القائلون بالنور والظلمة على رأي أصحاب الاثنين وقد ذكرنا مذاهبهم.
وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم وقد مهد لهم نفي النبوات أصلاً وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه.
منها أن قال: إن الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون معقولاً وإما أن لا يكون معقولاً فإن كان معقولاً فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه فأي حاجة لنا إلى الرسول وإن لم يكن معقولاً فلا يكون مقبولاً إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ودخول في حريم الهيمية.
ومنها أن قال: قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم وقد دلت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا.
وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه فما بالنا نتبع بشراً مثلنا! فإنه إن كان يأمرنا بما ذكرناه من المعرفة والشكر فقد استغنينا عنه بعقولنا وإن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلاً ظاهراً على كذبه.
ومنها أن قال: قد دل العقل على أن للعالم صانعاً حكيماً والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل: من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله والسعي ورمي الجمار والإحرام والتلبية وتقبيل الحجر الأصم وكذلك ذبح الحيوان وتحريم ما يمكن أن يكون غذاء للإنسان وتحليل ما ينقص من بنيته.
وغير ذلك وكل هذه الأمور مخالفة لقضايا العقول.
والنفس والعقل يأكل مما تأكل ويشرب مما تشرب حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعاً ووضعاً أو كحيوان يصرفك أماماً وخلفاً أو كعبد يتقدم إليك أمراً ونهياً فأي تميز له عليك وأية فضيلة أوجبت استخدامك وما دليله على صدق دعواه فإن اغتررتم بمجرد قوله فلا تمييز لقول على قول وإن حسرتم بحجته ومعجزته فعندنا من خصائص الجواهر والأجسام ما لا يحصى كثرة ومن المخبرين عن مغيبات الأمور من ساوى خبره قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فإذا اعترفتم بأن للعالم صانعاً وخالقاً وحكيماً فاعترفوا بأنه آمر وناه: حالك على خلقه وله في جميع ما نأتي ونذر ونعمل ونفكر.
حكم وأمر.
وليس كل عقل إنساني على استعداد ما يعقل عنه أمره ولا كل نفس بشرى بمثابة من يقبل عنه حكمه بل أوجبت منته ترتيباً في العقول والنفوس واقتضت قسمته أن يرفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون فرحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة وذلك خير مما يجمعون بعقولهم المختالة.
ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافاً: فمنهم أصحاب البددة ومنهم أصحاب الفكرة ومنهم أصحاب التناسخ.
أصحاب البددة ومعنى البد عندهم: شخص في هذا العالم: لا يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت.
وأول بد ظهر في العالم اسمه شاكمين وتفسيره السيد الشريف ومن وقت ظهوره إلى وقت الهجرة خمسة آلاف سنة.
قالوا ودون مرتبة البد: مرتبة البوديسعية ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه.
وبالامتناع والتخلي عن الدنيا والعزوف عن شهواتها ولذاتها والعفة عن محارمها.
والرحمة على جميع الخلق وبالاجتناب عن الذنوب العشرة: قتل كل ذي روح واستحلال أموال الناس والزنا والكذب والنميمة والبذاء والشتم وشناعة الألقاب والسفه والجحد لجزاء الآخرة وباستكمال عشرة خصال: إحداها الجود والكرم والثانية العفو عن المسيء ودفع الغضب بالحلم والثالثة التعفف عن الشهوات الدنيوية والرابعة الفكرة في التخلص إلى ذلك العالم الدائم الوجود من هذا العالم الفائي الخامسة رياضة العقل بالعلم والأدب وكثرة النظر إلى عواقب الأمور والسادسة القوة على تصريف النفس في طلب العلييات والسابعة لين القول وطيب الكلام مع كل أحد والثامنة حسن المعاشرة مع الإخوان بإيثار اختيارهم على اختيار نفسه والتاسعة الإعراض عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق بالكلية والعاشرة بذل الروح شوقاً إلى الحق ووصولاً إلى جناب الحق.
وزعموا: أن البددة أتوهم على عدد الهياكل من نهر الكنك وأعطوهم العلوم وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتى ولم يكونوا يظهرون إلا في بيوت الملوك لشرف جواهرهم.
قالوا: ولم يكن بينهم اختلاف في ما ذكر عنهم من ازلية العالم وقولهم في الجزاء على ما ذكرنا.
وإنما اختص ظهور البددة بأرض الهند لكثرة ما فيها من خصائص التربة والإقليم ومن فيها من أهل الرياضة والاجتهاد وليس يشبه البد على ما وصفوه إن صدقوا في ذلك إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام.
أصحاب الفكرة والوهم وهؤلاء أعلم منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم.
وللهند طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم وذلك أنهم يحكمون أكثر الأحكام باتصالات الثوابت دون السيارات وينشئون الأحكام عن خصائص الكواكب دون طبائعها ويعدون زحل السعد الأكبر وذلك لرفعة مكانه وعظم جرمه وهو الذي يعطي العطايا الكلية من السعادة والجزئية من النحوسة.
وكذلك سائر الكواكب لها طبائع وخواص فالروم يحكمون من الطبائع والهند يحكمون من الخواص.
وكذلك طبهم فإنهم يعتبرون خواص الأدوية دون طبائعها والروم تخالفهم في ذلك.
وهؤلاء أصحاب الفكرة يعظمون الفكر ويقولون: هو المتوسط بين المحسوس والمعقول فالصور من المحسوسات ترد عليه والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضاً فهو مورد العلمين من العالمين.
فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة والاجتهادات المجهدة حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم فربما يخبر عن مغيبات الأحوال وربما يقوى على حبس الأمطار وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال ولا يستعبد ذلك فإن للوهم أثراً عجيباً في تصريف الأجسام والتصرف في النفوس: أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم أليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع فيسقط في الحال ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية.
والوهم إذا تجرد عمل أعمالاً عجيبة ولهذا كانت الهند تغمض عينها أياماً لألا يشتغل الفكر والوهم بالمحسوسات ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصاً إذا كانا متفقين غاية الاتفاق ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلاً من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكادهم ثقله.
ومنهم البكر نتينية يعني: المصفدين بالحديد.
وسنتهم: حلق الرؤوس واللحي وتعرية الأجسام ما خلا العورة وتصفيد البدن من أوساطهم إلى صدورهم لألا تنشق بطونهم من كثرة العلم وشدة الوهم وغلبة الفكر ولعلهم رأوا في الحديد خاصية تناسب الأوهام وإلا فالحديد كيف يمنع انشقاق البطن وكثرة العلم كيف توجب ذلك أصحاب التناسخ وقد ذكرنا مذاهب التناسخية.
وما من ملة من الملل إلا وللتناسخ فيها قدم راسخ وإنما تختلف طرقهم في تقرير ذلك.
فأما تناسخية الهند فأشد اعتقاداً لذلك لما عاينوا من طير يظهر في وقت معلوم فيقع على شجرة معلومة فيبيض ويفرخ ثم إذا تم نوعه بفراخه حك بمنقاره ومخالبه فتبرق منه نار تلتهب فيحترق الطير ويسيل منه دهن يجتمع في أصل الشجرة في مغارة ثم إذا حال الحول وحان وقت ظهوره انخلق من هذا الدهن مثله طير فيطير ويقع على الشجرة وهو أبداً كذلك.
قالوا فما مثل الدنيا وأهلها في الأدوار والأكوار إلا كذلك.
قالوا: وإذا كانت حركات الأفلاك دورية فلا محالة يصل رأس الفرجار إلى ما بدأ ودار دورة ثانية على الخط الأول: أفاد لا محالة ما أفاد الدور الأول إذ لا اختلاف بين الدورين حتى يتصور اختلاف بين الأثرين فإن المؤثرات عادت كما بدأت والنجوم والأفلاك دارت على المركز الأول وما اختلفت أبعادها واتصالاتها ومناظراتها ومناسباتها بوجه فيجب أن لا تختلف المتأثرات الباديات منها بوجه وهذا هو تناسخ الأدوار والأكوار.
ولهم اختلافات في الدورة الكبرى: كم هي من السنين وأكثرهم على أنها ثلاثون ألف سنة وبعضهم على أنها ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة.
وإنما يعتبرون في تلك الأدوار سير الثوابت لا السيارات.
وعند الهند أكثرهم: إن الفلك مركب من الماء والنار والريح وأن الكواكب فيه نارية هوائية فلم تعدم الموجودات العلوية إلا العنصر الأرضي فحسب.