المجلد الأول - القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول القول في الدلالة على أن الله عز وجل القديم الأول

قبل شيء وأنه هو المحدث كل شيء بقدرته تعالى ذكره فمن الدلالة على ذلك أنه لا شيء في العالم مشاهد إلا جسم أو قائم بجسم، وأنه لا جسم إلا متفرق أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزءان منه بعد الافتراق، فمعلوم أنّ اجتماعهما حادث فيهما بعد أن لم يكن، وأن الافتراق إذا حدث فيهما بعد الاجتماع، فمعلوم أن الافتراق فيهما حادث بعد أن لم يكن.

وإذا كان الأمر فيما في العالم من شيء كذلك، وكان حكم ما لم يشاهد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحدث لا شك أنه محدث بتأليف مؤلف له إن كان مجتمعاً، وتفريق مفرق له إن كان مفترقاً وكان معلوماً بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعاً ومفرقه إن كان مفترقاً من لا يشبهه، ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات، الذي لا يشبهه شيء، وهو على كل شيء قدير -فبين بما وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدثها كان قبل كل شيء وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدثات وأن محدثها الذي يدبرها ويصرفها قبلها، إذ كان من المحال أن يكون شيء يحدث شيئاً إلى ومحدثه قبله، وأن في قوله تعالى ذكره: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت"، لأبلغُ الحجج، وأدل الدلائل -لمن فكر بعقل، واعتبر بفهم- على قدم بارئها، وحدوث كل ما جانسها، وأن لها خالقاً لا يشبهها.

وذلك أن كل ما ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية من الجبال و الأرض و الإبل فإن ابن آدم يعالجه ويدبره بتحويل وتصريف وحفر ونحت وهدم، غير ممتنع عليه شيء من ذلك. ثم إن ابن آدم مع ذلك غير قادر على إيجاد شيء من ذلك من غير أصل، فمعلوم أن العاجز عن إيجاد ذلك لم يحدث نفسه، وان الذي هو غير ممتنع ممن أراد تصريفه وتقليبه لم يوجده من هو مثله، ولا هو أوجد نفسه، وأن الذي أنشأه وأوجد عينه هو الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يمتنع عليه إحداث شيء شاء إحداثه، وهو الله الواحد القهار.

فإن قال قائل: فما تنكر أن تكون الأشياء التي ذكرت من فعل قديمين؟ قيل: أنكرنا ذلك لوجودنا اتصال التدبير وتمام الخلق، فقلنا: لو كان المدبر اثنين، لم يخلوا من اتفاق أو اختلاف، فإن كانا متفقين فمعناهما واحد، وإنما جعل الواحد اثنين من قال بالاثنين. وإن كانا مختلفين كان محالاً وجودُ الخلق على التمام والتدبير على الاتصال. لأن المختلفين فعل كل واحد منهما خلاف فعل صاحبه بأن أحدهما إذا أحيا أمات الأخر وإذا أوجد أحدهما أفنى الآخر فكان محالاً وجود شيء من الخلق على ما وجد عليه من التمام والاتصال وفي قول الله عز وجل ذكره: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون"، وقوله عز وجل: "ما انخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون" أبلغ حجة، وأوجز بيان، وأدل دليل على بطول ما قاله المبطلون من أهل الشرك بالله، وذلك أن السموات والأرض لو كان فيها إله غير الله، لم يخلُ أمرهما مما وصفت من اتفاق واختلاف. وفي القول باتفاقهما فساد القول بالتثنية، وإقرار بالتوحيد، وإحالة في الكلام بأن قائله سمي الواحد اثنين. وفي القول باختلافهما، القول بفساد السموات والأرض، كما قال ربنا جل وعز: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" لأن أحدهما كان إذا أحدث شيئاً وخلقه كان من شأن الآخر إعدامه وإبطاله، وذلك أن كل مختلفين فأفعالهما مختلفة، كالنار التي تسخن، والثلج الذي يبرد ما أسخنته النار.

وأخرى، أن ذلك لو كان كما قاله المشركون بالله لم يخلُ كل واحد من الاثنين اللذين أثبتوهما قديمين من أن يكونا قويين أو عاجزين، فإن كانا عاجزين فالعاجز مقهور وغير كائن إلهاً. وإن كانا قويين فإن كل واحد منهما بعجزه عن صاحبه عاجز، والعاجز لا يكون إلها. وإن كان كل واحد منهما قوياً على صاحبه، فهو بقوة صاحبه عليه عاجز، تعالى ذكرهُ عما يشرك المشركون! فتبين إذاً أن القديم بارئ الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء، وهو الكائن بعد كل شيء، والأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، وأنه كان ولا وقت ولا زمان، ولا ليل ولا نهار، ولا ظلمة ولا نور. إلا نور وجهه الكريم. ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع، انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير، سبحانه من قادر قاهر! وقد حدثني علي بن سهل الرملي، قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن جعفر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تسألون بعدي عن كل شيء، حتى يقول القائل: هذا الله خلق كل شيء فمن ذا خلقه!".

حدثني علي، حدثنا زيد، عن جعفر، قال: قال يزيد بن الأصم حدثني نجبة بن صبيغ، قال: كنت عند أبي هريرة فسألوه عن هذا فكبر وقال: ما حدثني خليلي بشيء إلا قد رأيته -أو أنا أنتظره. قال جعفر: فبلغني أنه قال: إذا سألكم الناس عن هذا فقولوا: الله خالق كل شيء، والله كان قبل كل شيء، والله كائن بعد كل شيء.

فإذا كان معلوماً أن خالق الأشياء وبارئها كان ولا شيء غيره، وأنه أحدث الأشياء فدبرها، وأنه قد خلق صنوفاً من خلقه قبل خلق الأزمنة والأوقات، وقبل خلق الشمس والقمر اللذين يجريهما في أفلاكهما، وبهما عرفت الأوقات والساعات، وأرخت التأريخات، وفصل بين الليل والنهار، فلنقل: فيم ذلك الخلق الذي خلق قبل ذلك؟ وما كان أوله؟