المجلد الأول - ذكر ابتلاء الله إبراهيم بكلمات ذكر ابتلاء الله إبراهيم بكلمات

وكان ممن امتحن الله به إبراهيم عليه السلام وابتلاه به - بعد ابتلائه إياه بما كان من أمره وأمر نمرود بن كوش، ومحاولته إحراقه بالنار وابتلائه بما كان من أمره إياه بذبح ابنه، بعد أن بلغ مع السعي ورجا نفعه ومعونته على ما يقربه من ربه عز وجل ورفعه القواعد من البيت، ونسكه المناسك -ابتلاؤه جل جلالهُ بالكلمات التي أخبر الله عنه أنه ابتلاه بهن فقال: "وإذا ابتلى إبرهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن".

وقد اختلف السلف من علماء الأمة في هذه الكلمات التي ابتلاه الله بهن فأتمهنّ، فقال بعضهم: ذلك ثلاثون سهماً، وهي شرائع الإسلام.

ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة: عن ابن عباس في قوله تعالى: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات"، قال: قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلاه الله تعالى بكلمات فأتمهن، قال: فكتب الله تعالى له البراءة فقال: "وإبراهيم الذي وفى": عشر منها في الأحزاب، وعشر منها في براءة، وعشر منها في المؤمنين، وسأل سائل، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهماً.

حدثنا إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم عليه السلام، ابتلى بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال: "وإبراهيم الذي وفى"، فذكر عشراً في براءة "التائبون العابدون الحامدون" وعشر في الأحزاب: "إن المسلمين والمسلمات..." وعشراً في سورة "المؤمنين" إلى قوله تعالى: "والذين هم على صلواتهم يحافظون"، وعشراً في سأل سائل: "والذين هم على صلاتهم يحافظون".

وحدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الإسلام ثلاثون سهماً، وما ابتلى أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، قال الله تعالى: "وإبراهيم الذي وفى"، فكتب الله له براءة من النار.

وقال آخرون: ذلك عشر خصال من سنن الإسلام، خمس منهن في الرأس وخمس في الجسد.

ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه الله عز وجل بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وعسر أثر الغائط والبول بالماء.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس بمثله، غير أنه لم يذكر أثر البول.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلميان بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله تعالى: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.

حدثني عبدان المروزي، قال: حدثنا عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الجلد، قال: ابتلي إبراهيم عليه السلام بعشرة اشياء هن في الإنسان سنة: المضمضة والاستنشاق وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج.

وقال آخرون نحو قول هؤلاء، غير أنهم قالوا: ست من العشر من جسد الإنسان، وأربع منهن في المشاعر.

ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في قوله عز وجل: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، وأربع في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.

وقال آخرون: بل ذلك قوله: "إني جاعلك للناس إماماً"، ومناسك الحج ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح: قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" منهن إني جاعلك للناس إماماً آيات المنسك حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، مولى أم هانئ في قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن "إني جاعلك للناس إماماً"، ومنهن آيات النسك "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت".

حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال: قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماماً، قال: نعم، "قال ومن ذريتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين"، قال: تجعل البيت مثابة للناس، قال: نعم، قال: وتجعل هذا البلد أمناً، قال: نعم، قال: وتجعلنا مسملين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، قال: نعم، قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم؟ قال: نعم.

حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة.

حدثنا ابن وكيع، قال:حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن نجيح، عن مجاهد: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بلكمات فأتمهن"، قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: "إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينالُ عهدي الظالمين".

حدثني المثنى بن إبراهيم، قلا: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرني به عكرمة، قال: فعرضته على مجاهد فلم ينكره.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم".

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات" قال الكلمات: "إني جاعلك للناس إماماً"، وقوله: "وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"، وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل." الأية، وقوله: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.." الآية. قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: منهن "إني جاعلك للناس إماماً"، ومنهن: "وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيتِ"، ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكن البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث في ذريتهما.

وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.

ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا عمر بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: مناسك الحج.

حدثت بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات قال: هي المناسك.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم في المناسك.

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا إسرائيل، عن إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: مناسك الحج.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثني الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال: ابن عباس: أبتلاه بالمناسك.

وقال آخرون: بل ابتلاه بأمور، منهن الختان.

ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن الختان.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، قال: سمعتُ الشعبي يقول... فذكر مثله.

حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعتُ الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قوله عز وجل: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات" -قال: منهن الختان يا أبا إسحاق.

وقال آخرون: ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلى بهن أجمع فصبر عليهن.

ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قلتُ للحسن: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: ابتلاه بالكوكب فرضى عنه، وابتلاه بالقمر فرضى عنه، وابتلاه بالشمس فرضى عنه، وابتلاه بالنار فرضى عنه، وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسنُ يقول: إن الله ابتلاه بأمرٍ فصبر عليه، ابتلاه بالكواكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أنه ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين، وابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله تعالى، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه بذبح ولده، وبالنارو بالكوكب، وبالمشمس، وبالقمر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا أبو هلال عن الحسن: "وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس وبالقمر، فوجده صابراً.

حدثنا أحمد بن إسحاق بن المختار، قال: حدثني غسان بن الربيع، قال: حدثنا عبد الرحمن -وهو ابن ثوبان- عن عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم بعد ثمانية سنة بالقدوم".

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم خبران: أحدهما: ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الحسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإبراهيم الذي وفى" قال: "أتدرون ما وفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "وفي عمل يومه أربع ركعات في النهار".

والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثنا زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله "الذي وفى"؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون..." حتى ختم الآية.

فلما عرف الله تعالى من إبراهيم الصبر على كل ما ابتلاه به، والقيام بكل ما ألزمه من فرائضه، وإيثاره طاعته على كل شيء سواها، اتخذه خليلاً، وجعله لمن بعده من خلقه إماماً، واصطفاه إلى خلقه رسولاً، وجعل في ذريته النبوة والكتاب والرسالة، وخصهم بالكتب المنزلة، والحكم البالغة، وجعل منهم الأعلام والقادة والرؤساء والسادة، كلما مضى منهم نجيبٌ خلفه سيد رفيع، وأبقى لهم ذكراً في الآخرين، فالأمم كلها تتولاه وتثنى عليه، وتقول بفضله إكراماً من الله له بذلك في الدنيا، وما ادخر له في الآخرة من الكرامة أجل وأعظم من أن يحيط به وصف واصف.