المجلد الأول - نزول قبائل العرب الحيرة والأنبارأيام ملوك الطوائف نزول قبائل العرب الحيرة والأنبار أيام ملوك الطوائف

وكان من الأحداث أيام ملوك الطوائف إلى قيام أردشير بن بابك بالملْك -فيما ذكر هشام بن محمد- دنوّ مَنْ دنا من قبائل العرب من رِيفِ العراق ونزول مَنْ نزل منهم الحيرة والأنبار وما حوالي ذلك.

فحُدّثت عن هشام بن محمد، قال: لما مات بختنصّر انضمّ الذين كان أسكنَهم الحيرة من العرب حين أمر بقتالهم إلى أهل الأنبار وبقيَ الحيرُ خراباً، فغَبرُوا بذلك زماناً طويلاً، لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب، ولا يقدَم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معدّ بن عدنان؛ فلما كثر أولاد معدّ بن عدنان ومَنْ كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تِهامة وما يليهم، فرّقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتّسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشأم، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزّد كانوا نزلوها في دهر عمران بن عمرو، من بقايا بني عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغِطْريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد.

وكان الذين أقبلوا من تِهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فَهْم بن تيم الله بن أسد بن وبَرة بن تَغْلِب بن حُلوان بن عمران بن الحافِ بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فَهْم بن تيم الله بن أسد بن وبَرة، في جماعة من قومهم، والحَيْقار بن الحيق بن عُمير بن قَنص بن معدّ بن عدنان، في قَنَص كلّها. ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطَّمَثان بن عوذ مناة بن يَقْدُم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان، وزُهيْر بن الحارث بن الشلل بن زهر بن إياد وصبُح، بن صبيح بن الحارث بن أفْصى بن دُعْمِيّ بن إياد.

فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التُّنُوخ -وهو المقام- وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يداً على الناس، وضمّهم اسم تَنُوخ، فكانوا بذلك الاسم، كأنهم عُمارة من العمائر.

قال: وَتَنَخ عليهم بطون من نُمارة بن لخم. قال: ودعا مالك بن زهير جَذِيمَة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دَوْس الأزديّ إلى التُّنوخ معه، وزوّجه أخنه لميس ابنة زهير، فتنخَ جَذيمة بن مالك وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار مالك وعمرو ابنا فهم الأزد حُلفاء دون سائر تَنوخ، وكلمة تَنوخ كلها واحدة.

وكان اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرّق البلدان بينهم عند قتله دارا بن دارا ملك فارس، إلى أن ظهر أردشير بن بابك ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودَان له الناس، وضبط له الملك.

قال: وإنما سُمّوا ملوك الطوائف؛ لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلاً من الأرض، إنما هي قصور وأبيات، وحولها خندق وعدوُّه قريب منه، له من الأرض مثل ذلك ونحوه، يُغِير أحدُهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة.

قال: فتطلعت أنفسُ منْ كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق، ووطّن جماعة ممن كان معهم على ذلك؛ فكان أول مَنْ طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين -وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف؛ وهم فيما بين نِفّر -وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة وأطراف البادية- فلم تَدِنْ لهم، فدفعوهم عن بلادهم.

قال: وكان يقال لعاد إرم، فلما هلكت قيل لثمود إرم، ثم سموا الأرمانيين؛ وهم بقايا إرمَ، وهم نَبَط السواد. ويقال لدمشق: إرم.

قال: فارتفعوا عن سواد العراق وصاروا أشلاء بعدُ في عرب الأنبار وعرب الحيرة، فهم أشلاء قَنَص بن معدّ، وإليهم ينسب عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عَمَم بن نُمارة بن لخم.

وهذا قول مضر وحمّاد الرواية؛ وهو باطل، ولم يأت في قَنَص بن معدّ شيء أثبتُ من قول جُبير بن مُطْعِم: إن النعمان كان من ولده.

قال: وإنما سميت الأنبار أنبار لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمّى الأهراء، لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها.

قال: ثم طلع مالك وعمرو، ابنا فَهْم بن تيم الله، ومالك بن زهير بن فَهْم بن تيم الله، وغَطَفان بن عمرو بن الطَّمَثان، وزهير بن الحارث وصُبح بن صُبيح؛ فيمن تَنَحَ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار، على ملك الأرْمانيين، فطلع نُمارة بن قيس بن نُمارة- والنجدة -وهم قبيلة من العماليق يدعون إلى كندة- وملكان بن كندة، ومالك وعمرو ابنا فَهْم ومَنْ حالفهم، وتَنَح معهم على نِفّر على ملك الآردوانيين، فأنزلهم الحيَر الذي كان بناه بختنصّر لتجار العرب الذين وُجدوا بحضرته حين أمر بغزو العرب في بلادهم، وإدخال الجيوش عليهم، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نِفَّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم؛ حتى قدمها تُبّع -وهو أسعد أبو كَرِب بن ملكيكرب- في جيوشه، فخلّف بها منْ لم تكن به قوة من الناس، ومن لم يَقْوَ على المضي معه، ولا الرجوع إلى بلاده، وانضمّوا إلى هذا الحِير، واختلطوا بهم؛ وفي ذلك يقول كعب بن جُعيَل بن عُجْرة بن قُمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حُبيب بن عمرو بن غّنْم بن تغلب بن وائل:

وغزا تُبّعُ في حِمْيَرَ حتّى             نزلَ الحِيرةَ مِنْ أهل عَدَنْ

وخرج تبّع سائراً ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرّهم على حالهم، وانصرف راجعاً إلى اليمن، وفيهم من كل القبائل من بني لِحْيان؛ وهم بقايا جُرْهم؛ وفيهم جُعفيّ، وطئ، وكلب، وتميم؛ وليسوا إلا بالحيرة -يعني بقايا جرهم. قال ابن الكلبي: لِحيان بقايا جُرْهم.

ونزل كثير من تَنّوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طفّ الفرات وغربيّه، إلى ناحية الأنبار وما والاها في المظالّ والأخبية، لا يسكنون بيوت المدَر، ولا يجامعون أهلَها فيها، واتّصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمّون عرب الضاحية؛ فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فَهْم، وكان منزله مما يلي الأنبار. ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فَهْم. ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذّيمة الأبرش بن مالك بن فَهْم بن غنم بن دَوْس الأزديّ.

قال ابن الكلبيّ: دَوْس بن عُدْثان بن عبد الله بن نصر بن زَهْران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

قال ابن الكلبي: ويقال إن جَذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح. قال: وكان جَذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مُغاراً، وأشدّهم نِكاية، وأظهرهم حزماً، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق؛ وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به بَرَص، فكنَت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظاماً له، فقيل: جَذيمة الوضّاح، وجَذيمة الأبرش؛ وكانت مناوله فيما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وناحيتها، وعين التَّمْر، وأطراف البرّ إلى الغُوَير والقُطقُطانة وخَفِيّة وما والاها، تُجْبى إليه الأموال، وتَفِد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجَديسا في منازلهم من جَوّ وما حولهم؛ وكانت طسم وجديس يتكلّمون بالعربية، فأصاب حسانَ بن تبع أسعد أبي كرب، قد أغار على طسْم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعاً بمن معه، وتأتي خيول تَبّع على سرِية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خَبرُهم، فقال جذيمة:

ربما أَوفيْتُ في عَـلَـمٍ              ترفعَنْ بُردِي شمـالاتُ
في فُتُوّ أنـا كـالـئُهُـمْ               في بلايا غَزْوةٍ بـاتـوا
ثم أُبْنا غانِـمـي نَـعَـمٍ              وأناسٌ بعدَنـا مـاتـوا
نحن كنّا في ممـرّهـم              إذ ممرّ القـومِ خـوّاتُ
ليت شِعري ما أماتَهُـمُ             نحنُ أدلجْنا وهمْ باتـوا
وَلنا كانُـوا ونـحـن إذا                 قال منّا قائلٌ صـاتـوا
ولنا البيدُ البِعادُ الـتـي             أهلُها السودان أشتـاتُ
ثُبَةُ الأخـيار شـاهـدة               ذاكُمُ قومي وأهلاتـي
قد شربت الخمر وسطهُمُ          ناعماً في غيْر أصوات
فعلى ما كان مِنْ كـرَمٍ              فستبكينـي بُـنـيّاتـي
أنا ربُّ الناسِ كـلِّـهِـمُ               غيرَ رَبّي الكافِتِ الفاتِ

يعني بالكافت الذي يكفت أرواحهم، والفات الذي يفيتهم أنفسهم؛ يعني الله عز وجل.

قال ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في الجاهلية:

أضحى جذيمة في يَبْرِينَ مَنزلِـهِ           قد حازَ ما جمعتْ في دهرِها عادُ

فكان جَذيمة قد تنبّأ وتكهّن، واتخذ صنمين؛ يقال لهما: الضيزنان -قال: ومكان الضيزنين بالحيرة معروف- وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما على العدوّ، وكانت إياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم؛ فذُكر لجذيمة غلام من لَخم في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وطرف، فغزاهم جذيمة، فبعث إياد قوماً فسقوا سَدَنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في إياد، فبعث إلى جذيمة: إن صنميك أصبحا فينا، زهداً فيك ورغبة فينا؛ فإن أوثقت لنا ألا تغزونا رددناهما إليك.

قال: وعديّ بن نصر تدفعونه إليّ. فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف عنهم، وضم عديّاً إلى نفسه، وولاّه شرابه، فأبصرته رَقاشِ ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عديّ، اخطبني إلى الملك، فإن لك حسباً وموضعاً، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا أطمع أن يزوّجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضرَه ندماؤه، فاسقه صِرفاً، واسقِ القوم مِزاجاً، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردّك، ولن يمتنع منك؛ فإذا زوّجك فأشهِد القوم؛ ففعل الفتى وما أمرتْه به، فلما أخذت الخمرة مأخذَها خطبها إليه، فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، وأصبح مضرّجاً بالخَلوق، فقال له جذيمة -وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قال: آثار العُرس، قال أي عُرس! قال: عرس رَقاش! قال: من زوّجكها ويحك! قال: زوجَنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكبّ على الأرض ندامة وتلهّفاً، وخرج عديّ على وجهه هارباً، فلم يُر أثر، ولم يُسمع له بذكر، وأرسل إليه جذيمة، فقال:

حدثيني وأنتِ لا تَكْذِبيني           أبِحُرٍّ زَنَيْتِ أم بهجـين!
أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لعبـدٍ              أمْ بدونٍ فأنت أهلٌ لدونِ

فقالت: لا بل أنت زوجتَني امرأ عربياً، معروقاً حسيباً، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري؛ فكفّ عنها، وعرف عذرَها.

ورجع عدي بن نصر إلى إياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتىً منهم من لهْب فيما بين جبلين، فتنكّس فمات، واشتملت رَقاشِ على حبَل، فولدت غلاماً، فسمّته عمراً ورشّحته؛ حتى إذا ترعرع عطّرته وألبسته وحلته، وأزارته خالَه جذيمة، فلما رآه أعجِبَ به، وألقِيتْ عليه منه مِقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم. فخرج جذيمة متبدياً بأهله وولده في سنة خصبة مكلٍئة، فضرِبت له أبنية في روضة ذات زهرة وغُدُر، وخرج ولده وعمرو ومعهم يجتنون الكمْأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمر ويقول: هذا جناي وخياره فـيه إذ كل جانٍ يدهُ إلىَ فيهِ
فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمره فجعل له حلى من فضة وطرق، فكان أول عربي ألبس طوقاً، فكان يسمى عمراً ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذا استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زماناً لا يقدر عليه. قال: وأقبل رجلان أخوان من بلقين - يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة - من الشام يريدان جذيمة، قد أهديا له طرفا ومتاعاً، فلما كان ببعض الطريق نزلا منزلاً، ومعهما فينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعاماً، فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت حاله، فجاء حتى جلس حجرة منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعاً، فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت: "تعطى العبد كراعاً فيطمع في الذراع"، فذهبت مثلاً، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها، وأوكت زقها، فقال عمر بن عدي:

صددت الكأس عنا أم عمر           وكان الكأس مجراها اليمينا
ما شر الثلاثة أم عـمـرو              بصاحبك الذي لا تصحبينا!

فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتى؟ فقال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإني أنا عمرو بن عدي، ابن تنوخية، اللخمى، وغداً ما ترياني في نمارة غير معصى.

فنهضا إليه فضماه وعسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا. فخرجا به، حتى دفعا إلى باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سروراً شديداً، وأنكره لحال ما كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إنّ من كان في مثل حاله يتغير.

فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أياماً ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر إليه قال: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلاً في أشعار العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:

لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي           وإن ثوائي عندها لـقـلـيل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنـا             نديماً صفاء مالك وعـقـيل

وقال متمم بن نويرة:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبة        من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـاً            لطولِ اجتماع لم نبت ليلة معا

وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملق - ويقال العمليق، من عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعاً من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي:

كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكاً            ولم تكن حوله الرايات تختفـقُ
لاقى جذيمة في جاواء مشعـلةٍ              فيها حراشف بالنيران ترتشـق

فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة، وقال في ذلك القعقاع بن الدرماء الكلبي:

أتعرف منزلاً بين المنقى          وبين مجر نائلة القـديم

وكان جنود الزباء بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابنى حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصراً حصيناً على شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر. فلما أن استجمع لها أمرها، واستحكم لها ملكها، أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة - وكانت ذات رأي ودهاء وإرب: يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده إن ظهرت أصبت ثأرك وإن قتلت ملكك، والحرب سجال، وعثراتها لا تستقال، وإن كعبك لم يزل سامياً على من ناوأك وساماك، ولم ترى بؤساً ولا غيرا، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تكون الدائرة! فقالت لها الزباء قد أديت النصيحة، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت. فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، ورفضت ذلك، وأتت أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر. فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها. وكان فيما كتبت به: أنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع، وضعف في السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعاً، ولا لنفسها كفئاً غيرك، فأقبل إلى، فاجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك.

فلما انتهى كتابُ الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل الحجى والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء، وعرضته عليه، واستشارهم في أمره، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولي على ملكها. وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد بن عمر جذيمة بن قيس بن ربى بن نمارة بن لخم. وكان سعد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له قصيراً، وكان أريباً حازماً، أثيراً عند جذيمة، ناصحاً، فخالهم فيما أشاروا به عليه، وقال: رأى فاتر، وعذر حاضر، فذهبت مثلاً. فرادوه الكلام ونازعوه الرأي، فقال: إني لأرى أمراً ليس بالخسا ولا الزكا، فذهبت مثلاً. وقال لجذيمة: اكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها، وقد وترتها، وقتلت أباها. فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، فقال قصير:

إن امرؤ لا يميل العجز ترويتي               إذا أتت دون شيء مرة الوذم

فقال جذيمة: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح فذهبت مثلاً فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال: إن نمارة قومي مع الزباء ولو قدروا لصاروا معك فأطاعه وعصى قصيراً فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، وفي ذلك يقول نهشل بن حرى أين ضمرة بن جابر التميمي:

ومولى عصاني واستبد بـرأيه               كعالم يطع بالبقتين قـصـير
فلما رأى ما غب أمري وأمره                وولت بأعجاز الامور صدور
تمنى نئيشا أن يكون أطاعنـي            وقد حدثت بعد الأمور أمـور

وقالت العرب: "ببقية أبرم الأمر، فذهبت مثلاً، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله، وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربي. فلما نزل الفرضة دعا قصيراً، فقال: ما الرأي؟ قال: ببقية تركت الرأي، فذهبت مثلاً، واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطر يسير في خطب كبير، فذهبت مثلاً وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك، فإن القوم غادرون، فاركب العصا وكانت فرساً لجذيمة لا تجارى - فإني راكبها ومسايرك عليها. فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة مولياً على متنها، فقال: ويل أمة جزماً على ظهر العصا!، فذهبت مثلاً، فقال: يا ضل ما تجرى به العصا! وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت، وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا. وقالت العرب: "خير ما جاءت به العصا" مثل تضربه.

وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء، فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الإسب، فقالت: يا جذيمة أدأب عروس ترىّ، فذهب مثلاً فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فقالت: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، لا قلة أواس، ولكنه شيمة ما أناس". فذهبت مثلاً، وقالت: إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها منه، وأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه -وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال، تكرمة للملك - فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه من غير الطست، فقلت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله، فذهبت مثلاً، فهلك جذيمة واستبقت الزباء دمه، فجعلته في برس قطن في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو ابن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أداثر أم ثائر، قال: لا، بل ثائر سائر، فذهبت مثلاً، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عدي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي ومال إليه الناس، فقال عمرو بن عدي في ذلك:

دعوت ابن عبد الحن للسلم بعد ما         تتابع في غرب السفاه وكلـمـا
فلما أر عوى عن صدنا باعترامه               مريتُ هواهُ مـرى آمٍ روائمـا

فقال عمرو بن عبد الجن مجيباً له:

أما ودماء ماثراتٍ تـخـالـهـا                        على قلة العزي أو النسر عندما
وما قدس الرهبان في كل هيكلٍ               أبيل الأبيلين المسيح بن مريمـا

قال: هكذا وجد الشعر ليس بتام، وكان ينبغي أن يكون البيت الثالث: لقد كان كذا وكذا - - فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيأ واستعد، ولا تطل دم خالك. قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك. فحذرت عمراً، واتخذت نفقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني.ودعت رجلاً مصوراً أجود أهل بلادها تصويراً، وأحسنهم عملاً لذلك، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكراً، فتخلوا بشمه، وتنضم إليهم، وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور. والثقافة له، ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة، وصوره جالساً وقائماً، وراكباً ومتفضلاً، ومستلحاً بهيئة ولبسته وثيابه ولونه، فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلي.
فانطلق المصور حتى قدم على عمرو، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ ما أوصته به، ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت له، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه علىحال إلا عرفته وحذرته، وعلمت علمه. فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفى واضرب ظهري، ودعني وإياها. فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني! فقال قصير: "خل عني إذاً وخلاك ذم" فذهبت مثلاً.

قال ابن الكلبي: كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قال: فقال له عمرو، فأنت أبصر. فجدع قصير أنفه، وأثر بظهره. فقالت العرب: "لمكر ما جدع أنفه قصير"، وفي ذلك يقول المتلمس:

ومن حذر الأوتار مـاحـز أنـفـه          قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
ويروي: "ورام الموت". وقال عدي بن زيد:

كقصير إذ لم يجد غير أن ج               دع أشرافه لشكرٍ قصـير

فلما أن جدع قصير أنفه وأثر تلك الآثار بظهره، خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيراً بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله، وزينت له السير إليك. وعششته ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين! فأقبلتُ إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. فألطفته وأكرمته. وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك، فلما عرفت أنها قد استرسلت إليه، ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزورها وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات، فتصيبين في ذلك أرباحاَ عظاماً،وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، فإنه لا طرائف كطرائف العراق! فلم يزل يزينُ لها ذلك حتى سرحته، ودفعت معه عيراً، فقالت: انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهزناك به، وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها. فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكراً، فدخل على عمرو بن عدي، فأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك، تقتل عدوك. فأعطاه حاجته، وجهزه بصنوف الثياب وغيرها، فرجع بذلك كله إلى الزباء، فعرضه عليها، فأعجبها ما رأت، وسرها ما أتاها به، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء، ولم يترك جهداً، ولم يدع طرفة ولا متاعاً قدر عليه إلا حمله إليه. ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمر الخبر، وقال: إجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح - قال ابن الكلبي: وقصير أول من عمل الغرائر - وأحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، وأجعل معقد رؤس الغرائر من باطنها، فإذا دخلوا مدينة الزباء اقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف.

ففعل عمرو بن عدي، وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير، ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتهم، فلما كانوا قريباً من مدينتها، تقدم قصير إليها، فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال، فإني جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلاً. وقال ابن الكلبي: كان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من كمن النهار وسار الليل. فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير:

ما للجمال مشيهـا وئيدا!                 أجندلا يحملن أم حديدا!
أم صرفاناً بارداً شديداً!

فدخلت الإبل المدينة، حتى كان آخرها بعيراً مر على بواب المدينة وهو نبطي بيده منخسة، فنخس بها الغرائر التي تليه فتصيب خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط. فقال البواب بالنبطية بشتابسقا يعني بقوله: بشتابسقا: في الجوالق شر وأرعب قلباً، فذهبت مثلاً، فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت، ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك، وأراه إياه، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا: بأهل المدينة? ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو بن عدي على باب النفق، وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله، وأبصرت عمرا قائماً، فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها، وكان فيها سم - وقالت: بيدي لا بيدك يا عمرو، فذهبت مثلاً، وتلقاها عمرو بن عدي، فجللها بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعاً إلى العراق، فقال عدي بن زيد في أمر جذيمة وقصير والزباء وقتل عمرو بن عدي إياها قصيدته:

أبدلت المنازلُ أم عفينا             تقادم عهدها أم قد بلينا

إلى آخرها.

وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي:

يا عمرو إني قد هويتُ جماعكم          ولكل من يهوى الجماع فراقُ
بل كم رأيتُ الدهر زايل بينـه               من لا يزايل بينـه الأخـلاقُ

طابت به الزباء وقد جعلت لها              دوراً ومشربة لهـا أنـفـاق
حملت لها عمراً ولا بخشـونة              من آل دومة رسلة معنـاق
حتى تفرعها بأبيض صـارم                  عضبٍ يلوح كأنه مخـراق
وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعـه               شعبُ الغبيط فحومتة فأفـاق
وله معد والـعـبـاد وطـيئ                     ومن الجنود كتائب ورفـاق
يهبُ النجائب والنزائع حولـه               جرداً كأنه متونها الإطـلاق
فأتت عليه ساعة مـا إن لـه                مما أفاء ولا أفـاد عـتـاقُ
فكأن ذلك يوم حم قـضـاؤه                  رفد أميل إنـاؤه مـهـراق

وقال بعض شعراء العرب:

نحن قتلنا فقحلا وابن راعـن              ونحن ختنا نبت زبا بمنجـل
فلما أتتها العيرُ قالت أبـارد               من التمر هذا أم حديد وجندل

وقال عبد باجر -واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود، والعماليق، وطسم، وجديس، وأميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قال: والسلف دخل في حمير-:

لا ركبت رجلك مـن بـين الـدلـى               لقد ركبت مركبـاً غـير الـوطـى
على العراقي بصفـاً مـن الـطـوى              إن كنتِ غضبي فاغضبي على الركى
وعاتبي القيم عـمـرو بـن عـدي.

فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لحم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكاً حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفرداً بملكه، مستبداً بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم،وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس.

وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا قدمنا من ذكر ملوك اليمن، أنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكاً على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك - وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه - فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحياناً فيصيب مما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعاً إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجاً، حتى كان عمرو ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك، وستكفأهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس بجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من أمر حذيمة وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمامً التاريخ على ملك ملوك فارس، ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلاً.وكان أمرُ آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالماً مثبتاً عندهم في كنائسهم وأسفارهم.

وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها.

فأما ابن حميد، فإنه حدثنا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق غير الذي ذكره هشام، والذي حدثنا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أنّ ربيعة بن نصر اللخمىّ رأى رؤيا نذكرها بعدُ - عند ذكر أمر الحبشة، وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه - ثم ذكر في خبره ذلك أن ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة. قال: فمن بقية ربيعة ابن نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.