المجلد الثاني - ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسنى ملكهم

ذكر الخبر عن ملوك الفرس وسنى ملكهم

لسياق تمام التأريخ؛

إذ كنا قد ذكرنا الجلائل من الأمور التي كانت في أيام ملوك الطوائف في الفرس، وبني إسرائيل، والروم، والعرب، إلى عهد أردشير .

ذكر ملك أردشير بن بابك

ولما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل في قول النصارى وأهل الكتب الأول خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس مائتان وست وستون سنة؛ وثب أردشير بن بابك شاه ملك خير بن ساسان الأصغر بن بابك، بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بن كيوجي بن كيمنش - وقيل في نسبه: أردشير بن بابك بن ساسان بن بابك بن زرار بن بهآفريذ بن ساسان الأكبر، بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب - بفارس طالباً - بزعمه - بدم ابن عمه دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار، الذي حارب الإسكندر، فقتله حاجباه، مريداً - فيما يقول - رد الملك إلى أهله، وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه وآبائه الذي مضوا قبل ملوك الطوائف، وجمعه لرئيس واحد وملك واحد .

وذكر أن مولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيروده، من رستاق خير من كورة إصطخر. وكان جده ساسان شجاعاً شديد البطش، وإنه بلغ من شجاعته وشدة بطشه، أنه حارب وحده ثمانين رجلاً من أهل إصطخر، ذوي بأس ونجدة، فهزمهم. وكانت امرأته من نسل قوم من الملوك، كانوا بفارس، يعرفون بالبازرنجين، يقال لها: رامبهشت، ذات جمال وكمال، وكان ساسان قيماً على بيت نار إصطخر، يقال له بيت نار أنا هيذ، وكان مغرماً بالصيد والفروسية، فولدت رامبهشت لساسان بابك، وطول شعره حين ولدته أطول من شبر. فلما احتنك قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير .

وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البازرنجين، يقال له - فيما حدثت عن هشام بن محمد - جوزهر. وقال غيره: كان يسمى جزهر، وكان له خصي يقال له تيري، قد صيره أرجبذا بدار بجرد. فلما أتى لأردشير سبع سنين، سار به أبوه إلى جزهر، وهو بالبيضاء، فوقفه بين يديه، وسأله أن يضمه إلى تيري؛ ليكون ربيباً له، وأرجبذا من بعده في موضعه. فأجابه إلى ذلك، وكتب بما ساله من ذلك سجلاً، وصار به إلى تيري، فقبله أحسن قبول، وتبناه. فلما هلك تيري تقلد أردشير الأمر، وحسن قيامه به، وأعلمه قوم من المنجمين والعرافين صلاح مولده، وأنه يملك البلاد. فذكر أن أردشير تواضع واستكان لذلك، ولم يزل يزداد في الخير كل يوم، وأنه رأى في نومه ملكاً جلس إلى رأسه، فقال له: إن الله يملكه البلاد؛ فليأخذ لذلك أهبته، فلما استيقظ سر بذلك، وأحس من نفسه قوةً وشدة بطسش، لم يكن يعهد مثله .

وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دار بجرد، يقال له جوبانان، فقتل ملكاً كان بها يقال له فاسين. ثم سار إلى موضع يقال له كونس، فقتل ملكاً كان بها يقال له منوشهر، ثم إلى موضع يقال له لروير، فقتل ملكاً كان بها يقال له دارا، وملّك هذه المواضيع قوماً من قبله، ثم كتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب بجزهر وهو بالبيضاء، ففعل ذلك، وقتل جزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان البهلوي ملك الجبال وما يتصل بها، يتضرع له ويسأله الإذن في تتويج سابور ابنه بتاج جزهر. فكتب إليه أردوان كتاباً عنيفاً، وأعلمه أنه وابنه أردشير على الخلاف بما كان من قتلهما من قتلا - فلم يحفل بابك بذلك، وهلك في تلك الأيام، فتتوج سابور ابن بابك بالتاج، وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير أن يشخص إليه. فامتنع أردشير من ذلك، فغضب سابور من امتناعه، وجمع جموعاً، وسار بهم نحوه ليحاربه، وخرج من إصطخر، فألفى بها عدة من إخوته، كان بعضهم أكبر سناً منه، فاجتمعوا وأحضروا التاج وسرير الملك، فسلم الجميع لأردشير، فتتوج بالتاج، وجلس على السرير، وافتتح أمره بقوة وجد، ورتب قوماً مراتب، وصير رجلاً يقال له أبرسام بن رحفر وزيراً، وأطلق يده وفوض إليه، وصير رجلاً يقال له فاهر موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعة منهم كثيرة. ثم أتاه أن أهل دارا بجرد قد فسدوا عليه، فعاد إليها حتى افتتحها بعد أن قتل جماعة من أهلها. ثم سار إلى كرمان، وبها ملك يقال له: بلاش، فاقتتل وهو قتالاً شديداً وقاتل أردشير بنفسه حتى أسر بلاش، واستولى على المدينة؛ فملّك أردشير على كرمان ابناً له يقال له أردشير أيضاً.

وكان في سواحل بحر فارس ملك يقال له أبتنبود، كان يعظم ويعبد، فسار إليه أردشير فقتله وقطعه بسيفه نصفين، وقتل من كان حوله، واستخرج من مطامير كانت لهم كنوزاً مجموعة فيها، وكتب إلى مهرك، وكان ملك إيراهسان من أردشير خرة، وإلى جماعة من أمثاله في طاعته، فلم يفعلوا، فسار إليهم، فقتل مهرك، ثم سار إلى جور، فأسسها، وأخذ في بناء الجوسق المعروف بالغربال، وبيت نار هناك .

فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول الأردوان بكتاب منه، فجمع أردشير الناس لذلك، وقرأ الكتاب بحضرتهم؛ فإذا فيه: إنك قد عدوت طورك، واجتلبت حتفك، أيها الكردي المربى في خيام الأكراد ! من أذن لك في التاج الذي لبسته، والبلاد التي احتويت عليها وغلبت ملوكها وأهلها ! ومن أمرك ببناء المدينة التي أسستها في صحراء - يريد جور - مع أنا إن خليناك وبناءها فابتن في صحراء طولها عشرة فراسخ مدينةً، وسمها رام أردشير. وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق.

فكتب إليه أردشير: إن الله حباني بالتاج الذي لبسته، وملّكني البلاد التي افتتحتها، وأعانني على من قتلت من الجبابرة والملوك؛ وأما المدينة التي أبنيها وأسميها رام أردشير، فأنا أرجو أن أمكن منك، فأبعث برأسك وكنوزك إلى بيت النار الذي أسسته في أردشير خرة .

ثم شخص أردشير نحو إصطخر، وخلف أبرسام بأردشير خرة، فلم يلبث أردشير إلا قليلاً حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز، وانصرافه منكوباً. ثم سار إلى إصبهان فأسر شاذ سابور ملكها، وقتله، ثم عاد إلى فارس، وتوجه لمحاربة نيروفر صاحب الأهواز، وسار إلى الرجان وإلى بنيان وطاشان من رامهرمز، ثم إلى سرَّق. فلما سار إلى ما هنالك، ركب في رهط من أصحابه؛ حتى وقف على شاطئ دجيل، فظفر بالمدينة، وابتنى مدينة سوق الأهواز، وانصرف إلى فارس بالغنائم؛ ثم ارتحل من فارس راجعاً إلى الأهواز على طريق جره وكازرون، ثم صار من الأهواز إلى ميسان، فقتل ملكاً كان بها يقال له بندو، وبنى هنالك كرخ ميسان، ثم انصرف إلى فارس، وأرسل إلى أردوان يرتاد موضعاً يقتتلان فيه، فأرسل إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء تدعى هرمزجان، لانسلاخ مهرماه. فوافاه أردشير قبل الوقت، وتبوأ من الصحراء موضعاً، وخندق على نفسه وجنده، واحتوى على عينٍ كانت هناك، ووافاه أردوان. فاصطف القوم للقتال، وقد تقدم سابور بن أردشير دافعاً عنه، ونشب القتال بينهم، فقتل سابور دارا بنداذ، كاتب أردوان بيده، فانقض أردشير من موضعه إلى أردوان حتى قتله، وكثر القتل في أصحابه، وهرب من بقي على وجهه. ويقال: إن أردشير نزل حتى توطأ رأس أردوان بقدمه. وفي ذلك اليوم سمي أردشير " شاهنشاه " .

ثم سار من موضعه إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وإرمينية والموصل عنوة، ثم سار من الموصل إلى سورستان؛ وهي السواد فاحتازها، وبنى على شاطئ دجلة قبالة مدينة طهسبون - وهي المدينة التي في شرقي المدائن - مدينة غربية وسماها به أردشير، وكورها وضم إليها بهرسير، والرومقان، ونهر درقيط، وكوثى ونهر جوبر، واستعمل عليها عمالاً، ثم توجه من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم جرجان، ثم إلى أبرشهر، ومرو، وبلخ، وخوارزم؛ إلى تخوم بلاد خراسان. ثم رجع إلى مرو، وقتل جماعة وبعث رءوسهم إلى بيت نار أناهيذ، ثم انصرف من مرو إلى فارس. ونزل جور، فأتته رسل ملك كوشان، وملك طوران، وملك مكران بالطاعة. ثم توجه أردشير من جور إلى البحرين، فحاصر سنطرق ملكها، واضطره الجهد إلى أن رمى بنفسه من سور الحصن، فهلك. ثم انصرف إلى المدائن، فأقام بها وتوج سابور ابنه بتاجه في حياته.

ويقال: إنه كانت بقرية يقال لها ألار، من رستاق كوجران من رساتيق سيف أردشير خرة ملكةٌ تعظم وتعبد، فاجتمعت لها أموال وكنوز ومقاتلة. فحارب أردشير سدنتها وقتلها، وغنم أموالاً وكنوزاً عظاماً كانت لها: وإنه كان بنى ثماني مدن؛ منها بفاس مدينة أردشير خرة؛ وهي جور، ومدينة رام أردشير، ومدينة ريو أردشير، وبالأهواز هرمز أردشير؛ وهي سوق الأهواز، وبالسواد به أردشير، وهي غربي المدائن، وإستاباذ أردشير؛ وهي كرخ ميسان، وبالبحرين فنياذ أردشير؛ وهي مدينة الخط، وبالموصل بوذ أردشير؛ وهي حزة.
وذكر أن أردشير عند ظهوره كتب إلى ملوك الطوائف كتباً بليغة، احتج عليهم فيها، ودعاهم إلى طاعته، فلما كان في آخر أمره رسم لمن بعده عهده، ولم يزل محموداً مظفراً منصوراً، لا يفل له جمع، ولا ترد له راية؛ وقهر الملوك حول مملكته وأذلهم، وأثخن في الأرض، وكوّر الكور، ومدّن المدن، ورتّب المراتب، واستكثر من العمارة. وكان ملكه من وقت قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة. وقال بعضهم: كان ملكه أربع عشرة سنة وعشرة أشهر .

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: قدم أردشير في أهل فارس يريد الغلبة على الملك بالعراق، فوافق بابا ملكاً كان على الأرمانيين، ووافق أردوان ملكاً على الأردوانيين .

قال هشام: الأرمانيون أنباط السواد، والأردوانيون أنباط الشأم .

قال: وكل واحد منهما يقاتل صاحبه على الملك، فاجتمعا على قتال أردشير. فقاتلاه متساندين، يقاتله هذا يوماً، وهذا يوماً؛ فإذا كان يوم بابا لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير؛ فلما رأى ذلك أردشير صالح بابا على أن يكف عنه ويدعه وأردوان، ويخلي أردشير بين بابا وبين بلاده وما فيها، وتفرغ أردشير لحرب أردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وسمع له، وأطاع بابا، فضبط أردشير ملك العراق ودانت له ملوكها، وقهر من كان يناوئه من أهلها؛ حتى حملهم على ما أراد مما خالفهم ووافقه.
ولما استولى أردشير على الملك بالعراق كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، وأن يدينوا له، فخرج من كان منهم من قبائل قضاعة الذين كانوا أقبلوا مع مالك وعمرو ابني فهم، ومالك بن زهير وغيرهم، فلحقوا بالشأم إلى من هنالك من قضاعة.

وكان ناس من العرب يحدثون في قومهم الأحداث، أو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق، وينزلون الحيرة على ثلاث أثلاث: ثلث تنوخ، وهو من كان يسكن المظال وبيوت الشعر والوبر في غربي الفرات، فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها. والثلث الثاني العباد، وهم الذين كانوا سكنوا الحيرة وابتنوا بها. ولثلث الثالث الأحلاف، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة، ونزلوا فيهم، ممن لم يكن من تنوخ الوبر؛ ولا من العباد الذين دانوا لأردشير.

وكانت الحيرة والأنبار بنيتا جميعاً في زمن بختنصر، فخربت الحيرة لتحول أهلها عنها عند هلاك بختنصر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة، إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلاً، فعمرت الحيرة خمسمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها الإسلام؛ فكان جميع ملك عمرو بن عدي مائة سنة وثماني عشرة سنة، من ذلك في زمن أردوان وملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة؛ من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران .

ذكر الخبر عن القائم كان بملك فارس بعد أردشير بن بابك ولما هلك أردشير بن بابك، قام بملك فارس من بعده ابنه سابور. وكان أردشير بن بابك لما أفضى إليه الملك أسرف في قتل الأشكانية، الذين منهم كان ملوك الطوائف، حتى أفناهم بسبب أليّة كان ساسان بن أردشير بن بهمن بن إسفنديار الأكبر، جد أردشير بن بابك، كان آلاها، أنه إن ملك يوماً من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن خرة أحداً وأوجب ذلك على عقبه، وأوصاهم بألا يبقوا منهم أحداً إن هم ملكوا، أو ملك منهم أحد يوماً. فكان أول من ملك من ولد ولده ونسله أردشير بن بابك، فقتلهم جميعاً؛ نساءهم ورجالهم، فلم يستبق منهم أحداً لعزمة جده ساسان .

فذكر أنه لم يبق منهم أحد، غير أن جارية كان وجدها أردشير في دار المملكة، فأعجبه جمالها وحسنها، فسألها - وكانت ابنة الملك المقتول - عن نسبها. فذكرت أنها كانت خادماً لبعض نساء الملك، فسألها: أبكرٌ أنت أم ثيب ؟ فأخبرته أنها بكر؛ فواقعها واتخذها لنفسه، فعلقت منه فلما أمنته على نفسه لاستمكانها منه بالحبل، أخبرته أنها من نسل أشك، فنفر منها ودعا هرجبذا أبرسام - وكان شيخاً مسناً - فأخبره أنها أقرت أنها من نسل أشك، وقال: نحن أولى باستتمام الوفاء بنذر أبينا ساسان، وإن كان موقعها من قلبي على ما قد علمت، فانطلق بها فاقتلها. فمضى الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى؛ فأتى بها القوابل، فشهدن بحبلها، فأودعها سرباً في الأرض، ثم قطع مذاكيره فوضعها في حق، ثم ختم عليه، ورجع إلى الملك، فقال له الملك: ما فعلت ؟ قال: قد استودعتها بطن الأرض، ودفع الحق إليه، وسأله أن يختم عليه بخاتمه، ويودعه بعض خزائنه ففعل، فأقامت الجارية عند الشيخ، حتى وضعت غلاماً، فكره الشيخ أن يسمي ابن الملك دونه، وكره أن يعلمه به صبياً حتى يدرك، ويستكمل الأدب. وقد كان الشيخ أخذ قياس الصبي ساعة ولد، وأقام له الطالع، فعلم عند ذلك أن سيملك، فسماه اسماً جامعاً يكون صفة واسماً ويكون فيه بالخيار إذا علم به، فسماه " شاه بور "، وترجمتها بالعربية: ابن الملك، وهو أول من سمي هذا الاسم، وهو سابور الجنود بالعربية، بن أردشير. وقال بعضهم: بل سماه " أشه بور "، ترجمتها بالعربية: ولد أشك، الذي كانت أم الغلام من نسله .

فغبر أردشير دهراً لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الأمين، الذي عنده الصبي، فوجده محزوناً، فقال: ما يحزنك أيها الملك ؟ فقال له أردشير: وكيف لا أحزن، وقد ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت بحاجتي، وصفا لي الملك ملك آبائي، ثم أهلك لا يعقبني فيه عقب، ولا يكون لي فيه بقية ! فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك ! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع بالحق الذي استودعتك، وختمته بخاتمك أرك برهان ذلك .

فدعا أردشير بالحق، فنظر إلى نقش خاتمه، ثم فضه، وفتح الحق، فوجد فيه مذاكير الشيخ، وكتاباً فيه: إنا لما اختبرنا ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك أردشير حين أمرنا بقتلها حين حملها، لم نستحل إتواء زرع الملك الطيب، فأودعناها بطن الأرض كما أمرنا ملكنا، وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضهٌ إلى عضهها سبيلاً، وقمنا بتقوية الحق المنزوع حتى لحق بأهله، وذلك في ساعة كذا من عام كذا. فأمره أردشير عند ذلك أن يهيئه في مائة غلام. وقال بعضهم: في ألف غلام من أترابه وأشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعاً لا يفرق بينهم في زيٍ ولا قامة ولا أدب؛ ففعل ذلك الشيخ؛ فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، واستحلاه من غير أن يكون أشير له إليه أو لحن به. ثم أمر بهم جميعاً فأخرجوا إلى حجرة الإيوان، فأعطوا صوالجة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان على سريره، فدخلت الكرة في الإيوان الذي هو فيه، فكاع الغلمان جميعاً أن يدخلوا الإيوان، وأقدم سابور من بينهم فدخل فاستدل أردشير بدخوله عليه، وإقدامه وجرأته مع ما كان من قبول نفسه له أول مرة حين رآه، ورقته عليه دون أصحابه أنه ابنه. فقال له أردشير بالفارسية: ما اسمك ؟ فقال الغلام: شاه بور، فقال: أردشير: شاه بور ! فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره، وعقد له التاج من بعده .

وكان سابور قد ابتلى منه أهل فارس - قبل أن يفضي إليه الملك في حياة أبيه - عقلاً وفضلاً وعلماً، مع شدة بطش، وبلاغة منطق، ورأفة بالرعية ورقة. فلما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه العظماء، فدعوا له بطول البقاء، وأطنبوا في ذكر والده وذكر فضائله، فأعلمهم أنهم لم يكونوا يستدعون إحسانه بشيء يعدل عنده ذكرهم والده، ووعدهم خيراً .

ثم أمر بما كان في الخزائن من الأموال، فوسع بها على الناس، وقسمها فيمن رآه لها موضعاً؛ من الوجوه والجنود وأهل الحاجة، وكتب إلى عماله بالكور والنواحي أن يفعلوا مثل ذلك في الأموال التي في أيديهم، فوصل من فضله وإحسانه إلى القريب والبعيد، والشريف والوضيع، والخاص والعام ما عمهم ورفغت معايشهم. ثم تخير لهم العمال، وأشرف عليهم وعلى الرعية إشرافاً شديداً، فبان فضل سيرته، وبعد صوته، وفاق جميع الملوك .

وقيل: إنه سار إلى مدينة نصيبين، لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وفيها جنود من جنود الروم، فحاصرهم حيناً، ثم أتاه عن ناحية من خراسان ما احتاج إلى مشاهدته، فشخص إليها حتى أحكم أمرها، ثم رجع إلى نصيبين. وزعموا أن سور المدينة تصدع وانفرجت له فرجة دخل منها، فقتل المقاتلة وسبى وأخذ أموالاً عظيمة كانت لقيصر هنالك، ثم تجاوزها إلى الشأم وبلاد الروم، فافتتح من مدائنها مدناً كثيرة .

وقيل: إن فيما افتتح قالوقية وقذوقية، وإنه حاصر ملكاً كان بالروم، يقال له الريانوس بمدينة أنطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه، وأسكنهم جندى سابور.

وذكر أنه أخذ الريانوس ببناء شاذراون تستر، على أن يجعل عرضه ألف ذراع، فبناه الرومي بقوم أشخصهم إليه من الروم، وحكّم سابور في فكاكه بعد فراغه من الشاذروان، فقيل إنه أخذ منه أموالاً عظيمة، وأطلقه بعد أن جدع أنفه. وقيل إنه قتله .

وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو دواد الأيادي :

وأرى الموت قد تدلى من الحض               ر على رب أهله الساطـرون

والعرب تسميه الضيزن. وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمى .

وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قضاعة وأنه الضيزن بن معاوية ابن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه. وزعم أنه كان ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشأم، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير، فلما قدم من غيبته أخبر بما كان منه، فقال في ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجدى بن الدهاء بن جشم بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة :

لقيناهم بجمعٍ مـن عـلافٍ              وبالخيل الصلادمة الذكور
فلاقت فارسٌ منـا نـكـالاً                 وقتلنا هرابذ شـهـرزور
دلفنا للأعاجم مـن بـعـيدٍ               بجمعٍ كالجزيرة في السعير

فلما أخبر سابور بما كان منه شخص إليه حتى أناخ على حصنه، ونحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن .

وأما الأعشى ميمون بن قيس فإنه ذكر في شعره أنه إنما أقام عليه حولين، فقال :

ألم تر للحضـر إذ أهـلـه                   بنعمى وهل خالدٌ من نعـم !
أقام به شاهبـور الـجـنـو                 د حولين تضرب فيه القـدم
فمـا زاده ربــه قـــوةً                        ومثل مـجـاوره لـم يقـم
فلمـا رأى ربـه فـعـلـه                      أتاه طروقاً فلـم ينـتـقـم
وكان دعـا قـومـه دعـوةً                    هلموا إلى أمركم قد صـرم
فموتوا كراماً بـأسـيافـكـم                 أرى الموت يجشمه من جشم

ثم إن ابنة للضيزن يقال لها النضيرة عركت فأخرجت إلى ربض المدينة، وكانت من أجمل نساء زمانها - وكذلك كان يفعل بالنساء إذ هن عركن - وكان سابور من أجمل أهل زمانه - فيما قيل - فرأى كل واحد منهما صاحبه، فعشقته وعشقها، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة وتقتل أبي ؟ قال: حكمك وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهن. قالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكرٍ زرقاء، ثم أرسلها، فإنها تقع على حائط المدينة؛ فتتداعى المدينة. وكان ذلك طلسم المدينة لا يهدمها إلا هذا، ففعل وتأهب لهم، وقالت: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم، وادخل المدينة. ففعل وتداعت المدينة، ففتحها عنوة، وقتل الضيزن يومئذ، وأبيدت أفناء قضاعة الذي كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باقٍ يعرف إلى اليوم، وأصيبت قبائل من بني حلوان؛ فانقرضوا ودرجوا، فقال عمرو بن إلة - وكان مع الضيزن :

ألم يحزنك والأنبـاء تـنـمـي              بما لاقت سراة بني عـبـيد !
ومصرع ضيزنٍ وبنـي أبـيه                وأحلاس الكتائب من تـزيد !
أتاهم بالـفـيول مـجـلـلاتٍ                وبالأبطال سابور الـجـنـود
فهدم من أواسي الحصن صخراً         كأن ثفـالـه زبـر الـحـديد

وأخرب سابور المدينة، واحتمل النضيرة ابنة الضيزن، فأعرس بها بعين التمر، فذكر أنها لم تزل ليلتها تضور من خشونة فرشها، وهي من حرير محشوة بالقز فالتمس ما كان يؤذيها، فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. قال: وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها - فقال لها سابور: ويحك بأي شيء كان يغذوك أبوك ؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. قال: وأبيك لأنا أحدث عهداً بك، وآثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين. فأمر رجلاً فركب فرساً جموحاً، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعاً، فذلك قول الشاعر :

أقفر الحصن من نضيرة فالمر               باع منها فجانب الـثـرثـار
وقد أكثر الشعراء ذكر ضيزن هذا في أشعارهم، وإياه عني عدي بن زيد بقوله :

وأخو الحضر إذ بناه وإذ                دج لة تجبى إليه والخـابـور
شاده مرمراً وجللـه كـل              ساً فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال         ملك عنه فبابه مهـجـور

ويقال إن سابور بنى بميسان شاذ سابور، التي تسمى بالنبطية " ريما ".

وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق، ويقال: إن سابور لما سار إلى موضع جندي سابور لؤسسها صادف عندها شيخاً يقال له بيل، فسأله: هل يجوز أن يتخذ في ذلك الموضع مدينة ؟ فقال له بيل: إن ألهمت الكتابة مع ما قد بلغت من السن جاز أن يبنى في هذا الموضع مدينة. فقال له سابور: بل ليكن الأمران اللذان أنكرت كونهما. فرسم المدينة وأسلم بيل إلى معلم؛ وفرض عليه تعليمه الكتاب والحساب في سنة، فخلا به المعلم وبدأ يحلق رأسه ولحيته لئلا يتشاغل بهما، وجاده التعليم، ثم أتى به سابور وقد نفذ ومهر، فقلده إحصاء النفقة على المدينة وإثبات حسابها. وكور الناحية وسماها بهازنديوسابور، وتأويل ذلك: خير من أنطاكية، ومدينة سابور - وهي التي تسمى جندي سابور، وأهل الأهواز يسمونها "بيل" باسم القيم كان على بنائها. ولما حضر سابور الموت ملك ابنه هرمز وعهد إليه عهداً أمره بالعمل به.

واختلف في سنى ملكه، فقال: بعضهم كان ذلك ثلاثين سنة وخمسة عشر يوماً. وقال آخرون: كان ملكه إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة عشر يوماً.

ذكر ملك هرمز بن سابور

ثم قام الملك بعد سابور بن أدرشير بن بابك ابنه هرمز. وكان يلقب بالجرىء، وكان يشبه في جسمه وخلقه وصورته بأردشير؛ غير لاحقٍ به في رأيه وتدبيره، إلا أنه كان من البطش والجرأة وعظم الخلق على أمر عظيم.

وكانت أمه - فيما قيل - من بنات مهرك، والملك الذي قتله أردشير بأردشير خرة. وذلك أن المنجمين كانوا أخبروا أردشير أنه يكون من نسله من يملك. فتتبع أردشير نسله فقتلهم. وأفلتت أم هرمز. وكانت ذات عقل وجمال وكمال وشدة الخلق، فوقعت إلى البادية، وأوت إلى بعض الرعاء. وإن سابور خرج يوماً متصيداً، فأمعن في طلب الصيد، واشتد به العطش، فارتفعت له الأخبية التي كانت أم هرمز أوت إليها، فقصدها فوجد الرعاء غيبا، فطلب الماء، فناولته المرأة، فعاين منها جمالاً فائقاً، وقواماً عجيباً، ووجهاً عتيقاً. ثم لم يلبث أن حضر الرعاء، فسألهم سابور عنها، فنسبها بعضهم إليه، فسأله أن يزوجها منه، فساعفه، فصار بها إلى منازله، وأمر بها فنظفت وكسيت وحليت، وأرادها على نفسها؛ فكان إذا خلا بها والتمس منها ما يلتمس الرجل من المرأة امتنعت وقهرته عند المجاذبة قهراً ينكره. وتعجب من قوتها. فلما تطاول ذلك من أمرها أنكره، ففحص عن أمرها فأخبرته أنها ابنة مهرك، وأنها إنما فعلت ما فعلت إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت هرمز، فستر أمره حتى أتت له سنون.

وإن أردشير ركب يوماً، ثم انكفأ إلى منزل سابور لشيء أراد ذكره له؛ فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر به القرار خرج هرمز، وقد ترعرع وبيده صولجان يلعب به وهو يصيح في أثر الكرة، فلما وقعت عين أردشير عليه أنكره. ووقف على المشابه التي فيه منهم؛ لأن الكية التي في آل أردشير كانت لا تخفى، ولا يذهب أمرهم على أحد، لعلامات كانت فيهم؛ من حسن الوجوه، وعبالة الخلق، وأمور كانوا بها مخصوصين في أجسامهم. فاستدناه أردشير، وسأل سابور عنه، فخر مكفراً على سبيل الإقرار بالخطأ مما كان منه. وأخبر أباه حقيقة الخبر، فسر به، وأعلمه أنه قد تحقق الذي ذكر المنجمون في ولد مهرك، ومن يملك منهم، وأنهم إنما ذهبوا فيه إلى هرمز؛ إذ كان من نسل مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه.

فلما هلك أردشير وأفضى الأمر إلى سابور ولي هرمز خراسان، وسيره إليها، فاستقل بالعمل، وقمع من كان يليه من ملوك الأمم، وأظهر تجبراً شديداً، فوشى به الوشاة إلى سابور، ووهموه أنه إن دعاه لم يجب، وأنه على أن يبتزه الملك، ونمت الأخبار بذلك إلى هرمز، فقيل: إنه خلا بنفسه، فقطع يده وحسمها، وألقى عليها ما يحفظها، وأدرجها في نفيسٍ من الثياب، وصيرها في سفط، وبعث بها إلى سابور، وكتب إليه بما بلغه، وأنه إنما فعل ما فعل؛ إزالةً للتهمة عنه، ولأن في رسمهم ألا يملكوا ذا عاهة. فلما وصل الكتاب بما معه إلى سابور، تقطع أسفاً، وكتب إليه بما ناله من الغم بما فعل، واعتذر، وأعلمه أنه لو قطع بدنه عضواً عضواً، لم يؤثر عليه أحداً بالملك، فملكه.

وقيل: إنه لما وضع التاج على رأسه، دخل عليه العظماء، فدعوا له فأحسن لهم الجواب، وعرفوا منه صدق الحديث، وأحسن فيهم السيرة، وعدل في رعيته، وسلك سبيل آبائه، وكور كورة رام هرمز.

وكان ملكه سنة وعشرة أيام.

ذكر ملك بهرام بن هرمز

ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام، وهو بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك.

وكان من عمال سابور بن أردشير، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز بن سابور - بعد مهلك عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذ - ابنٌ لعمرو بن عدي يقال له امرؤ القيس البدء؛ وهو أول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمال ملوك الفرس، وعاش - فيما ذكر هشام بن محمد - مملكاً في عمله مائة سنة وأربع عشرة سنة؛ من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام بن هرمز ابن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة.

وكان بهرام بن هرمز - فيما ذكر - رجلاً ذا حلم وتؤدة. فاستبشر الناس بولايته. وأحسن السيرة فيهم، واتبع في ملكه في سياسة الناس آثار آبائه؛ وكان ماني الزنديق - فيما ذكر - يدعوه إلى دينه. فاستبرى ما عنده. فوجده داعية للشيطان، فأمر بقتله وسلخ جلده وحشوه تبناً وتعليقه على باب من أبواب مدينة جندى سابور، يدعى باب الماني. وقتل أصحابه ومن دخل في ملته.

وكان ملكه - فيما قيل - ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام.

ذكر ملك بهرام بن بهرام بن هرمز

ثم قام بالملك بعده ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان ذا علم - فيما قيل - بالأمور؛ فلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء بمثل ما كانوا يدعون لآبائه. فرد عليهم مرداً حسناً، وأحسن فيهم السيرة، وقال: إن ساعدنا الدهر نقبل ذلك بالشكر، وإن يكن غير ذلك نرض بالقسم. واختلف في سني ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة. وقال بعضهم: كان سبع عشرة سنة.

ذكر ملك شاهنشاه بن بهرام

ثم ملك بهرام الملقب بشاهنشاه بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير؛ فلما عقد التاج على رأسه اجتمع إليه العظماء. فدعوا له ببركة الولاية وطول العمر، فرد عليهم أحسن الرد؛ وكان قبل أن يفضي إليه الملك مملكاً على سجستان.
وكان ملكه أربع سنين.

ذكر ملك نرسي بن بهرام
ثم قام بالملك بعده نرسي بن بهرام، وهو أخو بهرام الثالث. فلما عقد التاج على رأسه دخلت عليه الأشراف والعظماء، فدعوا له فوعدهم خيراً. وأمرهم بمكانفته على أمره، وسار فيهم بأعدل السيرة. وقال يوم ملك: إنا لن نضيع شكر الله على ما أنعم به علينا.
وكان ملكه تسع سنين.

ذكر ملك هرمز بن نرسي

ثم ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. وكان الناس قد وحلوا منه، وأحسوا بالفظاظة والشدة، فأعلمهم أنه قد علم ما كانوا يخافونه من شدة ولايته، وأعلمهم أنه قد أبدل ما كان في خلقه من الغلظة والفظاظة رقةً ورأفة، وساسهم بأرفق السياسة، وسار فيهم بأعدل السيرة، وكان حريصاً على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل على الرعية. ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا بميلهم إليه عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى. وقد قال بعضهم: إن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل في بطن أمه، وأن تلك المرأة ولدت سابور ذا الأكتاف.

وكان ملك هرمز في قول بعضهم ست سنين وخمسة أشهر، وفي قول آخرين سبع سنين وخمسة أشهر.

ذكر ملك سابور ذي الأكتاف

ثم ولد سابور ذو الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. مملكاً بوصية أبيه هرمز له بالملك، فاستبشر الناس بولادته؛ وبثوا خبره في الآفاق، وكتبوا الكتب، ووجهوا به البرد إلى الآفاق والأطراف، وتقلد الوزراء والكتاب الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه، ولم يزالوا على ذلك، حتى فشا خبرهم. وشاع في أطراف مملكة الفرس أنه كان لا ملك لهم. وأن أهلها إنما يتلومون صبياً في المهد، لا يدرون ما هو كائن من أمره، فطمعت في مملكتهم الترك والروم.

وكانت بلاد العرب أدنى البلاد إلى فارس، وكانوا من أحوج الأمم إلى تناول شيء من معايشهم وبلادهم. لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيمٌ منهم في البحر من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة، حتى أناخوا على أبرشهر وسواحل أردشيرخرة وأسياف فارس، وغلبوا أهلها على مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، فمكثوا على ذلك من أمرهم حيناً. لا يغزوهم أحد من الفرس، لعقدهم تاج الملك على طفل من الطفال. وقلة هيبة الناس له؛ حتى تحرك سابور وترعرع. فلما ترعرع ذكر أن أول ما عرف من تدبيره وحسن فهمه، أنه استيقظ ذات ليلة وهو في قصر الملكة بطيسبون، من ضوضاء الناس بسحر. فسأل عن ذلك، فأخبر أن ذلك ضجة الناس عند ازدحامهم على جسر دجلة مقبلين ومدبرين؛ فأمر باتخاذ جسر آخر؛ حتى يكون أحدهما معبراً للمقبلين؛ والآخر معبراً للمدبرين. فلا يزدحم الناس في المرور عليهما. فاستبشر الناس بما رأوا من فطنته لما فطن من ذلك على صغر سنه. وتقدم فيما أمر به من ذلك، فذكر أن الشمس لم تغرب من يومهم ذلك حتى عقد جسر بالقرب من الجسر الذي كان فاستراح الناس من المخاطرة بأنفسهم في الجواز على الجسر، وجعل الغلام يتزيد في اليوم ما يتزيده غيره في الحين الطويل.

وجعل الكتاب والوزراء يعرضون عليه الأمر بعد الأمر، فكان فيما عرض عليه أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء. وإن الأخبار وردت بأن أكثرهم قد أخل، وعظموا عليه الأمر في ذلك، فقال لهم سابور: لا يكبرن هذا عندكم؛ فإن الحيلة فيه يسيرة، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود جميعاً؛ بأنه انتهى إليه طول مكثهم في النواحي التي هم بها، وعظم غنائهم عن أوليائهم وإخوانهم؛ فمن أحب أن ينصرف إلى أهله فلينصرف مأذوناً له في ذلك، ومن أحب أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف ذلك له. وتقدم إلى من اختار الانصراف في لزوم أهله وبلاده إلى وقت الحاجة إليه.

فلما سمع الوزراء ذلك من قوله استحسنوه، وقالوا: لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور، وسياسة الجنود ما زاد رأيه وصحة منطقه على ما سمعنا به.

ثم تتابعت أخباره إلى البلدان والثغور، بما قوم أصحابه، وقمع أعداءه. حتى إذا تمت له ست عشر سنة وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتد عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده، ثم قام فيهم خطيباً، ثم ذكر ما أنعم الله به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من أدبهم ونفوا من أعدائهم، وما اختل من أمورهم، في الأيام التي مضت من أيام صباه، وأعلمهم أنه يبتدئ العمل في الذب عن البيضة، وأنه يقدر الشخوص إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأن عدة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه، ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما قدر من الشخوص فيه، فأبى أن يجيبهم إلى المقام، فسألوه الازدياد على العدة التي ذكرها فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم، وتقدم إليهم في المضي لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على من لقوا من العرب، والعرجة على إصابة مال. ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارون، وقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيتهم. ثم قطع البحر في أصحابه، فورد الخط، واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء، ولا يعرج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكاً سالت كسيل المطر؛ حتى كان الهارب منهم يرى أنه لن ينجيه منه غارٌ في جبل، ولا جزيرة في بحر؛ ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم، فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب إلا عوره، ولاجب من جبابهم إلا طمه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر، ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياهم، وإنه أسكن من من بنى تغلب من البحرين دارين - واسمهما هيج - والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر أبان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز. وإنه أمر فبنيت بأرض السواد مدينة وسماها، بزرج سابور - وهي الأنبار - وبأرض الأهواز مدينتان: إحداهما إيران خره سابور، وتأويلها سابور وبلاده، وتسمى بالسريانية الكرخ، والأخرى السوس؛ وهي مدينة بناها إلى جانب الحصن الذي في جوفه تابوت فيه جثة دانيال النبي عليه السلام. وإنه غزا أرض الروم فسبى منها سبياً كثيراً، فأسكن مدينة إيران خره سابور، وسمتها العرب السوس بعد تخفيفها في التسمية. وأمر فبنيت بباجرمى مدينة سماها خنى سابور وكور كورة، وبأرض خراسان مدينة، وسماها نيسابور وكور كورة.

وإن سابور كان هادن قسطنطين ملك الروم وهو الذي بنى مدينة قسطنطينية، وكان أول من تنصر من ملوك الروم، وهلك قسطنطين، وفرق ملكه بين ثلاثة بنين، كانوا له، فهلك بنوه الثلاثة، فملكت الروم عليهم رجلاً من أهل بيت قسطنطين يقال له لليانوس، وكان يدين بملة الروم التي كانت قبل النصرانية، ويسر ذلك ويظهر النصرانية قبل أن يملك، حتى إذا ملك أظهر ملة الروم، وأعادها كهيئتها، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البيع وقتل الأساقفة وأحبار النصارى. وإنه جمع جموعاً من الروم والخزر، ومن كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس.

وانتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من سابور، وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل؛ فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمى يوسانوس. وإن لليانوس سار حتى وقع ببلاد فارس، وانتهى إلى سابور كثرة من معه من جنود الروم والعرب والخزر، فهاله ذلك، ووجه عيوناً تأتيه بخبرهم ومبلغ عددهم وحالهم في شجاعتهم وعيثهم فاختلفت أقاويل أولئك العيون فيما أتوه به من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكر سابور، وسار في أناس من ثقاته ليعاين عسكرهم، فلما اقترب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطاً ممن كان معه إلى عسكر يوسانوس ليتحسسوا الأخبار، ويأتوه بها على حقائقها، فنذرت الروم بهم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقر أحدٌ منهم بالأمر لذي توجهوا له إلى عسكره، ما خلا رجلاً منهم أخبره بالقصة على وجهها، وبمكان سابور حيث كان، وسأله أن يوجه معه جنداً، فيدفع إليهم سابور فارسل يوسانوس حيث سمع هذه المقالة إلى سابور رجلاً من بطانته، يعلمه ما لقى من أمره، وينذره، فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره. وإن من كان في عسكر لليانوس من العرب سألوه أن يأذن لهم في محاربة سابور، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى سابور، فقاتلوه ففضوا جمعه، وقتلوا منه مقتلةً عظيمة، وهرب سابور فيمن بقى من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلة سابور، وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها، فكتب سابور إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقى من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد أن يقدموا عليه فيمن قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن اجتمعت إليه الجيوش من كل أفق، فانصرف فحارب لليانوس واستقذ منه مدينة طيسبون، ونزل لليانوس مدينة بهأردشير وما والاها بعسكره، وكانت الرسل تختلف فيما بينه وبين سابور. وإن لليانوس كان جالساً ذات يوم في حجرته، فأصابه سهم غربٌ في فؤاده فقتله، فأسقط في روع جنده، وهالهم الذي نزل به، ويئسوا من التفصى من بلاد فارس، وصاروا شورى لا ملك عليهم ولا سائس لهم، فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولى الملك لهم فيملكوه عليهم، فأبى ذلك، وألحوا عليه فيه، فأعلمهم أنه على ملة النصرانية، وأنه لا يلي ناساً له مخالفين في الملة. فأخبرته الروم أنهم على ملته، وأنهم إنما كانوا يكتمونها مخافة لليانوس، فأجابهم إلى ما طلبوا، وملكوه عليهم، وأظهروا النصرانية.

وإن سابور علم بهلاك لليانوس، فأرسل إلى قواد جنود الروم، يقول: إن الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، بظلمكم إيانا، وتخطيكم إلى بلادنا، وإنا نرجوا أن تهلكوا بها جوعاً من غير أن نهيئ لقتالكم سيفاً، ونشرع له رمحاً؛ فسرحوا إلينا رئيساً إن كنتم رأستموه عليكم. فعزم يوسانوس على إتيان سابور، فلم يتابعه على رأيه أحدٌ من قواد جنده، فاستبد برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلاً من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه، فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقاه وتساجدا، فعانقه سابور شكراً لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم.

وإن سابور أرسل إلى قواد جند الروم وذوى الرياسة منهم يعلمهم أنهم لو ملكوا غير يوسانوس لجرى هلاكهم في بلاد فارس، وأن تمليكهم إياه ينجيهم من سطوته. وقوى أمر يوسانوس بجهده، ثم قال: إن الروم قد شنوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشراً كثيراً، وقطعوا ما كان بأرض السواد من نخل وشجر، وخربوا عمارتها؛ فإما أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخربوا، وإما أن يعوضونا من ذلك نصيبين وحيزها، عوضاً منه، وكانت من بلاد فارس، فغلبت عليها الروم.

فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصبيين، فبلغ ذلك أهلها، فجلوا منها إلى منها إلى مدن في مملكة الروم، مخافة على أنفسهم من ملك الملك المخالف ملتهم، فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر من بلاده وحيزه إلى نصيبين، وأسكنهم إياها، وانصرف يوسانوس ومن معه من الجنود إلى الروم، وملكها زمناً يسيراً ثم هلك.

وإن سابور ضرى بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك. وكان ذلك سبب تسميتهم إياه ذا الأكتاف.

وذكر بعض أهل الأخبار أن سابور بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي كانوا صاروا إليها مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، ثم هبط إلى الشأم، وسار إلى حد الروم، أعلم أصحابه أنه على دخول الروم حتى يبحث عن أسرارهم. ويعرف أخبار مدنهم وعدد جنودهم، فدخل إلى الروم، فجال فيها حيناً، وبلغه أن قيصر أولم، وأمر بجمع الناس ليحضروا طعامه، فانطلق سابور بهيئة السؤال حتى شهد ذلك الجمعع، لينظر إلى قيصر، ويعرف هيئته وحاله في طعامه. ففطن له فأخذ، وأمر به قيصر فأدرج في جلد ثور، ثم سار بجنوده إلى أرض فارس، ومعه سابور على تلك الحالة، فأكثر من القتل وخراب المدائن والقرى وقطع النخل والأشجار، حتى انتهى إلى مدينة جندي سابور، وقد تحصن أهلها، فنصب المجانيق، وهدم بعضها. فبينا هم كذلك ذات ليلة إذ غفل الروم الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي كان عليه زيتاً من زقاق كانت بقربهم، ففعلوا ذلك، ولان الجلد وانسل منه فلم يزل يدب حتى دناا من باب المدينة، وأخبر حراسهم باسمه. فلما دخل على أهلها، اشتد سرورهم به، وارتفعت أصواتهم بالحمد والتسبيح، فانتبه أصحاب قيصر بأصواتهم، وجمع سابور من كان في المدينة وعبأهم، وخرج إلى الروم تلك الليلة سحراً، فقتل الروم وأخذ قيصر أسيراً، وغنم أمواله ونساءه، ثم أثقل قيصر بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب؛ ويقال: إنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندى سابور، حتى يرم به ما هدم منها، وبأن يغرس الزيتون مكان النخل والشجر الذي عقره، ثم قطع عقبه ورتقه، وبعث به إلى الروم على حمار، وقال: هذا جزاؤك ببغيك علينا، فلذلك تركت الروم اتخاذ الأعقاب، ورتق الذؤاب.

ثم أقام سابور في مملكته حيناً. ثم غزا الروم فقتل من أهلها، وسبى سبياً كثيراً، وأسكن من سبي مدينة بناها بناحية السوس. وسماها إيرانشهر سابور، ثم استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز، وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان. ونقل طبيباً من الهند فأسكنه الكرخ من السوس؛ فلما مات ورث طبه أهل السوس؛ ولذلك صار أهل تلك الناحية أطب العجم، وأوصى بالملك لأخيه أردشير.

وكان ملك سابور اثنتين وسبعين سنة.

وهلك في عهد سابور عامله على ضاحية مضر وربيعة، امرؤ القيس البدء بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، فاستعمل سابور على عمله ابنه عمرو بن امرىء القيس - فيما ذكر - فبقي في عمله بقية ملك سابور، وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز بن نرسى، وبعض أيام سابور بن سابور.

وكان جميع عمله - على ما ذكرت - من العرب، وولايته عليهم - فيما ذكر ابن الكلبي - ثلاثين سنة.

ذكر ملك أردشير بن هرمز

ثم قام بالملك بعد سابور ذي الأكتاف أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى ابن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلما عقد التاج على رأسه جلس للعظماء، فلما دخلوا عليه دعوا له بالنصر، وشكروا عنده أخاه سابور، فأحسن جوابهم، وأعلمهم موقع ما كان من شكرهم لأخيه عنده، فلما استقر به الملك قراره عطف على العظماء وذوي الرياسة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.

ذكر ملك سابور بن سابور

ثم ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسى. فاستبشرت الرعية بذلك وبرجوع ملك أبيه إليه، فلقيهم أحسن اللقاء، وكتب الكتب إلى العمال في حسن السيرة والرفق بالرعية، وأمر بمثل ذلك وزراءه وكتابه وحاشيته، وخطبهم خطبة بليغة، ولم يزل عادلاً على رعيته، متحنناً عليهم لما كان تبين من مودتهم ومحبتهم وطاعتهم، وخضع له عمه أردشير المخلوع، ومنحه الطاعة. وإن العظماء وأهل البيوتات قطعوا أطناب فسطاط كان ضرب عليه في حجرة من حجره، فسقط عليه الفسطاط.
وكان ملكه خمس سنين.

ذكر ملك بهرام بن سابور

ثم ملك بعده أخوه بهرام بن سابور ذي الأكتاف. وكان يلقب كرمان شاه؛ وذلك أن أباه سابور كان ولاه في حياته كرمان، فكتب إلى قواده كتاباً يحثهم فيه على الطاعة، ويأمرهم بتقوى الله والنصيحة للملك، وبنى بكرمان مدينة، وكان حسن السياسة لرعيته، محموداً في أمره.

وكان ملكه إحدى عشرة سنة. وإن ناساً من الفتاك ثاروا إليه فقتله رجل منهم برمية رماها إياه بنشابة.

ذكر ملك يزدجرد الأثيم

ثم قام بالملك بعده يزدجرد الملقب بالأثيم، بن بهرام الملقب بكرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف.

ومن أهل العلم بأنساب الفرس من يقول: يزدجرد الأثيم هذا، هو أخو بهرام الملقب بكرمان شاه وليس بابنه، ويقول: هو يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف. وممن نسبه هذا النسب وقال هذا القول، هشام بن محمد.

وكان - فيما ذكر - فظاً غليظاً ذا عيوب كثيرة، وكان من أشد عيوبه وأعظمها - فيما قيل - وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كان له وصنوفاً من العلم قد مهرها وعلمها، غير موضعه، وكثرة رؤيته في الضار من الأمور، واستعمال كل ما عنده من ذلك، في المواربة والدهاء والمكايدة والمخاتلة، مع فطنة كانت بجهات الشر، وشدة عجبه بما عنده من ذلك، واستخفافه بكل ما كان في أيدي الناس من علم وأدب، واحتقاره له، وقلة اعتداده به، واستطالتة على الناس بما عنده منه. وكان مع ذلك غلقاً سيء الخلق، ردئ الطعمة جتى بلغ من شدة غلقه وحدته أن الصغير من الزلات كان عنده كبيراً، واليسير من السقطات عظيماً. ثم لم يقدر أحد - وإن كان لطيف المنزلة منه - أن يكون لمن ابتلى عنده بشيء من ذلك شفيعاً، وكان دهره كله للناس متهماً، ولم يكن يأتمن أحداً على شيء من الأشياء، ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وإن هو أولى الخسيس من العرف استجزل ذلك، وإن جسر على كلامه في أمر كلمه فيه رجل لغيره قال له: ما قدر جعالتك في هذا الأمر الذي كلمتنا فيه ؟ وما أخذت عليه ؟ فلم يكن يكلمه في ذلك وما أشبهه إلا الوفود القادمون عليه من قبل ملوك الأمم. وإن رعيته إنما سلموا من سطوته وبليته، وما كان جمع من الخلال السيئة بتمسكهم بمن كان قبل مملكته بالسنن الصالحة وبأدبهم. وكانوا لسوء أدبه، ومخافة سطوته، متواصلين متعاونين، وكان من رأيه أن يعاقب كل من زل عنده وأذنب إليه من شدة العقوبة بما لايستطاع أن يبلغ منه مثلها في مدة ثلثمائة. وكان لذلك لا يقرعه بسوطٍ انتظاراً منه للمعاقبة له بما ليس وراءه افظع منه. وكان إذا بلغه أن أحداً من بطانته صافى رجلاً من أهل صناعته أو طبقته نحاه عن خدمته .

وكان استوزر عند ولايته نرسى حكيم دهره. وكان نرسى كاملاً في أدبه، فاضلاً في جميع مذاهبه، متقدماً لأهل زمانه. وكانوا يسمونه مهر نرسى ومهرنرسه، ويلقب بالهزاربنده، فأملت الرعية بما كان منه أن ينزع عن أخلاقه، وأن يصلح نرسى منه، فلما استوى له الملك، اشتدت إهانته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، وتسلط تسلطاً لم يبتل الرعية بمثله في أيامه. فلما رأى الوجوه والأشراف أنه لا يزداد إلا تتايعاًَ في الجور، اجتمعوا فشكوا ما ينزل بهم من ظلمه، وتضرعوا إلى ربهم، وابتهلوا إليه بالتعجيل إنقاذهم منه. فزعموا أنه كان بجرجان، فرأى ذات يوم في قصره فرساً عائراً - لم ير مثله في الخيل، في حسن صورة، وتمام خلق - أقبل حتى وقف على بابه، فتعجب الناس منه لأنه كان متجاوز الحال، فأخبر يزدجرد خبره، فأمر به أن يسرج ويلجم، ويدخل عليه، فحاول ساسته وصاحب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكن أحداً منهم من ذلك، فأنهى إليه امتناع الفرس عليهم، فخرج ببدنه إلى الموضع الذي كان فيه ذلك الفرس فألجمه بيده، وألقى لبداً على ظهره، ووضع فوقه سرجاً، وشد حزامه ولببه فلم يتحرك الفرس بشيء من ذلك، حتى إذا رفع ذنبه ليثفره استدبره الفرس فرمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. ويقال: إن الفرس ملأ فروجه جرياُ فلم يدرك ولم يوقف على السبب فيه، وخاضت الرعية بينها، وقالت: هذا من صنع الله لنا ورأفته بنا.

وكان ملك يزدجرد في قول بعضهم اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوماً. وفي قول آخرين إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً.

ولما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن عدي في عهد سابور ابن سابور، استخلف سابور بن سابور على عمله أوس بن قلام في قول هشام. قال: وهو من العماليق من بني عمرو بن عمليق، فثار به جحجبي بن عتيك بن لخم فقتله، فكان جميع ولاية أوس خمس سنين، وهلك في عهد بهرام بن سابور ذي الأكتاف. واستخلف بعده في عمله امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو خمساً وعشرين سنة، وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم. ثم استخلف يزدجرد مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو فارس حليمة؛ وصاحب الخورنق.

وكان سبب بنائه الخورنق - فيما ذكر - أن يزدجرد الأثيم بن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف كان لا يبقى له ولد فولد له بهرام، فسأل عن منزل برى مرئ صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكناً له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه تعجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري وتصنعون بي ما أنا أهله بنيته بناءً يدور مع الشمس حيثما دارت، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه ! فأمر به فطرح من رأس الخورنق؛ ففي ذلك يقول أبو الطمحان القيني:

جزاء سنمارٍ جزاها، وربـهـا              وباللات والعزى جزاء المكفر

وقال سليط بن سعد:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ            وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار

وقال يزيد بن إياس النهشلي:  

جزى الله كمالاً بأسوإ فعله               جزاء سنمارٍ جزاءً موفرا

وقال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي - وكان أهدى أفراساً إلى الحارث بن مارية الغساني، ووفد إليه فأعجبته وأعجب بعبد العزى وحديثه، وكان للملك ابن مسترضع في بنى الحميم بن عوف من بنى عبد ود، من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم أغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار، وليس لي عليهم فضل في نسب ولافعال، فقال: لتأتينى بهم أو لأفعلن ولأفعلن ! فقال: رجونا من حبائك أمراً حال دونه عقابك. ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه:

جزاني جـزاه الـلـه شـر جـزائه                     جزاء سنمـارٍ ومـا كـان ذا ذنـب
سوى رصه البنيان عـشـرين حـجةً               يعلى عليه بالقرامـيد والـسـكـب
فلما رأى البـنـيان تـم سـمـوقـه                   وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فأتهمه من بـعـد حـرسٍ وحـقـبةٍ                   وقد هره أهل المشارق والـغـرب
وظن سنـمـارٌ بـه كـل حـبـرةٍ                        وفاز لـديه بـالـمـودة والـقـرب
فقال اقذفوا بالعلج من فوق بـرجـه                 فهذا لعمر الله من أعجب الخـطـب
وما كان لي عند ابن جفنة فاعلـمـوا              من الذنب ما آلى يميناً على كـلـب
ليلتمسن بالخـيل عـقـر بـلادهـم                  تحلل أبيت اللعن من قولك المزبـى
ودون الذي منى ابن جفنة نـفـسـه              رجالٌ يردون الظلوم عن الشـعـب
وقد رامنا من قبلك الـمـرء حـارثٌ                   فغودر مسلولاً لدى الأكم الصـهـب

قال هشام: وكان النعمان هذا قد غزا الشأم مراراً، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان من أشد الملوك نكاية في عدوه، وأبعدهم مغاراً فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى: الشهباء، وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما: القبيلتان، فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب .

قال فذكر لنا - والله أعلم - أنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف، في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط ! فقال: لا، لو كان يدوم ! قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذاك ؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده؛ فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفياً هارباً لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه؛ فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل، فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه فلم يجدوه، وفي ذلك يقول عدى بن زيد العبادى:

وتفكر رب الخورنق إذ أش                 رف يوماً وللهدى تبصـير
سره حاله وكثـرة مـا يم                    لك والبحر معرضٌ والدير
فارعوى قلبه فقال وما غب                طة حيٍ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والإمة                وارتهم هناك الـقـبـور
ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جف                  فألوت به الصبا والدبـور

فكان ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر.

قال ابن الكلبي: من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.

وأما العلماء من الفرس بأخبارهم وأمورهم فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره .

ذكر ملك بهرام جور

ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه بهرام جور بن يزدجرد الخشن ابن بهرام كرمان شاه بن سابور ذي الأكتاف. وذكر أن مولده كان هرمز دروز فرور دين ماه، لسبع ساعات مضين من النهار. فإن أباه يزدجرد دعا ساعة ولد بهرام ممن كان ببابه من المنجمين، فأمرهم بإقامة كتاب مولده وتبنيه بياناً يدل على الذي يئول إليه كل أمره، فقاسوا الشمس ونظروا في مطالع النجوم، ثم أخبروا يزدجرد أن الله مورثٌ بهرام ملك أبيه، وأن رضاعه بغير أرض يسكنها الفرس، وأن من الرأى أن يربى بغير بلاده، فأجال يزدجرد الرأى في دفعه في الرضاع والتربية إلى بعض من بابه من الروم أو العرب أو غيرهم ممن لم يكن من الفرس، فبدا له في اختيار العرب لتربيته وحضانته؛ فدعا بالمنذر ابن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب، وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما: رام أبزوذ يزدجرد، وتأويله زاد سرور يزدجرد، والأخرى تدعى بمهشت، وتأويلها أعظم الخول، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير بهرام إلى بلاد العرب.

فسار به المنذر إلى محلته منها، واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة، وأذهان ذكية، وآداب رضية؛ من بنات الأشراف؛ منهن امرأتان من بنات العرب، وامرأة من بنات العجم، وأمر لهن بما أصلحهن من الكسوة والفرش والمطعم والمشرب وسائر ما احتجن إليه، فتداولنا رضاعه ثلاث سنين، وفطم في السنة الرابعة، حتى إذا أتت له خمس سنين، قال للمنذر: أحضرني مؤد بين ذوي علم، مدربين بالتعليم؛ ليعلموني الكتابة والرمي والفقه. فقال له المنذر: إنك بعد صغير السن، ولم يأن لك أن تأخذ في التعليم؛ فالزم ما يلزم الصبيان الأحداث، حتى تبلغ من السن ما يطيق التعلم والتأدب، وأحضر من يعلمك كل ما سألت تعلمه. فقال بهرام للمنذر: أنا لعمري صغير، ولكن عقلي عقل محتنك، وأنت كبير السن وعقلك عقل ضرع. أما تعلم أيها الرجل؛ أن كل ما يتقدم في طلبه ينال في وقته، وما يطلب في وقته ينال في غير وقته، وما يفرط في طلبه يفوت فلا ينال ! وإني من ولد الملوك، والملك صائر إلي بإذن الله، وأولى ما كلف به الملوك وطلبوه صالح العلم؛ لأنه لهم زين، ولملكهم ركن به يقوون. فعجل علي بمن سألتك من المؤدبين.

فوجه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام هذه إلى باب الملك من أتاه برهط من فقهاء الفرس، ومعلمي الرمي والفروسية ومعلمي الكتابة وخاصة ذوي الأدب، وجمع له حكماء من حكماء فارس والروم، ومحدثين من العرب، فألزمهم بهرام، ووقت لأصحاب كل مذهب من تلك المهن وقتاً يأتونه فيه؛ وقدر لهم قدراً يفيدونه ما عندهم، فتفرغ بهرام لتعلم كل ما سأل أن يتعلم، وللاستماع من أهل الحكمة وأصحاب الحديث، ووعى كل ما استمع، وثقف كل ما علم بأيسر تعليم. وألفي بعد أن بلغ اثنتي عشرة سنة، وقد استفاد كل ما أفيد وحفظه، وفاق معلميه ومن حضره من أهل الأدب؛ حتى اعترفوا له بفضله عليهم.

وأثاب بهرام المنذر ومعلميه، وأمرهم بالانصراف عنه، وأمر معلمي الرمي والفروسية بالإقامة عنده؛ ليأخذ عنهم كل ما ينبغي له التدرب به، والإحكام له؛ ثم دعا بهرام بالنعمان بن المنذر، وأمره أن يؤذن العرب بإحضار خيلهم من الذكور والإناث على أنسابها، فأذن النعمان للعرب بذلك، وبلغ المنذر الذي كان من رأى بهرام في اختيار الخيل لمركبه، فقال لبهرام: لا تجشمن العرب إجراء خيلهم؛ ولكن مر من يعرض الخيل عليك، واختر منها رضاك، وارتبطه لنفسك. فقال له بهرام: قد أحسنت القول؛ ولكني أفضل الرجال سؤدداً وشرفاً، وليس ينبغي أن يكون مركبي إلا أفضل الخيل، وإنما يعرف فضل بعضها على بعض بالتجربة؛ ولا تجربة بلا إجراء.

فرضي المنذر مقالته، وأمر النعمان العرب فأحضروا خيولهم، وركب بهرام والمنذر لحضور الحلبة، وسرحت الخيل من فرسخين، فبدر فرس أشقر للمنذر تلك الخيل جميعاً سابقاً، ثم أقبل بعده بقيتها بداد بداد من بين فرسين تاليين، أو ثلاثة موزعة، أو سكيتاً. فقرب المنذر بيده ذلك الأشقر إلى بهرام، وقال: يبارك الله لك فيه، فأمر بهرام بقبضه وعظم سروره به، وتشكر للمنذر.

وإن بهرام ركب ذات يوم الفرس الأشقر الذي حمله عليه المنذر إلى الصيد، فبصر بعانة، فرمى عليها وقصد نحوها؛ فإذا هو بأسد قد شد على عير كان فيها، فتناول ظهره بفيه ليقصمه ويفترسه، فرماه بهرام رمية في ظهره، فنفذت النشابة من بطنه وظهر العير وسرته حتى أفضت إلى الأرض. فساخت فيها إلى قريب من ثلثيها، فتحرك طويلاً، وكان ذلك بمشهد ناس من العرب وحرس بهرام وغيرهم. فأمر بهرام فصور ما كان منه في أمر الأسد والعير في بعض مجالسه.

ثم إن بهرام أعلم المنذر أنه على الإلمام بأبيه، فشخص إلى أبيه، وكان أبوه يزدجرد لسوء خلقه لا يحفل بولد له، فاتخذ بهرام للخدمة، فليقي بهرام من ذلك عناء.

ثم إن يزدجرد وفد عليه أخ لقيصر، يقال له ثياذوس، في طلب الصلح والهدنة لقيصر والروم، فسأله بهرام أن يكلم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر، فانصرف إلى بلاد العرب، فأقبل على التنعم والتلذذ.

وهلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب، فتعاقد ناس من العظماء وأهل البيوتات إلا يملكوا أحداً من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، وقالوا: إن يزدجرد لم يخلف ولداً يحتمل الملك غير بهرام، ولم يل بهرام ولاية قط يبلى بها خبره، ويعرف بها حاله، ولم يتأدب بأدب العجم؛ وإنما أدبه أدب العرب، وخلقه كخلقهم، لنشئه بين أظهرهم. واجتمعت كلمتهم وكلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك، يقال له كسرى، ولم يقيموا أن ملكوه. فانتهى هلاك يزدجرد والذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام وهو ببادية العرب، فدعا بالمنذر والنعمان ابنه، وناسٍ من علية العرب، وقال لهم: إني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي؛ كان أتاكم معشر العرب بإحسانه وإنعامه كان عليكم، مع فظاظته وشدته كانت على الفرس؛ وأخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه، وتمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك.

فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه. وإن المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب، ووجههم مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريباً منهما ويدمن إرسال طلائعه إليهما، فإن تحرك أحد لقتاله قاتله وأغار على ما والاهما، وأسر وسبى؛ ونهاه عن سفك الدماء. فسار النعمان حتى نزل قريباً من المدينتين، ووجه طلائعه إليهما، واستعظم قتال الفرس. وإن من بالباب من العظماء وأهل البيوتات أوفدوا جوانى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر، وكتبوا إليه يعلمونه أمر النعمان، فلما ورد جوانى على المنذر وقرأ الكتاب الذي كتب إليه، قال له: الق الملك بهرام، ووجه معه من يوصله إليه فدخل جوانى على بهرام فراعه ما رأى من وسامته وبهائه، وأغفل السجود دهشاً، فعرف بهرام أنه إنما ترك السجود لما راعه من روائه، فكلمه بهرام ووعده من نفسه أحسن الوعد، ورده إلى المنذر، وأرسل إليه أن يجيب في الذي كتب، فقال المنذر لجوانى: قد تدبرت الكتاب الذي أتيتني به؛ وإنما وجه النعمان إلى ناحيتكم الملك بهرام حيث ملكه الله بعد أبيه، وخوله إياكم.

فلما سمع جوانى مقالة المنذر، وتذكر ما عاين من رواء بهرام وهيبته عند نفسه، وأن جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوم محجوج، قال للمنذر: إني لست محيراً جواباً، ولكن سر إن رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وتشاوروا في ذلك. وأت فيه ما يجمل؛ فإنهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به.

فرد المنذر جوانى إلى من أرسله إليه، واستعد وسار بعد فصول جوانى من عنده بيومٍ ببهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك؛ حتى إذا وردهما، أمر فجمع الناس، وجلس بهرام على منبرٍ من ذهب مكلل بجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوتات، وفرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام كانت، وسوء سيرته، وأنه أخرب بسوء رأيه الأرض، وأكثر القتل ظلماً، حتى قد قتل الناس في البلاد التي كان يملكها، وأموراًغير ذلك فظيعة. وذكروا أنهم إنما تعاقدوا وتواثقوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك، وسألوا المنذر ألا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه.

فوعى المنذر ما بثوا من ذلك، وقال لبهرام: أنت أولى بإجابة القوم مني. فقال بهرام: إني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شيء مما نسبتم إليه يزدجرد لما استقر عندي من ذلك، ولقد زارياً عليه لسوء هديه، ومتنكباً لطريقه ودينه، ولم أزل أسأل الله أن يمن علي بالملك، فأصلح كل ما أفسد، وأرأب ما صدع؛ فإن أتت لملكي سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعاً، وقد أشهدت بذلك علي الله وملائكته وموبذان موبذ. وليكن هو فيها حكماً بيني وبينكم. وأنا مع الذي بينت على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج والزينة؛ من بين أسدين ضاريين مشبلين، فهو الملك.

فلما سمع القول مقالة بهرام هذه، وما وعد من نفسه، استبشروا بذلك، وانبسطت آمالهم، وقالوا فيما بينهم: إنا لسنا نقدر على رد قول بهرام؛ مع أنا إن تممنا على صرف الملك عنه نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد واستجاش من العرب؛ ولكن نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه إلا ثقة بقوته وبطشه وجرأته، فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس لنا رأي إلا تسليم الملك إليه، والسمع والطاعة له، وإن يهلك ضعفاً ومعجزة، فنحن من هلكته براء، ولشره وغائلته آمنون.

وتفرقوا على هذا الرأي، فعاد بهرام بعد أن تكلم بهذا الكلام، وجلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس، وحضره من كان يحاده. فقال لهم: إما أن تجيبوني فيما تكلمت أمس، وإما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. فقال القوم: أما نحن، فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى، ولم نر منه إلا ما نحب؛ ولكن قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج والزينة كما ذكرت بين أسدين، وتتنازعانهما أنت وكسرى، فأيكما تناولها من بينهما، سلمنا له الملك.

فرضي بهرام بمقالتهم، فأوتي بالتاج والزينة موبذان موبذ، الموكل كان بعقد التاج على رأس كل ملك يملك، فوضعهما في ناحية، وجاء بسطام أصبهبذ، بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين، فوقف أحداهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما، ثم قال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى بالبدء وبتناولهما مني؛ لنك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه مغتصب. فلم يكره بهرام قوله، لثقته كانت ببطشه وقوته، وحمل جرزاً، وتوجه نحو التاج والزينة، فقال له موبذان موبذ: استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه؛ إنما هو تطوع منك، لا عن رأي أحدٍ من الفرس، ونحن برآء إلى الله من إتلافك نفسك. فقال بهرام: أنتم من ذلك برآء، ولا وزر عليكم فيه. ثم أسرع نحو الأسدين ،فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما، هتف به وقال: بح بذنوبك، وتب منهما، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدم، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبدر إليه أحدهما، فلما دنى من بهرام وثب وثبة، فعلا ظهره، وعصر جنبي الأسد بفخذيه عصراً أثخنه، وجعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمله، ثم شد الأسد الآخر عليه، فقبض على أذنيه، وعركهما بكلتا يديه، فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما على رأسهما بالجرز الذي كان حمله: وكان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى ومن حضر ذلك المحفل.

فتناول بهرام بعد ذلك التاج والزينة، فكان كسرى أول من هتف به، وقال: عمرك الله بهرام ! الذي من حوله سامعون، وله مطيعون، ورزقه ملك أقاليم الأرض السبعة. ثم هتف به جميع الحضر، وقالوا: قد أذعنا للملك بهرام، وخضعنا له ورضينا به ملكاً. وأكثروا الدعاء له. وإن العظماء وأهل البيوتات وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم، وسألوه أن يكلم بهرام في التغمد لإساءتهم في أمره، والصفح والتجاوز عنهم، فكلم المنذر بهرام فيما سألوه من ذلك، واستوهبه ما كان احتمل عليهم في نفسه، فأسعفه بهرام فيما سأل، وبسط آمالهم.

وإن بهرام ملك وهو ابن عشرين سنة، وأمر من يومه ذلك أن يلزم رعيته راحة ودعةً، وجلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية، يعدهم الخير من نفسه، ويأمرهم بتقوى الله وطاعته .

ثم لم يزل بهرام حيث ملك مؤثراً للهو على ما سواه، حتى كثرت ملامة رعيته إياه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده، والغلبة على ملكه؛ وكان أول من سبق إلى المكاثرة له عليه خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألف رجل من الترك، فبلغ الفرس إقبال خاقان في جمع عظيم إلى بلادهم، فتعاظمهم ذلك وهالهم، ودخل عليه من عظمائهم أناس لهم رأى أصيل، وعندهم نظر للعامة، فقالوا له: إنه قد أزمك أيها الملك من بائقه هذا العد وما قد شغلك عما أنت عليه من اللهو والتلذذ، فتأهب له كيلا يلحقنا منه أمرٌ يلزمك فيه مسبة وعار. فقال لهم بهرام: إن الله ربنا قوي ونحن أولياؤه. ولم يزدد إلا مثابرة على اللهو والتلذذ والصيد .

وإنه تجهز فسار إلى أذربيجان لينسك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى أرمينية، ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره في سبع رهط من العظماءء وأهل البيوتات، وثلثمائة رجل من رابطته ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخاً له يسمى نرسي على ما كان يدبر من ملكه. فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن سار واستخلافه أخاه في أن ذلك هربٌ من عدوه، وإسلام لملكه؛ وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإفرار له بالخراج، مخافةً منه لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم إن هم لم يذعنوا له بذلك. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع له، فآمن ناحيتهم، وأمر جنده بالتورع، فأتى بهرام عينٌ كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزمه، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا مهعه فبيته، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتل في جنده، وانهزم من سلم من القتل منهم، ومنحوه أكتافهم، وخلفوا عسكرهم وذراريهم وأثقالهم، وأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم، ويسبي ذراريهم. وانصرف وجنده سالمين، وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه منها مرزباناً حباه سريراً من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين باخعين له بالطاعة، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه، فحد لهم حداً، وأمر فبنيت منارة، وهي المنارة التي أمر بها فيروز الملك ابن يزدجرد، فقد مت إلى بلاد الترك، ووجه بهرام قائداً من قواده إلى ما وراء النهر منهم، وأمره بقتالهم فقاتلهم وأثخنهم، حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية .

وإن بهرام انصرف إلى أذربيجان، راجعاً إلأى محلته من السواد، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجوهر، فعلق على بيت نار آذربيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون، فنزل دار المملكة بها، ثم كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان، وما كان من أمره وأمر جنده. ثم ولى أخاه نرسي خراسان، وأمره أن يسير إليها وينزل بلخ، وتقدم إليه بما أراد.

ثم إن بهرام سار في آخر ملكه إلى ماء للصيد بها، فركب ذات يوم للصيد، فشد على عير، وأمعن في طلبه، فارتطم في جب، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلأى ذلك الجب بأموال عظيمة، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه منه، فنقلوا من الجب طيناً كثيراً وحمأةً. حتى جمعوا من ذلك آكاماً عظاماً، ولم يقدروا على جثة بهرام.

وذكر أن بهرام لما انصرف إلى مملكته من غزوه الترك، خطب أهل مملكته أياماً متوالية، حثهم في خطبته على لزوم الطاعة، وأعلمهم أن نيته التوسعة عليهم، وإيصال الخير إليهم، وأنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وأن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة، فجحدوا ذلك أو من جحده منهم، ولم يخضعوا له خضوع الخول والعبيد للملوك، فأصاره ذلك إلى الغلظة وضرب الأبشار وسفك الدماء. وإن انصراف بهرام من غزوه ذلك كان على طريق أذربيجان، وإنه نحل بيت نار الشيز ما كان في إكليل خاقان من اليواقيت والجوهر وسيفاً كان لخاقان مفصصاً بدر وجوهر وحلية كثيرة، وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع عن الناس الخراج لثلاث سنين شكراً على ما لقي من النصر في وجهه، وقسم في الفقراء والمساكين مالاً عظيماً، وفي البيوتات وذوى الأحساب عشرين ألف ألف درهم، وكتب بخبر خاقان إلى الآفاق كتباً، يذكر فيها أن الخبر ورد عليه بورود خاقان بلاده، وأنه مجد الله وعظمه وتوكل عليه، وسار نحوه في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق أذربيجان وجبل القبق، حتى نفذ على براري خوارزم ومفازها، فأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر لهم ما وضع عنهم من الخراج، وكان كتابه في ذلك كتاباً بليغاً.

وقد كان بهرام حين أفضى إليه الملك أمر أن يرفع عنأهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وبترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها.

وقيل إن بهرام جور لما انصرف إلى طيسبون من مغزاه خاقان التركي، ولى نرسي أخاه خراسان، وأنزله بلخ، واستوزر مهر نرسي بن برازة، وخصه وجعله بزرجفرمذار، وأعلمه أنه ماضٍ إلى بلاد الهند، ليعرف أخبارها، والتلطف لحيازة بعض مملكة أهلها إلى مملكته؛ ليخفف بذلك بعض مؤونة عن أهل مملكته، وتقدم إليه بما أراد التقدم إليه فيما خلفه عليه إلى أوان انصرافه، وأنه شخص من مملكته حتى دخل أرض الهند متنكراً، فمكث بها حيناً لا يسأله أحدٌ من أهلها عن شيء من أمره غير ما يرون من فروسيته وقتله السباع، وجماله وكمال خلقه ما يعجبون منه. فلم يزل كذلك حتى بلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل، وقتل ناساً كثيراً؛ فسأل بعضهم أن يدله عليه ليقتله، وانتهى أمره إلى الملك فدعا به، وأرسل معه رسولاً ينصرف إليه بخبره. فلما انتهى بهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل، رقي الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنع بهرام. ومضى بهرام ليستخرج الفيل، فصاح به، فخرج إليه مزبداً وله صوت شديد، ومنظر هائل، فلما قرب من بهرام رماه رميةً وقعت بين عينيه حتى كادت تغيب، ووقذه بالنشاب، حتى بلغ منه، ووثب عليه فأخذه بمشفره، فاجتذبه جذبة جثا لها الفيل على ركبتيه، فلم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه، فاحتز رأسه وحمله الرسول حتى أخرجه إلى الطريق، ورسول الملك ينظر إليه. فلما انصرف الرسول اقتص خبره على الملك، فعجب من شدته وجرأته. وحباه حباء عظيماً. واستفهمه أمره. فقال له بهرام: أنا رجل من عظماء الفرس، وكان ملك الفرس سخط علي في شيء فهربت منه إلى جوارك، وكان لذلك الملك عدو قد نازعه ملكه، وسار إليه بجنود عظيمة، فاشتد وجل الملك صاحب بهرام منه لما كان يعرف من قوته، وأراده على الخضوع له وحمل الخراج إليه، وهم صاحب بهرام بإجابته إلى ذلك، فنهاه بهرام عن ذلك، وضمن له كفاية أمره، فسكن إلى قوله، وخرج بهرام مستعداً له، فلما التقوا قال لأساورة الهند: احرسوا ظهري. ثم حمل عليهم فجعل يضرب الرجل على رأسه فتنتهي ضربته إلى فمه، ويضرب وسط الرجل فيقطعه باثنين، ويأتي الفيل فيقد مشفره بالسيف، ويحتمل الفارس عن سرجه - والهند قوم لا يحسنون الرمي، وأكثرهم رجالة لا دواب لهم - وكان بهرام إذا رمى أحدهم أنفذ السهم فيه، فلما عاينوا منه ما عاينوا، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وغنم صاحب بهرام ما كان في عسكر عدوه، وانصرف محبوراً مسروراً، ومعه بهرام، فكان في مكافأته إياه أن أنكحه ابنته، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وكتب له بذلك كتاباً، وأشهد له على نفسه شهوداً، وأمر بتلك البلاد حتى ضمت إلى أرض العجم، وحمل خراجها إلى بهرام، وانصرف بهرام مسروراً.

ثم إنه أغزى مهر نرسي بن بزارة بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها، ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها؛ مما لم يكن يقوم بمثله إلا مثل مهر نرسي، فتوجه في تلك العدة، ودخل القسطنطينية، وقام مقام مشهوراً، وهادنه عظيم الروم، وانصرف بكل الذي أراد بهرام، ولم يزل لمهر نرسي مكرماً، وربما خفف اسمه فقيل نرسي وربما قيل مهرنرسه، وهو مهر نرسي بن برازة بن فرخزاد بن خورهباذ بن سيسفاذ ابن سيسنابروه بن كي أشك بن دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب.

وكان مهر نرسي معظماً عند جميع ملوك فارس بحسن أدبه، وجودة آرائه، وسكون العامة إليه، وكان له أولاد مع ذلك قد قاربوه في القدر، وعملوا للملوك من الأعمال ما كادوا يلحقون بمرتبته؛ وإن منهم ثلاثة قد كانوا برزوا: أحدهم زروانداذ؛ كان مهر نرسي قصد به للدين والفقه، فأدرك من ذلك أمراً عظيماً، حتى صيره بهرام جور هربذان هربذ، مرتبة شبيهة بمرتبة موبذان موبذ. وكان يقال للآخر: ما جشنس، ولم يزل متولياً ديوان الخراج أيام بهرام جور. وكان اسم مرتبته بالفارسية راستراي وشانسلان. وكان الثالث اسمه كارد صاحب الجيش الأعظم، واسم مرتبته بالفارسية أسطران سلار؛ وهذه مرتبة فوق مرتبة الإصبهذ تقارب مرتبة الأرجبذ، وكان اسم مهر نرسي بمرتبته بالفارسية بزر جفر ماندار؛ وتفسيره بالعربية وزير الوزراء، أو رئيس الرؤساء. وقيل إنه كان من قرية يقال لها إبروان من رستاق دشتبارين من كورة أردشير خرة، فابتنى فيه وفي جره من كورة سابور لاتصال ذلك ودشتبارين أبنية رفيعة، واتخذ فيها بيت نار - هو باق فيما ذكر إلى اليوم. وناره توقد إلى هذه الغاية - يقال لها مهر نرسيان، واتخذ بالقرب من إبروان أربع قرى، وجعل في كل واحدة منها بيت نار؛ فجعل واحداً منها لنفسه، وسماه فراز مرا آور خذايان، وتفسير ذلك: أقبلي إلى سيدتي. وعلى وجهه التعظيم للنار، وجعل الآخر لزراونداذ، وسماه زراونداذان، والآخر لكارد وسماه كارداذان، والآخر لماجشنس، وسماه ماجشنسفان، واتخذ في هذه الناحية ثلاث باغات، جعل في كل باغ منها اثنتي عشرة ألف نخلة، وفي باغ اثني عشر ألف أصل زيتون، وفي باغ اثنتي عشرة ألف سروة، ولم تزل هذه القرى والباغات وبيوت النيران في يد قوم من ولده معروفين إلى اليوم؛ وإن ذلك - فيما ذكر - إلى اليوم باقٍ على أحسن حالاته.

وذكر أن بهرام بعد قراغه من أمر خاقان وأمر ملك الروم، مضى إلى بلاد السودان من ناحية اليمن، فأوقع بهم؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة. وسبى منهم خلقاً، ثم انصرف إلى مملكته، ثم كان من أمر هلاكه ما قد وصفت.

واختلفوا في مدة ملكه، فقال بعضهم: كان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً. وقال آخرون كان ملكه ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً.

ذكر ملك يزدجرد بن بهرام جور

ثم قام الملك من بعده يزدجرد بن بهرام جور. فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه العظماء والأشراف، فدعوا له وهنئوه بالملك، فرد عليهم رداً حسناً، وذكر أباه ومناقبه، وما كان منه إلى الرعية، وطول جلوسه كان لها، وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه مثل الذي كانوا يعهدونه من أبيه، فلا ينبغي لهم أن يستنكروه؛ فإن خلواته إنما تكون في مصلحة للمملكة وكيد الأعداء، وأنه قد استوزر مهر نرسي بن برازة صاحب أبيه، وأنه سائر فيهم بأحسن السيرة، ومستن لهم أفضل السنن، ولم يزل قامعاً لعدوه، رءوفاً برعيته وجنوده، محسناً إليهم.

وكان له ابنان: يقال لأحدهما هرمز، وكان ملكاً على سجستان، والآخر يقال له فيروز؛ فغلب هرمز على الملك من بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصته وقصه هرمز أخيه، وأنه أولى بالملك منه، وسأله أن يمده بجيش يقاتل بهم هرمز، ويحتوي على ملك أبيه، فأبى ملك الهياطلة أن يجيبه إلى ما سأل من ذلك؛ حتى أخبر أن هرمز ملك ظلوم جائر فقال ملك الهياطلة: إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عمل أهله، ولا يستطاع أن ينتصف ويحترف في ملك الملك الجائر إلا بالجور والظلم. فأمد فيروز بعد أن دفع إليه الطالقان بجيش، فأقبل بهم وقاتل هرمز أخاه فقتله، وشتت جمعه ،وغلب على الملك.

وكان الروم التاثوا على يزدجرد بن بهرام في الخراج الذي كانوا يحملونه إلى أبيه، فوجه إليهم مهر نرسي بن برازة، وفي مثل العدة التي كان بهرام وجهه إليهم عليها، فبلغ له إرادته.

وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر في قول بعضهم وفي قول آخرين سبع عشرة سنة.

ذكر ملك فيروز بن يزدجرد

ثم ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، بعد أن قتل أخاه وثلاثة نفر من أهل بيته.

وحدثت عن هشام بن محمد، قال:: استعد فيروز من خراسان، واستنجد بأهل طخارستان وما يليها، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد، وهو بالري - وكان أمهما واحدة، واسمها دينك، وكانت بالمدائن تدبر ما يليها من الملك - فظفر فيروز بأخيه فحبسه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتدين، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن تدبير ذلك، الأمر حتى قسم ما في بيوت الأموال، وكف عن الجباية، وساسهم أحسن السياسة؛ فلم يهلك في تلك السنين أحدٌ ضياعاً إلا رجل واحد.

وسار إلى قومٍ كانوا قد غلبوا على طخارستان يقال لهم الهياطلة، وقد كان قوادهم في أول ملكه لمعونتهم إياه على أخيه، وكانوا - فيما زعموا - يعملون عمل قوم لوط فلم يستحل ترك البلاد في أيديهم، فقاتلهم فقتلوه في المعركة، وأربعة بنين له، وأربعة أخوة، كلهم كان يتسمى بالملك، وغلبوا على عامة خراسان حتى سار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا من أهل شيراز، وكان فيهم عظيماً، فخرج فيمن تبعه شبه المحتسب المتطوع حتى لقي صاحب الهياطلة، فأخرجه من بلاد خراسان، فافترقا على الصلح؛ ورد ما لم يضع مما في عسكر فيروز من الأسراء والسبي. وملك سبعاً وعشرين سنة.

وقال غير هشام من أهل الأخبار: كان فيروز ملكاً محدوداً محارفاً مشئوماً على رعيته، وكان جل قوله وفعله فيما هو ضرر وآفة عليه وعلى أهل مملكته. وإن البلاد قحطت في ملكه سبع سنين متوالية، فغارت الأنهار والقنى والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وهاجت عامة الزروع والآجام في السهل والجبل من بلاده، وموتت فيها الطير والوحوش، وجاعت الأنعام والدواب؛ حتى كانت لا تقدر أن تحمل حمولة، وقل ماء دجلة، وعم أهل بلاده اللزبات والمجاعة والجهد والشدائد.

فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية، ولا نائبة ولا سخرة، وأن قد ملكهم أنفسهم، ويأمرهم بالسعى فيما يقوتهم ويقيمهم، ثم أعاد الكتاب إليهم في إخراج كل من كان له منهم مطمورة أو هرى أو طعام أو غيره؛ مما يقوت الناس، والتآسي فيه، وترك الاستئثار فيه؛ وأن يكون حال أهل الغنى والفقر وأهل الشرف والضعة في التآسى واحداً. وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسياً مات جوعاً عاقب أهل المدينة، أو أهل القرية، أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الأنسي جوعاً، ونكل بهم أشد النكاال.

فساس فيروز رعيته في تلك اللزبة والمجاعة سياسة لم يعطب أحد منهم جوعاً؛ ما خلا رجلاً واحداً من رستاق كورة أردشير خرةٌ، يدعى بديه فتعظم ذلك عظماء الفرس، وجميع أهل أردشير خرة وفيروز، وأنه ابتهل إلى ربه في نشر رحمته له ولرعيته، وإنزال غيثه عليهم؛ فأغاثه الله، وعادت بلاده في كثرة المياه على ما كانت تكون عليه، وصلحت الأشجار.

وإن فيروز أمر فبنيت بالرى مدينة، وسماها رام فيروز، وفيما بين جرجان وباب صول مدينة، وسماها روشن فيروز، وبناحية أذربيجان مدينة وسماها شهرام فيروز.

ولما حييت بلاد فيروز، واستوثق له الملك، وأثخن في اعدائه وقهرم، وفرغ من بناء هذه المدن الثلاث، سار بجنوده نحو خراسان مريداً حرب إخشنوار ملك الهياطلة؛ فلما بلغ إخشنوار خبره اشتد منه رعبه. فذكر أن رجلاً من أصحاب إخشنوار بذل له نفسه، وقال له: اقطع يديَّ ورجليَّ، وألقنى على طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي - يريد بذلك فيما ذكر الاحتيال لفيروز - ففعل ذلك إخشنوار بذلك الرجل، وألقاه على طريق فيروز، فلما مر به أنكر حاله وسأله عن أمره، فأخبره أن إخشنوار فعل ذلك به لأنه قال له: لا قوام لك بفيروز وجنود الفرس. فرق له فيروز ورحمه، وأمر بحملة معه، فأعلمه على وجه النصح منه له - فيما زعم - أنه يدله وأصحابه على طريق مختصر لم يدخل إلى ملك الهياطلة منه أحد، فاغتر فيروز بذلك منه، وأخذ بالقوم في الطريق الذي ذكره له الأقطع، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة، فكلما شكوا عطشاً أعلمهم أنهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة؛ حتى إذا بلغ بهم موضعاً علم أنهم لا يقدرون فيه على ما تقدم ولا تأخر، بين لهم أمره، فقال أصحاب فيروز لفيروز: قد كنا حذرناك هذا أيها الملك فلم تحذر؛ فأما الآن فلا بد من المضى قدماً حتى نوافى القوم على الحالات كلها. فمضوا لوجوهم، وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوهم، فلما أشرفوا عليهم على الحال التي هم فيها دعوا إخشنوار إلى الصلح، على أن يخلى سبيلهم؛ حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل فيروز له عهد الله وميثاقة ألا يغزوهم ولا يروم أرضهم، ولا يبعث إليهم جنداً يقاتلونهم، ويجعل بين مملكتها حداً لا يجوزه. فرضى إخشنوار بذلك، وكتب له به فيروز كتاباً مختوماً، وأشهد له على نفسه شهوداً، ثم خلى سبيله وانصرف.

فلما صار إلى مملكته حمله الأنف والحمية على معاودة إخشنوار، فغزاه بعد أنم نهاه وزراؤه وخاصته عن ذلك؛ لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلا ركوب رأيه، وكان فيمن نهاه عن ذلك رجل كان يخصه ويجتبى رأيه، يقال له مز دبوذ، فلما رأى مز دبوذ لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها، ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد إخشنوار، وقد كان إخشنوار حفر خندقاً بينه وبين بلاد فيروز عظيماً، فلما انتهى إليه فيروز عقد عليه القناطر، ونصب عليها رايات جعلها أعلاماً له ولأصحابه في انصرافهم، وجاز إلى القوم، فلما التقى بعسكرهم احتج عليه إخشنوار بالكتاب الذي كتبه له، ووعظه بعهده وميثاقه، فأبى فيروز إلا لجاجاً ومحكاً وتواقفاً، فكلم كل واحد منهما صاحبه كلاماً طويلاً، ونشبت بينهما بعد ذلك الحرب، وأصحاب فيروز على فتور من أمرهم؛ للعهد الذي كان بينهم وبين الهياطلة، وأخرج إخشنوار الصحيفة التي كتبها له فيروز، فرفعها على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب. فانهزم فيروز وسها عن موضع الرايات، وسقط في الخندق، فهلك، وأخذ إخشنوار أثقال فيروز ونساءه وأمواله ودواوينه، وأصحاب جند فارس شيء لم يصبهم مثله قط.

وكان بسجستان رجل من أهل كورة أردشير خرة من الأعاجم، ذو علم وبأس وبطش، يقال له: سوخرا، ومعه جماعة من الأساورة، فلما بلغه خبر فيروز ركب من ليلته، فأغذ السير حتى انتهى إلى إخشنوار، فأرسل إليه وآذنه بالحرب، وتوعده بالجائحة والبوار؛ فبعث إليه إخشنوار جيشاً عظيماً. فلما التقوا ركب إليهم سوخرا فوجدهم مدلين، فيقال: إنه رمى بعض من ورد عليه منهم رمية فوقعت بين عينى فرسه حتى كادت النشابة تغيب في رأسه، فسقط الفرس، وتمكن سوخرا من راكبه، فاستبقاه وقال له: انصرف إلى صاحبك فأخبره بما رأيت، فانصرفوا إلى إخشنوار، وحملوا الفرس معم، فلما رأى أثر الرمية بهت وأرسل إلى سوخرا: أن سل حاجتك، فقال له: حاجتى أن ترد على الديوان، وتطلق الأسرى. ففعل ذلك، فلما صار الديوان في يده، واستنفذ الأسرى، استخرج من الديوان بيوت الأموال التي كانت مع فيروز، فكتب إلى إخشنوار أنه غير منصرف إلا بها. فلما تبين الجد؛ افتدى نفسه وانصرف سوخرا بعد استنقاذ الأسارى وأخذ الديوان وارتجاع الأموال، وجميع ما كان مع فيروز من خزائنه إلى أرض فارس، فلما صار إلى الأعاجم شرفوه وعظموا أمره، وبلغوا به من المنزلة ما لم يكن بعده إلا الملك.

وهو سوخرا بن ويسابور بن زهان بن نرسى بن ويسابور بن قارن ابن كروان بن أبيد بن أوبيد بن تيرويه بن كردنك بن ناور بن طوس ابن نودكا بن منشو بن نودر بن منوشهر.

وذكر بعض أهل العلم بأخبار الفرس من خبر فيروز وخبر إخشنوار نحواً مما ذكرت؛ غير أنه ذكر أن فيروز لما خرج متوجهاً إلى إخشنوار، استخلف على مدينة طيسبون ومدينة بهرسير - وكانتا محلة الملوك - سوخرا هذا، قال: وكان بقال لمرتبته قارن، وكان يلي معهما سجستان. وأن فيروز لما بلغ منارة كان بهرام جور ابتناها فيما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك؛ لئلا يجوزها الترك إلى خراسان لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدى لها؛ وكان فيروز عاهد إخشنوار ألا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة، أمر فيروز فصفد فيها خمسون فيلا وثلثمائة رجل، فجرت أمامه جراً، واتبعها؛ أراد بذلك زعم الوفاء لإخشنوار بما عاهده عليه؛ فبلغ إخشنوار ما كان من فيروز في أمر تلك المنارة، فأرسل إليه يقول: انته يا فيروز عما انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه فلم يحفل فيروز بقوله، ولم تكرثه رسالته؛ وجعل يستطعم محاربة إخشنوار، ويدعوه إليها، وجعل إخشنوار يمتنع من محاربته ويستكرهها؛ لأن جل محاربة الترك إنما هو بالخداع والمكر والمكايدة، وأن إخشنوار أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع، وعمقه عشرون ذراعاً، وغمى بخشب ضعاف، وألقى عليه تراباً، ثم ارتحل في جنده، فمضى غير بعيد، فبلغ فيروز رحلة إخشنوار بجنده من عسكره، فلم يشك في أن ذلك منهم انكشاف وهرب، فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب إخشنوار وأصحابه، فأغذوا السير، وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلما بلغوه أقحموا على عماية، فتردى فيه فيروز وعامة جنده، وهلكوا من عند آخرهم.

وإن إخشنوار عطف على عسكر فيروز، فاحتوى على كل شيء فيه، وأسر مو بذان موبذ، وصارت فيروز دخت ابنة فيروز فيمن صار في يده من نساء فيروز، وأمر إخشنوار فاستخرجت جثة فيروز وجثة كل من سقط معه في ذلك الخندق، فوضعت في النواويس، ودعا إخشنوار فيروز دخت إلى أن، يباشرها، فأبت عليه .

وإن خبر هلاك فيروز سقط إلى بلاد فارس، فارتجوا له وفزعوا؛ حتى إذا استقرت حقيقة خبره عند سوخرا تأهب وسار في عظم من كان قبله من الجند إلى بلاد الياطلة. فلما بلغ جرجان بلغ إخشنوار خبر مسيره لمحاربته، فاستعد وأقبل ملتقياً له، وأرسل إليه يستخبره عن خبره، ويسأله عن اسمه ومرتبته، فأرسل أنه رجل يقال له سوخرا، ولمرتبته قارن، وأنه إنما سار إليه لينتقم منه لفيروز، فأرسل إليه إخشنوار يقول: إن سبيلك في الأمر الذي قدمت له كسبيل فيروز. إذ لم يعقبه في كثرة جنوده من محاربته إياى إلا الهلكة والبوار، فلم ينهنه سوخرا قول إخشنوار، ولم يعبأ به، وأمر جنوده فاستعدوا وتسلحوا، ورحف إلى إخشنوار لشدة إقدامه وحدة قلبه، فطلب موادعته وصلحه، فلم يقبل منه سوخرا صلحاً دون أن يصير في يده كل شيء صار عنده من عسكر فيروز. فسلم إخشنوار إليه ما أصاب من أموال فيروز وخزائنه ومرابطة ونسائه، وفيهن فيروز دخت، ودفع إليه موبذان موبذ وكل أحد كان عنده من عظماء الفرس، فانصرف سوخرا بذلك كله إلى بلاد الفرس.

واختلف في مدة ملك فيروز؛ فقال بعضهم: كانت ستاً وعشرين سنة وقال آخرون: كانت إحدى وعشرين سنة.

ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد

ابن بهرام وفيروز بين عمالهما على العرب وأهل اليمن

حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان يخدم الملوك من حمير في زمان ملكهم أبناء الأشراف من حمير وغيرهم من القبائل؛ فكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي، وكان سيد كندة في زمانه. فلما سار حسان بن تبع إلى جديس خلفه على بعض أموره، فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع، وملك مكانه، اصطنع عمرو بن حجر الكندي. وكان ذا رأي ونبل؛ وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بني أخيه حسان أن زوجه ابنة حسان بن تبع، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلو بها؛ لأنه لم يكن يطمع في التزويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة حسان بن تبع لعمرو بن حجر الحارث بن عمرو، وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب؛ وذلك أن ولد حسان كانوا صغاراً، إلا ما كان من تبع بن حسان؛ فإن الجن استهامته، فأخذ الملك عبد كلال بن مثوب مخافة أن يطمع في الملك غير أهل بيت المملكة، فوليه بسن وتجربة وسياسة حسنه. وكان - فيما ذكروا - على دين النصرانية الأولى، وكان يسر ذلك من قومه، وكان الذي دعاه إليه رجل من غسان، قدم عليه في الشأم، فوثبت حمير بالغساني فقتلته، فرجع تبع بن حسان من استهامة الجن إياه صحيحاً، وهو أعلم الناس بنجم، وأعقل من تعلم في زمانه، وأكثره حديثاً عما كان قبله، وما يكون في الزمان بعده. فملك تبع ابن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، فهابته حمير والعرب هيبة شديدة، فبعث بابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء، امرأة من النمر، فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو والكندي ما كانوا يملكون.

وقال هشام: ملك بعد النعمان ابنه المنذر بن النعمان وأمه هند ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعاً وأربعين سنة؛ من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشر سنة. وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه الأسود بن المنذر، وأمه هر ابنه النعمان من بنى الهيجمانة، ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو الذي أسرته فارس عشرين سنة؛ من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز، ست سنين.

ذكر ملك بلاش بن فيروز

ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه بلاش بن فيروز بن يزدجرد ابن بهرام جور، وكان قباذ أخوه قد نازعه الملك، فغلب بلاش، وهرب قباذ إلى خاقان ملك الترك يسأله المعونة والمدد، فلما عقد التاج لبلاش على رأسه اجتمع إليه العظماء والأشراف فهنئوه ودعوا له، وسألوه أن يكافئ سوخرا بما كان منه، فخصه وأكرمه وحباه، ولم يزل بلاش حسن السيرة، حريصاً على العمارة. وكان بلغ من حسن نظره أنه كان لا يبلغه أن بيتاً خرب وجلا أهله عنه إلا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت على تركه انتعاشهم وسد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم، وبنى بالسواد مدينة سماها بلا شاواذ، وهي مدينة ساباط التي بقرب المدائن.
وكان ملكه أربع سنين .

ذكر ملك قباذ بن فيروز

ثم ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصراً به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور، ومعه جماعة يسيرة ممن شايعه على الشخوص متنكرين، وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفس قباذ إلى الجماع، فشكا ذلك إلى زرمهر، وسأله أن يلتمس له امراة ذات حسب، ففعل ذلك، وصار إلى امراة صاحب منزله، وكان رجلاً من الأساورة، وكانت له ابنة بكر فائقة في الجمال، فتنصح لها في ابنتها، وأشار عليها أن تبعث بها إلى قباذ، فأعلمت ذلك زوجها؛ ولم يزل زرمهر يرغب المرأة وزوجها؛ ويشير عليهما بما يرغبهما فيه حتى فعلا، وصارت الابنة إلى قباذ، واسمها نيوندخت، فغشيها قباذ في تلك اليلة، فحملت بأنو شروان، فأمر لها بجائزة حسنة، وحباها حباءً جزيلاً. وقيل: إن أم تلك الجارية سألتها عن هيئة قباذ وحاله، فأعلمتها أنها لا تعرف من ذلك غير أنها رأت سراويله منسوجاً بالذهب، فعلمت أمها أنه من أبناء الملوك وسرها ذلك. ومضى قباذ إلى خاقان؛ فلما وصل إليه أعلمه أنه ابن ملك فارس، وأن أخاه ضاده في الملك وغلبه، وأنه أتاه يستنصره فوعده أحسن العدة، ومكث قباذ عند خاقان أربع سنين يدافعه بما وعده. فلما طال الأمر على قباذ أرسل إلى امرأة خاقان يسألها أن تتخذه ولداً، وأن تكلم فيه زوجها، وتسأله إنجاز عدته ففعلت، ولم تزل تحمل على خاقان حتى وجه مع قباذ جيشاً، فلما انصرف قباذ بذلك الجيش؛ وصار في ناحية نيسابور سأل الرجل الذي كان أتاه بالجارية عن أمرها، فاستخبر ذلك من أمها، فأخبرته أنها قد ولدت غلاماً، فأمر قباذ أن يؤتى بها، فأتته ومعها أنو شروان تقوده بيدها، فلما دخلت عليه سألها عن قصة الغلام، فأخبرته أنه ابنه، وإذا هو قد نزع إليه في صورته وجماله.

ويقال: إن الخبر ورد عليه في ذلك الموضع بهلاك بلاش، فتيمن بالمولود، وأمر بحمله وحمل أمه على مراكب نساء الملوك، فلما صار إلى المدائن، واستوثق له أمر الملك خص سوخرا، وفوض إليه أمره، وشكر له ما كان من خدمة ابنه إياه، ووجه الجنود إلى الأطراف، ففتكوا في الأعداء، وسبوا سبايا كثيرةً، وبنى بين الأهواز وفارس مدينة الرجان، وبنى أيضاً مدينة حلوان، وبنى بكورة أردشير خرة في ناحية كارزين مدينة يقال لها قباذ خرة، وذلك سوى مدائن وقرى أنشأها، وسوى أنهار احتفرها، وجسورٍ عقدها. فلما مضت أكثر أيامه، وتولى سوخرا تدبير ملكه وسياسة أموره مال الناس عليه، وعاملوه واستخفوا بقباذ، وتهاونوا بأمره، فلما احتنك لم يحتمل ذلك، ولم يرض به، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان إصبهبذ البلاد - في القدوم عليه فيمكن قبله من الجند، فقدم سابور بهم عليه، فواصفه قباذ حالة سوخرا، وأمره بأمره فيه، فغدا سابور على قباذ فوجد عنده سوخرا جالساً، فمشى نحو قباذ متجاوزاً له متغافلاً لسوخرا، فلم يأبه سوخرا لذلك من أرب سابور، حتى ألقى وهقاً كان معه في عنقه، ثم اجتذبه فأخرجه فأوثقه واستودعه السجن، فحينئذٍ قيل: "نقصت ريح سوخرا وهبت لمهران ريحٌ" ، وذهب ذلك مثلاً. وإن قباذ أمر بعد ذلك بقتل سوخرا فقتل، وإنه لما مضى لملك قباذ عشر سنين اجتمعت كلمة موبذان موبذ والعظماء على إزالته عن ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، لمتابعته لرجل يقال له مزدك مع أصحاب له قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضلٌ من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئاً مما يتسع به. وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم، وجعلوا أخاً له يقال له جاماسب مكانه، وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى، وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك، وأرادوه على أن يدفع إليهم نفسه فيذبحوه ويجعلوه قرباناً للنار، فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه، فقتل في المزدكية ناساً كثيراً، وأعاد قباذ إلى ملكه، وطرح أخاه جاماسب. ثم لم يزل المزدكية بعد ذلك إنما يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله، ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه؛ فانتشرت الأطراف وفسدت الثغور.

وذكر بعض أهل العلم أخبار الفرس أن العظماء من الفرس هم حبسوا قباذ حين اتبع مزدك وشايعه على ما دعاه إليه من أمره، وملكوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز، وأن أختاً لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ محبوساً، فحاولت الدخول عليه، فمنعها إياه الرجل الموكل كان بالحبس ومن فيه، وطمع الرجل أن يفضحها بذلك السبب، وألقى إليها طمعه فيها، فأخبرته أنها غير مخالفته في شيء مما يهوى منها، فأذن لها فدخلت السجن فأقامت عند قباذ يوماً، وأمرت فلف قباذ في بساط من البسط التي كانت معه في الحبس، وحمل على غلام من غلمانه قوي ضابط، وأخرج من الحبس، فلما مر الغلام بوالى الحبس سأله عما كان حامله فأفحم، واتبعته أخت قباذ فأخبرته أنه فراشٌ قد افترشته في عراكها، وأنها إنما خرجت لتتطهر وتنصرف؛ فصدقها الرجل ولم يمس البساط، ولم يدن مه استقذاراً له، وخلى عن الغلام الحامل لقباذ، فمضى بقباذ ومضت على أثره. وهرب قباذ فلحق بأرض الهياطلة ليستمد ملكها ويستجيشه فيحارب من خالفه ومن خلعه. وأنه نزل في مبدئه إليها بأبرشهر رجل من عظماء أهلها، له اينةٌ معصر، وأن نكاحه أم كسرى أنوشروان كان في سفره هذا، وأن قباذ رجع من سفره ذلك معه ابنه أنو شروان وأمه، فغلب أخاه جاماسب على ملكه بعد أن ملك أخوه جاماسب ست سنين، وأن قباذ غزا بعد ذلك بلاد الروم، وافتتح منها مدينةً من مدن الجزيرة تدعى آمد، وسبى أهلها، وأمر فبنيت في حد ما بين فارس وأرض الأهواز مدينة، وسماها رامقباذ، وهي التي تسمى بومقباذ، وتدعى أيضاً أرجان وكور كورة، وجعل لها رساتيق من كورة سرق، كورة رام هرمز، وملك قباذ ابنه كسرى، وكتب له بذلك كتاباً وختمه بخاتمه.

فلما هلك قباذ - وكان ملكه بسنى ملك أخيه جاماسب: ثلاثاُ وأربعين سنة - فنفذ كسرى ما أمر به قباذ من ذلك.

ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب

في أيام قباذ في مملكته وبين عماله

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقى الحارث بن عمرو بن حجر ابن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة قتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهدٌ، وإني أحب أن القاك.

وكان قباذ زنديقاً يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه، واستضعفه الناس، فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عددٍ وعدة حتى التقوا بقنطرة الفيوم، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواة، وأمر بطبق فجعل فيه تمر فيه نواه، ثم وضعا بين أيديهما، فجعل الذي فيه النوى يلي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه يلي قباذ. فجعل الحارث يأكل التمر ويلقي النوى، وجعل قباذ يأكل ما يليه. وقال للحارث: مالك لا تأكل مثل ما آكل ! فقال: له الحارث إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. وعلم أن قباذ يهزأ به، ثم اصطلحا على أن يورد الحارث بن عمرو ومن أحب من أصحابه خيولهم الفرات إلى ألبابها، ولا يجاوزا أكثر من ذلك. فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف طمع في السواد، فأمر أصحاب مسالحه أن يقطعوا الفرات فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهم بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصاً من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يحب لقاءه. فلقيه، فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعاً ما صنعه أحد قبلك، فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوصٌ من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود، قال له قباذ: فما الذي تريد ؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحاً، فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيج، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبعٍ وهو باليمن: إنى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فاجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شيءٌ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق. فجمع تبعٌ الجنود، وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهراً إلى النجف ففعل، وهو نهر الحيرة. فنزل عليه ووجه ابن أخيه شمراً ذا الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، وأمضى تبعٌ شمراً ذا الجناح إلى خراسان، ووجه تبع ابنه حسان إلى الصغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كل واحد منهما في جيشٍ عظيم؛ يقال: كانا في ستمائة ألفٍ وأربعين ألفاً. وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم، وهو الذي يقول:

أيا صاح عجبك للداهـية          لحمير إذ نزلوا الجابيه !
ثمانون ألفاً رواياهـمـو             لكل ثـمـانـية راويه

فسار يعفر حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ثم مضى إلى رومية وبينهما مسيرة أربعة أشهر، فحاصرها وأصاب من معه جوعٌ، ووقع فيهم طاعونٌ فرقوا، فأبصرهم الروم وما لقوا، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وسار شمرٌ ذو الجناح حتى أتى سمرقند، فحاصرها فلم يظفر بشيءٍ منها. فلما رأى ذلك أطاف بالحرس، حتى أخذ رجلاً من أهلها، فسأله عن المدينة وملكها، فقال له: أما ملكها فأحمق الناس، ليس له هم إلا الشراب والأكل، وله ابنة وهي التي تقضى أمر الناس. فبعث معه بهدية إليها، فقال له: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتنكحني نفسها؛ فأصيب منها غلاماً يملك العجم والعرب، وأنى لم أجئ ألتمس المال، وأن معي أربعة الآف تابوت من ذهب وفضة هاهنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضي إلى الصين، فإن كانت الأرض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها. فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كل تابوتٍ رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل بابٍ منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدم في ذلك إلى رسله الذين وجه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهد شمر في الناس؛ فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها. ثم سار إلى الصين، فلقى زخوف الترك فهزمهم، ومضى إلى الصين فوجد حسان بن تبع قد كان سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها - فيما ذكر بعض الناس - حتى ماتا. وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة.

قال: وقال من زعم أنهما أقاما بالصين حتى هلكا: إن تبعاً جعل النار فيما بينه وبينهم، فكان إذا حدث حدثٌ أوقدوا النار بالليل، فأتى الخبر في ليلة، وجعل آية ما بينه وبينهم أن أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثاً فهو هلاك تبع، وإن كانت من عندهم نارٌ فهو هلاك حسان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما. فمكثوا بذلك .

ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثاً فكان هلاك تبع .

قال: وأما الحديث المجتمع عليه فإن شمراً وحسان انصرفا في الطريق الذي كانا أخذا فيه حيث بدآ، حتى قدما على تبع بما حازا من الأموال بالصين، وصنوف الجوهر والطيب والسبى، ثم انصرفوا جميعاً إلى بلادهم، وسار تبع حتى قدم مكة، فنزل بالشعب من المطابخ، وكانت وفاة تبع باليمن، فلم يخرج أحدٌ من ملوك اليمن بعده عنها غازياً إلى شيء من البلاد، وكان ملكه مائةً وإحدى وعشرين سنة.

قال: ويقال إنه كان دخل في دين اليهود للأحبار الذين كانوا خرجوا من يثرب مع تبع إلى مكة عدةٌ كثيرة.

قال: ويقولون: إن علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار، وكان كعب الأحبار رجلاً من حمير.

وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الاخر، وأنه تبع تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، وهوأبو حسان، حدثنا بذلك ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عنه.