المجلد الثاني - ذكر ملك كسرى أنو شروان

ذكر ملك كسرى أنو شروان

ثم ملك كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور. فلما ملك كتب إلى أربعة فاذوسبانين - كان كل واحد منهم على ناحية من نواحي بلاد فارس ومن قبلهم - كتباً نسخة كتابه منها إلى فاذوسبان أذربيجان: بسم الله الرحمن الرحيم: من الملك كسرى بن قباذ إلى وارى ابن النخير جان فاذوسبان أذربيجان وأرمينية وحيزها، ود نباوند وطبرستان وحيزها، ومن قبله: سلام، فإن أحرى ما استوحش له الناس فقد من تخوفوا في فقدهم إياه زوال النعم ووقوع الفتن، وحلول المكاره بالأفضل فالأفضل منهم، في نفسه أو حشمه أو ماله أو كريمه، وإنا لا نعلم وحشةً ولا فقد شيء أجل رزيئةً عند العامة، ولا أحرى أن تعم به البلية من فقد ملكٍ صالح.

وإن كسرى لما استحكم له الملك أبطل ملة رجلٍ منافقٍ من أهل فسا يقال له: "زراذشت بن خرّكان" ابتدعها في المجوسية، فتابعه الناس على بدعته تلك، وفاق أمره فيها، وكان ممن دعا العامة إليها رجلٌ من أهل مذرية يقال له: "مزدق بن بامداذ، وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به، وحثهم عليه من الدين كان مكرمةً في الفعال، ورضاً في التفاوض. فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاءٌ عظيمٌ لم يكن لهم عهدٌ بمثله. فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيءٍ مما ابتدع زراذشت خرّكان، ومزدق بن بامداذ، وأبطل بدعتهما، وقتل بشراً كثيراً ثبتوا عليها، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها، وقوماً من المنانية، وثبت للمجوس ملتهم التي لم يزالوا عليها.

وكان يلي الإصبهبذة - وهي الرياسة على الجنود - قبل ملكه رجلٌ، وكان إليه إصبهبذة البلاد، ففرق كسرى هذه الولاية والمرتبة بين أربعة إصبهذين، منهم أصبهذ المشرق وهو خراسان وما والاها، وأصبهذ المغرب، وأصبهذ نيمروز؛ وهي بلاد اليمن، وأصبهذ أذربيجان وما والاها، وهي بلاد الخزر، وما والاها؛ لما رأى في ذلك من النظام لملكه، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع، وارتجع بلاداً كانت من مملكة فارس، خرج بعضها من يد الملك قباذ إلى ملوك الأمم لعلل شتى وأسباب، منها السند، وبست، والرخج، وزايلستان، وطخارستان، ودردستان، وكابلستان، وأعظم القتل في أمةٍ يقال لها البارز، وأجلى بقيتهم عن بلادهم وأسكنهم مواضع من بلاد مملكته، وأذعنوا له بالعبودية، واستعان بهم في حروبه، وأمر فأسرت أمةٌ أخرى، يقال لها صول، وقدم بهم عليه، وأمر بهم فقتلوا، ما خلا ثمانين رجلا من كماتهم استحياهم، وأمر بإنزالهم شهرام فيروز، يستعين بهم في حروبه.

وإن أمةً يقال لها أبخز، وأمةً يقال لها بنجر، وأمة يقال لها بلنجر، وأمةً يقال لها ألاّن؛ تمالئوا على غزو بلاده، وأقبلوا إلى أرمينية ليغيروا على أهلها، وكان مسلكهم إليها يومئذ سهلاً ممكناً، فأغضى كسرى على ما كان منهم، حتى إذا تمكنوا في بلاده وجه إليهم جنوداً، فقاتلوهم واصطلموهم ما خلا عشرة آلاف رجلٍ منهم أسروا، فأسكنوا أذربيجان وما والاها، وكان الملك فيروز بنى في ناحية صول وألاّن بناءً بصخرٍ أراده، أن يحصن بلاده عن تناول تلك الأمم إياها، وأحدث الملك قباذ بن فيروز من بعد أبيه في تلك المواطن بناءً كثيراً، حتى إذا ملك كسرى أمر فبنيت في ناحية صول بصخرٍ منحوتٍ في ناحية جرجان مدنٌ وحصونٌ وآكامٌ وبنيانٌ كثيرٌ، ليكون حرزاً لأهل بلاده يلجئون إليها من عدوٍ إن داهمهم .

وإن سنجبوا خاقان كان أمنع الترك وأشجعهم، وأعزهم وأكثرهم جنوداً، وهو الذي قاتل وزر ملك الهياطلة غير خائف كثرة الهياطلة ومنعتهم، فقتل وزر ملكها وعامة جنوده، وغنم أموالهم، واحتوى على بلادهم إلا ما كان كسرى غلب عليه منها، وإنه استمال أبخز، وبنجر، وبلنجر؛ فمنحوه طاعتهم وأعلموه أن ملوك فارس لم يزالوا يتقونهم بفداء يكفونهم به عن غزو بلادهم، وإنه أقبل في مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل حتى شارف ما والى بلاد صول؛ وأرسل إلى كسرى في توعدٍ منه إياه واستطالةٍ عليه، أن يبعث إليه بأموالٍ، وإلى أبخز وبنجر وبلنجر بالفداء الذي كانوا يعطونه إياه قبل ملك كسرى، وأنه إن لم يعجِّل بالبعثة إليه بما سأل وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى بوعيده، ولم يجبه إلى شيء مما سأله لتحصينه كان ناحية باب صول، ومناعة السبل والفجاج التي كان سنجبوا خاقان سالكها إياه، ولمعرفته كانت بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية بخمسة آلاف مقاتلٍ من الفرسان والرجالة .

فبلغ سنجبوا خاقان تحصين كسرى ثغر صول، فانصرف بمن كان معه إلى بلاده خائباً، ولم يقدر من كان بإزاء جرجان من العدو - للحصون التي كان أمر كسرى فبنيت حواليها - أن يشنوها بغارةٍ، ويغلبوا عليها، وكان كسرى أنوشروان قد عرف الناس منه فضلاً في رأيه وعلمه وعقله، وبأسه وحزمه، مع رأفته ورحمته بهم، فلما عقد التاج على رأسه دخل إليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له، فلما قضوا مقالتهم، قام خطيباً، فبدأ بذكر نعم الله على خلقه عند خلقه إياهم، وتوكله بتدبير أمورهم، وتقدير الأقوات والمعايش لهم، ولم يدع شيئاً إلا ذكره في خطبته، ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم، وامحاء دينهم، وفساد حالهم في أولادهم ومعاشهم، وأعلمهم أنه ناظرٌ فيما يصلح ذلك ويحسمه، وحث الناس على معاونته.

ثم أمر برءوس المزدكية فضربت اعناقهم، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعةً كثيرةً ممن كان دخل على الناس في أموالهم، ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولودٍ اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم؛ إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيباً من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها، وبرضى أهلها. ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده، وبين تزويجٍ من غيره؛ إلا أن يكون كان لها زوج أول، فترد إليه. وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحداً بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوي الأحساب الذي مات قيمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح شبانهم من بيوتات الأشراف وساق عنهم، وأغناهم، وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله، وخيّر نساء والده بين أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن، أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة. وأمر بكري الأنهار، وحفر القنى وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم؛ وأمر بإعادة كل جسر قطع أو قنطرة كسرت، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح، وتفقد الأساورة، فمن لم يكن له منهم يسار قواه بالدواب والعدة، وأجرى لهم ما يقويهم ووكل ببيوت النيران، وسهّل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمال والولاة، وتقدم إلى من ولي منهم أبلغ التقدم، وعمد إلى سير أردشير وكتبه وقضاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها، فلما استوثق له الملك، ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنين من ملكه، وكان فيها عظماء جنود قيصر، فافتتحها. ثم أمر أن تصور له مدينة أنطاكية على ذرعها وعدد منازلها وطرقها، وجميع ما فيها، وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جنب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية على صورة أنطاكية، ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها .

فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية؛ كأنهم لم يخرجوا عنها.

ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخلّف طائفة من جنوده بأرض الروم، بعد أن أذعن له قيصر وحمل إليه الفدية، ثم انصرف من الروم، فأخذ نحو الخزر فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيته. ثم انصرف نحو عدن، فسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء تلك البلاد .

ثم انصرف إلى المدائن؛ وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن .

وملّك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم أقام في ملكه بالمدائن، وتعاهد ما كان يحتاج إلى تعاهده. ثم سار بعد ذلك إلى الهياطلة مطالباً بوتر فيروز جده - وقد كان أنوشروان صاهر خاقان قبل ذلك - فكتب إليه قبل شخوصه يعلمه ما عزم عليه، ويأمره بالمسير إلى الهياطلة. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة.

ثم انصرف من خراسان، فلما صار بالمدائن وافاه قوم يستنصرونه على الحبشة، فبعث معهم قائداً من قواده في جند من أهل الديلم وما يليها، فقتلوا مسروقاً الحبشي باليمن، وأقاموا بها.

ولم يزل مظفراً منصوراً تهابه جميع الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظرائهم، وكان مكرماً للعلماء .
وملك ثمانياً وأربعين سنة، وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر ملك أنوشروان.

قال هشام: وكان ملك أنوشروان سبعاً وأربعين سنة. قال: وفي زمانه ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه.

قال هشام: لما قوي شأن أنوشروان بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر - وأمه ماء السماء امرأة من النمر - فملّكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو، آكل المرار. فلما يزل على ذلك حتى هلك .

قال: وأنوشروان غزا بزجان، ثم رجع فبنى الباب والأبواب .

وقال هشام: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان - وأمه هر ابنة النعمان - سبع سنين .

ثم ملك بعده النعمان بن الأسود بن المنذر - وأمه أم الملك ابنة عمرو بن حجر أخت الحارث بن عمرو الكندي - أربع سنين .

ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور ابن أسس بن ربى بن نمارة بن لخم، ثلاث سنين .

ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء - وهو ذو القرنين، قال: وإنما سمي بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، وأمه ماء السماء، وهي مارية ابنة عوف ابن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضيحان ابن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط؛ فكان جميع ملكه تسعاً وأربعين سنة.

ثم ملك ابنة عمرو بن المنذر - وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار - ست عشرة سنة .

قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك في زمن أنوشروان وعام الفيل الذي غزا فيه الأشرم أبو يكسوم البيت.

ذكر بقية خبر تبّع أيام قباذ

وزمن أنوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشة وسبب توجيهه إياهم إليها

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر وهو تبّان أسعدأبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدءته لم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابناً له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها؛ فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول؛ فخرجوا لقتاله. وكان تبّع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم - من بني عدي بن النجار يقال له أحمر - رجلا من أصحاب تبّع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان. فزاد ذلك تبّعاً عليهم حنقاً .

فبينا تبّع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه - قال: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم؛ ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام - إذ جاءه حبران من أحبار يهود منهم من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل؛ فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك ؟ فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما. وكان اسم الحبرين كعباً وأسداً، وكانا من بني قريظة، وكانا ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما كما ذكر لي ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن يزيد بن عمرو؛ عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، عن أشياخ من قومه ممن أدرك الجاهلية؛ فقال شاعر من الأنصار وهو خال ابن عبد العزى بن غزية بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، في حربهم وحرب تبّع، يفتخر بعمرو بن طلة ويذكر فضله وامتناعه :

أصحا أم انتـهـى ذكـره                أم قضى من لذةٍ وطـره
أم تذكرت الشـبـاب ومـا             ذكرك الشباب أو عصره !
إنـهـا حـربٌ ربـاعـيةٌ                   مثلها آتى الفتى عـبـره
فسلا عمـران أو فـسـلا               أسداً إذ يغدو مع الزهـره
فيلقٌ فـيهـاأبـو كـربٍ                   سابغاً أبـدانـهـا ذفـره
ثم قالـوا مـن يؤم بـهـا                 أبني عوفٍ أم الـنـجـره
يا بني النـجـار إن لـنـا                 فيهم قـبـل الأوان تـره
فتلـقـتـهـم عـشـنـقةٌ                 مدها كالغبـية الـنـثـره
سيدٌ سامي الملـوك ومـن          يغز عمراً لا يجـد قـدره

وقال رجل من الأنصار، يذكر امتناعهم من تبّع :

تكلفني من تكـالـيفـهـا            نخيل الأساويف والمنصعه
نخيلاً حمتها بنـو مـالـكٍ           خيول أبي كرب المفظعه

قال: وكان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة - وهي طريقه إلى اليمن - حتى إذا كان بالدف من جمدان بين عسفان وأمج، في طريقه بين مكة والمدينة، أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر، قد أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما يريد الهذليون بذلك هلاكه لما قد عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده .

فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك؛ ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعاً، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمت عليه ؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق عنده رأسك وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك؛ ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوا حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك. أو كما قالا له .

فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم. ثم مضى حتى قدم مكة، وأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل؛ فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وألا يقربوه دماً ولا ميتة ولا مئلاثاً وهي المحائض، وجعل له باباً ومفتاحاً، ثم خرج متوجهاً إلى اليمن بمن معه من جنوده، وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة ابن عبيد الله يحدث أن تبّعاً لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دينٌ خير دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم - قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نارٌ تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم - فلما قالوا ذلك لتبع قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج النار منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر فصبروا، حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما، لم تضرهما، فأصفقت حمير عند ذلك على دينه؛ فمن هناك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن الحبرين ومن خرج معهما من حمير؛ إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجالٌ من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها فلم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه؛ فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، وكان رئام بيتاً لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم ويلعب بهم، فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به؛ فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلباً أسود، فذبحاه وهدما ذلك البيت؛ فبقاياه اليوم باليمن - كما ذكر لي - وهو رئام به آثار الدماء التي كانت تهراق عليه .

فقال تبع في مسيرة ذلك وما كان هم به من أمر المدينة وشأن البيت وما صنع برجال هذيل الذين قالوا له ما قالوا، وما صنع بالبيت حين قدم مكة من كسوته وتطهيره، وما ذكر له الحبران من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ما بال نومك مثل نوم الأرمـد                   أرقاً كأنك لا تزال تـسـهـد
حنقاً على سبطين حلاَّ يثـربـاً                 أولى لهم بعقاب يومٍ مفسـد !
ولقد نزلت من المدينة منـزلاً                   طاب المبيت به وطاب المرقد

وجعلت عرصة منزلٍ بربـاوةٍ                    بين العقيق إلى بقيع الغـرقـد
ولقد تركنا لابهـا وقـرارهـا                      وسباخها فرشت بقـاعٍ أجـرد
ولقد هبطنا يثربـاً وصـدورنـا                   تغلي بلابلها بقتلٍ مـحـصـد
ولقد حلفت يمين صبرٍ مـؤلـياً                قسماً لعمرك ليس بالمـتـردد
إن جئت يثرب لا أغادر وسطها                عذقاً ولا بسراً بيثرب يخـلـد
حتى أتاني من قـريظة عـالـمٌ                حبرٌ لعمرك في اليهود مسـود
قال ازدجر عن قريةٍ محفـوظةٍ                  لنبي مكة من قريشٍ مـهـتـد
فعفوت عنهم عفو غير مثـربٍ                  وتركتهم لعقـاب يومٍ سـرمـد
وتركتهم للـه أرجـو عـفـوه                      يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومـنـا                   نفراً أولي حسبٍ وبأسٍ يحمـد
نفراً يكون النصر في أعقابهـم                  أرجو بذاك ثواب رب محمـد
ما كنت أحسب أن بيتاً طاهـراً                 لله في بطحـاء مـكة يعـبـد
حتى أتاني من هـذيلٍ أعـبـدٌ                 بالدف من جمدان فوق المسنـد
قالوا بمـكة بـيت مـالٍ داثـرٍ                       وكنوزه من لؤلـؤٍ وزبـرجـد
فأردت أمراً حال ربـي دونـه                     والله يدفع عن خراب المسجـد
فرددت ما أملت فـيه وفـيهـم                   وتركتهم مثلاً لأهل المشـهـد
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمـاً              ملكاً تدين له الملوك وتحـشـد
ملك المشارق والمغارب يبتغي                أسباب علم من حكيمٍ مـرشـد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها               في عين ذي خلبٍ وثأطٍ حرمد
من قبله بلقيس كانت عمـتـي                 ملكتهم حتى أتاها الـهـدهـد

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: هذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وأنه أراد هلاكهم حين قدم عليهم المدينة، فمنعوه منهم، حتى انصرف عنهم ولذلك قال في شعره :

حنقاً على سبطين حلا يثرباً             أولى لهم بعقاب يوم مفسد

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد كان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فأقام عنده، فلما أراد توديعه قال تبع: ما بقي من علمك ؟ قال: بقى خبر ناطق، وعلم صادق، قال: فهل تجد لقومٌ ملكاً يوازي ملكي ؟ قال: لا إلا لملك غسان نجل، قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه ؟ قال: نعم، قال: ولمن ؟ قال أجده لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجيء، أحد بن لؤي، ثم أحد بني قصي. فبعث تبع إلى الزبور فنظر فيها، فإذا هو يجد صفة للنبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن حدثه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وغيره من علماء أهل اليمن، ممن يروى الأحاديث، فحدث بعضهم بعض الحديث، وكل ذلك قد اجتمع في هذا الحديث: أن ملكاً من لخم، كان باليمن فيما بين التبابعة من حمير، يقال له: ربيعة بن نصر، وقد كان قبل ملكه باليمن ملك تبع الأول، وهو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ الأصغر بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع ابن العرنجج حمير بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان. وكان اسم سبأ عبد شمس؛ وإنما سمى سبأ - فيما يزعمون - لأنه كان أول من سبى في العرب.

فهذا بيت مملكة حمير الذي فيه كانت التبابعة، ثم كان بعد تبع الأول زيد بن عمرو، وشمر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ابن عمه. وشمر يرعش الذي غزا الصين وبنى سمرقند وحير الحيرة، وهو الذي يقول:

أناشمرٌأبو كرب اليمانـي            جلبت الخيل من يمنٍ وشامٍ
لآتي أعبداً مردوا علـينـا             وراء الصين في عثم ويام
فنحكم في بلادهم بحـكـمٍ         سواء لا يجـاوزه غـلامٌ

القصيدة كلها .

قال: ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه، وقال ما قال من الشعر فكل هؤلاء ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي؛ فلما هلك ربيعة بن نصر؛ رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلما رآها بعث في أهل مملكته، فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً ولا منجماً إلا جمعه إليه، ثم قال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها. فلما قال لهم ذلك قال رجل من القوم الذين جمعوا لذلك: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحدٌ أعلم منهما، فهما يخبرانك بما سألت - واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، لنسبته إلى ذئب بن عدي. وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار. فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه قبل شق سطيح، ولم يكن في زمانهما مثلهما من الكهان، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال - أفعل، رأيت جمجمة - قال أبو جعفر: وقد وجدته في مواضع أخر، رأيت حممة - خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض ثهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح، فما عندك في تأويلها ؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال له الملك: وأبيك يا سطيح؛ إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن يا سطيح ؟ أفي زماني أم بعده ؟ قال: لا بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين، يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون، ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن ذا الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم ؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحداً باليمن. قال أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه ؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي. قال: وممن هذا النبي ؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر يا سطيح من آخر ؟ قال: نعم. يوم يجمع فيه الأولون والآخرون. ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحقٌ ما تخبرنا يا سطيح ؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق .

فلما فرغ قدم عليه شق، فدعاه، فقال له: يا شق، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني عنها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها - كما قال لسطيح؛ وقد كتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان - قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما رأى ذلك الملك من قولهما شيئاًَ واحداً، قال له: ما أخطأت يا شق منها شيئاً، فما عندك في تأويلها ؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن ؟ أفي زماني أم بعده ؟ قال: بل بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشان ؟ قال: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل؛ يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل ؟ قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال: أحق ما تقول يا شق ؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض؛ إن ما نبأتك لحق ما فيه أمض. فلما فرغ من مسألتهما، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان ابن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما قال سطيح وشق لربيعة بن نصر ذلك، وصنع ربيعة بولده وأهل بيته ما صنع، ذهب ذكر ذلك في العرب، وتحدثوا حتى فشا ذكره وعلمه فيهم، فلما نزلت الحبشة اليمن، ووقع الأمر الذي كانوا يتحدثون به من أمر الكاهنين، قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، في بعض ما يقول، وهو يذكر ما وقع من أمر ذينك الكاهنين: سطيح وشق :

ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها             حقاً كما نطق الذئبي إذ سجعا

وكان سطيح إنما يدعوه العرب الذئبي، لأنه من ولد ذئب بن عدي. فلما هلك ربيعة بن نصر، واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب ابن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هاج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير وانقطاع مدة سلطانهم - ولكل أمر سبب - أن حسان ابن تبان أسعد أبي كرب، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل؛ حتى إذا كان ببعض أرض العراق، كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم؛ فكلموا أخاً له كان معه في جيشه، يقال له عمرو، فقالوا له: اقتل أخاك حسان نملكك علينا مكانه، وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك، فأجمع أخوه ومن معه من حمير وقبائل اليمن على قتل حسان، إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، وقال له: إنكم أهل بيت مملكتنا، لا تقتل أخاك ولا تشتت أمر أهل بيتك - أو كما قال له - فلما لم يقبل منه قوله - وكان ذو رعين شريفاً من حمير - عمد إلى صحيفة فكتب فيها :

ألا من يشتري سهراً بنومٍ              سعيدٌ من يبيت قرير عين
فإما حميرٌ غدرت وخانت                 فمعذرة الإله لذي رعين

ثم ختم عليها. ثم أتى بها عمراً، فقال له: ضع لي عندك هذا الكتاب، فإن لي فيه بغيةً وحاجة، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه عمرو وحمير وقبائل اليمن من قتله، قال لعمرو :

يا عمرو لا تعجل علي منيتي            فالملك تأخذه بغير حشـود
فأبى إلا قتله، فقتله ثم رجع بمن معه من جنده إلى اليمن. فقال قائل من حمير :

إن لله من رأى مثل حسـا                 ن قتيلا في سالف الأحقاب
قتلته الأقيال من خشية الجي          ش وقالوا له لباب لـبـاب
ميتكم خـيرنـا وحـيكـم                     ربٌ علينا وكلكم أربابـي

فلما نزل عمرو بن تبان أسعد أبي كرب اليمن منع منه النوم، وسلط عليه السهر - فيما يزعمون - فجعل لا ينام، فلما جهده ذلك جعل يسأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به، ويقول: منع مني النوم فلا أقدر عليه، وقد جهدني السهر، فقال له قائل منهم: والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغياً على مثل ما قتلت عليه أخاك إلا ذهب نومه، وسلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك، جعل يقتل كل من كان أمره بقتل أخيه حسان من أشراف حمير وقبائل اليمن، حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة مما تريد أن تصنع بي، قال له: وما براءتك عندي ؟ قال: أخرج الكتاب الذي كنت استودعتكه ووضعته عندك، فأخرج له الكتاب، فإذا فيه ذانك البيتين من الشعر:

ألا من يشتري سهراً بنومٍ              سعيدٌ من يبيت قرير عين
فإما حميرٌ غدرت وخانت                فمعذرة الإله لذي رعين

فلما قرأهما عمرو قال له ذو رعين: قد كنت نهيتك عن قتل أخيك فعصيتني، فلما أبيت علي وضعت هذا الكتاب عندك حجة لي عليك، وعذراً لي عندك، وتخوفت أن يصيبك إن أنت قتلته الذي أصابك، فإن أردت بي ما أراك تصنع بمن كان أمرك بقتل أخيك، كان هذا الكتاب نجاةً لي عندك، فتركه عمرو بن تبان أسعد فلم يقتله من بين أشراف حمير، ورأى أن قد نصحه لو قبل منه نصيحته. وقال عمرو بن تبان أسعد حين قتل من قتل من حمير وأهل اليمن ممن كان أمره بقتل أخيه حسان، فقال :

شرينا النوم إذ عصبت علاب               بتسهيدٍ وعقـدٍ غـير مـين
تنادوا عند غدرهم: لـبـاب                  وقد برزت معاذر ذي رعين
قتلنا من تولى المكر منـهـم               بواءً بابن رهـمٍ غـير دين
قتلناهم بحسـان بـن رهـمٍ                وحسان قـتـيل الـثـائرين
قتلناهم فلا بقـيا عـلـيهـم                 وقرت عند ذاكم كل عـين
عيون نوادبٍ يبكين شـجـواً                حرائر من نساء الفيلـقـين
أوانس بالعشاء وهـن حـور                إذا طلعت فروع الشعـريين
فنعرف بالوفاء إذا انتمـينـا                 ومن يغدر نبـاينـه بـبـين
فضلنا الناس كلهم جمـيعـاً               كفضل الإبرزي على اللجين
ملكنا الناس كلهم جـمـيعـاً               لنا الأسباب بعد التـبـعـين
ملكنا بـعـد داودٍ زمـانـاً                     وعبدنا ملوك المشـرقـين
زبرنا في ظفار زبور مجـدٍ                  ليقرأه قـروم الـقـريتـين
فنحن الطالبون لكـل وتـرٍ                  إذا قال المقـاول أين أين !
سأشفي من ولاة المكر نفسي        وكان المكر حينهم وحينـي
أطعتهم فلم أرشد وكـانـوا                غواةً أهلكوا حسبي وزينـي

قال: ثم لم يلبث عمرو بن تبان أسعد أن هلك قال هشام بن محمد: عمرو بن تبع هذا يدعى موثبان؛ لأنه وثب على أخيه حسان بفرضة نعم فقتله - قال: وفرضة نعم رحبة طوق بن مالك، وكانت نعم سرية تبع حسان بن أسعد .

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فمرج أمر حمير عند ذلك، وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال: له لخنيعة ينوف ذو شناتر، فملكهم فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير، يذكر ما ضيعت حمير من أمرها، وفرقت جماعتها ،ونفت من خيارها :

تقتل أبناها وتنفي سـراتـهـا               وتبني بأيديهم لها الذل حمـير
تدمر دنياها بطيش حلومـهـا               وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمهـا              وإسرافها تأتي الشرور فتخسر

وكان لخنيعة ينوف ذو شناتر يصنع ذلك بهم - وكان امرأ فاسقاً يزعمون أنه كان يعمل عمل لوط، ثم كان - مع الذي بلغ منهم من القتل والبغي - إذا سمع بالغلام من أبناء الملوك قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك، لئلا يملك بعد ذلك أبداً، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، وهم اسفل منه، قد أخذ سواكاً، فجعله في فيه - أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله، فيخرج على حرسه وعلى الناس وقد فضحه ؛حتى إذا كان آخر أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار أخو حسان - وزرعة كان صبياً صغيراً حين أصيب أخوه، فشب غلاماً جميلاً وسيماً ذا هيئة وعقل - فبعث إليه لخنيعة ينوف ذو شناتر؛ ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما أتاه رسوله عرف الذي يريد به، فأخذ سكيناً حديداً لطيفاً، فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في مشربته تلك أغلقها عليه وعليه، ثم وثب عليه وواثبه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فجعله في كوة مشربته تلك التي يطلع منها إلى حرسه وجنده، ثم أخذ سواكه ذلك، فجعله في فيه ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذو نواس، أرطب أم يباس ؟ فقال: سل نخماس استرطبان ذو نواس، استرطبان ذو نواس؛ لاباس. فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لخيعة ينوف ذي شناتر في الكوة مقطوع في فيه سواكه، قد وضعه ذو نواس فيها. فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث. فملكوه واستجمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير. وتهود وتهودت معه حمير، وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زماناً. وبنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة، لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر؛ وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها. ثم إن رجلاً من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون، فحملهم عليه فدانوا به.

قال هشام: زرعة ذو نواس؛ فلما تهود سمى يوسف، وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن منبه اليماني، أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلاً من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا، مجاب الدعوة، وكان سائحاً ينزل القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد؛ فإذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئاً، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى بها حتى يمسى، وكان في قرية من قرى الشأم يعمل عمله ذلك مستخفياً؛ إذ فطن لشأنه رجل من أهلها، يقال له صالح، فأحبه صالح حباً لم يحبه شيئاً كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد اتبعه صالح، وفيميون لا يدري، فجلس صالح منه منظر العين، مستخفياً منه لا يحب أن يعلم مكانه، وقام فيميون يصلى، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين - الحية ذات الرءوس السبعة - فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح، ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه فعيل عوله، فصرخ: يا فيميون، التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ وأمسى، وانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فكلمه، فقال: يا فيميون، يعلم الله ما أحببت شيئاً حبك قط، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت. قال: ما شئت، أمرى كما ترى؛ فإن ظننت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية أن يفطنوا لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به ضر، دعا له فشفى، وإذا دعى إلى أحد به الضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابنٌ ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا ياتي أحداً إذا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوباً، ثم جاءه فقال له: يا فيميون؛ إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملاً، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال: ما تريد أن تعمل في بيتك ؟ قال: كذا وكذا. ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي، ثم قال: يا فيميون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادع الله له، فقال فيميون حين رأى الصبي: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك في نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه، وامنعه منه، فقام الصبي ليس به بأس .

وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشأم مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: أفيميون ! قال: نعم، قال: ما زلت أنتظرك وأقول: متى هوجاء ؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لاتبرح حتى نقوم على، فإنى ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه م انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدى عليهما فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران - وأهل نجران يومئذ على دين العرب، تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لهم عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلى النساء. ثم خرجوا، فعكفو عليها يوماً - فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحاً،، فكان فيميون إذا قام من الليل - في بيت له أسكنه إياه سيده الذي ابتاعه - يصلى، استسرج له البيت نوراً، حتى يصبح من غير مصباح؛ فرأى ذلك سيده فأعجبه ما رأى، فسأله عن دينه فأخبره به، فقال له فيميون: إنما أنتم في باطل؛ وإن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع؛ لو دعوت عليها الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له. قال: فقال له سيده: فافعل؛ فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما كنا عليه، قال: فقام فيميون، فتطهر ثم صلى ركعتين، ثم دعا الله عليهما، فأرسل الله يحاً فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم. ثم دخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.

فهذا حديث وهب بن منبه في خبر أهل نجران.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، مولى لبني هاشم، عن محمد بن كعب القرظي. قال: وحدثني محمد بن إسحاق أيضاً عن بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران - ونجران القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما أن نزلها فيميون - قال: ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله ابن الثامر، مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحتمله؛ أخشى ضعفك عنه. فلما أبى عليه - والثامرأبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان - فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح؛ لكل اسم قدح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً؛ حتى إذا مر بالأسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها، لم يضره شيء؛ فقام إليه فأخذه، ثم أتى صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال له: ما هو ؟ قال؛ كذا وكذا، قال: وكيف علمته ؟ فأخبره كيف صنع، قال: فقال: يا بن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا أتى نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق أحدٌ بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفى، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت على أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك ! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سلطت على قتلتني، فوحد الله ذلك الملك، وشهد بشهادة عبد الله ابن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله؛ فهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.

فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن ذلك. والله أعلم.

قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف؛ ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، وأفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم.

قال: وقد سمعت بعض أهل اليمن يقول: إن الذي أفلت منهم رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض.

قال: وأثبت الحديثين عندى الذي حدثني أنه دوس ذو ثعلبان.

ثم رجع ذو نواس بمن معه من جنوده إلى صنعاء من أرض اليمن.

ففي ذي نواس وجنوده تلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: أنزل الله على رسوله: "قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود" إلى قوله: "بالله العزيز الحميد" .

يقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله ابن الثامر رئيسهم وإمامهم.

ويقال: عبد الله ابن الثامر قُتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين؛ وإنما قتل ذو نواس من كان بعده من أهل دينه.
وأما هشام بن محمد فإنه قال: لم يزل ملك اليمن متصلاً لا يطمع فيه طامع، حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان. قال: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان، وكان يهودياً، فقدم عليه يهودي، يقال له دوس من أهل نجران، فأخبره أن أهل نجران قتلوا ابنين له ظلماً، واستنصره عليهم - وأهل نجران نصارى - فحمي ذو نواس لليهودية، فغزا أهل نجران، فأكثر فيهم القتل، فخرج رجل من أهل نجران، حتى قدم على ملك الحبشة، فأعلمه ما ركبوا به، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إليّ بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك، وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده؛ فإذا أخرت يده عنها انثبعت دماً، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: "ربي الله". فكتب فيه إلى عمر يخبره بأمره، فكتب إليهم عمر: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه. ففعلوا.

وخرج دوس ذو ثعلبان، حين أعجز القوم على وجهه ذلك؛ حتى قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا، ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود؛ ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة؛ فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك، واستحل منك ومن أهل دينك ما استحل. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره، وطلب ثأره ممن بغى عليه على أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي صاحب الحبشة بعث معه سبعين ألفاً من الحبشة وأمر عليهم رجلاً منهم من أهل الحبشة، يقال له أرياط؛ وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان، حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذو نواس فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق، لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم يكن له حرب غير أنه ناوش ذو نواس شيئاً من قتال، ثم انهزموا، ودخلها أرياط بمجموعه، فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به. ووطئ أرياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ثم أقام بها، قد ضبطها وأذلها، فقال قائل من أهل اليمن، وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة؛ فقال: " لا كدوس ولا كأعلاق رحله ".وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة فقال: "لا كدوس ولا كأعلاق رحله".يعني ما ساق إليهم من الحبشة، فهي مثل باليمن إلى اليوم.

وقال ذو جدنٍ الحميري وهو يذكر حمير، وما دخل عليها من الذل بعد العز الذي كانوا فيه، وما هدم من حصون اليمن، وكان أرياط قد أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان؛ حصوناً لم يكن في الناس مثلها، فقال:

هونك ليس يرد الدمع ما فاتـا               لا تهلكي أسفاً في ذكر من ماتا
أبعد بينـون لا عـينٌ ولا أثـرٌ                  وبعد سلحين يبنى الناس أبياتاً !

وقال ذو جدن الحميري في ذلك:

دعيني لا أبا لك لن تطـيقـي                لحاك الله قد أنزفت ريقـي
لدى عزف القيان إذ انتشينـا                 وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس علي عاراً                إذا لم يشكني فيها رفـيقـي
فإن المـوت لا ينـهـاه نـاهٍ                      ولو شرب الشفاء من النشوق
ولا مترهبٌ في أسـطـوانٍ                     يناطح جدره بيض الأنـوق

وغمدان الذي حدثت عنـه              بنوه ممسكاً في رأس نيق
بمنهمةٍ وأسفلـه جـروبٌ                وحر الموحل اللثق الزليق
مصابيح السليط تلوح فـيه             إذا يمسى كتوماض البروق
ونخلته التي غرسـت إلـيه            يكاد البسر يهصر بالعذوق
فأصبح بعد جدتـه رمـاداً                وغيَّر حسنه لهب الحريق
وأسلم ذو نواسٍ مستمـيتـاً           وحذر قومه ضنك المضيق

وقال ابن الذئبة الثقفي، وهو يذكر حمير حين نزل بها السودان وما أصابوا منهم:

لعمرك ما للفتى من مـفـر               مع الموت يلحقه والكـبـر
لعمرك ما للفتى صـحـرةٌ                  لعمرك ما إن له مـن وزر
أبعد قبـائل مـن حـمـيرٍ                     أتوا ذا صباحٍ بذات العبـر
بألـب ألـوبٍ وحـــرابةٍ                        كمثل السماء قبيل المطـر
يصم صياحهم المـقـربـات                 وينفون من قاتلوا بالـزمـر
سعالى كمثل عـديد الـتـرا               ب ييبس منهم رطاب الشجر

وأما هشام بن محمد، فإنه زعم أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. قال: فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحداً، فأبوا وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم، فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها، فلكم المال والأرض، واستبقوا الرجال والذرية. فقال عظيمهم: اكتب بذلك إلى الملك، فكتب إلى النجاشي، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك منهم، فسار بهم ذو نواس حتى إذا دخل بهم صنعاء، قال لعظيمهم: وجه ثقات أصحابك في قبض هذه الخزائن. ففرق أصحابه في قبضها ودفع إليهم المفاتيح، وسبقت كتب ذي نواس إلى كل ناحية: أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم؛ فقتلت الحبشة، فلم يبق منهم إلا الشريد. وبلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، فجهز إليه سبعين ألفاً، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة الأشرم؛ فلما صاروا إلى صنعاء ورأى ذو نواس ألا طاقة له بهم ركب فرسه، واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به.

وأقام أبرهة ملكاً على صنعاء ومخالفيها، ولم يبعث إلى النجاشي بشيء، فقيل للنجاشي: إنه قد خلع طاعتك، ورأى أنه قد استغنى بنفسه، فوجه إليه جيشاً عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث إليه أبرهة أنه يجمعني وإياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني؛ فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا. فرضي بذلك أرياط، وأجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعاً يلتقيان فيه، وأكمن أبرهة لإرياط عبداً له يقال له أرنجده، في وهدةٍ قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله، فقال أبرهة لأرنجده: احتكم فقال: لا تدخل امرأة اليمن على زوجها حتى يبدأ بي، قال: لك ذاك، فغبر بذلك زماناً. ثم إن أهل اليمن عدوا عليه فقتلوه، فقال أبرهة: قد أنى لكم أن تكونوا أحراراً، وبلغ النجاشي قتل أرياط، فآلى ألا يكون له ناهية دون يهريق دم أبرهة، ويطأ بلاده، وبلغ أبرهة أليته، فكتب إليه: أيها الملك؛ إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، قدم عليّ يريد توهين ملكك، وقتل جندك، فسألته أن يكف عن قتالي إلى أن أوجه إليك رسولاً، فإن أمرته بالكف عني، وإلا سلمت إليه جميع ما أنا فيه، فأبى إلا محاربتي، فحاربته فظهرت عليه، وإنما سلطاني لك، وقد بلغني أنك حلفت ألا تنتهي حتى تهريق دمي، وتطأ بلادي. وقد بعثت إليك بقارورة من دمي، وجراب من تراب أرضي؛ وفي ذلك خروجك من يمينك، فاستتم أيها الملك يدك عندي؛ فإنما أنا عبدك وعزي عزك. فرضي عنه النجاشي وأقره على عمله.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، وكان في جنده حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم؛ ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئاً، فابرز لي وأبرز لك، فأينا ما أصاب صاحبه انصرف إليه جنده.

فأرسل إليه أرياط: أن قد أنصفتني فاخرج. فخرج إليه أبرهة، وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلاً عظيماً طويلاً وسيماً وفي يده حربة وخلف أبرهة ربوة تمنع ظهره وفيها غلام يقال له عتودة، فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها على رأس أبرهة - يريد يافوخه - فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته؛ فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، فقال عتودة في قتله أرياط: "أنا عتوده، من فرقة أرده، لا أبٌ ولا أم نجده"، أي يقول: قتلك عبده، قال: فقال الأشرم عند ذلك لعتودة: حكمك يا عتودة .. وإن كنت قتلته، ولا ينبغي لنا ذلك إلا ديته، فقال عتودة: حكمي ألا تدخل عروس من أهل اليمن على زوجها منهم حتى أصيبها قبله. فقال: ذلك لك، ثم أخرج دية أرياط، وكان كل ما صنع أبرهة بغير علم النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغه ذلك غضب غضباً شديداً، وقال: عدا علي أميري، فقتله بغير أمري. ثم حلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته؛ فلم بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه، ثم ملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعث إليه إلى النجاشي، وكتب إليه: أيها الملك؛ إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى منه على أمر الحبشة، وأضبط لها وأسوس لها، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرض اليمن، ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه.

فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه: أن اثبت على عملك بأرض اليمن، حتى يأتيك أمري. فلما رأى أبرهة أن النجاشي قد رضي عنه، وملكه على الحبشة وأرض اليمن بعث إلى أبي مرة بن ذي يزن، فنزع منه امرأته ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان - وأبو ريحانة ذو جدن، وقد كانت ولدت لأبي مرة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد أبي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة، وهرب منه أبو مرة فأقام أبرهة باليمن وغلامه عتودة رجل من حمير - أو من خثعم - فقتله، فلما بلغ أبرهة قتله - وكان رجلاً حليماً سيداً شريفاً ورعاً في دينه من النصرانية - قال: قد أنى لكم يا أهل اليمن أن يكون فيكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال؛ إنى والله لو علمت حين حكمته أنه يسأل الذي سأل ما حكمته، ولا أنعمته عيناً، وايم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا يتبعكم مني في قتله شيء تكرهونه .

قال: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب.

فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك، فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا ؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع من قولك: أصرف إليه حاج العرب، فغضب فجاء فقعد فيها؛ أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وعند أبرهة رجال من العرب، قد قدموا عليه يلتمسون فضله، منهم محمد بن خزاعي بن حزابة الذكواني، ثم السلمي، في نفر من قومه، معه أخ له، يقال له قيس بن خزاعي؛ فبينا هم عنده غشيهم عيد لأبرهة، فبعث إليهم فيه بغدائه، وكان يأكل الخصى، فلما أتى القوم بغدائه قالوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تعيبنا به العرب ما بقينا، فقام محمد بن خزاعي، فجاء أبرهة فقال: أيها الملك، هذا يوم عيد لنا، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدي، فقال له أبرهة: فسنبعث إليكم ما أحببتم؛ فإنما أكرمتكم بغدائي لمنزلتكم مني.

ثم إن أبرهة توج محمد بن خزاعي، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس؛ كنيسته التي بناها. فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة - وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له - بعثوا إليه رجلاً من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي، فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً، وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت.

وأما هشام بن محمد، فإنه قال: بنى أبرهة بعد أن رضي عنه النجاشي وأقره على عمله كنيسة صنعاء، فبناها بناء معجباً لم ير مثله، بالذهب والأصباغ المعجبة، وكتب إلى قيصر يعلمه أنه يريد بناء كنيسة بصنعاء، يبقى أثرها وذكرها، وسأله المعونة له على ذلك فأعانه يالصناع والفسيفساء والرخام، وكتب أبرهة إلى النجاشي حين استتم بناؤها: إني أريد أن أصرف إليها حاج العرب. فلما سمعت بذلك العرب أعظمته، وكبر عليها، فخرج رجل من بني مالك بن كنانة حتى قدم اليمن، فدخل الهيكل، فأحدث فيه، فغضب أبرهة، وأجمع على غزو مكة وهدم البيت، فخرج سائراً بالحبشة ومعه الفيل، فلقيه ذو نفر الحميري، فقاتله فأسره، فقال: أيها الملك؛ إنما أنا عبدك فاستبقني، فإن حياتي خير لك من قتلي، فاستبقاه، ثم سار فلقيه نفيل ابن حبيب الخثعمي، فقاتله فهزم أصحابه، وأسره، فسأله أن يستبقيه، ففعل وجعله دليله في أرض العرب.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ثم إن أبرهة حين أجمع السير إلى البيت أمر الحبشان فتهيأت وتجهزت، وخرج معه بالفيل - قال: وسمعت العرب بذلك فأعظموه، وفظعوا به، ورأوا جهاده حقاً عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام - فخرج له رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له: ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه منهم من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، وعرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر أسيراً، فأتي به فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك، لا تقتلني؛ فإنه عسى أن يكون كوني معك خيراً لك من قتلي. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق - وكان أبرهة رجلاً حليماً - ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيراً، فأتى به؛ فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلى خثعم، شهران وناهس بالسمع والطاعة، فأعفاه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعب في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك؛ إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف، وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة - يعنون الكعبة - ونحن نبعث معك من يدلك. فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

ولما نزل أبرهة المغمس بعث رجلاً من الحبشة، يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم؛ وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به؛ فتركوا ذلك، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم؛ ثم قل له: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم؛ إنما جئت لهدم البيت؛ فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن لم يرد حربي فأتني به .

فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة؛ هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم - أو كما قال - فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا من دفع عنه - أو كما قال له - فقال له حناطة: فانطلق إلى الملك، فإنه قد أمرني أن آتيه بك - فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر- وكان له صديقاً- حتى دل عليه، وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً أو عشياً ! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيساً سائس الفيل لي صديق، فسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي.

فبعث ذو نفر إلى أنيس، فجاء به، فقال: يا أنيس، إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، ولقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل، فكلم أنيس أبرهة فقال: أيها الملك؛ هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذن له عليك، فيكلمك بحاجته وأحسن إليه. قال: فأذن له أبرهة - وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً وسيماً جسيماً - فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك إلى الملك، فقال له ذلك الترجمان، فقال عد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي. فلما فقال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه، قال: ما كان ليمنع مني، قال: أنت وذاك، اردد إلي إبلي.

وكان - فيما زعم بعض أهل العلم - قد ذهب عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة بعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد بني كنانة - وخويلد بن واثلة الهذلي - وهو يومئذ سيد هذيل - فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم.

وكان أبرهة قد رد على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة الباب باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

يا رب لا أرجو لهم سواكا                يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا                امنعهم أن يخربوا قراكا

ثم قال أيضاً:

لا هم إن العبـد يمـن             ع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صـلـيبـهـم               ومحالهم غدواً محالـك
فلئن فعلت فـربـمـا                أولى فأمرٌ ما بدا لـك
ولئن فعـلـت فـإنـه                 أمرٌ تتم به فـعـالـك
جروا جموع بـلادهـم             والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكـيدهـم           جهلاً وما رقبوا جلالك

وقال أيضاً:

وكنت إذا أتى باغٍ بـسـلـمٍ             نرجى أن تكون لنا كـذلـك
فولوا لم ينالوا غـير خـزيٍ              وكان الحين يهلكهم هنالـك
ولم أسمع بأرجس من رجالٍ          أرادوا العز فانتهكوا حرامك

ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه - وكان اسم الفيل محموداً - وأبرهة مجدمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن؛ فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنبه، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشداً من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشأم ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره، وحجران في رجليه مثل الحمص والعدس لا تصيب منهم أحداً إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :

أين المفر والإلـه الـطـالـب             والأشرم المغلوب غير الغالب !

وقال نفيل أيضاً:

ألاحـييت عـنـا يا ردينـا             نعمناكم مع الإصباح عينـا
أتانا قابسٌ منـكـم عـشـاءً         فلم يقدر لقابسكـم لـدينـا
ردينة لو رأيت ولكم تـريه            لدى جنب المحصب ما رأينا
إذاً لعذرتني وحمـدت رأيي          ولم تأسى على ما فات بينـا
حمدت الله إذ عاينت طـيراً          وخفت حجارةً تلقى علينـا
فكل القوم يسأل عن نـفـيلٍ         كأن عليّ للحبشـان دينـا !

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملةً أنملةً، كلما سقطت منه أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحاً ودماً حتى قدموا به صنعاء؛ وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه - فيما يزعمون.

حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه. قال: وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن السلماني، عن أبيه. قال: وحدثنا عبد الله ابن عمرو بن زهير الكعبي، عن أبي مالك الحميري عن عطاء بن يسار. قال: وحدثنا محمد بن أبي سعد الثقفي عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمه أبي رزين العقيلي. قال: وحدثنا سعيد بن مسلم، عن عبد الله ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ دخل حديث بعضهم في حديث بعض؛ قالوا: كان النجاشي قد وجه أرياط أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلي طاعته، فأجابوه فقتل أرياط، وغلب على اليمن، ورأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج إلى البيت الحرام، فسأل: أين يذهب الناس ؟ فقالوا: يحجون إلى بيت الله بمكة، قال: مم هو ؟ قالوا: من حجارة، قال: فما كسوته ؟ قالوا: ما يأتي هاهنا من الوصائل، قال والمسيح لأبنين لكم خيراً منه ! فبنى لهم بيتاً، عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وحفه بالجوهر، وجعل له أبواباً عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب، وفصل بينهما بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل لها حجاباً، وكان يوقد بالمندل، ويلطخ جدره بالمسك، فيسوده حتى يغيب الجوهر. وأمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون ويتألهون، ونسكوا له، وكان نفيل الخثعمي يؤرض له ما يكره، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحداً يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفاً فألقاها فيه. فأخبر أبرهة بذلك، فغضب غضباً شديداً، وقال: إنما فعلت هذا العرب غضباً لبيتهم، لأنقضنه حجراً حجراً. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، ويسأله أن يبعث إليه بفيله "محمود" - وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة - فبعث به إليه، فلما قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير، ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وكان نفيل صديقاً لعبد المطلب، فكلمه في إبله، فكلم نفيل أبرهة، فقال: أيها الملك، قد أتاك سيد العرب وأفضلهم قدراً، وأقدمهم شرفاً، يحمل على الجياد، ويعطى الأموال، ويطعم ما هبت الريح. فأدخله على أبرهة، فقال: حاجتك ! قال: ترد على إبلي، فقال: ما أرى ما بلغني عنك إلا الغرور، وقد ظننت أنك تكلمني في بيتكم الذي هو شرفكم، فقال عبد المطلب: اردد على إبلي، ودونك البيت؛ فإن له رباً سيمنعه. فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال، وأشعرها، وجعلها هدياً، وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم، وأوفى عبد المطلب على حراء ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطلب :

لا هم إن المرء يمـن              ع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صلـيبـهـم               ومحالهم غدواً محالك
إن كنت تاركهم وقب              لتنا فأمرٌ ما بدا لـك

قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجله وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئاً إلا هشمته، وإلا نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ما كان الجدرى والحصبة والأشجار المرة، فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلاً أتياً، فذهب بهم فألقاهم في البحر.

قال: وولى أبرهة ومن بقى معه هراباً، فجعل أبرهة يسقط عضواً عضواً. وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الفيل الآخر فشجع فحصب. ويقال: كانت كانت ثلاثة عشر فيلا، ونزل عبد المطلب من حراء، فأقبل رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا: أنت كنت أعلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئى بها مرار الشجر: الحرمل والحنضل والعشر، ذلك العام.

قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة ملك اليمن ابنه في الحبشة يكسوم بن أبرهة - وبه كان يكنى - فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة؛ فنكحوا نساءهم، وقتلوا رجالهم، واتخذوا أبنائهم تراجمة بينهم وبين العرب.
قال: ولما رد الله الحبشة عن مكة، فأصابهم ما أصابهم من النقمة، عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله، قاتل الله عنهم، فكفاهم مؤونة عدوهم.

قال: ولما هلك يكسوم بن أبرهة ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة، فلما طال البلاء على أهل اليمن - وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروقاً، وأخرجوا الحبشة من اليمن ثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة - خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وكان يكنى بأبي مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه أن يخرجهم عنه، ويليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئاً مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر - وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العرب من العراق - فشكا إليه ما هم فيه من البلاء والذل، فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك، فأخرج بك معي. قال: فأقام عنده حتى خرج النعمان إلى كسرى، فخرج معه إلى كسرى، فلما قدم النعمان على كسرى وفرغ من حاجته، ذكر له سيف بن ذي يزن وما قدم له، وسأل أن يأذن له عليه، ففعل. وكان كسرى إنما يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه، وكان تاجه مثل القنقل العظيم، مضروباً فيه الياقوت الزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة، معلقاً بسلسلة من ذهب في رأس طاق مجلسه ذلك، كانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه في تاجه، فإذا استوى في مجلسه كشف الثياب عنه فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له، فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك، ثم قال: ايها الملك غلبتنا على بلاد الأغربة، فقال كسرى: أي الأغربة ؟ الحبشة أم السند ؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني عليهم، وتخرجهم عني، ويكون ملك بلادي لك، فأنت أحب إلينا منهم. قال: بعدت أرضك من أرضنا، وهي أرض قليلة الخير؛ إنما بها الشاء والبعير، وذلك مما لا حاجة لنا به، فلم أكن لأورط جيشاً من فارس بأرض العرب. لا حاجة لي بذلك ! ثم أمر فأجيز بعشرة آلاف درهم وافٍ، وكساه كسوة حسنة.

فلما قبض ذلك سيف بن ذي يزن، خرج فجعل ينثر الورق للناس ينهبها الصبيان والعبيد والإماء، فلم يلبث ذلك أن دخل على كسرى، فقيل له: العربي الذي أعطيته ما أعطيته ينثر دراهمه للناس ينهبها العبيد والصبيان والإماء.

فقال كسرى: إن لهذا الرجل لشأناً، ائتوني به، فلما دخل عليه قال: عمدت إلى حباء الملك الذي حباك به تنثره للناس ! قال: وما أصنع بالذي أعطاني الملك ! ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة - يرغبه فيها لما رأى من زهادته فيها - إنما جئت الملك ليمنعني من الظلم، ويدفع عنى الذل، فقال له كسرى: أقم عندي حتى أنظر في أمرك. فأقام عنده.

وجمع كسرى مرازبته وأهل الرأي ممن كان يستشيره في أمره، فقال: ما ترون في أمر هذا الرجل، وما جاء له ؟ فقال قائل منهم: أيها الملك، إن في سجونك رجالاً قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن هلكوا كان الذي أردت بهم، وإن ظهروا على بلاده كان ملكاً ازددته إلى ملكك. فقال: إن هذا الرأي ! أحصوا لي كم في سجوني من الرجال؛ فحسبوا له، فوجدوا في سجونه ثمانمائة رجل، فقال: انظروا إلى أفضل رجل منهم حسباً وبيتاً، اجعلوه عليهم. فوجدوا أفضلهم حسباً وبيتاً وهرز - وكان ذا سن - فبعثه مع سيف، وأمره على أصحابه، ثم حملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، وما يصلحهم في البحر.

فخرجوا حتى إذا لججوا في البحر، غرقت من السفن سفينتان بما فيهما، فخلص إلى ساحل اليمن من أرض عدن ست سفائن، فيهن ستمائة رجل، فيهم وهرز، وسيف بن ذي يزن، فلما اطمأنا بأرض اليمن، وقال وهرز لسيف: ما عندك ؟ قال: ما شئت من رجل عربي، وفرس عربي؛ ثم اجعل رجلي مع رجلك؛ حتى نموت جميعاً أو نظهر جميعاً. قال وهرز: أنصفت وأحسنت ! فجمع إليه سيف من استطاع من قومه، وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار إليهم حتى إذا تقارب العسكران، ونزل الناس بعضهم إلى بعض بعث وهرز ابناً له كان معه - يقال له نوزاذ - على جريدة خيل، فقال له: ناوشهم القتال، حتى ننظر كيف قتالهم. فخرج إليهم فناوشهم شيئاً من قتال، ثم تورط في مكان لم يستطع الخروج منه فقتلوه، فزاد ذلك وهرز حنقاً عليهم، وجداً على قتالهم.

فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا: ترى رجلاً على الفيل عاقداً تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء، قال: نعم، قالوا: ذاك ملكهم، قال: اتركوه. فوقفوا طويلاً، ثم قال: علام هو ؟ قالوا: قد تحول على الفرس، فقال: اتركوه، فوقفوا طويلاً، ثم قال: علام هو ؟ قالوا: قد تحول على البغلة، قال: ابنة الحمار ! ذل وذل ملكه، هل تسمعون أنى سأرميه، فإن رأيتم أصحابه وقوفاً لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإنى قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به، فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم.

ثم أوتر قوسه - وكانت فيما زعموا لا يوترها غيره من شدتها - ثم أمر بحاجبيه فعصبا له، ثم وضع قوسه نشابة فمغط فيها حتى إذا ملأها أرسلها فصك بها الياقوتة التي بين عينيه، فتغلغلت النشابة في رأسه، حتى خرجت من قفاه، وتنكس عن دابته؛ واستدارت الحبشة، ولاثت به، وحملت عليهم الفرس، وانهزمت الحبشة، فقتلوا وهرب شريدهم في كل وجه، فأقبل وهرز يريد صنعاء يدخلها؛ حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبداً ،اهدموا الباب. فهدم باب صنعاء، ثم دخلها ناصباً رايته يساربها بين يديه.

فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى: إنى قد ضبطت لك اليمن، وأخرجت من كان بها من الحبشة؛ وبعث إليه بالأموال. فكتب إلبيه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جزية وخرجاً يؤديه إليه في كل عام معلوم، يبعث إليه في كل عام. وكتب إلى وهرز أن ينصرف إليه. فانصرف إليه وهرز، وملك سيف بن ذي يزن على اليمن، وكان أبوه ذو يزن من ملوك اليمن.

فهذا ما حدثنا به ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، من أمر حمير والحبشة، وملكهم وتوجيه كسرى من وجه لحرب الحبشة باليمن.

وأما هشام بن محمد، فإنه قال: ملك بعد أبرهة يكسوم، ثم مسروق. قال: وهو الذي قتله وهرز في ملك كسرى بن قباذ، ونفى الحبشة عن اليمن.

قال: وكان من حديثه أن أبا مرة الفياض ذا يزن، كان من أشراف اليمن، وكانت تحته ريحانة ابنة ذي جدن، فولدت له غلاماً سماه معد يكرب، وكانت ذات جمال، فانتزعها الأشرم من أبي مرة، فاستنكحها، فخرج أبو مرة من اليمن، فلحق ببعض ملوك بنى المنذر - أظنه عمرو بن هند - فسأله أن يكتب له إلى كسرى كتاباً، يعلمه فيه قدره وشرفه ونزوعه إليه فيما نزع إليه فيه. فقال: لا تعجل، فإن لي عليه في كل سنة وفادة، وهذا وقتها، فأقام قبله حتى وفد عليه معه، فدخل عمرو بن هند على كسرى، فذكر له شرف ذي يزن وحاله، واستأذن له، فدخل فأوسع له عمرو، فلما رأى ذلك كسرى علم أن عمراً لم يصنع به ذلك بين يديه إلا لشرفه، فأقبل عليه، فألطفه وأحسن مسألته وقال له: ما الأمر الذي نزع بك ؟ قال: أيها الملك، إن السودان قد غلبونا على بلادنا، وركبوا منا أموراً شنيعة، أجل الملك عن ذكرها، فلو أن الملك تناولنا بنصره من غير أن نستنصره، لكان حقيقاً بذلك لفضله وكرمه وتقدمه لسائر الملوك. فكيف وقد نزعنا إليه، مؤملين له، راجين أن يقصم الله عدونا وينصرنا عليهم، وينتقم لنا به منهم ! فإن رأى الملك أن يصدق ظننا، ويحقق رجاءنا، ويوجه معى جيشاً ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها إلى ملكه - فإنها من أخصب البلدان وأكثرها خيراً، وليست كما يلي الملك من بلاد العرب - فعل.

قال: قد علمت أن بلادكم كما وصفت، فأي السودان غلبوا عليها ؟ الحبشة أم السند ؟ قال: بل الحبشة، قال أنو شروان: إنى لأحب أن أصدق ظنك، وأن تنصرف بحاجتك؛ ولكن المسلك للجيش إلى بلادك صعب، وأكره أن أغرره بجندى، ولى فيما سألت نظر، وأنت على ما تحب.

وأمر بإنزاله وإكرامه؛ فلم يزل مقيماً عنده حتى هلك. وقد كان أبو مرة قال قصيدة بالحميرية يمتدح فيها كسرى، فلما ترجمت له، أعجب بها.

وولدت ريحانة ابنة ذي جدن لأبرهة الأشرم غلاماً، فسماه مسروقاً، ونشأ معد يكرب بن ذي يزن مع أمه ريحانة في حجر أبرهة فسبه ابن لأبرهة، فقال له: لعنك الله، ولعن أباك وكان معد يكرب لا يحسب إلا أن الأشرم أبوه، فأتى أمه فقال لها: من أبى ؟ قالت: الأشرم، قال: لا والله، ما هو أبى، ولو كان أبى ما سبّني فلان، فاخبرته أن أباه أبو مرة الفياض، واقتضت عليه خبره، فوقع ذلك في نفس الغلام، ولبث بعد ذلك لبثاً.

ثم إن الأشرم مات، ومات ابنه يكسوم، فخرج ابن ذي يزن قاصداً إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامى عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعاً إلى كسرى، فاعترضه يوماً وقد ركب، فصاح به: أيها الملك، إن لي عندك ميراثاً فدعا به كسرى لما نزل، وقال: من أنت ؟ وما ميراثك ؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، الذي وعدته أن تنصره، فمات ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فرق له كسرى، وأمر له بمال، فخرج الغلام، فجعل ينثر الدراهم، فانتهبها الناس، فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت ؟ قال: إني لم آتك للمال، إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل. فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه: أن أقم حتى أنظر في أمرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك رجال ذوو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفراً كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد من الصواب.

قال كسرى: هذا الرأي، وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر، فقود عليهم قائداً من أساورته، يقال له وهرز، كان كسرى يعد له بألف أسوار وقواهم وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، فركبوا البحر، فغرقت من الثماني السفن سفينتان، وسلمت ست، فخرجوا بساحل حضرموت، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، ونزل وهرز على سيف البحر، وجعل البحر وراء ظهره، فلما نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم، فأرسل إلى وهرز: ما جاء بك، وليس معك إلا من أرى، ومعي من ترى ! لقد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت أذنت لك؛ فرجعت إلى بلادك ولم أهجك؛ ولم ينلك ولا أحداً من أصحابك مني ولا من أحد من أصحابي مكروه، وإن أحببت ناجزتك الساعة، وإن أحببت أجلتك حتى تنظر في أمرك، وتشاور أصحابك.

فأعظم وهرز أمرهم. ورأى أنه لا طاقة له بهم، فأرسل إلى مسروق: بل تضرب بيني وبينك أجلاً، وتعطيني موثقاً وعهداً، وتأخذ مثله مني؛ ألا يقاتل بعضنا بعضاً حتى ينقضي الأجل، ونرى رأينا.

ففعل ذلك مسروق، ثم أقام كل واحد منهما في عسكره، حتى إذا مضى من الأجل عشرة أيام، خرج ابن وهرز يسير على فرس له، حتى دنا من عسكرهم، وحمله فرسه، فتوسط به عسكرهم، فقتلوه - ووهرز لا يشعر به - فلما بلغه قتل ابنه أرسل إلى مسروق: قد كان بيني وبينكم ما قد علمتم، فلم قتلم ابني ؟ فأرسل إليه مسروق: إن ابنك حمل علينا، وتوسط عسكرنا، فثار إليه سفهاء من سفهائنا، فقتلوه، وقد كنت لقتله كارهاً. قال وهرز للرسول: قل له: إنه لم يكن ابني، إنما كان ابن زانية، ولو كان ابني لصبر ولم يغدر حتى ينقضي الأجل بالذي بيننا. ثم أمر فرمي به في الصعيد حيث ينظر إلى جثمانه، وحلف ألا يشرب خمراً، ولا يدهن رأسه حتى ينقضى الأجل بينه وبينهم.

فلما انقضى الأجل إلا يوماً واحداً، أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة فأحرق، ولم يدع منه إلا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكل زاد معهم. فقال لأصحابه: كلوا هذا الزاد، فأكلوه، فلما انتهوا أمر بفضله فألقي في البحر، ثم قام فيهم خطيباً، فقال: أما حرقت من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم أبداً، وأما ما حرقت من ثيابكم، فإنه كان يغيظني إن ظفرت بكم الحبش أن يصير ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر، فإني كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يوماً واحداً، فإن كنتم قوماً تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك. وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري؛ فإني لم أكن لأمكنهم من نفسي أبداً. فانظروا ما تكون حالكم، إذا كنت رئيسكم وفعلت هذا بنفسي ! فقالوا: لا بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفر.

فلما كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجل عبى أصحابه، وجعل البحر خلفه، وأقبل عليهم يحضهم على الصبر، ويعلمهم أنهم منه بين خلتين، إما ظفروا بعدوهم، وإما ماتوا كراماً، وأمرهم أن تكون قسيهم موترة وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقاً بالبنجكان - ولم يكن أهل اليمن رأوا النشاب قبل ذلك - وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البييضة، لا يرى أن دون الظفر شيئاً. وكان وهرز قد كل بصره فقال: أروني عظيمهم، فقالوا: هو صاحب الفيل؛ ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب فرساً، فقالوا: قد ركب فرساً، فقال: ارفعوا لي حاجبي، وقد كانا سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما بعصابة، ثم أخرج نشابة، فوضعها في كبد قوسه، وقال: أشيروا لي إلى مسروق، فأشاروا له حتى أثبته، ثم قال لهم: ارموا، فرموا، ونزع في قوسه حتى إذا ملأها سرح النشابة، فأقبلت كأنها رشاء، حتى صكت جبهة مسروق، فسقط عن دابته، وقتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثرة، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صريعاً، فلم يكن دون الهزيمة شيء، وأمر وهرز بجثة ابنه من ساعته فووريت، وأمر بجثة مسروق، فألقيت مكانها، وغنم من عسكرهم مالا يحصى ولا يعد كثرة، وجعل الأسوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين، لا يمتنعون منه.

فقال وهرز: أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحداً. فقتلت الحبشة يومئذ حتى لم يبق منهم كثير أحد، وهرب رجل من الأعراب على جمل له، فركضه يوماً وليلة، ثم التفت. فإذا في الحقيبة نشابة، فقال: لأمك الويل أبعدٌ أم طول مسير - حسب أن النشابة لحقته. وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء، وغلب على بلاد اليمن، وفرق عماله في المخاليف.

وفي ابن ذي يزن وما كان منه ومن وهرز والفرس، يقول أبو الصلت أبو أمية بن أبي الصلت الثقفي: ?ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزنٍ=ريم في البحر للأعداء أحوالا

أتى هرقل وقد شالت نعـامـنـهـم                  فلم يجد عنده بعـض الـذي قـالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد سـابـعةٍ               من السنين لقـد أبـعـدت إيغـالا
حتى أتى ببني الأحرار يحمـلـهـم                 إنك لعمري لقد أطولت قـلـقـالا
من مثل كسرى شهنشاه الملوك لـه            أو مثل وهرز يوم الجيش إذ ضالا !
لله درهم من عـصـبةٍ خـرجـوا                       ما إن ترى لهم في الناس أمـثـالا
غرٌ جحاجـحةٌ، بـيضٌ مـرازبةٌ ،                        أسدٌ تربب في الغيضـاتٍ أشـبـالا
يرمون عن شدفٍ كأنـهـا عـبـطٌ                       في زمخرٍ يعجل المرمي إعجـالا
أرسلت أسداً على سود الكلاب فقـد              أضحى شريدهم في الأرض فـلالا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مـتـكـئاً                   في رأس غمدان داراً منك محـلالا
وأطل بالمسك إذ شالت نعامـتـهـم                  وأسبل اليوم في بـرديك إسـبـالا
تلك المكارم لا قعبـان مـن لـبـنٍ                     شيباً بماءٍ فـعـادا بـعـد أبـوالا

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: فلما انصرف وهرز إلى كسرى، وملك سيفاً على اليمن، عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولا، وتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بحرابهم، فمكث بذلك حيناً غير كثير. ثم إنه خرج يوماً والحبشة تسعى بين يديه بحرابهم؛ حتى إذ كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله؛ صغيراً أو كبيراً، ولا يدع رجلاً جعداً قططاً قد شرك فيه السودان إلا قتله.
فأقبل وهرز: حتى دخل اليمن، ففعل ذلك؛ ولم يترك بها حبشياً إلا قتله، ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها، فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك، وأمر كسرى بعده ابنه المرزبان بن وهرز، فكان عليها حتى هلك، فأمر كسرى بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر كسرى بعده خر خسره بن البينجان بن المرزبان بن وهرز، فكان عليها.

ثم إن كسرى غضب عليه، فحلف ليأتينه به أهل اليمن يحملونه على أعناقهم ففعلوا، فلما قدم على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس، فألقى عليه سيفاً لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل ونزعه، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل عليها حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

وكان - فيما ذكر - بين كسرى أنو شروان وبين يخطيانوس ملك الروم، موادعة وهدنة، فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب؛ يقال له المنذر بن النعمان- نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالاً من أمواله. فشكا ذلك المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد. فكتب كسرى إلى يخطيانوس، يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح، ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالداً أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده، ويدفع إليه دية من قتل من عربها. وينصف المنذر من خالد، وألا يستخف بما كتب به من ذلك، فيكون انتقاض ما بينهما من العهد والهدنة بسببه.

وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل بها، فاستعد كسرى، فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل، فأخذ مدينة دارا، ومدينة الرهاء، ومدينة منبج، ومدينة قنسرين، ومدينة حلب، ومدينة أنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشأم - ومدينة فامية، ومدينة حمص، ومدناً كثيرة متاخمة لهذه المدائن؛ عنوة، واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض، وسبى أهل مدينة أنطاكية، ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة جنب مدينة طيسبون على بناء مدينة أنطاكية - على ما قد ذكرت قبل - وأسكنهم إياها؛ وهي التي تسمى الرومية، وكور لها كورة، وجعل لها خمسة طساسيج: طسوج نهروان الأعلى، وطسوج نهروان الأوسط، وطسوج نهروان الأسفل، وطسوج با درايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم من أنطاكية إلى الرومية الأرزاق. وولى القيام بأمورهم رجلاً من نصارى أهل الأهواز، وكان ولاه الرياسة على أصحاب صناعاته، يقال له: بزار، رقة منه لذلك السبي، إرادة أن يستأنسوا ببراز لحال ملته، ويسكنوا إليه. وأما سائر مدن الشام ومصر فإن يخطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه، وضمن له فدية يحملها إليه في كل سنة على ألا يغزوا بلاده، وكتب لكسرى بذلك كتاباً، وختم هو وعظماء الروم عليه، فكانوا يحملونها إليه في كل عام.

وكان ملوك فارس يأخذون من كور من كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها الثلث، ومن كور الربع، ومن كور الخمس، ومن كور السدس؛ على قدر شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئاً معلوماً، فأمر الملك قباذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها ليصح الخراج عليها، فمسحت؛ غير أن قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة؛ حتى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون والجماجم، ثم أمر كتابه فاستخرجوا جمل ذلك، وأذن للناس إذناً عاماً، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل التي استخرجت من أصناف غلات الأرض، وعدد النخل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثم قال لهم كسرى: إنا قد رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من ثغورنا، أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه، واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالاً، كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون فيما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه ؟ فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة، ولم ينبس بكلمة، فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات. فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيها الملك - عمرك الله - الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرمٍ يموت، وزرعٍ يهيج ،ونهرٍ يغور، وعين أو قناة ينقطع ماؤها ! فقال له كسرى: يا ذا الكلفة المشئوم، من أي طبقات الناس أنت ؟ قال أنا رجل من الكتاب، فقال كسرى: اضربوه بالدوى حتى يموت، فضربه بها الكتاب خاصة تبرؤاً منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه. وقال الناس: نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج.

وإن كسرى اختار رجالاً من أهل الرأي والنصيحة، فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدة النخل والزيتون ورءوس أهل الجزية. ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أن فيه صلاح رعيته، ورفاغة معاشهم، ورفعه إليه. فتكلم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك من تلك الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم، وهو الحنطة والشعير والأرز والكرم والرطاب والنخل والزيتون؛ وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهماً، وعلى كل جريب أرض كرم ثمانية دراهم؛ وعلى كل جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كل أربع نخلات فارسية درهماً، وعلى كل ست نخلات دقل مثل ذلك؛ وعلى كل ستة أصول زيتون مثل ذلك؛ ولم يضعوا إلا على كل نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلات السبع. فقوى الناس في معاشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والهرابذة والكتاب؛ ومن كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات: اثنى عشر درهماً وثمانية وستة وأربعة، كقدر إكثار الرجل وإقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين أو فوق الخمسين، ورفعوا وضائعهم إلى كسرى فرضيها أو أمر بإمضائها والاجتباء عليها في السنة في ثلاثة أنجم، كل نجم أربعة أشهر وسماها أبراسيار، وتأويله الأمر المتراضي؛ وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء أهل الذمة عليها، إلا أنه وضع على كل جريب أرض غامر على قدر احتماله؛ مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كل جريب أرض مزارع حنطة أو شعير قفيزاً من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف عمر بالعراق خاصة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه من معايش الناس.
وأمر كسرى فدونت وضائعه نسخاً، فاتخذت نسخة منها في ديوانه قبله، ودفعت نسخة إلى عمال الخراج، ليجتبوا خراجهم عليها، ونسخة إلى قضاة الكور، وأمر القضاة أن يحولوا بين عمال الكور والزيادة على أهل الخراج فوق ما في الديوان الذي دفعت إليه نسخته، وأن يرفعوا الخراج عن كل من أصاب زرعه أو شيئاً من غلاته آفة بقدر مبلغ تلك الآفة، وعمن هلك من أهل الجزية أو جاوز خمسين سنة، ويكتبوا إليه بما يرفعون من ذلك، ليأمر بحسبه للعمال، وألا يخلوا بين العمال وبين اجتباء من أتى له دون عشرين سنة.

وكان كسرى ولى رجلاً من الكتاب - نابهاً بالنبل والمروءة والغناء والكفاية، يقال له بابك بن البيروان - ديوان المقاتلة، فقال لكسرى: إن أمرى لا يتم إلا بإزاحة علتي في كل ما بي إليه الحاجة من صلاح أمر الملك في جنده. فأعطاه ذلك، فأمر بابك فبنيت له في الموضع الذي كان يعرض فيه الجند مصطبة وفرش له عليها بساط سوسنجرد ونمط صوف فوقه، ووضعت له وسائد لتكأته، ثم جلس على ما فرش له، ثم نادى مناديه في شاهد عسكر كسرى من الجند أن يحضره الفرسان على كراعهم وأسلحتهم والرجالة على ما يلزمهم من السلاح، فاجتمع إليه الجند على ما أمرهم أن يحضروه عليه، ولم يعاين كسرى فيهم؛ فأمرهم بالانصراف، ونادى مناديه في اليوم الثاني بمثل ذلك. فاجتمع إليه الجند، فلما لم ير كسرى فيهم أمرهم أن ينصرفوا، ويغدوا إليه، وأمر مناديه أن ينادي في اليوم الثالث: ألا يتخلف عنه من شاهد العسكر أحد، ولا من أكرم بتاج وسرير، فإنه عزم لا رخضة فيه ولا محاباة، فبلغ ذلك كسرى، فوضع تاجه على رأسه وتسلح بسلاح المقاتلة، ثم أتى بابك ليعترض عليه، وكان الذي يؤخذ به الفارس من الجند تجافيف ودرعاً، وجوشنا، وساقين، وسيفاً، ورمحاً، وترساً، وجرزاً تلزمه منطقة، وطبرزينا أو عموداً، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثين نشابة ووترين مضفورين يعلقهما الفارس في مغفر له ظهرياً.

فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام ما خلا الوترين اللذين كان يستظهر بهما. فلم يجز بابك عن اسمه، وقال له: إنك أيها الملك واقف في موضع المعدلة التي لا محاباة تكون مني معها ولا هوادة، فهلم كل ما يلزمك من صنوف الأسلحة. فذكر كسرى قصة الوترين فتعلقهما، ثم غرد داعي بابك بصوته، وقال: للكمي سيد الكماة أربعة آلاف درهم، وأجاز بابك عن اسمه، ثم الصرف. وكان يفضل الملك في العطاء على أكتر المقاتلة عطاء بدرهم.

فلما قام بابك من مجلسه ذلك أتى كسرى، فقال: إن غلظتي في الأمر الذي أغلظت فيه عليك اليوم أيها الملك؛ إنما هي لأن ينفذ لي عليه الأمر الذي وضعتني بسبيله، وسبب من أوثق الأسباب لما يريد الملك إحكامه لمكاني. فقال كسرى: ما غلظ علينا أمرٌ أريد به صلاح رعيتنا، وأقيم عليه أود ذي الأود منهم.

ثم إن كسرى وجه مع رجل من أهل اليمن يقال له سيفان بن معد يكرب - ومن الناس من يقول إنه كان يسمى سيف بن ذي يزن - جيشاً إلى اليمن؛ فقتلوا من بها من السودان، واستولوا عليها. فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند - وهي أرض الجوهر - قائداً من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها فقتله، واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً عظيمة، وجوهراً كثيراً.

ولم يكن ببلاد فارس بنات آوى، فتساقطت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان؛ فبلغ ذلك كسرى، فبلغ ذلك منه مشقة، فدعا بموبذان موبذ، فقال: إنه بلغنا تساقط هذه السباع إلى بلادنا، وقد تعاظم الناس ذلك، فتعجبنا من استعظامهم أمرها لهوانها، فأخبرنا برأيك في ذلك.

فقال له موبذان موبذ: فإني سمعت أيها الملك - عمرك الله - فقهاءنا يقولون: متى لا يغمر في بلدة العدل الجور، ويمحق؛ بلي أهلها بغزو أعدائهم لهم، وتساقط إليهم ما يكرهون، وقد تخوفت أن يكون تساقط هذه السباع إلى بلادك لما أعلمتك من هذا الخطب. فلم يلبث كسرى أن تناهى إليه أن فتياناً من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وأصحاب أعماله ألا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل، ولا يعملوا في شيء منه إلا به، فصرف الله لما جرى من العدل ذلك العدو عن بلاده من غير أن يكون حاربهم، أو كلف مؤونة في أمرهم.
وكان لكسرى أولاد متأدبون، فجعل الملك من بعده لهرمز ابنه الذي كانت أمه ابنة خاتون وخاقان لمعرفة كسرى إياه بالاقتصاد والأخذ بالوثيقة وما رجا بذلك من ضبط هرمز الملك وقدرته على تدبير الملك ورعيته ومعاملتهم.

وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد كسرى أنوشروان، عام قدم أبرهة الأشرم أبو يكسوم مع الحبشة إلى مكة، وساق فيه إليها الفيل، يريد هدم بيت الله الحرام؛ وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان. وفي هذا العام كان يوم جبلة، وهو يوم من أيام العرب مذكور.

ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن محرمة، عن أبيه، عن جده، قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

قال: وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم، أخا بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد، ورأيت خذق الفيل أخضر محيلا بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس شيخاً كبيراً يقوده عبده، فقال ابنه: يا قباث، أنت أعلم وما تقول.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن المطلب ابن عبد الله بن قيس بن محرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن محرمة، قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، فنحن لدان.

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد عبد الله بن عبد المطلبأبو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين مضت من سلطان كسرى أنوشروان، و ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه.

وحدثت عن يحيى بن معين، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

حدثت عن إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، قال: حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت عبد الملك ابن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث أ أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، و وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عام الفيل، لاثنتى عشرة مضت من شهر ربيع الأول؛ وقيل إنه ولد صلى الله عليه وسلم في الدار التي تعرف بدار ابن يوسف؛ وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لعقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يد عقيل حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف، أخى الحجاج بن يوسف، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار، حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجداً يصلى فيه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون فيما يتحدث الناس - والله أعلم - أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحدث أنها أتيت لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمداً. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب، أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه. فأتاه فنظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه. ولما أمرت أن تسميه.

حثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان أبي العاص، قال: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك ليل ولدته - قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: لتقعن علي.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة، فقام عنده يدعو الله ويشكر ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، والتمس له الرضعاء، فاسترضع له امرأةً من بني سعد بن بكر، يقال لها، حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذئيب عبد الله، بن الحارث، بن شجنة، بن جابر، بن رزام، بن ناصرة، بن فصية، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر. واسم الذي أرضعه: الحارث بن عبد العزى، بن رفاعة، بن ملان، بن ناصرة، بن فصية، بن سعد، بن بكر، بن هوازن، بن منصور، بن عكرمة، بن خصفة، بن قيس، بن عيلان، بن مضر. واسم إخوته من الرضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة ابنة الحارث، وخذامة ابنة الحارث وهي الشيماء، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف في قومها إلا به.

وهي حليمة ابنة عبد الله بن الحارث، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويزعمون أن الشيماء كانت تحضنه مع أمها إذ كان عندهم صلى الله عليه وسلم.

وأما غير ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني موسى بن شيبة، عن عميرة ابنة عبيد الله بن كعب بن مالك، عن برة ابنة أبي تجزأة، قالت: أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة. بلبن ابنٍ لها - يقال له مسروح - أياماً قبل أن تقدم حليمة؛ وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق - وحدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق. وحدثني هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا المحاربي، عن ابن إسحاق. وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثني عمي محمد ابن سعيد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق - عن الجهم بن أبي الجهم مولى عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: كانت حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته. تحدث أنها خرجت من بلدها معها زوجها وابنٌ لها ترضعه في نسوةٍ من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق شيئاً، فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارفٌ لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معي من بكائه من الجوع، ومافي ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذوه، ولكنا نرجو الغيث والفرج؛ فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيمٌ. وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيمٌ ما عسى أن تصنع أمه وجده ! فكنا نكرهه لذلك؛ فما بقيت امرأةٌ قدمت معي إلا أخذت رضيعاً، غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: إني لأكره أن أرجع من بين صواحباتي ولم آخذ رضيعاً. والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، فعسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ! قالت: فذهبت إليه فأخذته وما حملني على ذلك إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما - وما كان ينام قبل ذلك - وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فنظر إليها فإذا إنها لحافل، فحلب منها حتى شرب وشربت، حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول لي صاحبي حين أصبحت: أتعلمين والله يا حليمة، لقد أخذت نسمةً مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني تلك، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بنا الركب ما يقدم عليها شيءٌ من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا بنة أبي ذؤيب، اربعي علينا. أليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها لشأناً. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسانٌ قطرةً ولا يجدها في ضرع، حتى إن كان الحاضر من قومنا يقولن لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب ! فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً. فلم نزل نتعرف من الله زيادة الخير به، حتى مضت سنتان وفصلته. وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا لها: يا ظئر لو تركت بنى عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة ! قالت: فلم نزل بها حتى رددناه معنا. قالت: فرجعنا به، فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه وشقا بطنه وهما يسوطانه. قالت: فخرجت أنا وأبوه نشتد، فوجدناه قائماً منتقعاً وجهه؛ قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، وقلنا له: مالك يا بني ؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو ! قالت: فرجعنا إلى خبائنا. قالت: وقال لي أبوه: والله يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك، قالت: فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر، وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك ؟ قالت: قلت: قد بلغ الله بابنى وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين. قالت: ما هذا بشأنك، فاصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها الخبر، قالت: فتخوفت عليه الشيطان ؟ قالت: فقلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لبني لشأناً، أفلا أخبرك خبره ؟ قالت: قلت: بلى، قالت: رأيتن حين حملت به أنه خرج منى نورٌ أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قطٌ كان أخف منه ولا أيسر منه، ثم وقع حين ولدته وإنه لواضعٌ يديه بالأرض، رافعٌ رأسه إلى السماء؛ دعيه عنك وانطلقي راشدة.

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا محمد بن يعلى، عن عمر بن صبيح، عن ثور بن يزيد الشأمي، عن مكحول الشأمي، عن شداد بن أوس، قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل شيخ من بني عامر، وهو مدره قومه وسيدهم؛ من شيخ كبير يتوكأ على عصا، فمثل بين يدي النبي الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ونسبه إلى جده، فقال: يا ابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنك فوهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك وللنبوة ! ولكن لكل قول حقيقة، فأنبئني بحقيقة قولك، وبدء شأنك؛ قال: فأعجب النبي الله صلى الله عليه وسلم بمسألته، ثم قال: يا أخا بنى عامر، إن لهذا الحديث الذي تسألني عنه نبأ ومجلساً، فاجلس، فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي الله صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال: يا أخا بني عامر، إن حقيقة قولي وبدء شأني، أنى دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى بن مريم. وإني كنت بكر أمى، وإنها حملت بي كأثقل ما تحمل، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد. ثم إن أمى رأت في المنام أن الذي في بطنها نورٌ، قالت: فجعلت أتبع بصرى النور، والنور يسبق بصرى، حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها. ثم إنها ولدتني فنشأت، فلما نشأت بغضت إلى أوثان قريش، وبغض إلى الشعر، وكنت مسترضعاً في بني ليث بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بيننا بالجلة، إذ أتانا رهطٌ ثلاثة معهم طستٌ من ذهب ملئ ثلجاً فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هراباً حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام، فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضعٌ فينا؛ من غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك ! ولكن إن كنتم قاتليه، فاختاروا منا أينا شئتم، فليأتكم مكانه فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم. فلما رأى الصبيان القوم لا يحيرون إليه جواباً، انطلقوا هراباً مسرعين إلى الحي، يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم؛ فعمد أحدهم فأضجعنى على الأرض إضجاعاً لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مساً. ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها، ثم أعاداها مكانها، ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح؛ فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء، فرمى بها ثم قال بيده يمنةً منه؛ كأنه يتناول شيئاً، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نوراً، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله. ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضاً لطيفاً، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه، فلو وزنتموه بإمته كلها لرجحهم قال: ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع؛ إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك. قال: فبينا نحن كذلك، إذ أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي - وهي ظئري - أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه ! قال: فانكبوا عليّ فقبلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف ! ثم قالت ظئري: يا وحيداه ! فانكبوا عليّ فضموني إلى صدورهم وقبلوا راسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد ! إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض. ثم قالت: ظئرى: يا يتيماه، استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله ! لو تعلم ماذا يراد بك من الخير ! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي - وهي ظئري - قالت: يا بني ألا أراك حياً بعد ! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها؛ فو الذي نفسي بيده، إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي - وهو زوج ظئري - ألا ترون كلامه كلام صحيح ! إني لأرجو ألا يكون بابني بأسٌ، فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني، فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب إلي فضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: ياللعرب، يا للعرب ! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك، ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدينٍ لم تسمعوا بمثله قط ! فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا ! فلو علمت أن هذا يكون ممن قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي فاصبحت مفزعاً مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك؛ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر.

فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها ! قال: سل عنك - وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول للسائل: سل عما شئت، وعما بدا لك، فقال للعامري يومئذ: سل عنك ، لأنها لغة بني عامر، فكلمه بما علم - فقال له العامري: أخبرني يا بن عبد المطلب ما يزيد في العلم ؟ قال: التعلم، قال: فأخبرني ما يدل على العلم ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشر ؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر بعد الفجور. قال: نعم، التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه عند الرخاء، أغاثه عند البلاء، قال العامري: وكيف ذلك يا بن عبد المطلب ؟ قال: ذلك بأذن الله يقول: لا وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين، إن هو خافني في الدنيا أمنني يوم أجمع فيه عبادي عندي في حظيرة الفردوس، فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق، وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم، فيدوم له خوفه؛ قال: يا بن عبد المطلب، أخبرني إلام تدعو ؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع الأنداد، وتكفر باللات والعزى، وتقر بما جاء من الله من كتاب أو رسول، وتصلى الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهراً من السنة، وتؤدي زكاة مالك، يطهرك الله بها ويطيب لك مالك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلاً، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، والجنة، والنار. قال: يا بن عبد المطلب، فإذا فعلت ذلك فما لي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: " جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ". قال: يا بن عبد المطلب، هل مع هذا من الدنيا شيء ؟ فإنه يعجبني الوطاءة من العيش ! قال النبي صلى اله عليه وسلم: نعم، النصر والتمكن في البلاد. قال: فأجاب وأناب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، أن نفراً من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهماً لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطستٍ من ذهب مملوءة ثلجاً، فأخذاني، فشقا بطنى، ثم استخرجا منه قلبي، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا بطني وقلبي بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائةٍ من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها.

قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة حاملٌ به.

وأما هشام فإنه قال: توفي عبد الله أبو رسول الله، بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةٌ وعشرون شهراً.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: الثبت عندنا مما ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة - وهو مريض - فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة، في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبيد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة، توفيت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين - بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بنى عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكة.

وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال حدثني ابن جريج، عن عثمان بن صفوان، أن قبر آمنة بنت وهب في شعب أبي ذرٍ بمكة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العباس ابن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، أن عبد المطلب توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين؛ وكان بعضهم يقول: توفي عبد المطلب ورسول الله ابن عشرة سنين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في حجر أبي طالب بعد جده عبد المطلب، فيصبح ولد عبد المطلب غمصاً رمصاً، ويصبح صلى الله عليه وسلم صقيلاً دهيناً. 

رجع الحديث إلى تمام أمر كسرى

بن قباذ أنوشروان


حدثنا علي بن حرب الموصلي، قال: حدثن اأبو أيوب يعلى بن عمران البجلي؛ قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه - وأتت له خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشر شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها.

فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فصبر تشجعاً، ثم رأى ألا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه.
فلما اجتمعوا إليه أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه ودعاهم. فبينما هم كذلك إذا ورد عليه كتابٌ بخمود النار فإزداد غماً إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك! قد رأيت في هذه الليلة ... وقص عليه الرؤيا في الإبل.

فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ - وكان أعلمهم عند نفسه بذلك - فقال: حادثٌ يكون من عند العرب، فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد؛ فوجه إلي رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه.

فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه، قال له: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه له، فأخبره بما رأى؛ فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشأم، يقال له سطيح، قال: فإته فاسأله عما سألتك، وأتني بجوابه. فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح - وقد أشفى على الموت - فسلم عليه وحياه، فلم يحر سطيح جواباً، فأنشأ عبد المسيح يقول:

أصم أم يسمع غطريف اليمـن !                  يافاصل الخطة أعيت من ومـن
أم فاز فأزلم به شـأو الـعـنـن                      أتاك شيخ الحي من آل سـنـن
وأمه من آل ذئب بـن حـجـن                      أزرق ممهى الناب صرار الإذن
أبيض فضفاض الرداء والـبـدن                      رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب بي الأرض علنداةٌ شـزن                   ترفعني وجنٌ وتهوى بي وجـن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن                     حتى أتى عاري الجآجي والقطن
تلفه في الريح بوغـاء الـدمـن                     كأنما حثحث من حضني ثـكـن

فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل يسيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح: إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشأم لسطيح شأما؛ يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.

ثم قضى سطيح مكانه، فقام عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:

شمر فإنك ماضي الهم شـمـير                   لا يفزعنك تفـريق وتـغـيير
إن يك ملك بني ساسان أفرطهـم               فإن ذا الدهر أطـوارٌ دهـارير
فربما ربما أضحـو بـمـنـزلة                          تهاب صولهم الأسد المهاصـير
منهم أخو الصرح مهرانٌ وإخوته                   والهرمزان وسابور وسـابـور
والناس أولاد علاتٍ فمن علمـوا                   أن قد أقل، فمهجورٌ ومحقـور
وهم بنو الأم لما أن رأوا نشـبـاً                    فذاك بالغيب محفوظ ومنصـور
والخير والشر مقرونان في قرنٍ                    فالخير متبعٌ والشر مـحـذور

فلما قدم عبد المسيح على كسرى، أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً قد كانت أمور.

فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى ملكي عثمان بن عفان.

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: بعث وهرز بأموال وطرف من طرف اليمن إلى كسرى، فلما صارت ببلاد بني تميم، دعا صعصعة ابن ناجيه بن عقال المجاشعي بني تميم إلى الوثوب عليه، فأبوا ذلك فلما صارت في بلاد بني يربوع دعاهم إلى ذلك، فهابوه، فقال: يا بني يربوع، كأني بهذه العير قد مرت ببلاد بكر بن وائل، فوثبوا عليها فاستعانوا بها على حربكم ! فلما سمعوا ذلك انتهبوها، وأخذ رجلٌ من بني سليط يقال له النطف خرجاً فيه جوهر، فكان يقال: " أصاب كنز النطف "؛ فصار مثلاً؛ وأخذ صعصعة خصفة فيها سبائك فضة، وصار أصحاب العير إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم، وزودهم وحملهم، وسار معهم حتى دخل على كسرى. وكان لهوذة جمالٌ وبيان. فأعجب به كسرى وحفظ له ما كان منه، ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، وكساه قباء ديباج، مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمى هوذة ذا التاج، وقال كسرى لهوذا أرأيت هؤلاء القوم الذين صنعوا ما صنعوا من قومك هم ؟ قال: لا. قال: أصلح هم لك ؟ قال: بيننا الموت. قال: قد أدركت بعض حاجتك ونلت ثأرك. وعزم على توجيه الخيل إلى بني تميم، فقيل له: إن بلادهم بلاد سوء، إنما هي مفاوز وصحارى لا يهتدى إلى مسالكها، وماؤهم من الآبار، ولا يؤمن أن يعوروها فيهلك جندك. وأشير إليه أن يكتب إلى عامله بالبحرين وهو آزاذ فروز بن جشنس الذي سمته العرب المكعبر - وإنما سمي المكعبر، لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل وآلى أن لا يدع من بني تميم عيناً تطرف - ففعل؛ ووجه له رسولاً. ودعا بهوذة فجدد له كرامة وصلة وقال: سر مع رسولي هذا فاشفني واشتف، فأقبل هوذه والرسول معه حتى صار إلى المكعبر، وذلك قريب من أيام اللقاط، وكان بنوا تميم يصيرون في ذلك الوقت إلى هجر، للميرة واللقاط، فنادى منادي المكعبر: من كان هاهنا من بني تميم فليحضر فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام يقسم فيهم؛ فحضروا، فأدخلهم المشقر - وهو حصنٌ حياله حصنٌ يقال له الصفا، وبينهما نهر يقال له محلم - وكان الذي بنى المشقر رجلاً من أساورة كسرى يقال له: بسك بن ماهبوذ، كان كسرى وجهه لبنائه، فلما ابتدأه قيل له: إن هؤلاء الفعلة لا يقيمون بهذا الموضع إلا أن تكون معهم نساء، فإن فعلت ذلك بهم تم بناؤك، وأقاموا عليه حتى يفرغوا منه؛ فنقل إليهم الفواجر من ناحية السواد والأهواز، وحملت إليهم روايا الخمر من أرض فارس في البحر، فتناكحوا وتوالدوا، فكانوا جل أهل مدينة هجر، وتكلم القوم بالعربية وكانت دعوتهم إلى عبد القيس، فلما جاء الإسلام قالوا لعبد القيس: قد علمتم عددنا وعدتنا وعظيم غنائنا، فأدخلونا فيكم وزوجونا، فقالوا: لا، ولكن أقيموا على حالكم فأنتم إخواننا وموالينا، فقال رجلٌ من عبد القيس: يا معشر عبد القيس، أطيعوني وألحقوهم، فإنه ليس عن مثل هؤلاء مرغب، فقال رجل من القوم: أما تستحي ! أتأمرنا أن ندخل فينا من قد عرفت أوله وأصله ! قال: إنكم إن لم تفعلوا ألحقهم غيركم من العرب، قال: إذن لا نستوحش لهم؛ فتفرق القوم في العرب، وبقيت في عبد القيس منهم بقية فانتموا إليهم، فلم يردوهم عن ذلك. فلما أدخل المكعبر بني تميم المشقر قتل رجالهم واستبقى الغلمان وقتل يومئذ قعنب اليراحي - وكان فارس بني يربوع - قتله رجلان من شن كانا ينوبان الملوك، وجعل الغلمان في السفن فعبر بهم إلى فارس، فخصوا منهم بشراً. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعد ما فتحت إصطخر عدة منهم، أحدهم خصي والآخر خياط. وشد رجلٌ من بني تميم، يقال له عيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، فقال:

تذكرت هنداً لات حـين تـذكـر                   تذكرتها ودونها سـير أشـهـر
حجازيةٌ علـويةٌ خـل أهـلـهـا                    مصاب الخريف بين زورٍ ومنور
ألا هل أتى قومي على النأي أنني          حميت ذماري يوم باب المشقـر
ضربت رتاج الباب بالسيف ضربةً               تفرج منها كل بابٍ مـضـبـر

وكلم هوذة بن علي على المكعبر يومئذ في مائةٍ في أسرى بني تميمٍ، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، ففي ذلك يقول الأعشى:

سائل تميماً به أيام صـفـقـتـهـم                  لما أتوه أسارى كلهـم ضـرعـا
وسط المشقر في غبراء مظـلـمةٍ                 لا يستطيعون بعد الضر منتفـعـا
فقال للملك أطلق مـنـهـم مـائةً                   رسلاً من القول مخفوضاً وما رفعا
ففك عن مائةٍ منـهـم إسـارهـم                   وأصبحوا كلهم من غله خـلـعـا
بهم تقرب يوم الفصـح ضـاحـيةً                   يرجو الإله بما أسدى وما صنـعـا
فلا يرون بذاكم نعـمة سـبـقـت                   إن قال قائلها حقاً بـهـا وسـعـا

يصف بني تميم بالكفر لنعمته.

قال: فلما حضرت وهرز الوفاة - وذلك في آخر ملك أنو شروان - دعا بقوسه ونشابته، ثم قال: أجلسوني، فأجلسوه، فرمى وقال: انظروا حيث وقعت نشابتي فجعلوا ناؤوسي هناك، فوقعت نشابته من وراء الدير، وهي الكنيسة التي عند نعم، وهي تسمى اليوم مقبرة وهرز؛ فلما بلغ كسرى موت وهرز، بعث إلى اليمن أسواراً يقال له وين، وكان جباراً مسرفاً، فعزله هرمز بن كسرى، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم هلك كسرى أنو شروان وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة.