المجلد الثاني - ذكر ملك هرمز بن كسرى أنو شروان

ذكر ملك هرمز بن كسرى أنو شروان

ثم ملك هرمز بن كسرى أنو شروان، وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، فحدثت عن هشام بن محمد، قال: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه عليهم مثل ذلك، ولما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه أشراف أهل مملكته، واجتهدوا في الدعاء له والشكر لوالده، فوعدهم خيراً. وكان متحرياً للسيرة في رعيته بالعدل، شديداً على العظماء لاستطالتهم كانت على الوضعاء، وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى ماه ليصيف، فأمر فنودي في مسيره ذلك في جنده وسائر من كان في عسكره أن يتحاموا مواضع الحروث ولا يضروا بأحدٍ من الدهاقين فيها، ويضبطوا دوابهم عن الفساد فيها، ووكل بتعهد ما يكون في عسكره من ذلك ومعاقبة من تعدى أمره.

وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه فرتع فيها وأفسد منها، فأخذ ذلك المركب، ودفع إلى الرجل الذي وكل هرمز بمعاقبة من أفسد أو دابته شيئاً من المحارث وتغريمه. فلم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى، ولا في أحد ممن كان معه في حشمه، فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمر أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم كسرى؛ فخرج الرجل من عند هرمز لينفذ أمره في كسرى ومركبه ذلك، فدس له كسرى رهطاً من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلموه في ذلك فلم يجب إليه،، فسألوه أن يؤخر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلموه فيأمر بالكف عنه، ففعل فلقي أولئك الرهط هرمز وأعلموه أن بالمركب الذي أفسد ما أفسد زعارةً، وأنه عار فوقع في محرثة؛ فأخذ من ساعة وقع فيها، وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وتبتيره لما فيها من سوء الطيرة على كسرى، فلم يجبهم إلى ما سألوا من ذلك، وأمر بالمركب فجدع أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى مثل ما يغرم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل من معسكره. وكان هرمز ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن، وكان ممره على بساتين وكرومٍ، وإن رجلاً ممن ركب معه من أساورته اطلع في كرمٍ فرأى فيه حصرماً، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامٍ كان معه وقال له: اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحمٍ، واتخذ منها مرقةً فإنها نافعة في هذا الإبان. فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصرخ، فبلغ من إشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب كانت عليه، عوضاً له من الحصرم الذي رزأ من كرمه، وافتدى نفسه بها، ورأى أن قبض الحافظ إياها منه وتخليته عنه، منةٌ من بها عليه، ومعروف أسداه إليه. وقيل أن هرمز كان مظفراً منصوراً لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان مع ذلك أديباً أريباً داهياً رديء النية، قد نزعه أخواله الأتراك، وكان مقصياً للأشراف، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، وإنه لم يكن له رأيٌ إلا في تألف السفلة واستصلاحهم، وإنه حبس ناساً كثيراً من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم ودرجاتهم، وجهز الجنود وقصر بالأساورة ففسد عليه كثيرٌ ممن كان حوله لما أراد الله من تغيير أمرهم وتحويل ملكهم؛ ولكل شيء سبب. وإن الهرابذة رفعوا إليه قصة يبغون فيها علىالنصارى، فوقع فيها: إنه كما لا قوام لسرير ملكنا بقائمتيه المقدمتين دون قائمتيه المؤخرتين، فكذلك لا قوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من في بلادنا من النصارى وأهل سائر الملل المخالفة لنا؛ فأقصروا عن البغي على النصارى، وواظبوا على أعمال البر ليرى ذلك النصارى وغيرهم من أهل الملل والأديان، فيحمدوكم عليه، وتتوق أنفسهم إلى ملتكم.

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: خرج على هرمز الترك - وقال غيره: أقبل عليه شابة ملك الترك الأعظم في ثلثمائة ألف مقاتل، في سنة إحدى عشرة من ملكه، حتى صار إلى باذغيس وهراة. وإن ملك الروم صار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل قاصداً له، وإن ملك الخزر صار في جمعٍ عظيم إلى الباب والأبواب، فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب يقال لأحدهما: عباس الأحول، والآخر: عمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطىء الفرات، وشنوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداؤه عليه وغزوا بلاده، وبلغ من اكتنافهم إياها أنها سميت منخلاً كثير السمام. وقيل: قد اكتنف بلاد الفرس الأعداء من كل وجه كاكتناف الوتر سيتي القوس. وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز وعظماء الفرس يؤذنهم بإقباله في جنوده، ويقول: رموا قناطر أنهارٍ وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهرٍ من تلك الأنهار لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، لإجماعي بالمسير إليها من بلادكم. فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع له على القصد لملك الترك، فوجه إليه رجلاً من أهل الري يقال له بهرام بن بهرام جشنس - ويعرف بجوبين - في اثنى عشر ألف رجل، اختاره بهرام على عينيه من الكهول دون الشباب، ويقال: إن هرمز عرض ذلك الوقت من كان بحضرته من الديوانية، فكانت عدتهم سبعين ألف مقاتل، فمضى بهرام بمن ضم إليه مغذاً حتى جاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكراً فجرت بينهما رسائل وحروبٌ، وقتل بهرام شابة برمية رماه إياها. وقيل: إن الرمى في ملك العجم كان لثلاثة نفر، منها رمية أرششياطين بين منوشهر، وأفراسياب، ومنها رمية سوخرا في الترك، ومنها رمية بهرام هذه. واستباح عسكره وأقام بموضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألح عليه حتى استسلم له، فوجهه إلى هرمز أسيراً، وغنم مما كان في الحصن وكانت كنوزاً عظمية.
ويقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجوهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام سطوة هرمز، وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود، فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وأن ابنه أبرويز أصلح للملك منه. وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب إلى آذربيجان خوفاً من هرمز، فاجتمع إليه هناك عدةٌ من المرازبة والإصبهبذين، فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن، وفيهم بندى وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجاً من قتله.
وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من آذربيجان إلى دار الملك مسابقاً لبهرام، فلما صار إليها استولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهو على شاطىء النهروان، فجرت بينهما مناظرةٌ ومواقفةٌ، ودعا أبرويز بهرام إلى أن يؤمنه ويرفع مرتبته ويسني ولايته، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروبٌ اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثاً بملكها بعد حرب شديدة وبيات كان من بعضهم لبعض. وقيل إنه كان مع بهرام جماعةٌ من الأشداء، وكان فيهم ثلاثة نفرٍ من وجوه الأتراك لا يعدل بهم في فروسيتهم وشدتهم من الأتراك أحدٌ، قد جعلوا لبهرام قتل أبرويز، فلمتا كان الغد من ليلة البيات وقف أبرويز ودعا الناس إلى حرب بهرام فتثاقلوا عليه، قصده النفر الثلاثة من الأتراك، فخرج إليهم أبرويز فقتلهم بيده واحداً واحداً، ثم انصرف من المعركة وقد أحس من أصحابه بالفتور والتغيير، فصار إلى أبيه بطيسبون حتى دخل عليه، وأعلمه ما قد تبينه من أصحابه وشاوره، فأشار عليه بالمصير إلى موريق ملك الروم ليستنجده، فأحرز حرمه في موضع أمن عليهم بهرام، ومضى في عدة يسيرةٍ؛ منهم بندي وبسطام وكردي أخو بهرام جوبين حتى صار إلى أنطاكية، وكاتب موريق فقبله، وزوجه ابنةً له كانت عزيزةً عليه، يقال لها: مريم. وكان جميع مدة ملك هرمز بن كسرى في قول بعضهم، إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. وأما هشام بن محمد فإنه قال: كان ملكه اثنتي عشرة سنة.