المجلد الثاني - ذكر من كان على ثغر العرب

ذكر من كان على ثغر العرب

من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند

قد مضى ذكرنا من كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ابن ربيعة إلى حين هلاك عمرو بن هند، وقدر مدة ولاية كل من ولي منهم ذلك، ونذكر الآن من ولي ذلك لهم بعد عمرو بن هند، إلى أن ولي ذلك لهم النعمان بن المنذر، والذي ولي لهم ذلك بعد عمرو بن هند أخوه قابوس بن المنذر، وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو، فولي ذلك أربع سنين؛ من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز بن أنو شروان ثلاث سنين وأربعة أشهر.

ثم ولي بعد قابوس بن المنذر السهرب.

ثم ولي بعده المنذرأبو النعمان أربع سنين.

ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك زمن هرمز بن أنو شروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى أبرويز ابن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.

ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرجان، تسع سنين في زمن كسرى ابن هرمز. ولسنة وثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما زعم هشام بن محمد.

ثم استخلف آزاذبه بن هامان بن مهر بنداذ الهمذاني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهراً ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر - وهو الذي تسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم جؤاثى، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة - ثمانية شهر.

فكان آخر من بقي من آل نصر بن ربيعة، فانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس.

فجميع ملوك آل نصر - فيما زعم هشام - ومن استخلف من العباد والفرس عشرون ملكاً. قال: وعدة ما ملكوا خمسمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر.

رجع الحديث إلى ذكر المرزان وولايته اليمن، من قبل هرمز وابنه أبرويز، ومن وليها بعده: حدثت عن هشام بن محمد، قال: عزل هرمز بن كسرى وين عن اليمن، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن، حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم إن أهل جبل من جبال اليمن يقال له المصانع خالفوه، وامتنعوا من حمل الخراج إليه - والمصانع جبل طويل ممتنع، إلى جانبه جبل آخر قريب منه، بينهما فضاء ليس بالبعيد، إلا أنه لا يرام ولا يطمع فيه - فسار المروزان إلى المصانع، فلما انتهى إليه نظر إلى جبل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد؛ فلما رأى أن لا سبيل له إليه، صعد الجبل الذي يحاذي حصنهم، فنظر إلى أضيق مكان منه وتحته هواء ذاهب، فلم ير شيئاً أقرب إلى افتتاح الحصن من ذلك الموضع، فأمر أصحابه أن يصطفوا له صفين، ثم يصيحوا به صيحة واحدة، وضرب فرسه فاستجمع حضراً، ثم رمى به فوثب المضيق، فإذا هو على رأس الحصن. فلما نظرت إليه حمير وإلى صنيعه قالوا: هذا أيم - والأيم بالحميرية شيطان - فانتهرهم وزبرهم بالفارسية، وأمرهم أن يكتف بعضهم بعضاً، فاستنزلهم من حصنهم، وقتل طائفة منهم وسبى بعضهم، وكتب بالذي كان من أمره إلى كسرى ابن هرمز. فتعجب من صنيعه، وكتب إليه: أن استخلف من شئت، وأقبل إلي .

قال: وكان للمرزوان ابنان: أحدهما تعجبه بالعربية، ويروي الشعر؛ يقال له خر خسرة، والآخر أسوارٌ يتكلم بالفارسية، ويتدهقن، فاستخلف المرزوان ابنه خر خسرة - وكان أحب ولده إليه - على اليمن، وسار حتى إذا كان في بعض بلاد العرب هلك، فوضع في تابوت، وحمل حتى قدم به على كسرى، فأمر بذلك التابوت فوضع في خزانته، وكتب عليه في هذا التابوت: فلان الذي صنع كذا وكذا، قصته في الجبلين. ثم بلغ كسرى تعرب خر خسرة وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم .

وكان كسرى قد طغى لكثرة ما قد جمع من الأموال وأنواع الجوهر والأمتعة والكراع وافتتح من بلاد العدو، وساعده من الأمور، ورزق من مؤاتاته، وبطر، وشره شرها فاسداً، وحسد الناس على ما في أيديهم من الأموال، فولى جباية البقايا علجاً من أهل قرية تدعى خندق من طسوج بهرسير؛ يقال له: فرخزاذ بن سمي، فسام الناس سوء العذاب، وظلمهم واعتدى عليهم، وغصبهم أموالهم في غير حلة، بسبب بقايا الخراج، واستفسدهم بذلك، وضيق عليهم المعاش، وبغض إليهم كسرى وملكه .

وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: كان أبرويز كسرى هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن، ويتصيف ما بينها وبين همذان، وكان يقال: إنه كانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا واحداً، وخمسون ألف دابة بين فرس وبرذون وبغل، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك .

وأما غير هشام فإنه قال: كان له في قصره ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن، وألوف جوارٍ اتخذهن للخدمة والغناء وغير ذلك، وثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته، وكانت له ثمانية آلاف وخمسمائة دابة لمركبه، وسبعمائة وستون فيلاً، واثنا عشر ألف بغل لثقله، وأمر فبنيت بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ للزمزمة.

وإنه أمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وتوابعه وسائر أبواب المال، سنة ثماني عشرة من ملكه، فرفع إليه أن الذي اجتبي في تلك السنة من الخراج وسائر أبوابه من الورق أربعمائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال؛ يكون ذلك وزن سبعة، ستمائة ألف ألف درهم، وأمر فحول إليى بيت مالٍ بني بمدينة طيسبون، وسماه بهار حفرد خسرو، وأموال له أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز، اثنا عشر ألف بدرة، في كل بدرة منها من الورق أربعة آلاف مثقال، يكون جميع ذلك ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال، وهو وزن سبعةٍ، ثمانية وستون ألف ألف وخمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفاً وأربعمائة وعشرون درهماً ونصف وثلث ثمن درهم، في أنواع لا يحصي مبلغها إلا الله، من الجواهر والكسى وغير ذلك.

وإن كسرى احتقر الناس، واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم، وبلغ من عتوه وجرأته على الله أنه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاص - يقال له: زاذان فروخ - أن يقتل كل مقيد في سجن من سجونه، فأحصوا، فبلغوا ستة وثلاثين ألفاً، فلم يقدم زاذان فروخ على قتلهم، وتقدم لتأخير ما أمر به كسرى فيهم، لعلل أعدها له، فكسب كسرى عداوة أهل مملكته من غير وجه؛ أحد ذلك احتقاره إياهم، وتصغيره عظماءهم.

والثاني تسليط العلج فرخان زاد بن سمي عليهم، والثالث أمره بقتل من كان في السجن، والرابع إجماعه على قتل الفل الذين انصرفوا إليه إليه من قبل هرقل والروم؛ فمضى ناس من العظماء إلى عقر بابل، وفيه شيرى بن أبرويز مع إخوته بها، قد وكل بهم مؤدبون يؤدبونهم، وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخل مدينة بهرسير ليلا، فخلى عمن كان في سجونها، وخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفل الذين كان كسرى أجمع على قتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب من كان في قصره من حرسه، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره، ويدعى باغ الهندوان فاراً مرعوباً، وطلب فأخذ ماه آذر وروز آذر، وحبس في دار المملكة، ودخل شيرويه دار الملك، واجتمع إليه الوجوه، فملكوه وأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه.

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولداً ذكراً، أكبرهم شهريار، وكانت شيرين تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام؛ ويكون خراب هذا المجلس وذهاب هذا الملك على يديه، وعلامته نقصٌ في بعض بدنه، فحصر ولده لذلك عن النساء، فمكثوا حيناً لا يصلون إلى امرأة، حتى شكا ذلك شهريار إلى شيرين، وبعث إليها يشكو الشبق، ويسألها أن تدخل عليه امرأة وإلا قتل نفسه؛ فأرسلت إليه: إني لا أصل إلى إدخال النساء عليك إلا أن تكون امرأة لا يؤبه لها، ولا يجمل بك أن تمسها، فقال لها: لست أبالي ما كانت، بعد أن تكون امرأة.

فأرسلت إليه بجارية كانت تحجمها، وكانت - فيما يزعمون - من بنات أشرافهم؛ إلا أن شيرين كانت غضبت عليها في بعض الأمور، فأسلمتها في الحجامين؛ فلما أدخلتها على شهريار وثب عليها، فحملت بيزدجرد، فأمرت بها شيرين فقصرت حتى ولدت، وكتمت أمر الولد خمس سنين. ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر، فقالت له: هل يسرك أيها الملك أن ترى ولداً لبعض بنيك على ما كان في ذلك من المكروه ؟ فقال: لاأبالي.

فأمرت بيزدجرد فطيب وحلي، وأدخلته عليه، وقالت: هذا يزدجرد بن شهريار، فدعا به فأجلسه في حجره، وقبله وعطف عليه، وأحبه حباً شديداً، وجعل يبيته معه؛ فبينا هو يلعب ذات يوم بين يديه؛ إذ ذكر ما قيل فيه، فدعا به فعراه من ثيابه، واستقبله واستدبره، فاستبان النقص في أحد وركيه، فاستشاط غضباً وأسفاً، واحتمله ليجلد به الأرض، فتعلقت به شيرين، وناشدته الله ألا يقتله، وقالت له: إنه إن يكن أمرٌ قد حضر في هذا الملك فليس له مرد. قال: إن هذا المشئوم؛ الذي أخبرت عنه، فأخرجيه فلا أنظر إليه. فأمرت به فحمل إلى سجستان.

وقال آخرون: بل كان بالسواد عند ظؤورته في قرية يقال لها خمانية. ووثبت فارس على كسرى فقتلته، وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه بن مريم الرومية .

وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة. ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوماً من ملكه هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.