المجلد الثاني - ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة

ذكر ما كان من  الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة

قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة.

فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل.

خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة جمعها بالمدينة

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالاً بعيداً. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكراً؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد ". فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة.

خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم !.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمر بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلم يا رسول الله ! إلى العدد والعدة والمنعة؛ فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: خلوا زمامها فإنها مأمورة؛ حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده؛ وهو يومئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء؛ يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل، ابنا عمرو بن عباد بن ابن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار. فلما بركت لم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعٌ لها زمامها لا يثنيها به؛ ثم التفتت خلفها، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع رحله. فنزل على أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب، في بني غنم بن النجار.

قال أبو جعفر: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المربد لمن هو ؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأرضيهما. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى موضع مسجده، ثم بناه.

والصحيح عندنا في ذلك، ما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبورٌ من قبور الجاهلية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغيه به ثمناً إلا ما عند الله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يصلي في مرابض الغنم، وحيث أدركته الصلاة.

قال أبو جعفر: وتولى بناء مسجده صلى الله عليه وسلم هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.

وفي هذه السنة بني مسجد قباء.

وكان أول من توفى بعد مقدمه المدينة من المسلمين - فيما ذكر - صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيراً حتى مات.

ثم توفي بعده أسعد بن زرارة في سنة مقدمه،أبو أمامة. وكانت وفاته قبل أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناء مسجده، بالذبحة والشهقة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد إبن إسحاق. حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب ! يقولون: لو كان محمد نبياً لم يمت صاحبه؛ ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً.

وقد حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد ابن زرارة من الشوكة .

قال ابن حميد، قال سلمة، عن إبن إسحاق، قال: حدثني عاصم ابن عمر بن قتادة الأنصاري أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان أبو أمامة نقيبهم - فقالوا: يا رسول الله؛ إن هذا الرجل قد كان منا حيث قد علمت؛ فاجعل منا رجلاً مكانه، يقيم من أمرنا ما كان يقيمه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أخوالي وأنا منكم؛ وأنا نقيبكم.

قال: وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض؛ فكان من فضل بني النجار الذي تعد على قومهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقيبهم.

وفي هذه السنة مات أبو أحيحة بماله بالطائف. ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي فيها بمكة.

وفيها بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد مقدمها المدينة بثمانية أشهر؛ في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع.

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن عبد الرحمن بن أبي الضحاك، عن رجل من قريش، عن عبد الرحمن بن محمد، أن عبد الله بن صفوان وآخر معه أتيا عائشة، فقالت عائشة: يا فلان؛ أسمعت حديث حفصة ؟ قال لها: نعم يا أم المؤمنين، قال لها عبد الله بن صفوان: وما ذاك ؟ قالت: خلالٌ في تسع لم تكن في أحدٍ من النساء إلا ما آتى الله مريم بنت عمران؛ والله ما أقول هذا فخراً على أحد من صواحبي، قال لها: وما هن ؟ قالت: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً لم يشركه في أحدٌ من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه ، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن كادت الأمة أن تهلك، ورأيت جبريل ولم يراه أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي لم يله أحدٌ غير الملك وأنا.

قال أبو جعفر: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ما قيل - في شوال، وبنى بها حين بنى بها في شوال.

ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال. وكانت عائشة تستحب أن يبنى بالنساء في شوال.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة عن عروة، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول الله كانت أحظى عنده مني ! وكانت عائشة تستحب أن يدخل بالنساء في شوال.

قال أبو جعفر: وقيل: إن رسوال الله صلى الله عليه وسلم بنى بها في شوال يوم الأربعاء في منزل أبي بكر بالسنح.

وفي هذه السنة بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بناته وزوجته سودة بنت زمعة، زيد بن حارثة وأبا رافع، فحملاهن من مكة إلى المدينة.

ولما رجع - فيما ذكر - عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكان أبيه أبي بكر، فخرج عبد الله بعيال أبيه إليه، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، معهم أم رومان، وهي أم عائشة؛ وعبد الله بن أبي بكر حتى قدموا المدينة.

وفي هذه السنة زيد في صلاة الحضر - فيما قيل - ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين؛ وذلك بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر ،في ربيع الآخر، لمضي اثنتي عشرة ليلة منه، زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.

وفيها - في قول بعضهم - ولد عبد الله بن الزبير. وفي قول الواقدي: ولد في السنة الثانية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شوال.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: ولد ابن الزبير بعد الهجرة بعشرين شهراً بالمدينة.

قال أبو جعفر: وكان أول مولودٍ ولد من المهاجرين في دار الهجرة، فكبر - فيما ذكر- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد؛ وذلك أن المسلمين كانوا قد تحدثوا أن اليهود يذكرون أنهم قد سحروهم فلا يولد لهم؛ فكان تكبيرهم ذلك سروراً منهم بتكذيب الله اليهود فيما قالوا من ذلك.

وقيل: إن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت إلى المدينة وهي حاملٌ به.

وقيل أيضاً: إن النعمان بن بشير ولد في هذه السنة؛ وإنه أول مولد ولد للأنصار بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ وأنكر ذلك الواقدي أيضاً.

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، عن جده، قال: كان أول مولود من الأنصار النعمان بن بشير؛ ولد بعد الهجرة بأربعة عشر شهراً، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، أو أكثر قليلاً.

قال: وولد النعمان قبل بدر بثلاثة أشهر أو أربعة .

حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، قال: ذكر النعمان بن بشير عند ابن الزبير، فقال: هو أسن مني بستة أشهر.

قال أبو الأسود: ولد ابن الزبير على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولد النعمان على رأس أربعة عشر شهراً في ربيع الآخر.

قال أبو جعفر : وقيل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي وزياد ابن سمية فيها ولدا.

قال: وزعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فحجز بينهم مجدي بن عمر الجهني فافترقوا، ولم يكن بينهم قتال. وكان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد.

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد أيضاً في هذه السنة، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره في شوال، لعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف لواء أبيض وأمره بالمسير إلى بطن رابغ، وأن لواءه كان مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة - وهي بناحية الجحفة - في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري؛ وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء؛ فكان بينهم الرمي دون المسايفة.

قال: وقد اختلفوا في أمير السرية؛ فقال بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب، وقال بعضهم: كان مكرز بن حفص.

قال الواقدي: ورأيت الثبت على أبي سفيان بن حرب، وكان في مائتين من المشركين.

قال: وفيها عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواءً أبيض يحمله المقداد بن عمرو في ذي القعدة. وقال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: خرجت في عشرين رجلاً على أقدامنا - أو قال: واحد وعشرين رجلاً - فكنا نكمن النهار، ونسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسةٍ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي إلا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم، وكانوا ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.

قال أبو جعفر: وقال ابن إسحاق في أمر كل هذه السرايا التي ذكرت عن الواقدي قوله فيها غير ما قاله الواقدي، وأن ذلك كله كان في السنة الثانية من وقت التاريخ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول لاثنتى عشرة ليلة مضت منه، فأقام بها ما بقي من شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجماديين ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم.

وخرج في صفر غازياً على رأس اثنى عشر شهراً من مقدمه المدينة، لثنتى عشرة ليلةٍ مضت من شهر ربيع الأول؛ حتى بلغ ودان؛ يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ ويه غزوة الأبواء، فوادعته فيها بنو ضمرة؛ وكان الذي وادعه منهم عليهم سيدهم كان في زمانه ذلك مخشى بن عمرو، رجل منهم.

قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيداً، فأقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول.

وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب في ثمانين أو ستين راكباً من المهاجرين؛ ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، حتى بلغ أحياء ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقى بها جمعاً عظيماً من قريش؛ فلم يكن بينهم قتال؛ إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم؛ فكان أول سهم رمي به في الإسلام.

ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حاميةٌ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر حليف بني نوفل بن عبد مناف - وكانا مسلمين؛ ولكنهما خرجا يتوصلان بالكفار إلى المسلمين - وكان على ذلك الجمع عكرمة بن أبي جهل.

قال محمد: فكانت راية عبيدة - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة. قال: وبعث حمزة بن عبد المطلب في مقامه ذلك إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين؛ وهي من أرض جهينة ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، فكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف القوم بعضهم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال.

قال: وبعض القوم يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الملسمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة بن الحارث كانا معاً، فشبه ذلك على الناس.

قال: والذي سمعنا من أهل العلم عندنا أن راية عبيدة بن الحارث كانت أول راية عقدت في الإسلام.

قال: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الآخر، يريد قريشاً، حتى إذا بلغ بواط من ناحية رضوى رجع ولم يلق كيداً، فلبث بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأول.

ثم غزا يريد قريشاً، فسلك على نقب بني دينار بن النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده. وصنع له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثا في البرمة معلوم هنالك. واستقى له ماء به يقال له المشيرب. ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله - وذلك اسمها اليوم - ثم صب ليسار، حتى هبط يليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة؛ واستقى له من بئر بالضبوعة. ثم سلك الفرش؛ فرش ملل، حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام. ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيداً.

وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب ما قال.

قال: فلم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوة العشيرة بالمدينة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه؛ وهي غزو بدر الأولى؛ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجب وشعبان. وقد كان بعث فيما بين ذلك سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط.

وزعم الواقدي أن في هذه السنة - أعني السنة الأولى من الهجرة - جاء أبو قيس بن الأسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه ! أنظر في أمري ، ثم أعود إليك. فلقيه عبد الله بن أبي، فقال له: كرهت والله حرب الخزرج ! فقال أبو قيس: لا أسلم سنة؛ فمات في ذي القعدة.