المجلد الثاني - ذكر وقعة بدر الكبرى

ذكر وقعة بدر الكبرى

حدثنا علي بن نصر بن علي، وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال عبد الوارث: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن وعروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى في أبي سفيان ومخرجه، تسألني كيف كان شأنه ؟ كان من شأنه أن أبا سفيان بن حرب أقبل من الشام في قريب من سبعين راكباً من قبائل قريش كلها، كانوا تجاراً بالشام، فأقبلوا جميعاً معهم أموالهم وتجارتهم، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابة؛ وقد كانت الحرب بينهم قبل ذلك، فقتلت قتلى، وقتل ابن الحضرمي في ناس بنخلة، وأسرت أسارى من قريش؛ فيهم بعض بني المغيرة، وفيهم ابن كيسان مولاهم، أصابهم عبد الله بن جحش وواقد حليف بني عدي بن كعب، في ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم مع عبد الله بن جحش، وكانت تلك الوقعة هاجت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وأول ما أصاب به بعضهم بعضاً من الحرب، وذلك قبل مخرج أبي سفيان وأصحابه إلى الشأم.

ثم إن أبا سفيان أقبل بعد ذلك ومن معه من ركبان قريش مقبلين من الشأم، فسلكوا طريق الساحل، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه وحدثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم، فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه؛ لا يرونها إلا غنيمة لهم؛ لا يظنون أن يكون كبير قتال إذا لقوهم، وهي التي أنزل الله عز وجل فيها: " وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ".

فلما سمع أبو سفيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضون له، بعث إلى قريش: إن محمدا وأصحابه معترضون لكم، فأجيروا تجارتكم. فلما أتى قريشاً الخبر - وفي عير أبي سفيان؛ من بطون كعب ابن لؤي كلها - نفر لها أهل مكة؛ وهي نفرة بني كعب بن لؤي، ليس فيها من بني عامر أحدٌ إلا من كان من بني مالك بن حسل؛ ولم يسمع بنفرة قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ؛ حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم بدراً - وكان طريق ركبان قريش، من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشأم - فخفض أبو سفيان عن بدر ولزم طريق الساحل، وخاف الرصد على بدر وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عرس قريباً من بدر، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في عصابة من أصحابه إلى ماء بدر، وليسوا يحسبون أن قريشاً خرجت لهم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي؛ إذا ورد بعد روايا قريش ماء بدر وفيمن ورد من الروايا غلام لبني الحجاج أسود؛ فأخذه النفر الذي بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير إلى الماء، وأفلت بعض أصحاب العبد نحو قريش، فأقبلوا به حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معرسه، فسألوه عن أبي سفيان وأصحابه؛ لا يحسبون إلا أنه معهم، فطفق العبد يحدثهم عن قريش ومن خرج منها، وعن رءوسهم، ويصدقهم الخبر، وهو أكره شيء إليهم الخبر الذي يخبرهم؛ وإنما يطلبون حينئذ بالركب أبا سفيان وأصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي؛ يركع ويسجد ويرى ويسمع ما يصنع بالعبد، فطفقوا إذا ذكر لهم أنها قريش جاءتهم ضربوه وكذبوه وقالوا: إنما تكتمنا أبا سفيان وأصحابه؛ فجعل العبد إذا أذلقوه بالضرب وسألوه عن أبي سفيان وأصحابه - وليس لهم بهم علم؛ إنما هو من روايا قريش - قال: نعم، هذا أبو سفيان والركب حينئذ أسفل منهم؛ قال الله عز وجل: " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم " - حتى بلغ - " أمراً كان مفعولاً "، فطفقوا إذا قال لهم العبد: هذه قريش قد أتتكم ضربوه، وإذا قال لهم: هذا أبو سفيان تركوه.

فلما رأى صنيعهم النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاته وقد سمع الذي أخبرهم فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والذي نفسي بيده، إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذب ! قالوا: فإنه يحدثنا أن قريشاً قد جاءت، قال: فإنه قد صدق؛ قد خرجت قريش تجير ركابها، فدعا الغلام فسأله فأخبره بقريش، وقال: لا علم لي بأبي سفيان، فسأله: كم القوم ؟ فقال: لا أدري؛ والله هم كثير عددهم. فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أطعمهم أول من أمس ؟ فسمى رجلاً أطعمهم، فقال: كم جزائر نحر لهم ؟ قال: تسع جزائر، قال فمن أطعمهم أمس ؟ فسمى رجلاً، فقال كم نحر لهم ؟ قال: عشر جزائر؛ فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف. فكان نفرة قريش يومئذ خمسين وتسعمائة.

فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الماء وملأ الحياض، وصف عليها أصحابه، حتى قدم عليه القوم، فلما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً قال: هذه مصارعهم؛ فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه. فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه قريش قد جاءت بجلبتها وفخرها؛ تحادك وتكذب رسولك ! اللهم إني أسألك ما وعدتني.

فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم التراب؛ فهزمهم الله. وكانوا قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: أن ارجعوا - والركب الذين يأمرون قريشاً بالرجعة بالجحفة - فقالوا: والله لا نرجع حتى ننزل بدراً، فنقيم فيه ثلاث ليال، ويرانا من غشينا من أهل الحجاز؛ فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا. وهم الذين قال الله عز وجل: " الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس "؛ فالتقوا هم والنبي صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر وشفى صدور المسلمين منهم.

حدثني هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقداد، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي عليه السلام، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعكٌ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر؛ فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجلٌ من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط؛ فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير، شديدٌ بأسهم؛ فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم ؟ فقال: هم والله كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي أن يخبره كم هم، فأبى. ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: كم ينحرون من الجزر ؟ فقال: عشراً كل يوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ألف.

ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله ! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة من الجبل. فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، ناد لي حمزة - وكان أقربهم إلى المشركين -: من صاحب الجمل الأحمر ؟ وماذا يقول لهم ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم.

قال: فسمع أبو جهل فقال: أنت تقول هذا ! والله لو غيرك يقول هذا لعضضته ! لقد ملئت رئتك وجوفك رعباً، فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه ! ستعلم اليوم أينا أجبن ! قال: فبرز عتبة بن ربيعة وأخوه شبية بن ربيعة، وابنه الوليد، حميةً، فقالوا: من يبارز ؟ فخرج فتيةوٌ من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء؛ ولكن يبارزنا من بنى عمنا من بنى عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي قم، يا حمزة قم، يا عبيدة بن الحارث قم، فقتل الله عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة بن الحارث؛ فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا منهم سبعين.

قال: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال: يا رسول الله؛ والله ما هذا أسرني، ولكن أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد آزرك الله بملكٍ كريم. قال علي: فأسر من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث.

حدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: لما أن كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول اله، فكان من أشد الناس بأساً وما كان منا أحدٌ أقرب إلى العدو منه.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: سمعته يقول: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير مقداد بن الأسود؛ ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً إلى شجرة يصلي، ويدعو حتى الصبح.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلاً من الشام في عيرٍ لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم؛ وفيها ثلاثون راكباً من قريش - أو أربعون - منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان؛ عن عروة وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث؛ فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشأم، ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوفاً على أموال الناس؛ حتى أصاب خبراً، من بعض الركبان؛ أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ويزيد ابن رومان، عن عروة، قال: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم علي ما أحدثك به قال لها: وما رأيت ؟ قالت: رأيت راكباً أقبل على بعيرٍ له حتى وقف بالأبطح. ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا با آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته بمثلها: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة، ولا دارٌ من دورها إلا دخلت منها فلقة.

قال العباس: والله إن هذه الرؤيا رأيت فاكتميها ولا تذكريها لأحد.

ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة - وكان له صديقاً - فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث؛ حتى تحدثت به قريش في أنديتها.

قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعودٌ يتحدثون برؤيا عاتكة؛ فلما رآني أبو جهل، قال: يا أبا الفضل؛ إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا. قال: فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية ! قال: قلت: وما ذاك ؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قال: قلت: وما رأت ؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم، حتى تنبأ نساؤكم ! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث ! فسنتربص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقاً فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب.

قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً. قال: ثم تفرقنا؛ فلما أمسيت لم تبق امرأةٌ من بني المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع؛ ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت ! قال: قلت: قد والله فعلت؛ ما كان مني إليه من كبيرٍ ، وايم الله لأتعرضن له؛ فإن عاد لأكفينكموه.

قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أحب أن أدركه منه.

قال: فدخلت المسجد فرأيته؛ فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به - وكان رجلاً خفيفاً حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر - إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال: قلت: في نفسي: ما له لعنه الله ! أكل هذا فرقاً من أن أشائمه ! قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو الغفاري، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث ! قال: فشغلني عنه شغله عني ما جاء من الأمر. فتجهز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ! كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلاً، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أِشرافها أحدٌ؛ إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزى عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخاً جليلاً ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! قال: ثم تجهز مع الناس، فلما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا السير؛ ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر؛ فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعثم المدلجي - وكان من أشراف كنانة - فقال: أنا جارٌ لكم من أن يأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعاً.

قال أبو جعفر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني عن غير ابن إسحاق - لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً من أصحابه؛ فاختلف في مبلغ الزيادة علىالعشرة.

فقال بعضهم، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.

ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً؛ الذين جاوزوا النهر؛ فسكت.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو مالك الجنبي، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً؛ وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة.

وقال آخرون: كانوا ثلثمائة رجل وأربعة عشر، من شهد منهم، ومن ضرب بسهمه وأجره؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

وقال بعضهم: كانوا ثلثمائة وثمانية عشر.

وقال آخرون: كانوا ثلثمائة وسبعة.

وأما عامة السلف، فإنهم قالوا: كانوا ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً.

ذكر من قال ذلك: حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، وحدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالا: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر - ولم يجز معه إلا مؤمن - ثلثمائة وبضعة عشر .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، على عدة أصحاب طالوت؛ من جاز معه النهر؛ وما جاز معه إلا مؤمنٌ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي؛ عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه.

حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد ابن المغيرة، عن مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: عدة أهل بدر عدة أصحاب طالوت.

حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق ،عن البراء، مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت، وكان أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائةً وبضعة عشر رجلاً.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: خلص طالوت في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً؛ عدة أصحاب بدر.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار، في ليالٍ مضت من شهر رمضان؛ فسار حتى إذا كان قريباً من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان بن حرب وعيره، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمهما؛ فلما استقبل الصفراء - وهي قرية بين جبلين - سأل عن جبليهما: ما أسماءهما ؟ فقالوا لأحدهما: هذا مسلح؛ وقالوا للآخر: هذا مخرىء، وسأل عن أهلهما، فقالوا: بنو النار وبنو حراق بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهاليهما؛ فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران؛ فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل.

وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون "؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير.

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى، قال: حدثنا المخارق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود، قال: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما في الأرض من شيء؛ كان رجلاً فارساً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمارت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال، أبشر يا رسول الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أن وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون "، ولكن والذي بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم كانوا عدد الناس؛ وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله؛ إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا؛ نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته؛ إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم - فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ! قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا؛ على السمع والطاعة، فامضي يا رسول الله لما أردت؛ فوالذي بعثك بالحق إن اسعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك؛ ما تخلف منا رجلٌ واحد؛ وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ! إن لصبرٌ عند الحرب؛ صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك؛ فسر بنا على بركة الله.

فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله، وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها على بلد يقال لها الدبة، وترك الحنان بيمين؛ - وهو كثيب عظيم كالجبل - ثم نزل قريباً من بدر، فركب هو ورجلٌ من أصحابه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك؛ فقال: وذاك بذاك ! قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدقني الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا؛ فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به قريش - فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. قال: يقول الشيخ: ما من ماءٍ، أمن ماء العراق ! ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، في نفرٍ من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال، حدثنا محمد بن إسحاق، كما حدثني يزيد بن رومان، عن عرورة بن الزبير - فأصابوا راويةً لقريش فيها أسلم؛ غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بني سعيد؛ فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي؛ فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش؛ بعثونا لنسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما ! صدقا والله ! إنهما لقريش؛ أخبراني: أين قريش ؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم ؟ قالا: كثيرٌ، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف.

ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قال: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث بن كلدة، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

قالوا: وقد كان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء مضيا حتى نزلا بدراً، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شناً يستقيان فيه - ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء - فسمع عدى وبسبس جاريتين من جواري الحاضر؛ وهما تتلازمان على الماء؛ والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غداً أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال: مجدى: صدقت، ثم خلص بينهما؛ وسمع ذلك عدى وبسبس، فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.

وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذراً حتى ورد الماء، فقال لمجدى بن عمرو: هل أحسست أحداً ؟ قال: ما رأيت أحداً أنكره؛ إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما؛ ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته؛ فإذا فيه نوى. فقال: هذه والله علائف يثرب ! فرجع إلى أصحابه سريعاً، فضربة وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدراً يساراً، ثم انطلق حتى أسرع .

وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا؛ فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرسٍ حتى وقف ومعه بعيرٌ له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان؛ فعدد رجالاً ممن قتل يومئذ من أشراف قريش؛ ورأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر. إلا أصابة نضحٌ من دمه.

قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضاً نبيٌ من بني المطلب؛ سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا ! ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم؛ فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل ابن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً - وكان بدرٌ موسماً من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوقٌ كل عام - فنقيم عليه ثلاثاً، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً؛ فامضوا.

فقال الأخنس بن شريق ين عمرو بن وهب الثقفي - وكان حلفياً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة؛ قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل؛ وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعةٍ؛ لا ما يقول هذا - يعني أبا جهل - فرجعوا؛ فلم يشهدها زهريٌ واحدٌ، وكان فيهم مطاعاً. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجلٌ واحدٌ، إلا فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحدٌ. ومضى القوم.

قال: وقد كان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع.

قال أبو جعفر: وأما ابن الكلبي؛ فإنه قال فيما حدثت عنه: شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين، أخرج كرهاً. فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى، ولم يرجع إلى أهله، وكان شاعراً؛ وهو الذي يقول:

 يارب إنما يغزون طـالـب               في مقنبٍ من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب       وليكن المغلوب غير الغالب

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي؛ خلف العقنقل، وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلقه قريش ، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض؛ ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادروهم إلى الماء؛ حتى إذا جاء أدنى من بدر نزل به.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة ؛أنهم ذكروا أن الحباب ابن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى الماء من القوم فننزله، ثم نعور ما سواه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فتملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبني حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.

حدثنا ابن حميد ،قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك مما أحببنا، وإن كانت الأخرى حلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد خلفت عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد حباً لك منهم؛ ولو ظنوا أنك تلقي حرباً ما تخلفوا عنك. يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. ودعا له بخير.

ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ، فكان فيه؛ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي منه جاءوا إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك؛ اللهم فنصرك الذي وعدتني؛ اللهم فأحنهم الغداة ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورأى عتبة بن ربيعة في القوم، على جمل له أحمر: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ؛ فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه إيماء بن رحضة - بعث إلى قريش حين مروا به ابناً له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلنا؛ فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك الرحم ! فقد قضيت الذي عليك؛ فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس؛ ما بنا ضعفٌ عنهم؛ ولئن كنا نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة.

فلما نزل الناس، أقبل نفر من قريش؛ حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، على فرس له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب منهم رجل إلا قتل يومئذ؛ إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل؛ نجا على فرس له يقال له الوجيه، وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه؛ فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال: محمد بن إسحاق: وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون؛ ولكن أمهلوني حتى أنظر؛ أللقوم كمين أم مدد ؟ قال: فضرب في الوادي؛ حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت - يا معشر قريش - الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع؛ قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم؛ فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! فروا رأيكم.

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها؛ هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر ! قال: وما ذاك يا حكيم ؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي ! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك؛ إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله؛ فأت ابن الحنظلية؛ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره - يعنى أبا جهل بن هشام.

حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني مسور بن عبد المللك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: إئذن له، فلما دخل جكيم بن حزام، قال: مرحباً بك يا أبا خالد ! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس؛ حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحدٌ من مشركيهم بدلراً.

ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟ قال: أفعل ماذا ؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي؛ وهو حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس. فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك ؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه؛ وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك ؟ قال: أما وجد رسولاً غيرك ! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادراً إلى عتبة؛ لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري؛ وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك ! فقال له عتبة: ستعلم ! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا ! فعند ذلك قامت الحرب.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً؛ والله لئن أصبتموه لا يزال رجلٌ ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته؛ فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم: فانطلقت أؤم أبا جهل؛ فوجدته قد نشل درعاً له من جرابها؛ فهو يهيئها. فقلت: يا أبا الحكم؛ إن عتببة قد أرسلني إليك بكذا وكذا - للذي قال - فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه؛ كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، وما بعتبة ما قال؛ ولكنه قد رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور؛ وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال له: هذا حليفك، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه ! واعمراه ! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة.

فلما بلغ عتبة بن ربيعة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو ! ثم التمس بيضة يدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.

وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيء الخلق - فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه؛ وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد - زعم - أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة؛ حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر منهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر يقال له عبد الله بن رواحة، فقال: من أنتم ؟ قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: مالنا بكم حاجة ! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب؛ فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم ! قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاءٌ كرام ! فبارز عبيدة بن الحارث - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة؛ فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما عليٌ فلم يمهل الوليد أن قتله؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة، فذففا عليه فقتلاه، واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه؛ وقد قطعت رجله، فمخها يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيداً يا رسول الله ! قال: بلى، فقال عبيدة لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول:

ونسلمه حتى نصرع حوله             ونذهل عن أبنائنا والحلائل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا: أكفاءٌ كرامٌ، إنما نريد قومنا، ثم تزاحف الناس؛ ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم؛ وقال: إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر.

قال أبو جعفر: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، كما حدثنا ابن حميد، قال :حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق؛ كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان بن واسع، عن أشياخ من قومه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، حليف بن عدي بن النجار، وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح، وقال: استو يا سواد بن غزية؛ قال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني. قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ثم قال: استقد، قال: فاعتنقه وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ فقال: يا رسول الله، حضر ما ترى فلم آمن القتل. فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيراً.

ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش ودخله، ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم - يعني المسلمين - لا تعبد بعد اليوم، وأبو بكر يقول: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك !، فإن الله عز وجل منجزٌ لك ما وعدك.

فحدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار، قال: حدثني سماك الحنفي، قا ل: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم، ونظر إلى أصحابه نيفاً على ثلثمائة، استقبل القبلة، فجعل يدعو، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض؛ فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر فوضع ردائه عليه ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأنت وأمي، مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك ! فأنزل الله تبارك وتعالى: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ".

حدثنا ابن وكيع: قال: حدثنا الثقفي - يعني عبد الوهاب - عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو في قبته يوم بدر: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك؛ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم ! قال: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا نبي الله، فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ".

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقةً وهو في العريش؛ ثم انتبه، فقال: يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع. قال: وقد رمي مهجعٌ مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمي حارثة بن سراقة، أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض فقتل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، ونفل كل امرىء منهم ما أصاب، وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ! ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول:

ركضاً إلى الله بغـير زاد                إلا التقى وعمل المـعـاد
والصبر في الله على الجهاد        وكل زادٍ عرضه النـفـاد
غير التقى والبر والرشاد

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً. فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها؛ ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، وحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: اللهم اقطعنا للرحم، وأتانا بما لا يعرف؛ فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً، ثم قال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه شدوا، فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر منهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس ! قال: أجل والله يا رسول الله ! كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين؛ فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثني سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ: إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم لقتالنا، فمن لقى منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله؛ فإنه إنما أخرج مستكرهاً.

قال: فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آبائنا وأبنائنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس ! والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، أما تسمع إلى قول أبي حذيفة، يقول: أضرب وجه عم رسول الله بالسيف ! فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضربن عنقه بالسيف؛ فوالله لقد نافق.

- قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - قال: فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزل منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيداً .

قال: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه؛ وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار من بني عدي، فقال المجذر بن ذياد لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتلك - ومع أبي البختري زميلٌ له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري العاص بن هشام ابن الحارث بن أسد - قال: وزميلي ؟ فقال: المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك؛ ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله أذاً ، لأموتن أنا وهو جميعاً؛ لا تحدث عني نساء قريش من أهل مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة فقال أبو البختري حين نازله المجذر، وأبى إلا القتال، وهو يرتجز:

لن يسلم ابن حرةٍ أكـيلـه             حتى يموت أو يرى سبيله

فاقتتلا، فقتله المجذر بن ذياد.

قال: ثم أتى المجذر بن ذياد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال، فقاتلته فقتلته.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال. وحدثني أيضاً عبد الله بن أبي بكر، وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة - وكان اسمي عبد عمرو، فسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، ونحن بمكة - قال: فكان يلقاني ونحن بمكة، فيقول يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك ؟ فأقول: نعم، فيقول: فإني لا أعرف الرحمن؛ فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به؛ أما أنت فلا تجيبني بأسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو لم أجبه، فقلت: اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، فقلت: نعم، فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه؛ حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه على بن علبي بن أمية، آخذاً بيده، ومعي أدراعٌ قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآني قال: يا عبد عمرو ! فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال : هل لك في ، فأنا خير لك من الأدراع التي معك ؟ قلت : نعم ، هلم إذاً. قال: فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه علي، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط ! أما لكم حاجة في اللبن ! قال: ثم خرجت أمشي بهما.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه، آخذٌ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم، المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ! قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على أن يترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحدٌ أحدٌ -فقال بلال حين رآه: رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجوت؛ قال: قلت: أي بلال، أسيري ! قال: لا نجوت إن نجوا. قال: قلت: تسمع يابن السوداء ! قال: لا نجوت إن نجوا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! قال: فأحاطوا بنا، ثم جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه؛ قال: فضرب رجلٌ ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط . قال: قلت: انج بنفسك، ولا نجاء؛ فوالله ما أغنى عنك شيئاً. قال: فبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.

قال: فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا! ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن ابن عباس، أن ابن عباس، قال: حدثني رجلٌ من بنى غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكو الدبرة، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينا نحن في الجبل؛ إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيال، فسمعت قائلاً: يقول: أقدم حيزوم. قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع فلبه فمات مكانه؛ وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق :" وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بنى مازن بن النجار، عن أبي داود المازني - وكان شهد بدراً - قال: إنى لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.

حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا محمد بن يحيى الإسكندراني عن العلاء بن كثير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي أمامة ابن سهبل بن حنيف، قال: قال لي أبي: يا بني، لقد رأيتنا يوم بدر؛ وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراً، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة ، قال: قال محمد: وحدثني ثور بن زيد مولى بنى الديل، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قالا: كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة يقول: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، أمر بأبي جهل أن يلتمس بالقتلى، وقال: اللهم لا يعجزنك، قال: فكان أول من لقى أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح، قال: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه.

فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه؛ فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا النواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.

قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي؛ فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه؛ فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفى؛ فلما آدتني جعلت عليها رجلي، ثم تمطيت بها، حتى طرحتها.

قال: ثم عاش معاذ بعد ذلك، حتى كان في زمن عثمان بن عفان. قال : ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته؛ فتركه وبه رمق؛ وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني: انظروا إن خفى عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته؛ فإنى ازدحمت أنا وهو يوماً على مأدبة لعبد الله ابن جدعان؛ ونحن غلامان؛ وكنت أشف منه بيسير؛ فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشاً لم يزل أثره فيه بعد. قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله ! قال: وبما ذا أخزانمي ! أعمد من رجل قتلتموه ! أخبرني لمن الدبرة ؟ اليوم قال: قلت: لله ورسوله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود، كان يقول: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً ! ثم احتززت رأسه؛ ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آلله الذي لا إله غيره ! - وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: نعم؛ والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فحمد الله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه؛ إلا ما كان من أمية بن خلف؛ فإنه انتفخ في درعه حتى ملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل فأقروه، وألقوا عليه ما غيبة من التراب والحجارة، فلما ألقاهم في القليب ، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ! فإنى وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوماً موتى ! قال: لقد علموا أن ما وعدتهم حق، قالت عائشة: والناس يقولون:  لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد علموا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق.

قال: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من جوف الليل: يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - فعدد من كان معهم في القليب: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؛ فإنى قد وجدت ماو عدني ربي حقاً ! قال: المسلمون: يا رسول الله؛ أتنادي قوماً قد جيفوا ! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم؛ ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال هذه المقالة: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.

ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ للمقالة التي قال: قال: ولما أمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في أبي حذيفة بن عتبة؛ فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة؛ لعلك دخلك من شأن أبيك شيء ! - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: لا والله يا نبي الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه؛ ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً؛ فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام؛ فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، حزنني ذلك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير، وقال له خيراً.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع؛ فاختلف المسلمون فيه، فقال من جمعه: هو لنا؛ قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل كل امرئ ما أصاب، فقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونهم: لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم.

فقال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا؛ لقد رأينا أن نقتل العدو إذ ولانا الله، ومنحنا أكتافهم؛ ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه؛ ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فقمنا دونه؛ فما أنتم بأحق به منا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت؛ حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء - يقول على السواء - فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين.

قال: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة.

قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسوال الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.

قال: ثم قدم زيد بن حارثة فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام، وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.

قال: قلت: يا أبه أحقٌ هذا ! قال: نعم والله يا بنى. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة؛ فاحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن زيد ابن عوف بن مبذول بن عمرو بن مازن بن النجار. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية - يقال له سير - إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، واستقى له من ماء به يقال له الأرواق.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا جاء بالروحاء، لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال سلمة بن سلامة بن وقش - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان: وما الذي تهنئون به ! فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعلقة، فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا بن أخي، أولئك الملأ قال: ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسارى من المشركين وكانوا أربعة وأربعين أسيراً، وكان من القتلى مثل ذلك - وفي الأسارى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة - حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

حدثنا ابن حميد، قتال: حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: كما حدثني بعض أهل العلم من أهل مكة؛ قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة بن أبي معيط، فقال حين أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل: فمن للصبية يا محمد ! قال: النار، قال: فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري، ثم أحد بنى عمرو بن عوف.

قال: كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرق ظبية حين قتل عقبة لقيه أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضي بحميت مملوء حيساً، وكان قد تخلف عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أبو هند امرؤٌ من الأنصار، فأنكحوه وأنكحوا إليه، ففعلوا.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء - قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، قالت: فرحت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت: فوالله ما ملكت نفسي حين رأت أبا يزيد كذلك أن قلت: يا أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً ! فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت : يا سودة ، أعلى الله وعلى رسوله !قالت: قلت: يار سول الله؛ والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا زيد مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني نبيه بن وهب، أخو بنى عبد الدار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيراً - قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى - قال: فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع، لعلها أن تفتديه منك.

قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر؛ فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. قال: فأستحي، فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس ابن ضبيعة بن مازن بن كعب بن عمرو الخزاعي - قال أبو جعفر: وقال الواقدي: الحيسمان بن حابس الخزاعي - قالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.

قال: فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: هو ذاك جالساً في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكذلك صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إنى لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر، جتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري؛ فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي، فعندك الخبر.

قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال يا بن أخي؛ أخبرني؛ كيف كان أمر الناس ؟ قال: لا شيء؛ والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا ويأسرون كيف شاءوا؛ وايم الله مع ذلك ما لمت الناس؛ لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلقٍ بين السماء والأرض؛ ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: فثاورته، فاحتملني، فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني - وكنت رجلاً ضعيفاً - فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فشجت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده ! فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله عز وجل بالعدسة فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفنانه حتى أنتن في بيته - وكانت قريش تتقي العدسة وعدوتها كما يتقى الناس الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ! ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه ! فقالا: إنا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد، ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله ابن عباس، قال: لما أمسى القوم من يوم بدر، والأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهراً أول ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله، مالك لا تنام ! فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه، قال: فقاموا إلى العباس فأطلقوه، فنام رسوال الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبية بن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بنى سلمة، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً، وكان العباس رجلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ؟ فقال: يا رسول الله؛ لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده؛ هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أعانك عليه ملك كريم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمداً واصحابه، فيشمت بكم، ولا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا بهم؛ لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.

قال: وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود؛ وعقيل بن الأسود، والحارث بن الأسود؛ وكان يجب أن يبكي على بنيه؛ فبينا هو كذلك؛ إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هلى أحل النحب ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكي على أبي حكيمة - يعنى زمعة - فإن جوفي قد احترق ! قال: فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته. قال: فذلك حين يقول:

أتبكي أن يضل لها بـعـيرٌ                 ويمنعها من النوم السهـود
فلا تبكي على بكرٍ ولـكـن              على بدرٍ تقاصرت الجدود
على بدرٍ سراة بنى هصيصٍ           ومخزومٍ ورهط أبي الوليد
وبكى إن بكيت على عقـيلٍ            وبكى حارثاً أسـد الأسـود
وبكيهم ولا تسمى جمـيعـاً              فما لأبي حكيمة من نـديد
ألا قد ساد بعدهـم رجـالٌ                ولولا يوم بدرٍ لـم يسـودوا

قال: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له ابناً تاجراً كيساً ذا مال؛ وكأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه ! قال: فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسرائكم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى -: صدقتم، لا تعجلوا بفداء أسرائكم.

ثم انسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، ثم انطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص ابن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بنى سالم بن عوف، وكان سهيل بن عمرو أعلم من شفته السفلى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة، أخو بنى عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو. السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطنٍ أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبياً.
قال: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه؛ فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. قال: فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزاً مكانه عندهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، أخا بنى الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال.

فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلماً؛ ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك؛ إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا !. قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها؛ وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابنى أخيه وحليفه.

حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب - وكان لابنه عقبة بن أبي معيط - أسيراً في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر، فقيل لأبي سفيان: افد عمراً، قال: أيجمع على دمي ومالي ! قتلوا حنظلة وأفدي عمراً! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمراً، ومعه مرية له؛ وكان شيخاً كبيراً مسلماً في غنم له بالنقيع؛ فخرج من هنالك معتمراً؛ ولا يخشى الذي صنع به؛ لم يظن أنه يحبس بمكة؛ إنما جاء معتمراً؛ وقد عهد قريشاً لا تعترض لأحد حاجاً أو معتمراً إلا بخير؛ فعدا عليه أبو سفيان بن حرب، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، ثم قال أبو سفيان :

أرهط ابن أكالٍ أجيبوا دعـاءه           تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بنـي عـمـرو لـئامٌ أذلةٌ             لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخبره خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا شيخهم؛ ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.

قال: وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارةً، وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها؛ وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه؛ فكانت تعده بمنزلة ولدها؛ فلما أكرم الله عز وجل رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق؛ ودن بدينه؛ وثبت أبو العاص على شركه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم؛ فلما بادى قريشاً بأمر الله عز وجل وباعدوه، قالوا: إنكم قد فرغتم محمداً من همه؛ فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا: فارق صاحبتك؛ ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، قال: لا ها الله إذاً؛ لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهره خيراً - فيما بلغني.

قال: ثم مشوا إلى الفاسق ابن الفاسق، عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق ابنه محمد ونحن نزوجك أي امراة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن عدو الله دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهواناً له؛ فخلف عليها عثمان بن عفان بعده؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوباً على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامهم وهو على شركه؛ حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع؛ فأصيب في الأسارى يوم بدر، وكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها.
قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه - أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يخلى سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه؛ ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلم ما هو ! إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثه ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما؛ وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها؛ فخرجت تجهز.

فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: أي ابنة محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ! قالت: فقلت: ما أردت ذلك، قالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي؛ إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني منى؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت: ووالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن اكون أريد ذلك، وتجهزت.

فلما فرغت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيراً فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس، والفهري. فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها - وكانت المرأة حاملاً؛ فيما يزعمون - فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهماً، فتكركر الناس عنه؛ وأتاه أبو سفيان في جلة قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الرجال علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرج بابنته علانيةً من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعفٌ ووهنٌ؛ لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها، وما لنا في ذلك من ثؤرة؛ ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها؛ فسلها سراً فألحقها بأبيها. ففعل حتى إذا هدأ الصوت خرج بها ليلا؛ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، قد فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج تاجراً إلى الشأم - وكان رجلا مأمونا بمال له، وأموال رجال من قريش أبضعوها معه - فلما فرغ من تجارته - وأقبل قافلاً؛ لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هرباً، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل؛ حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار بها، فأجارته في طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح - فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت ! قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم؛ إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمى مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك؛ وإن أبيتم فهو فئ الله الذي افاءه عليكم؛ فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه ! قل: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل، ويأتي الرجل بالشنة والإداوة؛ حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ؛ حتى ردوا عليه ماله بأسره؛ لا يفقد منه شيئاً.

ثم احتمل إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش؛ هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا: لا فجزاك الله خيراً؛ فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أكل أموالكم؛ فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئاً بعد ست سنين.

حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر - وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهم بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر - فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش خير بعدهم، فقال عمير: صدقت والله ! أما والله لولا دين على ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علةً؛ ابنى أسير في أيديهم.

فاغتنمها صفوان بن أمية، فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعنى شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم على شأني وشأنك: قال: أفعل.

قال: ثم إن عميراً أمر بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين في المسجد يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله عز وجل به، وما أراهم في عدوهم؛ إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ بعيره على باب المسجد، متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر ! وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه، قال: فأدخله علي.

قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفة في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا هذا الخبيث عليه، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحاً - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك بيا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة، قال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث عهد بها. قال: ما جاء بك يا عمير ؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: فمال بال السيف في عنقك ! قال: قبحها الله من سيوف ! وهل أغنت شيئاً ! قال: اصدقني بالذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك، فقال: بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له. والله عز وجل حائلٌ بينى وبينك. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله؛ قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي؛ وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وضفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله؛ فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلموه القرآن، وأطلقوا له أسيره.

قال: ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله: إني كنت جاهداً في إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله؛ وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام؛ لعل الله أن يهديهم ! وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم.

قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان؛ حتى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبداً ولا ينفعه بنفع أبداً. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذىً شديداً فأسلم على يديه أناس كثير.
فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها.

حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس؛ حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر سبعون رجلاً، فلما كان يومئذ شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعلياً وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب ؟ قال: قلت: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخ له فيضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار؛ هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم.

قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت أنا، فأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد قال عمر: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعدٌ وأبو بكر، وإذا هما يبكيان، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذي عرض علي أصحابك من الفداء. لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله: " فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ "؛ ثم أحل لهم الغنائم.

فلما كان من العام القابل في أحد عوقبوا بما صنعوا، قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون، وأسر سبعون، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصعدوا الجبل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " أو لما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إلى قوله: إن الله على كل شيء قديرٌ "، ونزلت هذه الآية الأخرى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " إلى قوله: " من بعد الغم أمنةً ".

حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، واستبقهم واستأنهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم.

وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك، قدمهم فضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم ناراً. قال: فقال له العباس: قطعتك رحمك ! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله، فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن؛ وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة؛ وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيمٌ "، ومثلك يا أبا بكر، مثل عيسى، قال: " إن تعذبهم فهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً "، ومثلك كمثل موسى، قال: " ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالةٌ فلا يفلتن منهم أحدٌ إ لا بفداء أو ضرب عنق؛ قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء. فإنى سمعته يذكر الإسلام.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم؛ حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا سهيل بن بيضاء " قال: فأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... " إلى آخر الآيات الثلاث.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: لما نزلت - يعني هذه الآية: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.

قال أبو جعفر: وكان جميع من شهد بدراً من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ثلاثةً وثمانين رجلاً في قول ابن إسحاق.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه ومن ضرب له بسهمه واحدٌ وستون رجلاً. وجميع من شهد معه من الخزرج مائة وسبعون رجلاً في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ أربعةً عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وكان المشركون - فيما زعم الواقدي - تسعمائة وخمسين مقاتلاً؛ وكانت خيلهم مائة فرس.

ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة استصغرهم - فيما زعم الواقدي - فمنهم فيما زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميراً بعد أن رده فقتل يومئذ.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشأم يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربان؛ وهو منحدرٌ من بدر يريد المدينة.

قال الواقدي: كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في ثلثمائة رجل وخمسة، وكان المهاجرون أربعةً وسبعين رجلاً، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين؛ أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن عبد المنذر؛ خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان؛ خلفه على العالية، والحارث بن حاطب؛ رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة؛ كسر بالروحاء؛ وهو من بنى مالك بن النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف. قال: وكانت الإبل سبعين بعيراً، والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.

قال أبو جعفر: وروى عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ورئى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر المشركين يوم بدر مصلتاً السيف، يتلو هذه الآية: " سيهزم الجمع ويولون الدبر ".

قال: وفي غزوة بدر انتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار، وكان لمنبه بن الحجاج.

قال: وفيها غنم جمل أبي جهل؛ وكان مهرياً يغزو عليه ويضرب في لقاحه.

قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها؛ على أن لا يعينوا عليه أحداً؛ وأنه إن دهمه بها عدوٌ نصروه. فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش، أظهروا له الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمدٌ من يحسن القتال؛ ولو لقينا لاقى عندنا قتالاً لا يشبهه قتال أحد؛ وأظهروا نقض العهد.