المجلد الثاني - ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة

ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة

غزوة ذي أمر

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريباً منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفراً كله أو قريباً من ذلك. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلاً منه.

ثم غزا يريد قريشاً وبني سليم، حتى بلغ بحران معدناً بالحجاز من ناحية الفرع فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.

خبر كعب بن الأشرف

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى كعب بن الأشرف؛ فزعم الواقدي أن النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من حديث ابن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر؛ وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل من المشركين؛ كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أبي بردة بن أسير الظفري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، قال: كل قد حدثني بعض حديثه، قال: قال كعب بن الأشرف - وكان رجلاً من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير؛ فقال حين بلغه الخبر: ويلكم أحقٌ هذا ! أترون أن محمداً قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة ؟ وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.

فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأنزلته وأكرمته؛ وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل بنت الحارث، فقال:

أراحلٌ أنت لم تحلل بـمـنـقـبةٍ               وتاركٌ أنت أم الفضل بالحـرم !
صفراء رداعةٌ لو تعصر انعصرت                من ذي القوارير والحناء والكتـم
يرتج ما بين كعبيها ومرفـقـهـا               إذا تأتت قـيامـاً ثـم لـم تـقـم
أشباه أم حكـيمٍ إذ تـواصـلـنـا               والحبل منها متينٌ غير منـجـذم
إحدى بني عامر جن الفؤاد بـهـا            ولو تشاء شفت كعباً من السـقـم
فرع النساء وفرع القوم والـدهـا              أهل التحلة والإيفـاء بـالـذمـم
لم أر شمساً بليلٍ قبلها طـلـعـت           حتى تجلت لنا في ليلة الـظـلـم

ثم شبب بنساء من نساء المسلمين حتى آذاهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: من لى من ابن الأشرف ! قال: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب. إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب ؟ قال: يا رسول الله، قلت قولا لا أدري أفي به أم لا ! قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك ! قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش - وهو أبو نائلة أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب من الرضاعة - وعباد ابن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أخو بني حارثة.

ثم قدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوه سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا شعراً - وكان أبو نائلة يقول الشعر - ثم قال: ويحك يا بن الأشرف ! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك؛ فاكتم علي، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل بلاءً علينا عادتنا العرب ورمونا عن قوسٍ واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ! فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول، فقال سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم ! فقال: لقد أردت أن تفضحنا ! إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه لك وفاء - وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها - فقال: إن في الحلقة لوفاء، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح فينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة - وكان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته؛ فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محاربٌ؛ وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة؛ لو وجدني نائماً لما أيقظني، قالت: والله إني لأعرف في صوته الشر. قال: يقول لها كعب: لو دعى الفتى لطعنة أجاب؛ فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا له: هل لك يا بن الأشرف، أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ! قال: إن شئتم ! فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة. ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيب عطرٍ قط. ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن ثم مشى ساعة، فعاد لمثلها، فأخذ بفودى رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله؛ فاختلف عليه أسيافهم، فلم تغن شيئاً.

قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصنٌ إلا أوقدت عليه نار. قال: فوضعته في ثندؤته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح في رأسه أو رجله، أصابه بعض أسيافنا.

قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة - رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله - وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة - فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله ! قتلته ! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله ! قال محيصة: فقلت له: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك. قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، وقال: لو أمرك محمد بقتلى لقتلتني ! قال: نعم والله، لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب! فأسلم حويصة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق. قال: حدثني هذا الحديث مولى لبني حارثة، عن ابنة محيصة، عن أبيها.

قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس ابن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وزعم الواقدي أن في ربيع الأول من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة، وأن في ربيع الأول من هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أنمار - ويقال لها: ذو أمر - وقد ذكرنا قول ابن إسحاق في ذلك قبل.

قال الواقدي: وفيها ولد السائب بن يزيد ابن أخت النمر.