ذكر الأحداث التي كانت في سنة أربع من الهجرة
غزوة الرجيع
ثم دخلت السنة الرابعة من الهجرة، فكان فيها غزوة الرجيع في صفر. وكان من أمرها ما حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة؛ قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا له: يا رسول الله؛ إن فينا إسلاماً وخيراً؛ فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرءوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبيب بن عدي أخا بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفاً لبنى ظفر من بلى.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد، فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجبع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف، قد غشوهم.
فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم. فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثلبت بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً؛ فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعاً.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم، فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل - وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه - ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة؛ فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر، فمنعته الدبر. فلما حالت بينهم وبينه، قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فبعث الله الوادي. فاحتمل عاصماً فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهداً ألا يمسه مشركٌ ولا يمس مشركاً أبداً، تنجساً منه.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه، أن الدبر منعته: عجبا، لحفظ الله العبد المؤمن ! كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق، فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه، والذي قصه غيره من ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون العمري، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عمرو - أو عمر - بن أسيد، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عشرة رهط، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فبعثوا إليهم مائة رجل رامياً؛ فوجدوا مأكلهم حيث أكلوا التمر، فقالوا: هذه نوى يثرب، ثم اتبعوا آثارهم؛ حتى إذا أحس بهم عاصمٌ وأصحابه التجئوا إلى جبل، فأحاط بهم ألآخرون، فاستنزلوهم، وأعطوهم العهد، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، اللهم أخبر نبيك عنا. ونزل إليهم ابن الدثنة البياضي، وخبيب، ورجل آخر، فأطلق القوم أوتار قسيهم، ثم أوثقوهم، فخرجوا رجلاً من الثلاثة، فقال: هذا والله أول الغدر؛ والله لا أتبعكم. فضربوه فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة إلى مكة، فدفعوا خبيباً إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد؛ فبينما خبيب عند بنات الحارث؛ إذ استعار من إحدى بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل، فما راع المرأة - ولها صبي يدرج - إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه، والموسى في يده؛ فصاحت المرأة؛ فقال خبيب: أتخشين أني أقتله ! إن الغدر ليس من شأننا. قال: فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب؛ لقد رأيته وما بمكة من ثمرة؛ وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله؛ إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً .
وبعث حي من قريش إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء، وقد كان لعاصم فيهم آثار بأحد؛ فبعث الله عليه دبراً، فحمت لحمه، فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئاً، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذروني أصل ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين: فجرت سنة لمن قتل صبراً أن يصلي ركعتين. ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزع لزدت، وما أبالي:
على أي شقٍ كان لله مصرعي
ثم قال:
وذلك في ذات الإله وإن يشـأ يبارك على أوصال شلو ممزع
اللهم أحصهم عدداً، وخذهم بدداً.
ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف؛ فضربه فقتله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل ،قال:
وأخبرني جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعثه وحده عيناً إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيبٍ وأنا أتخوف
العيون فرقيت فيها، فحللت خبيباً، فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم
التفت فلم أر لخبيب رمة؛ فكأنما الأرض ابتلعته؛ فلم تذكر لخبيب رمة حتى
الساعة.
قال أبو جعفر: وأما زيد بن الدثنة، فإن صفوان بن أمية بعث به - فيما حدثنا
ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - مع مولى له يقال له نسطاس إلى
التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع واجتمع إليه رهط من قريش، فيهم
أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد،
أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك ! قال: والله ما
أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في
أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب
محمد محمداً. ثم قتله نسطاس.