المجلد الثاني - ذكر خبر جلاء بني النضير

ذكر خبر جلاء بني النضير

قال أبو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بن أمية الضمري الرجلين الذين قتلهما في منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه إليه مع أصحابه بئر معونة، وكان لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارٌ وعهدٌ.

وقيل إن عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قتلت رجلين لهما منك جوارٌ وعهدٌ؛ فابعث بديتهما. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعيناً بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقده لهما؛ - كما حدثني يزيد بن رومان - وكان بين بني النضير وبين بني عامر حلف وعقد؛ فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذنيك القتيلين؛ قالوا: نعم أبا القاسم، نعنيك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، قاعد - فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيقتله بها فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم؛ فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة - كما قال - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه؛ فيهم أبو بكر وعمر وعلي؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة، فلما استلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود قد أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم.

ثم سار بالناس إليهم؛ حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها ! قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه ذكر ان بني النضير لما تآمروا بما تآمروا به من إدلاء الصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن ذلك سلام من مشكم وخوفهم الحرب وقال: هو يعلم ما تريدون، فعصوه، فصعد عمرو بن جحاش ليدحرج الصخرة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء، فقام كأنه يريد حاجة، وانتظره أصحابه، فأبطأ عليهم، وجعلت يهود تقول: ما حبس أبا القاسم، وانصرف أصحابه ؟ فقال كنانة بن صورياً: جاءه الخبر بما هممتم به، قال: ولما رجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهوا إليه وهو جالس في المسجد، فقالوا: يا رسول الله، انتظرناك ومضيت، فقال: همت يهود بقتلي، وأخبرنيه الله عز وجل، ادعوا لي محمد بن مسلمة، قال: فأتى محمد بن مسلمة، فقال: اذهب إلى يهود فقل لهم: اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر.

قال: فجاءهم محمد بن مسلمة، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تظعنوا من بلاده، فقالوا: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس ! فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود؛ فقالوا: نتحمل. قال: فأرسل إليهم عبد الله بن أبي يقول: لا تخرجوا، فإن معي من العرب وممن انضوى إلى من قومي ألفين، فأقيموا فيهم يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم. فبلغ كعب بن أسد صاحب عهد بني قريظ فقال: لا ينقض العهد رجل من بني قريظة وأنا حيٌ، فقال سلام بن مشكم لحيي بن أخطب: يا حيي اقبل هذا الذي قال محمد، فإنما شرفنا على قومنا بأموالنا قبل أن تقبل ما هو شر منه. قال: وما هو شرٌ منه ؟ قال: أخذ الأموال وسبى الذرية وقتل المقاتلة، فأبى حيي، فأرسل جدي ابن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك ! قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون معه، وقال: حاربت يهود، وانطلق جدى إلى ابن أبي يستمده. قال: فوجدته جالساً في نفر من أصحابه، ومنادى النبي صلى الله عليه وسلم ينادي بالسلاح، فدخل ابنه عبد الله بن عبد الله ابن أبي، وأنا عنده، فأخذ السلاح، ثم خرج يعدو، قال: فأيست من معونته. قال: فأخبرت بذلك كله حيياً، فقال: هذه مكيدة من محمد، فزحف إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً؛ حتى صالحوه على أن يحقن دماءهم، وله الأموال والحلقة.

فحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثنتي أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بني النضير - خمسة عشر يوماً حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاءً.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، على أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة - والحلقة: السلاح.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم؛ وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا فلم يفعلوا؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم؛ إلا الحلقة. ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان أشرافهم ممن سار منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيى بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم، وأن فيهم يومئذ لأم عمرو، صاحبة عروة بن الورد العبسي؛ التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار بزهاء وفخر، وما رئى مثله من حي من الناس في زمانهم؛ وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأباد جانة سماك بن خرشة، ذكرا فقراً فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرازها.

قال أبو جعفر: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج لحرب بني النضير - فيما قيل - ابن أم مكتوم، وكانت رايته يومئذ مع علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفي هذه السنة مات عبد الله بن عثمان بن عفان، في جمادى الأولى منها، وهو ابن ست سنين، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرته عثمان بن عفان.

وفيها ولد الحسين بن علي عليه السلام، لليالٍ خلون من شعبان .