المجلد الثاني - حديث الإفك

حديث الإفك

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك - كما حدثني أبي إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - حتى إذا كان قريباً من المدينة - وكانت معه عائشة في سفره ذلك - قال أهل الإفك فيها ما قالوا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علقمة بن وقاص الليثي وعن سعيد بن المسيب، وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال الزهري: كل قد حدثني بعض هذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض. قال: وقد جمعت لك كل الذي حدثني القوم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، قال: وكل قد اجتمع حديثه في خبر قصة عائشة عن نفسها حين قال أهل الإفك فيها ما قالوا :، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً، ويحدث بعضهم ما يحدث بعضٌ، وكل كان عنها ثقة، وكل قد حدث عنها بما سمع.

قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه كما كان يصنع؛ فخرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يبهجن اللحم فيثقلن. قالت: وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به. قالت: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم اذن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقدٌ لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري؛ فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل. قالت: فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافي القوم الذين كانوا يرجلون لي البعير، وقد فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج، وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه؛ وعرفت أن لو قد افتقدوني قد رجعوا إلي. قالت: فوالله إني لمضجعة، إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر؛ فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! أظعينة رسول الله ! وأنا متلففه في ثيابي. قال: ما خلفك رحمك الله ؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبي رحمك الله ! واستأخر عني. قالت فركبت وجاء فأخذ برأس البعير، فانطلق بي سريعاً يطلب الناس؛ فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس؛ فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني، فقال أهل الإفك في ما قالوا. فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيء من ذلك؛ وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي؛ كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي؛ فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علي وأمي تمرضني، قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني ! قال: لا عليك ! قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة؛ وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن؛ فخرجت ليلةً لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر. قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح ! قالت: قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً ! قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ! قالت: قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قالت: قلت: وقد كان هذا ! قالت: نعم والله لقد كان. قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمي: يغفر الله لك ! تحدث الناس بما تحدثوا به وبلغك ما بلغك؛ ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ! قالت: أي بنية خفضي الشأن؛ فوالله قلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.

قالت: وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك. ثم قال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهن غير الحق ! والله ما علمت منهن إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً ! وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي. قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج؛ مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش - وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله، وأما حمنة بنت جحش، فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها زينب بنت جحش - فشقيت بذلك.

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيد بن حضير أخو بني عبد الأشهل: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك؛ فوالله إنهم لأهلٌ أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً - فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم ! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا ! قال أسيد: كذبت لعمر الله ! ولكنك منافق تجادل عن المنافقين ! قالت: وتثاوره الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل علي، قالت: فدعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد؛ فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم عليهن إلا خيرا؛ وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله؛ إن النساء لكثيرٌ؛ وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها. قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا؛ وهو يقول: اصدقي رسول الله؛ قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة؛ إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فيأتي الداجن فيأكله.

ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار؛ وأنا أبكي وهي تبكي معي؛ فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة؛ إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله؛ وان كنت قارفت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده؛ قالت: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، تقلص دمعي؛ حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما. قالت: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله عز وجل في قرآنا يقرأ به في المساجد، ويصلى به، ولكني قد كنت أرجو أن يرى رسول الله في نومه شيئا يكذب الله به عني، لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا؛ فأما قرآن ينزل في، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان. قالت: قلت ألا تجيبان رسول الله ! قالت: فقالا لي : والله ما ندري بماذا نجيبه ! قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام ! قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا؛ والله لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني؛ لأقولن ما لم يكن؛ ولئن أنا أنكرت ما تقولون لاتصدقونني. قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره؛ ولكني أقول كما قال أبو يوسف: " فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون ".

قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت؛ فوالله ما فزعت كثيرا ولا باليت؛ قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي؛ فوالذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. قالت: ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه، ويقول: أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك، قالت: فقلت: بحمد الله وذمكم. ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في. ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى؛ وذلك الكذب؛ أكنت يا أم أيوب فاعلةً ذلك ! قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خيرٌ منك. قال: فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. ". الآية؛ وذلك حسان بن ثابت في أصحابه الذين قالوا ما قالوا.

ثم قال الله عز وجل: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. " الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. ثم قال: " إذ تلقونه بألسنتكم ... " الآية. فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وحاجته: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة، وأدخل علينا ما أدخل ! قالت: فأنزل الله عز وجل في ذلك: " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... " الآية. قالت: فقال أبو بكر: والله لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.

ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف حين بلغه ما يقول فيه؛ وقد كان حسان قال شعرا مع ذلك يعرض بابن المعطل فيه وبمن أسلم من العرب من مضر، فقال:

أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا           وابن الفريعة أمسى بيضة البـلـد
قد ثكلت أمه من كنت صـاحـبـه               أو كان منتشباً في برثـن الأسـد
ما لقتيلي الـذي أغـدو فـآخـذه                من ديةٍ فيه يعطـاهـا ولا قـود
ما البحر حين تهب الريح شـامـية           فيغطئل ويرمي العبر بـالـزبـد
يوما بأغلب مني حين تبصـرنـي             ملغيظ أفري كفري العارض البرد

فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه ثم قال - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق:

تلق ذباب السيف عني فـإنـي            غلام إذا هو جيت لست بشاعر

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج، وثب على صفوان بن المعطل في ضربه حسان، فجمع يديه إلى عنقه، فانطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا ؟ قال: ألا أعجبك ضرب حسان بن ثابت بالسيف ! والله ما أراه إلا قد قتله. قال: فقال له عبد الله ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت ؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت ! أطلق الرجل، فأطلقه. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له ذلك؛ فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: يا حسان أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام ! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي قد أصابك، قال: هي لك يا رسول الله.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه عوضا منها بيرحا - وهي قصر بني حديلة اليوم بالمدينة؛ كانت مالا لأبي طلحة بن سهل، تصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسان في ضربته - وأعطاه سيرين؛ أمةً قبطيةً، فولدت له عبد الرحمن بن حسان. قال: وكانت عائشة تقول: لقد سئل عن صفوان بن المعطل فوجدوه رجلا حصوراً ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الواحد ابن حمزة، أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء.

قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة من سنة ست معتمراً.