المجلد الثالث - ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة

ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة

ففيها توفيت- فيما زعم الواقدي- زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر.

خبر غزوة غالب بن عبد الله الليثي بني الملوح قال: وفيها أغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي في صفر إلى الكديد إلى بني الملوح.

قال أبو جعفر: وكان من خبر هذه السرية وغالب بن عبد الله؛ ما حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري وسعيد بن يحيى بن سعيد- قال إبراهيم: حدثني يحيى بن سعيد، وقال سعيد بن يحيى: حدثني أبي- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعاً عن ابن إسحاق، قال: حدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب أبن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي؛ كلب ليث، إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، فخرج- وكنت في سريته- فمضينا؛ حتى إذا كنا بقديد لقينا بها الحارث أبن مالك- وهو أبن البرصاء الليثي- فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم؛ فقال غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت مسلماً، فلن يضرك رباط يوم وليلة؛ وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه رباطاً ثم خلف عليه رويجلاً أسود كان معنا، فقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فأحتز رأسه. قال: ثم مضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشيشية بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر ، فأنبطحت عليه- وذلك قبيل المغرب- فخرج منهم رجل، فنظر فرآني منبطحاً على التل، فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما كنت رأيته أول النهار؛ فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئاً. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي. قال: فنزعته فوضعته، ولم أتحرك. ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أنحرك. فقال: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ربيئة لتحرك؛ فإذا أصبحت فأتبعني سهمي فخذيهما لا تمضغهما على الكلاب، قال: فأمهلناهم حتى راحت رائحتهم، حتى إذا أحتلبوا وعطنوا سكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا وأستقنا النعم؛ فوجهنا قافلين؛ وخرج صريخ القوم إلى القوم مغوثاً . قال: وخرجنا سراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك؛ أبن البرصاء، وصاحبه؛ فأنطلقنا به معناً، وأتانا صريخ الناس، فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله عز وجل من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً ولا خالاً، فجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه؛ فلقد رأيناهم ينظرون إلينا، ما يقدر أحد منهم أن يقدم ولا يتقدم؛ ونحن نحدوها سراعاً؛ حتى أسندناها في المشلل؛ ثم حدرناها عنها، فأعجزنا القوم بما في أيدينا، فما أنسى قول راجز من المسلمين؛ وهو يحدوها في أعقابها، ويقول:

أبي القاسم أن تعـزبـي         في خضل نباته مغلولب

صفر أعاليه كلون المذهب حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من أسلم، عن شيخ منهم، أن شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة كان: أمت أمت .

قال الواقدي: كانت سرية غالب بن عبد الله بضعة عشر رجلاً.

قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضري إلى المنذر بن ساوي العبدي؛ وكتب إليه كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوي. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإن كتابك جاءني ورسلك. وإنه من صلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، وأستقبل قبلتنا فإنه مسلم؛ له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية. قال: فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن على المجوس الجزية، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.

قال: وفيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد أبني جلندي بعمان، فصدقا النبي، وأقرا بما جاء به، وصدق أموالهما، وأخذ الجزية من المجوس.

قال: وفيها سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر، في شهر ربيع الأول في أربعة وعشرين رجلاً، فشن الغارة عليهم، فأصابوا نعماً وشاءً، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ لكل رجل.

قال: وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات أطلاح، خرج في خمسة عشر رجلاً؛ حتى أنتهى إلى ذات أطلاح، فوجد جمعاً كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا، فقتلوا أصحاب عمرو جميعاً، وتحامل حتى بلغ المدينة.

قال الواقدي: وذات أطلاح من ناحية الشأم، وكانوا من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس.

قال: وفيها قدم عمرو بن العاص مسلماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أسلم عند النجاشي، وقدم معه عثمان بن طلحة العبدري، وخالد أبن الوليد بن المغيرة، قدموا المدينة في أول صفر.

قال أبو جعفر: وكان سبب إسلام عمرو بن العاص، ما حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولي أبن أبي أوس، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني، قال: لما أنصرفنا مع الأحزاب عن الخندق ، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً. وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا؛ فلا يأتينا منهم إلا خير. فقالوا: إن هذا لرأي. قلت: فأجمعوا له ما نهدي إليه- وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم- فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه؛ فو الله إنا لعنده؛ إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه- قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه؛ فأعطانيه فضربت عنقه! فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي شيئاً من بلادك؟ قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قربته إليه، فأعجبه وأشتهاه؛ ثم قلت له: أيها الملك؛ إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك؛ وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره- يعني النجاشي- فلو أنشقت الأرض لي لدخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، لتقتله ! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني وأتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.

قال: قلت: فتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي؛ وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله لأسلم؛ فلقيت خالد أبن الوليد- وذلك قبل الفتح- وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد أستقام المنسم؛ وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم؛ فحتى متى! فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها. فبايعته ثم أنصرفت.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا أتهم؛ أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، كان معهما، أسلم حين أسلما.

ذكر ما في الخبر عن الكائن كان من الأحداث المذكورة في سنة ثمان من سني الهجرة فمما كان فيها من ذلك توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جمادى الآخرة إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلثمائة ؛ وذلك أن أم العاص بن وائل- فيما ذكر- كانت قضاعية ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفهم بذلك، فوجهه في أهل الشرف من المهاجرين والأنصار، ثم أستمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر في مائتين، فكان جميعهم خمسمائة.

غزوة ذات السلاسل وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى أرض بلى وعذرة، يستنفر الناس إلى الشأم؛ وذلك أن أم العاص بن وائل كانت أمرأة من بلى، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم بذلك؛ حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلاسل- وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل- فلما كان عليه خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أبن الجراح في المهاجرين الأولين؛ فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا ؛ فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو بن العاص: إنما جئت مدداً لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو؛ إن رسول الله قد قال لي: لا تختلفا؛ وأنت إن عصيتني أطعتك، قال: فأنا أمير عليك؛ وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك! فصلي عمرو أبن العاص بالناس.

غزوة الخبط قال الواقدي: وفيها كانت غزوة الخبط ؛ وكان الأمير فيها أبو عبيدة أبن الجراح، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب منها، في ثلثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة، فأصابهم فيها أزل شديد وجهد، حتى أقتسموا التمر عدداً.

وحدثنا بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار حدثه أنه سمع جابر أبن عبد الله يقول: خرجنا في بعث ونحن ثلثمائة، وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فأصابنا جوع، فكنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر؛ فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر، نأكل منها، ونحر رجل من الأنصار جزائر، ثم نحر من الغد كذلك؛ فنهاه أبو عبيدة، فأنتهى.

قال عمرو بن دينار- وسمعت ذكوان أبا صالح قال: إنه قيس بن سعد.

قال عمرو: وحدثني بكر بن سوادة الجذامي، عن أبي جمرة، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك ، إلا أنه قال: جهدوا؛ وقد كان عليهم قيس أبن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال: بعثهم في بعث من وراء البحر؛ وإن البحر ألقي إليهم دابة؛ فمكثوا عليها ثلاثة أيام يأكلون منها ويقددون ويغرفون شحمها؛ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك من أمر قيس بن سعد، فقال رسول الله: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، وقال في الحوت: لو نعلم أنا نبلغه قبل أن يروح لأحببنا أن لو كان عندنا منه شيء؛ ولم يذكر الخبط ولا شيئاً سوى ذلك.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن أبن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يخبر، قال: زودنا النبي صلى الله عليه وسلم جراباً من تمر، فكان يقبض لنا أبو عبيدة قبضة قبضة، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل؛ حتى نفد ما في الجراب، فكنا نجني الخبط، فجعنا جوعاً شديداً. قال: فألقي لنا البحر حوتاً ميتاً، فقال أبو عبيدة: جياع كلوا، فأكلنا- وكان أبو عبيدة ينصب الضلع من أضلاعه فيمر الراكب على بعيره تحته، ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه- فأكلنا واد هنا حتى صلحت أجسامنا، وحسنت شحماتنا؛ فلما قدمنا المدينة قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كلوا رزقاً أخرجه الله عز وجل لكم معكم منه شيء؟- وكان معنا منه شيء- فأرسل إليه بعض القوم فأكل منه.

قال الواقدي: وإنما سميت غزوة الخبط ، لأنهم أكلوا الخبط حتى كأن أشداقهم أشداق الإبل العضهة.

قال: وفيها كانت سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، أميرها أبو قتادة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال: تزوجت أمرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم يا رسول الله، قال: سبحان الله! لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم! والله ما عندي ما أعينك به. قال: فلبثت أياماً؛ وأفبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس- أو قيس بن رفاعة- في بطن عظيم من جشم؛ حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيساً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وكان ذا أسم وشرف في جشم. قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين، من المسلمين فقال: أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به؛ أو تأتونا منه بخبر وعلم. قال: وقدم لنا شارفاً عجفاء، فحمل عليها أحدنا؛ فو الله ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى أستقلت وما كادت. ثم قال: تبلغوا على هذه وأعتقبوها.

قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف؛ حتى جئنا قريباً من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس، فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي.
قال: فو الله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئاً، غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه.

قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه، فجعله في عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا؛ ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك! فقال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا: فنحن معك، قال: والله لا يتبعني منكم أحد.

قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت إليه فأحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت؛ وشد صاحباي وكبرا؛ فو الله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم؛ وما خف معهم من أموالهم.

قال: فأستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، قال: فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيراً، فجمعت إلى أهلي.

وأما الواقدي، فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبن أبي حدرد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلاً، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت أثنى عشر بعيراً يعدل البعير بعشر من الغنم، وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة؛ فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة عنها، فقال: أشتريتها من المغنم، فقال: هبها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محمية بن جزء الزبيدي.

قال: وفيها أغزي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية أبا قتادة إلى بطن إضم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وقال بعضهم عن أبن القعقاع- عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم- وكانت قبل الفتح- مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن . فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه؛ فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: "يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.

وقال الواقدي: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هذه السرية حين خرج لفتح مكة في شهر رمضان، وكانوا ثمانية نفر.

ذكر الخبر عن غزوة مؤتة قال ابن إسحاق- فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر؛ أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان؛ وأستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.

فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم وودعوهم؛ فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم؛ ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً" . فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:

 لكنني أسأل الرحمن مغـفـرةً              وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهـزةً                بحرية تنفذ الأحشاء والكـبـدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي         أرشدك الله من غاز وقد رشدا!

ثم إن القوم تهيئوا للخروج فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله يشيعهم؛ حتى إذا ودعهم وأنصرف عنهم، قال عبد الله بن رواحة:

خلف السلام على أمرئ ودعته          في النخل خير مشيع وخلـيل

ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشأم؛ فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وأنضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف منهم؛ عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن رافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فأنطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور؛ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق أبن رواحة. فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:

جلبنا الخيل من آجام قـرح                تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من من الصوان سبتاً            أزل كأن صفـحـتـه أديم
أقامت ليلتين على مـعـان                 فأعقب بعد فترتها جـمـوم
فرحنا والجياد مـسـومـات                   تنفس في مناخرها السمـوم
فلا وأبي، مآب لنأتـينـهـا                   ولو كانت بها عـرب وروم
فعبأنا أعنتـهـا فـجـاءت عوابس            والغبار لهـا بـريم
بذي لجب كأن البيض فـيه                  إذا برزت قوانسها النجـوم
فراضية المعيشة طلقتـهـا                   أسنتنا فتـنـكـح أو تـئيم

ثم مضى الناس حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يتمثل أبياته هذه:

إذا أديتني وحملت رحـلـي              مسيرة أربع بعد الحسـاء
فشأنك أنـعـم وخـلاك ذم                 ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني              بأرض الشؤم مشتهي التواء
وردك كل ذي نسب قـريب                إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بـعـل                 ولا نخل أسافلـهـا رواء

قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل! ثم قال عبد الله في بعض شعره وهو يرتجز:

يا زيد زيد اليعملات الذبل           تطاول الليل هديت فأنزل

قال: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف. ثم دنا العدو، وأنحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة؛ فألتقى الناس عندها، فتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك، ثم ألتقى الناس؛ فأقتتلوا؛ فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم؛ ثم أخذها جعفر بن أبي طالب؛ فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال أقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وأبو تميملة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني- وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة- قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين أقتحم عن فرس له شقراء؛ فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة؛ ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنـزلـنـه               طائعةً أو فلتـكـرهـنـه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه            مالي أراك تكرهين الجنه!
قد طالما قد كنت مطمئنـه              هل أنت إلا نطفة في شنه!

وقال أيضاً:

يا نفس إلا تقتلي تمـوتـي             هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعـطـيت                 إن تفعلي فعلهما هـديت

قال: ثم نزل؛ فلما نزل أتاه أبن عم له بعظم من لحم؛ فقال: شد بها صلبك؛ فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت؛ فأخذه من يده؛ فأنتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية ثابت بن أقرم؛ أخو بلعجلان؛ فقال: يا معشر المسلمين أصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل؛ فأصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم؛ وحاشى بهم، ثم أنحاز وتحيز عنه حتى أنصرف بالناس .

فحدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري- وكانت الأنصار تفقهه- فغشيه الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث رسول الله جيش الأمراء، فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإن أصيب فجعفر أبن أبي طالب؛ فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة؛ فوثب جعفر فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أذهب أن تستعمل زيداً علي! قال: أمض؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير! فأنطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، وأمر فنودى: الصلاة جامعة! فأجتمع الناس إلى رسول الله، فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم أنطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً- وأستغفر له- ثم أخذ اللواء جعفر، فشد على القوم حتى قتل شهيداً- فشهد له بالشهادة وأستغفر له- ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة؛ فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً- فأستغفر له- ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد- ولم يكن من الأمراء؛ هو أمر نفسه- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره- فمنذ يومئذ سمى خالد سيف الله- ثم قال رسول الله: أبكروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن منكم أحد. فنفروا مشاة وركباناً، وذلك في حر شديد.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله أبن أبي بكر، قال: لما أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان، مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة؛ أرضاً باليمن.

قال. وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة قائد المستعربة فقتله. قال: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قد قال لقومها من حدس- وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قوماً خزراً ، ينظرون شزراً ، ويقودون الخيل بتراً ، ويهريقون دماً عكراً . فأخذوا بقولها؛ فأعتزلوا من بين لخم؛ فلم يزالوا بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة ؛ بطن من حدس؛ فلم يزالوا قليلاً بعد؛ ولما أنصرف خالد بن الوليد بالناس أقبل بهم قافلاً .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خوا الصبيان فأحملوهم وأعطوني أبن جعفر؛ فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه، فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار في سبيل الله، فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار؛ ولكنهم الكرار؛ إن شاء الله ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن بعض آل الحارث بن هشام- وهم أخواله- عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قالت أم سلمة لا مرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين! قال: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح الناس: أفررتم في سبيل الله! حتى قعد في بيته فما يخرج .

وفيها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة.

ذكر الخبر عن فتح مكة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد بعثه إلى مؤتة، جمادى الآخرة ورجب.

ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة؛ يقال له الوتير . وكان الذي هاج ما بين بني بكر وبني خزاعة رجل من بل حضرمي، يقال له مالك بن عباد- وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن- خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدواً عليه فقتلوه؛ وأخذوا ماله؛ فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي؛ وهم منخر بني بكر وأشرلفهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب؛ فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم .

حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من بني الديل ، قال: كان بنو الأسود يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى ديةً ديةً لفضلهم فينا.

فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط لهم- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيره من علمائنا- أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه؛ فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما كانت تلك الهدنة أغتنمتها بنو الدين، من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل- وهو يومئذ قائدهم؛ ليس كل بني بكر تابعه- حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير؛ ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتحاوزوا وأقتتلوا؛ ورفدت قريش بني بكر بالسلاح؛ وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً؛ حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. - قال الواقدي: كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو؛ مع غيرهم وعبيدهم- رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: فلما أنتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك؛ فقال: كلمة عظيمة إنه لا إله له اليوم! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؛ أفلا تصيبون ثأركم فيه! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً يقال له منبه، وكان منبه رجلاً مفئوداً خرج هو ورجل من قومه، يقال له تميم بن أسد- فقال له منبه: يا تميم، أنج بنفسك؛ فأما أنا فو الله إني لميت قتلوني أو تركوني؛ لقد أنبت فؤادي. فأنطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه- فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع.

قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما أستحلوا من خزاعة- وكانوا في عقده وعهده- خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب؛ حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وكان ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس، فقال:

لا هم إني ناشـد مـحـمـدا                حلف أبينـا وأبـيه الأتـلـدا
فوالداً كـنـا وكـنـت ولـدا                     ثمت أسلمنا فلم نـنـزع يدا
فأنصر رسول الله نصراً أعتدا               وأدع عباد اللـه يأتـوا مـددا
فيهم رسول الله قد تـجـردا                 أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تـربـدا               في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك المـوعـدا                ونقضوا ميثاقك الـمـؤكـدا
وجعلوا لي في كداء رصـدا                وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهـم أذل وأقـل عـــددا                     هم بيتونا بالوتـير هـجـدا

فقتلونا ركعاً وسجدا يقول: قد قتلونا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.

ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم؛ ثم أنصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.

ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، فلقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة؛ وقد رهبوا الذي صنعوا؛ فلما لقي أبو سفيان بديلاً، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمداً؟ قال: لا. قال: راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى؛ فعمد إلى مبرك ناقته ، فأخذ من بعرها ففته؛ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فدخل على أبنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية؛ والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني! قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فلم يردد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وعنده فاطمة أبنة رسول الله، وعندها الحسن بن علي؛ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي؛ إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة؛ فلا أرجعن كما جئت خائباً، أشفع لنا إلى رسول الله! قال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فألتفت إلى فاطمة، فقال: يا أبنة محمد هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر! قالت: والله ما بلغ بنيى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد أشتدت علي فأنصحني. فقال له : والله ما أعلم شيئاً يغنى عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً! قال: لا والله ما أظن؛ ولكن لا أجد لك غير ذلك؛ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس؛ ثم ركب بعيرة فأنطلق.

فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فو الله ما رد على شيئاً، ثم جئت أبن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً، ثم جئت أبن الخطاب؛ فوجدته أعدى القوم، ثم جئت على بن أبي طالب، فوجدته ألين القوم؛ وقد أشار علي بشيء صنعته؛ فو الله ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا! قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد على أن لعب بك، فما يغنى عنا ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز؛ وأمر أهله أن يجهزوه؛ فدخل أبو بكر على أبنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة؛ وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.

فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت الأنصاري يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:

أتاني ولم أشهد ببطـحـاء مـكة                رجال بني كعب تحز رقابـهـا
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفـهـم             وقتلي كثير لم تجـن ثـيابـهـا
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي             سهيل بن عمرو حرها وعقابها !
وصفوان عوداً حز من شفراسته              فهذا أوان الحرب شد عصابهـا
فلا تأمننـا يا بـن أم مـجـالـد                   إذا أحتلبت صرفاً وأعصل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفـنـا                 لها وقعة بالموت يفتح بـابـهـا

وقول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعني قريشاً. وأبن أم مجالد، يعني عكرمة بن أبي جهل

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم؛ ثم أعطاه أمرأة- يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة؛ وزعم غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب - وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً. فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب؛ فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: أدركا أمرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم؛ فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة أبن أبي أحمد؛ فأستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا؛ ولتخرجن إلى هذا الكتاب أو لنكشفنك؛ فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض عني فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، فأستخرجت الكتاب منه ، فدفعته إليه، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله حاطباً؛ فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: أعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم! فأنزل الله عز وجل في حاطب: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" إلى قوله: "وإليك أنبنا" إلى آخر القصة .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمى، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره؛ وأستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد ما بين عسفان وأمج، أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم؛ وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام؛ وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله؛ ولا يدرون ما هو فاعل؛ فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار؛ هل يجدون خبراً أو يسمعون به ! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وقد كان فيما حدثني محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب؛ عن أبن عباس: وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ؛ وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب؛ فيما بين مكة والمدينة، فألتمس الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، أبن عمك وأبن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما أبن عمتي فهتك عرضي؛ وأما أبن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال.

فلما خرج الخبر إليهما بذلك؛ ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا؛ ثم أتذهبن في الأرض؛ حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما؛ ثم أذن لهما، فدخلا عليه؛ فأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:

لعمري إني يوم أحـمـل رايةً                لتغلب خيل الات خيل محمـد
لكا لمدلج الخيران أظلم لـيلـه             فهذا أواني حين أهدى وأهتدى
وهاد هداني غير نفسي ونالنـي         مع الله من طردت كل مطرد
أصدو أنأي جاهداً عن محـمـد              وأدعى ولو لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقـل بـهـواهـم         وإن كـان ذا رأي يلـم ويفـنــد
أريد لأرضيهـم ولـسـت بـلائط               مع القوم ما لم أهد في كل مقعـد
فقل لثـقـيف لا أريد قـتـالـهـا               وقل لثقيف تلك غـيري أو عـدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامراً   وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جـاءت مـن بـلاد بـعـيدة             نزائع جاءت من سهـام وسـردد

قال: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ونالني مع الله من طردت كل مطرد؛ ضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، ثم قال: أنت طردتني كل مطرد ! وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فقائل يقول: يريد قريشاً، وقائل يقول: يريد هوازن، وقائل يقول: يريد ثقيفاً؛ وبعث إلى القبائل فتخلفت عنه؛ ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى قدم قديداً، فلقيته بنو سليم على الخيل والسلاح التام؛ وقد كان عيينة لحق رسول الله بالعرج في نفر من أصحابه، ولحقه الأقرع بن حابس بالسقيا، فقال عيينة: يا رسول الله؛ والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث شاء الله. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعمي عليهم الأخبار؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، ولقيه العباس بالسقيا، ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العقاب.

فلما نزل مر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام.

فحدثنا أبو كريب، قال: أخبرنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة عن أبن عباس، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: يا صباح قريش ! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها؛ فدخل مكة عنوة؛ إنه لهلاك قريش آخر الدهر! فجلس على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن؛ أو داخلاً يدخل مكة؛ فيخبرهم بمكان رسول الله؛ فيأتونه فيستأمنونه. فخرجت؛ فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم قط نيراناً! فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة، حمشها الحرب! فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل! فعرفت صوته، فقلت يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل! فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله؛ فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلى، قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم أشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، وقد أردفت أبا سفيان؛ حتى أقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ؛ فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله؛ قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه؛ فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته! ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني! فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلاً يا عمر! فو الله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف؛ ولو كان من بني عدي أبن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلاً يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم! وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أذهب فقد آمناه حتى تغدو به على بالغداة . فرجع به إلى منزله؛ فلما أصبح غداً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً، فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله! فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء! فقال العباس: فقلت له ويلك! تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك؛ قال: فتشهد.

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس حين تشهد أبو سفيان: أنصرف يا عباس فأحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فأجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي؛ فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول : سليم، فيقول: مالي ولسليم! فتمر به قبيلة، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء ؛ كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد؛ لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك أبن أخيك عظيماً. فقلت: ويحك إنها النبوة! فقال: نعم إذاً، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم؛ فخرج سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! قالوا: فمه! فقال: من دخل داري فهو آمن، فقالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك! فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن .

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا، أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى تسألني عن خالد بن الوليد: هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب النبي بطن مر عامداً إلى مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله صلى الله عليه وسلم! إليهم أو إلى الطائف! وذاك أيام الفتح؛ وأستتبع أبو سفيان وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحبا أن يصحبهما، ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل؛ وقالوا لهم حين بعثوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد! إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفاً! وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش صلح يوم الحديبية وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فأقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر؛ وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في ذلك الصلح الذي أصطلحوا عليه: لا إغلال ولا إسلال، فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فأتهمت بنو كعب قريشاً ، فمنها غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة؛ وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيماً وبديلاً بمر الظهران؛ ولم يشعروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل مر، حتى طلعوا عليه، فلما رأوه بمر، دخل عليه أبو سفيان وبديل وحكيم بمنزله بمر الظهران فبايعوه ، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن- وهي بأعلى مكة- ومن دخل دار حكيم- وهي بأسفل مكة- فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن.

وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة، بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون؛ وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك؛ ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر خالد بن الوليد- فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأناس، إنما أسلموا قبيل ذلك- أن يدخل من أسفل مكة، وبها بنو بكر قد أستنفرتهم قريش. وبنو الحارث بن عبد مناة ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة.

وحدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما؛ فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة. قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك؛ غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهو وأبن الأشعر- رجلاً من بني كعب- كانا في خيل الزبير فسلكا كداء، ولم يسلكا طريق الزبير الذي سلك، الذي أمر به . فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا؛ ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال؛ ومن ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقام الناس إليه يبايعونه؛ فأسلم أهل مكة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوزان وثقيف فنزلوا بحنين.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كدى؛ وكان الزبير على المجنبة اليسري، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء. فزعم بعض أهل العلم أن سعداً قال حين وجه داخلاً: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمه. فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، أسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط أسفل مكة، في بعض الناس؛ وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب؛ وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل رسول صلى الله عليه وسلم من أذاخر؛ حتى نزل بأعلى مكة، وضربت هنالك قبته .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر، أن صفوان بن أمية، وعكرمة أبن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناساً بالخندمة ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ويصلح منها، فقالت له أمرأته: لماذا تعد ما رأى؟ قال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فقال:

إن تقبلوا اليوم فمالي عله         هذا سلاح كامل وألـه

وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل بن عمرو وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز أبن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وحبيس بن خالد، وهو الأشر بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس أبن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو؛ حليف بني منقذ- وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، وسلكا طريقاً غير طريقه، فقتلا جميعاً- قتل خنيس قبل كرز بن جابر؛ فجعله كرز بين رجليه؛ ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز، ويقول:

قد علمت صفراء من بني فهر             نقية الوجه نقـية الـصـدر

لأضربن اليوم عن أبي صخر وكان خنيس يكني بأبي صخر؛ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين أناس قريب من أثنى عشر أو ثلاثة عشر. ثم أنهزموا، فخرج حماس منهزماً؛ حتى دخل بيته، ثم قال لأمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:

إنك لو شهدت يوم الخنـدمـه                إذ فر صفوان وفر عكرمـه
وأبو يزيد قائم كالمـؤتـمـه                    وأستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجـمـه               ضرباً فلا تسمع إلا غمغمـه
لهم نهيت خلفنا وهمـهـمـه                لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة؛ ألا يقتلوا أحداً إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم؛ أمر بقتلهم وإن وجودا تحت أستار الكعبة؛ منهم عبد الله بن سعد أبن أبي سرج بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر أبن لؤي- وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، لأنه كان قد أسلم فأرتد مشركاً، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أطمأن أهل مكة فأستأمن له رسول الله، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلاً، ثم قال: نعم؛ فلما أنصرف به عثمان، قال رسول الله لمن حوله من أصحابه: أما والله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ? فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله ????! قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة- وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب- وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار؛ وكان معه مولي له يخدمه، وكان مسلماً، فنزل منزلاً، وأمر المولى أن يذبح له تيساً، ويصنع له طعاماً، ونام فأستيقظ ولم يصنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله، ثم أرتد مشركاً؛ وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقتلهما معه- والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة، ومقيس بن صبابة- وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتداً- وعكرمة بن أبي جهل، وسارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب؛ وكانت ممن يؤذيه بمكة. فأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن؛ وأسلمت أمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستأمنت له رسول الله فأمه؛ فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عكرمة يحدث- فيما يذكرون- أن الذي رده إلى الإسلام بعد خروجه إلى اليمن أنه كان يقول: أردت ركوب البحر لألحق بالحبشة، فلما أتيت السفينة لأركبها قال صاحبها: يا عبد الله، لا تركب سفينتي حتى توحد الله، وتخلع ما دونه من الأنداد، فإني أخشى إن لم تفعل أن نهلك فيها، فقلت: وما يركبه أحد حتى يوحد الله ويخلع ما دونه! قال: نعم؛ لا يركبه أحد إلا أخلص. قال: فقلت: ففيم أفارق محمداً! فهذا الذي جاءنا به، فو الله إن إلهنا في البحر لألهنا في البر؛ فعرفت الإسلام عند ذلك، ودخل في قلبي. وأما عبد الله أبن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، أشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه، فقالت أخت مقيس:

لعمري لقد أخزي نميلة رهطه            وفجع أضياف الشتاء بمقـيس
فلله عيناً من رأى مثل مقـيس           إذا النفساء أصبحت لم تخرس !

وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة، فأستؤمن لها فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

وقال الواقدي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ستة نفر وأربع نسوة، فذكر من الرجال من سماه أبن إسحاق، ومن النساء هند بنت عتبة أبن ربيعة، فأسلمت وبايعت، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب أبن عبد مناف، قتلت يومئذ، وقريبة؛ قتلت يومئذ، وفرتني عاشت إلى خلافة عثمان.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى أبن الوجيه، عن قتادة السدوسي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة ، أو دم، أو مال يدعي؛ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطإ مثل العمد؛ السوط والعصا، فيهما الدية مغلظة مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها.

يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم؛ وآدم خلق من تراب. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الآية.

يا معشر قريش، ويا أهل مكة؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وأبن أخ كريم. ثم قال: أذهبوا فأنتم الطلقاء .

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. ثم أجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم- فيما بلغني- على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ولرسوله- فيما أستطاعوا- وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وأجتمع إليه نساء من نساء قريش؛ فيهن هند بنت عتبة، متنقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة ، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنون منه ليبايعنه قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني-: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً! فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن، قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالي أم لا! فقال أبو سفيان- وكان شاهداً لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنك لهند بنت عتبة! فقالت: أنا هند بنت عتبة، فأعف عما سلف عفا الله عنك! قال: ولا تزنين، قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة! قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغاراً، وقتلتهم يوم بدر كباراً، فأنت وهم أعلم! فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أستغرب . قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح؛ ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف، قال: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن وأستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء، ولا يمس أمرأة ولا تمسه إلا أمرأة أحلها الله له، أو ذات محرم منه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان أبن صالح، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين- فيما أخبره بعض أهل العلم- كان يوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: أذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك.

قال الواقدي: فيها قتل خراش بن أمية الكعبي جنيدب بن الأدلع الهذلي- وقال أبن إسحاق: أبن الأثوع الهذلي- وإنما قتله بذحل، وكان في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خراشاً قتال؛ إن خراشاً قتال! يعيبه بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة أن يدوه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير- قال محمد بن إسحاق: ولا أعلمه إلا وقد حدثني عن عروة بن الزبير- قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة، ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب، يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك ليقذف نفسه في البحر؛ فأمنه صلى الله عليك! قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، أعطني شيئاً يعرف به أمانك؛ فأعطاه عمامته التي دخل فيها مكة؛ فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به، قال: ويلك! أغرب عني فلا تكلمني! قال: أي صفوان! فداك أبي وأمي! أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، أبن عمتك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك! قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم؛ فرجع به معه، حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صفوان: إن هذا زعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال: فأجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وفاختة بنت الوليد- وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل- أسلمتا، فأما أم حكيم فأستأمنت رسول الله لعكرمة بن أبي جهل، فآمنه، فلحقت به باليمن، فجاءت به؛ فلما أسلم عكرمة وصفوان، أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهما على النكاح الأول .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري السهمي إلى نجران. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري؛ قال: رمى حسان عبد الله بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد، ما زاده عليه:

لتعد من رجلاً أحلك بغضه            نجران في عيش أحذ لئيم

فلما بلغ ذلك أبن الزبعري، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حين أسلم:

يا رسول المليك إن لـسـانـي                  راتق ما فتقـت إذ أنـا بـور
إذ أباري الشيطان في سنن الري            ح ومن مال ميله مـثـبـور
آمن اللحم والعـظـام لـربـي                     ثم نفسي الشهيد أنت الـنـذير
إنني عنـك زاجـر ثـم حـي                       من لؤي فكلـهـم مـغـرور

وأما هبيرة بن أبي وهب، فأقام بها كافراً، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ بنت أبي طالب وكانت تحته، وأسمها هند:

أشاقتك هند أم نآك سؤالهـا             كذلك النوى أسبابها وأنفتالها

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف؛ من بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل؛ وسائرهم من من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد .

قال الواقدي: في هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مليكة بنت داود الليثية، فجاء إليها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلاً قتل أباك! فأستعاذت منه؛ وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رسول الله؛ وكان قتل أباها يوم فتح مكة.

قال: وفيها هدم خالد بن الوليد العزي ببطن نخلة، لخمس ليال بقين من رمضان؛ وهو صنم لبني شيبان؛ بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزي، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فقال: قد هدمته، قال: أرأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فأرجع فأهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزي أغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه أمرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزي، ولا تعبد العزي أبداً.

حدثنا أبن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزي- وكانت بنخلة، وكانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها؛ وكانت سدنتها من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم- فلما سمع صاحبها بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه، وأسند في الجبل الذي هي إليه فأصعد فيه، وهو يقول:

أيا عز شدي شدة لا شمى لهـا             على خالد ألقي القناع وشمري
ويا عز إن لم تقتلي اليوم خالداً              فبوئي بإثم عاجل أو تنصـري
فلما أنتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي: وفيها هدم سواع؛ وكان برهاط لهذيل، وكان حجراً؛ وكان الذي هدمه عمرو بن العاص لما أنتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت في الباطل بعد! فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئاً، ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت والله.

وفيها هدم مناة بالمشلل، هدمه سعد بن زيد الأشهلي، وكان للأوس والخزرج.