المجلد الثالث - ثم دخلت سنة تسع وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله

ثم دخلت سنة تسع وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- فيما ذكر- فقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن ترسل إلينا رسولاً، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم" .

وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشرة.

أمر ثقيف ولإسلامها وفيها قدم- في قول الواقدي- عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، وكان من خبره- ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنصرف عن أهل الطائف أتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم؛ وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما يتحدث قومهم : إنهم قاتلوك؛ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالإمتناع الذي كان منهم- فقال له عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم - وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً- فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا ألا يخالفوه لمنزله فيهم؛ فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله؛ فتزعم بنو مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه .

وفيها قدم وفد أهل الطائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إنهم قدموا عليه في شهر رمضان.

فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم أئتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، أن عمرو بن أمية أخا بني علاج كان مهاجراً لعبد ياليل بن عمرو، الذي بينهما سييء- وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب- فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو وحتى دخل عليه داره، ثم أرسل إليه: إن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، فقال عبد ياليل للرسول: ويحك! أعمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو ذا واقف في دارك.

فقال: إن هذا لشيء ما كنت أظنه! لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك. فلما رآه رحب به، وقال عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فأنظروا في أمركم. فعند ذلك أئتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به! فأئتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل أبن عمرو بن عمير- وكان في سن عروة بن مسعود- وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما يصنع بعروة، فقال: لست فاعلاً حتى تبعثوا معي رجالاً، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخو بني يسار، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخو بلحارث؛ وبعثوا من الأخلاف مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب؛ فخرج بهم عبد ياليل- وهو ناب القوم وصاحب أمرهم؛ ولم يخرج إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، ليشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه- فلما دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله، وكانت رعيتها نوباً على أصحابه، فلما رآهم المغيرة ترك الركاب وضبر يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله ، فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم شروطاً، ويكتتبوا من رسول الله كتاباً في قومهم وبلادهم وأموالهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما أن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده- كما يزعمون -وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أكتتبوا كتابهم؛ وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد؛ حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم- وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع الطاغية؛ وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين؛ فأبى رسول الله ذلك عليهم؛ فما برحوا يسألونه سنة سنة، فأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً بعد مقدمهم؛ فأبى أن يدعها شيئاً يسمى؛ وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام- فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن يبعث آبا سفيان بن حرب والمغيرة أبن شعبة فيهدماها؛ وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه؛ وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه؛ فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم؛ أمر عليهم عثمان بن أبي العاص- وكان من أحدثهم سناً- وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله؛ إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب أبن عتبة، قال: فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم؛ حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: أدخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بما له بذي الهرم ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه- بنو معتب- خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها، ويقلن:

ألا أبكين دفـاع           أسلمها الرضاع

لم يحسنوا المصاع قال: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهاً لك ! واهاً لك! فلما هدمها المغيرة أخذ مالها وحليها وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود أبني مسعود، فقضى منه دينهما .

وفي هذه السنة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك.