المجلد الثالث - قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات

قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات

قال الواقدي: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشرفها من تميم منهم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر التمتمي ثم أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن فلان، ونعيم بن زيد، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم، معهم عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري- وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بني تميم كانا معهم، فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: أن أخرج إلينا يا محمد. فآذي ذلك من صياحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل . فقام إليه عطارد بن حاجب، فقال : الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس! ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم! فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا؛ وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام؛ ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا؛ وإنا نعرف. أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بلحارث بن الخزرج: قم فأجب الرجل في خطبته.

فقام ثابت، فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً وأصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه؛ أكرم الناس أنساباً، وأحسن الناس وجوهاً؛ وخير الناس فعالاً؛ ثم كان أول الخلق إجابة- وأستجاب لله حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- نحن؛ فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات؛ والسلام عليكم.

قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال :

نحن الكرام فلا حي يعادلـنـا                 منا الملوك وفينا تنصب البـيع
وكم قسرنا من الأحياء كلـهـم               عند النهاب وفضل العز يتبـع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا            من الشواء إذا لم يؤنس القزع
ثم ترى الناس تأتينا سراتـهـم              من كل أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنـا              للنازلين إذا ما أنزلوا شبعـوا
فلا ترانا إلى حي نفاخـرهـم                إلا أستقادوا وكاد الرأس يقتطع
إنا أبينا ولن يأبـى لـنـا أحـد                إنا كذلك عند الفخر نرتـفـع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفـنـا               فيرجع القول والأخبار تستمع

وكان حسان بن ثابت غائباً، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حسان: فلما جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، خرجت إلى رسول الله، وأنا أقول:

منعنا رسول الله إذ حل وسطنـا               على كل باغ من معـد وراغـم
منعناه لما حـل بـين بـيوتـنـا                   بأسيافنا من كل عـاد وظـالـم
ببـيت حـريد عـزه وثــراؤه                         بجابية الجولان وسط الأعـاجـم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى          وجاه الملوك وأحتمال العظـائم!

قال: فلما أنتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام شاعر القوم، فقال ما قال، عرضت في قوله وقلت على نحو مما قال؛ فلما فرغ الزبرقان بن بدر من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان:

قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال، قال: فقال حسان:

إن الـذوائب مـن فــهـــر وإخـــوتـــهـــم                   قد بـينـوا سـنة لـلـــنـــاس تـــتـــبـــع
يرضـى بـهـا كـل مـن كـانــت ســـريرتـــه              تقـوى الإلـه وكـل الـخــير يصـــطـــنـــع
قوم إذا حـــاربـــوا ضـــروا عـــدوهــــم                   أو حـاولـوا الـنـفـع فـي أشـياعـهـم نـفـعــوا
سجـية تـلـك مـنـهـــم غـــير مـــحـــدثة                إن الـخـلائق فـأعـلـم شــرهـــا الـــبـــدع
إن كـان فـي الـنـاس سـبـاقـون بــعـــدهـــم          فكـل سـبـق لأدنـى سـبـقــهـــم تـــبـــع
لا يرقـع الـنـاس مـا أوهـــت أكـــفـــهـــم               عنـد الـدفـاع ولا يوهــون مـــا رقـــعـــوا
إن سـابـقـوا الـنـاس يومـاً فـاز سـبـقـــهـــم          أو وازنـوا أهـل مـجـد بـالـنـدى مـتـــعـــوا
أعـفة ذكـرت فـي الـوحـي عــفـــتـــهـــم              لا يطـبـــعـــون ولا يرديهـــم طـــمـــع
لا يبـخـلـون عـلـى جـار بـفـضـــلـــهـــم               ولا يمـسـهـم مـن مـطـــمـــع طـــبـــع
إذا نـصـبـنـا لـحـي لـــم نـــدب لـــهـــم                 كمـا يدب إلـــى الـــوحـــشـــية الـــذرع
نسـمـو إذا الـحـرب نـالـتـنـا مـخـالـبــهـــا              إذا الـزعـانـف مـن أظـفـارهـا خـشـــعـــوا
لا فـخـر إن هـم أصـابـوا مـــن عـــدوهـــم              وإن أصـيبــوا فـــلا خـــور ولا هـــلـــع
كأنـهـم فـي الـوغـى والـمـوت مـكـتـــنـــع              أسـد بـحـلـية فـي أرســـاغـــهـــا فـــدع
خذ مـنـهـم مـا أتـوا عـفـواً إذا غــضـــبـــوا             ولا يكـن هـمـك الأمـر الـذي مـــنـــعـــوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم                          شراً يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم                        إذا تــفـــرقـــت الأهـــواء والـــشـــيع

أهدى لهم مدحتى قـلـب يوازره                 فيما أحب لسان حـائك صـنـع
فإنهم أفضل الأحـياء كـلـهـم                       إن جد بالناس جد القول أو شمعوا

فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له،! لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم - وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم- فقال قيس بن عاصم- وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله؛ إنه قد كان منا رجل في رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطي القوم؛ فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه ذلك من قول قيس بن عاصم، وهو يهجوه:

ظللت مفترشاً هلباك تشتـمـنـي            عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إن تبغضونا فإن الروم أصلـكـم                 والروم لا تملك البغضاء للعـرب
سدنا فسوددنا عـود وسـوددكـم             مؤخر عند أصل العجب والذنـب

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قال: فأنزل الله فيهم القرآن: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات"- من بني تميم- "أكثرهم لا يعقلون" ؛ قال: وهي القراءة الأولى .

قال الواقدي: وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول، مرض في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة.
قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم قال: وفيها قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير في شهر رمضان مقرين بالإسلام؛ مع رسولهم الحارث بن عبد كلال ونعيم ابن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ورسولهم إليه بإسلامهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر؛ أما بعد ذلكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين؛ وإن الله قد هداكم بهدايته ، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة؛ وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم نبيه وصفيه ؛ وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وما سقت السماء، وكل ما سقى بالغرب نصف العشر، وفي الإبل في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع؛ جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة؛ فمن زاد خيراً فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين؛ فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وله ذمة الله وذمة رسوله. وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإن له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية؛ على كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد؛ دينار واف أو قيمته من المعافر أو عرضه ثياباً؛ فمن أدى ذلك إلى رسول الله؛ فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.

أما بعد؛ فإن رسول الله محمداً النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتتكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم؛ وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل؛ فلا ينقلبن إلا راضياً.

أما بعد؛ فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله؛ ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخذلوا فإن رسول الله مولي غنيكم وفقيركم؛ وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهله؛ إنما هي زكاة يتزكى بها على فقراء المؤمنين وأبناء السبيل؛ وإن مالكاً قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيراً، وإني قد بعثت إليكم من صالحي أهلي وأولى ديني ، وأولى علمهم؛ فآمركم بهم خيراً فإنه منظور إليهم؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

قال الواقدي: وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلاً، ونزلوا على المقداد بن عمرو.

قال: وفيها قدم وفد بني البكاء.

وفيها قدم وفد بني فزارة؛ وهم بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجة بن حصن.

قال: وفيها نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين النجاشي، وأنه مات في رجب سنة تسع.

قال: وفيها حج أبو بكر بالناس ثم خرج أبو بكر من المدينة في ثلثمائة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة، وساق أبو بكر خمس بدنات. وحج فيها عبد الرحمن بن عوف وأهدي.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام على أثر أبي بكر رضي الله عنه، فأدركه بالعرج، فقرأ علي عليه براءة يوم النحر عند العقبة. فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط؛ عن السدي، قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين- يعني من سورة براءة- فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر، وأمره على الحج، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعلي، فأخذها منه؛ فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! أنزل في شأني شيء؟ قال: لا؛ ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض! قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحج، وسار على يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى فآذن فقال: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب.
فرجع المشركون فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش! فأسلموا .

حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة، أجل المشركين عشرين يوماً من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، ولا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان .

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرضت الصدقات، وفرق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عماله على الصدقات.

وفيها نزل قوله: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم" ؛ وكان السبب الذي نزل ذلك به قصة أمر ثعلبة بن حاطب، ذكر ذلك أبو أمامة الباهلي .

قال الواقدي: وفي هذه السنة ماتت أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب. قال: وقيل غسلتها نسوة من الأنصار، فيهن أمرأة يقال لها أم عطية، ونزل في حفرتها أبو طلحة.

قال: وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ.