ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفى فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو جعفر : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني ، قال : حدثنا أحمد بن أبي طيبة ؛ قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع ، فأراهم مناسكهم ، فلما كان العام المقبل حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر ؛ وصدر إلى المدينة ، وقبض في ربيع الأول .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا موسى بن داود ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس ، قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين ، واستنئ يوم الاثنين ، ورفع الحجر يوم الاثنين ، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وقبض يوم الاثنين .
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، قال : توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول في اثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء .
حدثني أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، أنه دخل عليه فقال لامرأته فاطمة : حدثي محمداً ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن . فقالت : سمعت عمرة تقول : سمعت عائشة تقول : دفن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء ؛ وما علمنا به حتى سمعنا صوت المساحي .
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفه بني ساعدة حدثنا هشام بن محمد ، عن أبي محنف ، قال : حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة ، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض ؛ فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمه : إني لا أقدر لشكواى أن أسمع القوم كلهم كلامي ؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه ؛ فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله ، فيرفع صوته فيسمع أصحابه ، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : يا معشر الأنصار ؛ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ؛ إن محمداً عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ؛ فما آمن به من قومه إلا رجال قليل ؛ وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ؛ ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة ، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ؛ والجهاد لأعدائه ؛ فكنتم أشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم ؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً ؛ وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً ؛ حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ، ودانت بأسيافكم له العرب ؛ وتوفاه الله وهو عنكم راض ؛ وبكم قرير عين . استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس .
فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، ونوليك هذا الأمر ، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا . ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم ، فقالوا : فإن أبت مهاجرة قريش ، فقالوا : نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ؛ ونحن عشيرته وأولياؤه ؛ فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده ! فقالت طائفة منهم : فإنا نقول إذاً : منا أمير ومنكم أمير ؛ ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً . فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أول الوهن ! .
وأتى عمر الخبر ، فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلى ، فأرسل إليه : إني مشتغل ؛ فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره ؛ فخرج إليه ، فقال : أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة ؛ وأحسنهم مفالة من يقول : منا أمير ومن قريش أمير ! فمضيا مسرعين نحوهم ؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح ؛ فتماشوا إليهم ثلاثتهم ، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة ، فقالا لهم : ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون ، فقالوا : لا نفعل ، فجاءوا وهم مجتمعون . فقال عمر بن الخطاب : أتيناهم - وقد كنت زورت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم - فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق ، فقال لي أبو بكر : رويداً حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت . فنطق ، فقال عمر : فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه .
فقال عبد الله بن عبد الرحمن : فبدأ أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه ؛ ثم قال : إن الله بعث محمداً رسولاً إلى خلقه ، وشهيداً على أمته ، ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ؛ ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ، ولهم نافعة ؛ وإنما هي من حجر منحوت ، وخشب منجور ، ثم قرأ : "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" ، وقالوا : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" ؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه ، والإيمان به ، والمؤاساة له ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ؛ وتكذيبهم إياهم ؛ وكل الناس لهم مخالف ، زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم ؛ وإجماع قومهم عليهم ؛ فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول ؛ وهم أولياء وعشيرته ، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ؛ ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ، وأنتم يا معشر الأنصار ، من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولاسابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه ؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم ؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ، ولا نقضى دونكم الأمور .
قال : فقام الحباب بن المنذر بن الجموح ، فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ؛ ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز والثروة ، وأولو العدد والمنعة والتجربة ، ذوو البأس والنجدة ؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون ؛ ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم ؛ وينتقض عليكم أمركم ؛ فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم ؛ فمنا أمير ومنهم أمير .
فقال عمر : هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم ؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ؛ من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ، أو متجانف إثم ، ومتورط في هلكة ! فقام الحباب بن المنذر فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه ، فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين ؛ أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ! أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة ؛ فقال عمر : إذاً يقتلك الله ! قال : بل إياك يقتل ! فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ؛ إنكم أول من نصر وآزر ؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير .
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار ؛ إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في هذا الدين ؛ ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا ؛ والكدح لأنفسنا ؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا ؛ فإن الله ولى المنة علينا بذلك ؛ ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقومه أحق به وأولى . وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم ! فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا . فقالا : لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك ؛ فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وخليفة رسول الله على الصلاة ؛ والصلاة أفضل دين المسلمين ؛ فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك ! ابسط يدك نبايعك .
فلما ذهبا ليبايعاه ، سبقهما إليه بشير بن سعد ، فبايعه ، فناداه الحباب ابن المنذر : يا بشير بن سعد : عقتك عقاق ؛ ما أحوجك إلى ما صنعت ، أنفست على ابن عمك الإمارة ! فقال : لا والله ؛ ولكني كرهت أن أنازع قوماً حقاً جعله الله لهم .
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد ، وما تدعو إليه قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد ابن حضير - وكان أحد النقباء : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ؛ ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فقاموا إليه فبايعوه ، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم .
قال هشام : قال أبو مخنف : فحدثنى أبو بكر بن محمد الخزاعي ، أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك ، فبايعوا أبا بكر ؛ فكان عمر يقول : ما هو إلا أن رأيت أسلم ، فأيقنت بالنصر .
قال هشام ، عن أبي مخنف : قال عبد الله بن عبد الرحمن : فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطئوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ! ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك ، فأخذ سعد بليحة عمر ، فقال : والله لو حصصت منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة ؛ فقال أبو بكر : مهلاً يا عمر ! الرفق ها هنا أبلغ . فأعرض عنه عمر . وقال سعد : أما والله لو أن بي قوة ما ، أقوى على النهوض ، لسمعت منى في أقطارها وسككها زئيراً يجحرك وأصحابك ؛ أما والله إذاً لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ! احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه في داره ، وترك أياماً ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ؛ فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ؛ فلا أفعل ، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم ، حتى أعرض على ربي ، وأعلم ما حسابي .
فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر : لا تدعه حتى يبايع . فقال له بشير بن سعد : إنه قد لج وأبى ؛ وليس بمبايعكم حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته ؛ فاتركوه فليس تركه بضاركم ؛ إنما هو رجل واحد . فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه ؛ فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم ؛ فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله .
حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف ابن عمر ، عن سهل وأبي عثمان ، عن الضحاك بن خليفة ، قال : لما قام الحباب ابن المتذر انتضى سيفه ؛ وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ؛ أنا أبو شبل في عريسة الأسد ، يعزى إلى الأسد . فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد ؛ وتتابع القوم على البيعة ؛ وبايع سعد ؛ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ؛ قام أبو بكر دونها . وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعداً ، فقال عمر : قتله الله ! إنه منافق ، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه .
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثني عمي يعقوب ، قال : حدثنا سيف ، عن مبشر ، عن جابر ، قال : قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر : إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة ؛ وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة ، فقالوا : إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ؛ ولكنا أجبرنا على الجماعة ، فلا إقالة فيها ؛ لئن نزعت يداً من طاعة ، أو فرقت جماعة ، لنضربن الذي فيه عيناك .