المجلد الثالث - ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته

ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته

حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمر - عن أبي ضمرة ، عن أبيه ، عن عاصم بن عدي ، قال : نادى منادي أبي بكر ، من بعد الغد من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتم بعث أسامة ؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : يأيها الناس ، إنما أنا مثلكم ؛ وإني لا أدري لعكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق ؛ إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ؛ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ؛ ألا وإن لي شيطاناً يعتريني ؛ فإذا أتاني فاجتنبوني ؛ لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ؛ وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ؛ فإن استطعتم ألا يمضى هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ؛ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ؛ فإن قوماً نسوا آجالهم ، وجعلوا أعمالهم لغيرهم ؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم . الجد الجد ! والوحا الوحا ! والنجاء النجاء ! فإن وراءكم طالبا حثيثاً ، أجلاً مره سريع . احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات .

وقام أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه ؛ فأريدوا الله بأعمالكم ، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها ، وخطأ ظفرتم به ، وضرائب أديتموها ، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية ؛ لحين فقركم وحاجتكم . اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتفكروا فيمن كان قبلكم . أين كانوا أمس ، وأين هم اليوم ! أين الجبارون ! وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب ! قد تضعضع بهم الدهر ، وصاروا رميماً ؛ قد تركت عليهم القالات ؛ الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات . وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها ؛ قد بعدوا ونسى ذكرهم ، وصاروا كلا شيء . ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم ، والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفاً بعدهم ؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ؛ وإن اغتررنا كنا مثلهم ! أين الوضاء الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ! صاروا تراباً ، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم ! أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ، وجعلوا فيها الأعاجيب ! قد تركوها لمن خلفهم ؛ فتلك مساكنهم خاوية ، وهم في ظلمات القبور ، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم ؛ قد انتهت بهم آجالهم ، فوردوا على ما فدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت . ألا إلا الله لا شريك له ، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً ، ولا يصرف عنه به سوءاً ، إلا بطاعته واتباع أمره . واعلموا أنكم عبيد مدينون ، وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ؛ أما أنه لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة .

حدثني عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السرى ، قال : حدثنا شعيب ، قال : أخبرنا سيف - عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، قال : لما بويع أبو بكر رضى الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه ، قال : ليتم بعث أسامة ؛ وقد ارتدت العرب ؛ إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ؛ ونجم النفاق ، واشرأبت اليهود والنصارى ، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم ، وكثرة عدوهم . فقال له الناس : إن هؤلاء جل المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك ؛ فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين . فقال أبو بكر : والذي نفس أبي بكر بيده ، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري فنفذته ! حدثني عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن عطية ، عن أبي أيوب عن علي ، وعن الضحاك عن ابن عباس ، قالا : ثم اجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية ، وخرجوا وخرج أهل المدينة في جند أسامة ؛ فحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل .

حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما ؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري ، قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم ؛ وفيهم عمر ابن الخطاب ، وأمر عليهم أسامة بن زيد . فلم يجاوز آخرهم الخندق ، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقف أسامة بالناس ، ثم قال لعمر : ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه ؛ يأذن لي أن أرجع بالناس ؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم ؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون . وقالت الأنصار : فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة . فخرج عمر بأمر أسامة ، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة ، فقال أبو بكر ، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال : فإن الأنصار أمروني أن أبلغك ، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ؛ فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر ، فقال له : ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه ! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : امضوا ، ثكلتكم أمهاتكم ! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله ! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم ، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب ، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، والله لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا تنزل ووالله لا أركب ! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة ؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترتفع له ، وترفع عنه سبعمائة خطيئة ! حتى إذا انتهى قال : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ! فأذن له ، ثم قال : يأيها الناس ، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة ؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام ؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها . وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ؛ فاخفقوهم بالسيف خفقاً . اندفعوا باسم الله ، أفناكم الله بالطعن والطاهون .

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - وأخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرني عمي ، قال : حدثنا سيف - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : خرج أبو بكر إلى الجرف ، فاستقرى أسامة وبعثه ، وسأله عمر فأذن له ، وقال له : اصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة ثم إيت آبل ، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده . فمضى أسامة مغذاً على ذي المروة والوادي ، وانتهى إلى ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل ، فسلم وغنم ، وكان فراغه في أربعين يوماً سوى مقامه ومنقلبه راجعاً .

فحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - وحدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - عن موسى بن عقبة ، عن المغيرة بن الأخنس .

وعنهما ، عن سيف ، عن عمرو بن قيس ، عن عطاء الخراساني مثله .

بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع - فيما بلغنا - لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها ، وأمره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتى مات باذام ، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه .

فحدثني عبيد الله بن سعد الزهري ، قال : حدثنا عمي ، قال : حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف - قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ابن لوذان الأنصاري السلمى - وكان فيمن بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع عمال اليمن في سنة عشر بعد ما حج حجة التمام : وقد مات باذام ، فلذلك فرق عملها بين شهر بن باذام ، وعامر بن شهر الهمداني ، وعبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والطاهر بن أبي هالة ، ويعلى بن أمية ، وعمر بن حزم ، وعلى بلاد حضر موت زياد بن لبيد البياضى وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي ؛ على السكاسك والسكون ومعاوية ابن كندة ، وبعث معاذ بن جبل معلماً لأهل البلدين : اليمن وحضر موت .

حدثني عبيد الله ، قال : أخبرني عمي ، قال : أخبرني سيف - يعني ابن عمر - عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة ، عن عبادة بن قرص بن عبادة ، عن قرص الليثي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة بعد ما قضى حجة الإسلام ، وقد وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجال ، وأفراد كل رجل بحيزه ، ووجه إمارة حضر موت وفرقها بين ثلاثة ، وأفرد كل واحد منهم بحيزه ، واستعمل عمرو بن حزم على نجران ، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورمع وزبيد ، وعامر بن شهر على همدان ، وعلى صنعاء ابن باذام ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة ، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري ، وعلى الجند يعلى بن أمية . وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت ؛ واستعمل على أعمال حضر موت ؛ على السكاسك والسكون عكاشة بن ثور ، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله - أو المهاجر - فاشتكى فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر . وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي ، وكان زياد يقوم على عمل المهاجر ؛ فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت ؛ إلا من قتل في قتال الأسود أو مات ؛ وهو باذام ، مات ففرق النبي صلى الله عليه وسلم العمل من أجله . وشهر ابنه - يعني ابن باذام - فسار إليه الأسود فقاتله فقتله .

وحدثني بهذا الحديث السري ، عن شعيب بن إبراهيم ، عن سيف . فقال فيه : عن سيف ، عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة . ثم سائر الحديث بإسناده مثل حديث ابن سعد الزهري .

قال : حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أول من اعترض على العنسى وكاثره عامر بن شهر الهمداني في ناحيته وفيروز ودا ذويه في ناحيتهما ، ثم تتابع الذين كتب إليهم على ما أمروا به .

حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرني سيف ، قال . وحدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : فبينا نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي ؛ وكتبنا بيننا وبينهم الكتب ، إذ جاءنا كتاب من الأسود : أيها المتوردون علينا ، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفروا ما جمعتم ؛ فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه . فقلنا للرسول : من أين جئت ؟ قال : من كهف خبان . ثم كان وجهه إلى نجران ؛ حتى أخذها في عشر لمخرجه ، وطابقه عوام مذحج . فبينا نحن ننظر في أمرنا ، ونجمع جمعنا ، إذ أتينا فقيل : هذا الأسود بشعوب ، وقد خرج إليه شهر بن باذام ؛ وذلك لعشرين ليلة من منجمه . فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدبرة ، إذ أتانا أنه قتل شهراً ، وهزم الأبناء ، وغلب على صنعاء لخمس وعشرين ليلة من منجمه . وخرج معاذ هارباً ، حتى مر بأبي موسى وهو بمأرب ، فاقتحما حضرموت ؛ فأما معاذ فإنه نزل في السكون ؛ وأما أبو موسى فإنه نزل في السكاسك مما يلي المفور والمفازة بينهم وبين مأرب ، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر إلا عمراً وخالداً ؛ فإنهما رجعا إلى المدينة ؛ والطاهر يومئذ في وسط بلاد عك بحيال صنعاء . وغلب الأسود على ما بين صهيد - مفازة حضرموت - إلى عمل الطائف إلى البحرين قبل عدن ، وطابقت عليه اليمن ، وعك بتهامة معترضون عليه ؛ وجعل يستطير استطارة الحريق ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان ؛ وكان قواده قيس بن عبد يغوث المرادي ومعاوية بن قيس لبجنبي ويزيد بن محرم ويزيد بن حصين الحارثي ويزيد بن الأفكل الأزدي . وثبت ملكه واستغلظ أمره ، ودانت له سواحل من السواحل ؛ حاز عثر والشرجة والحردة وغلافقة وعدن ، والجند ؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف ، إلى الأحسية وعليب ؛ وعامله المسلمون بالبقية ، وعامله أهل الردة بالكفر والرجوع عن الإسلام . وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب ، وأسند أمره إلى نفر ؛ فأما أمر جنده فإلى قيس بن عبد يغوث ، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه .

فلما أثخن في الأرض اسنخف بقيس وبفيروز وداذويه ، وتزوج امرأة شهر ؛ وهي ابنة عم فيروز ؛ فبينا نحن كذلك بحضرموت - ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود ، أو يبعث إلينا جيشاً ، أو يخرج بحضرموت خارج يدعى بمثل ما ادعى به الأسود ، فنحن على ظهر ، تزوج معاذ إلى بني بكرة ؛ حي من السكون ، امرأة أخوالها بنو زنكبيل يقال لها رملة ، فحدبوا لصهره علينا ، وكان معاذ بها معجباً ، فإن كان ليقول فيما يدعو الله به : اللهم ابعثني يوم القيامة مع السكون ، ويقول أحياناً : اللهم اغفر للسكون - إذ جاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته أو لمصاولته ؛ ونبلغ كل من رجا عنده شيئاً من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقام معاذ في ذلك بالذي أمر به ، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر .

حدثنا السري ، قال : أخبرنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - وحدثني عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - قال : أخبرنا المستنير ابن يزيد ، عن عروة بن غزية الدثيني ، عن الضحاك بن فيروز - قال السري : عن جشيش بن الديلمى ، وقال عبيد الله : عن جشنس بن الديلمي - قال : قدم علينا وبر بن يحنس بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يأمرنا فيه بالقيام على ديننا ، والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود : إما غيلة وإما مصادمة ؛ وأن نبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة وديناً . فعلمنا في ذلك ، فرأينا أمراً كثيفاً ، ورأيناه قد تغير لقيس بن عبد يغوث - وكان على جنده - فقلنا : يخاف على دمه ؛ فهو لأول دعوة ؛ فدعوناه وأنبأناه الشأن ، وأبلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكأنما وقعنا عليه من السماء ، وكان في غم وضيق بأمره ؛ فأجابنا إلى ما أحيينا من ذلك ، وجاءنا وبر بن يحنس ، وكاتبنا الناس ودعوناهم ؛ وأخبره الشيطان بشيء ، فأرسل إلى قيس وقال : يا قيس ، ما يقول هذا ؟ قال : وما يقول ؟ قال : يقول : عمدت إلى قيس فأكرمته ؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل ، وصار في العز مثلك ، مال ميل عدوك ؛ وحاول ملكك وأضمر على الغدر ? إنه يقول : يا أسود يا أسود ?! يا سوءة يا سوءة ! اقطف قنته ، وخذ من قيس أعلاه ؛ وإلا سلبك أو قطف قنتك . فقال قيس - وحلف به : كذب وذي الخمار ؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي ؛ فقال : ما أجفاك ! أتكذب الملك ! قد صدق الملك ؛ وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك .

ثم خرج فأتانا ، فقال : يا جشيش ، ويا فيروز ، وياداذويه ؛ إنه قد قال وقلت ؛ فما الرأى ؟ فقلنا : نحن على حذر ؛ فإنا في ذلك ؛ إذ أرسل إلينا ، فقال : ألم أشرفكم على قومكم ، ألم يبلغنى عنكم ! فقلنا : أقلنا مرتنا هذه ، فقال : لا يبلغنى عنكم فأقتلكم ؛ فنجونا ولم نكد ؛ وهو في ارتياب من أمرنا وأمر قيس ؛ ونحن في ارتياب وعلى خطر عظيم ؛ إذ جاءنا اعتراض عامر ابن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم عليه ، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر ؛ وكاتبناهم وأمرناهم ألا يحركوا شيئاً حتى نبرم الأمر - وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ؛ إلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب ؛ فثبتوا فتنحوا وانضموا إلى مكان واحد - وبلغه ذلك ، وأحسن بالهلاك ، وفرق لنا الرأى . فدخلت على آذاذ ؛ وهي امرأته ، فقلت : يا ابنة عم ؛ قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك ؛ قتل زوجك ، وطأطأ في قومك القتل ، وسفل بمن بقي منهم ؛ وفضح النساء ؛ فهل عندك من ممالأة عليه ! فقالت : على أي أمره ؟ قلت : إخراجه ، قالت : أو قتله ، قلت : أو قتله ، قالت : نعم والله ما خلق الله شخصاً أبغض إلى منه ؛ ما يقوم لله على حق ، ولا ينتهي له عن حرمة ؛ فإذا عزمتم فأعلموني أخبركم بمأتى هذا الأمر . فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراني ، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه ، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا : الملك يدعوك ، فدخل في عشرة من مذحج وهمدان ، فلم يقدر على قتله معهم - قال السري في حديثه : فقال : يا عيهلة بن كعب بن غوث ، وقال عبيد الله في حديثه : يا عبهلة بن كعب بن غوث - أمنى تحصن بالرجال ! ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذابة ! إنه يقول : يا سوءة يا سوءة ! إلا تقطع من قيس يده يقطع قنتك العليا ؛ حتى ظن أنه قاتله ؛ فقال : إنه ليس من الحق أن أقتلك وأنت رسول الله ، فمر بي بما أحببت ؛ فأما الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلني - قال الزهري : فإما قتلتني فموتة ، وقال السري : اقتلني فموتة أهون على من موتات أموتها كل يوم - فرق له فأخرجه ، فخرج علينا فأخبرنا وواطأنا ، وقال : اعلموا عملكم ؛ وخرج علينا في جمع ، فقمنا مثولا له ، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير ، فقام وخط خطاً فأقيمت من ورائه ، وقام من دونها ، فنحرها غير محبسة ولا معقلة ، ما يقنحم الخط منها شيء ، ثم خلاها فجالت إلى أن زهقت ؛ فما رأيت أمراً كان أفظع منه ، ولا يوماً أوحش منه . ثم قال : أحق ما بلغني عنك يا فيروز ؟ وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة ، فقال : اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء ؛ فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء ؛ فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودنيا ؛ لا تقبلن علينا أمثال ما يبلغك ؛ فإنا بحيث تحب . فقال : اقسم هذه ؛ فأنت أعلم بمن ها هنا ، فاجتمع إلى أهل صنعاء ، وجعلت آمر للرهط بالجزور ولأهل البيت بالبقرة ، ولأهل الحلة بعدة ، حتى أخذ أهل كل ناحية بقسطهم . فلحق به قبل أن يصل إلى داره - وهو واقف على - رجل يسعى إليه بفيروز ؛ فاستمع له ، واستمع له فيروز وهو يقول : أنا قاتله غداً وأصحابه ؛ فاغد علي ، ثم التفت فإذا به ، فقال : مه ! فأخبره بالذي صنع ، فقال : أحسنت ، ثم ضرب دابته داخلاً ، فرجع إلينا فأخبرنا الخبر ، فأرسلنا إلى قيس ؛ فجاءنا ؛ فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر ؛ فأتيت المرأة وقلت : ما عندك ؟ فقالت : هو متحرز متحرس ؛ وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت ؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق ؛ فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ؛ فإنكم من دون الحرس ؛ وليس دون قتله شيء . وقالت : إنكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً . فخرجت فتلقاني الأسود خارجاً من بعض منازله ، فقال لي : ما أدخلك علي ؟ ووجأ رأسي حتى سقطت - وكان شديداً وصاحت المرأة فأدهشته عني ؛ ولولا ذلك لقتلني . وقالت : ابن عمي جاءني زائراً ، فقصرت بي ! فقال : اسكتي لا أبا لك ، فقد وهبته لك ! فتزايلت عني ، فأتيت أصحابي فقلت : النجاء ! الهرب ! وأخبرتهم الخبر ؛ فإنا على ذلك حيارى إذ جاءني رسولها : لا تدعن ما فارقتك عليه ؛ فإني لم أزل به حتى اطمأن ؛ فقلنا لفيروز : ائتها فتثبت منها ؛ فإما أنا فلا سبيل لي إلى الدخول بعد النهي . ففعل ، وإذا هو كان أفطن مني ؛ فلما أخبرته قالت : وكيف ينبغي لنا أن ننقب على بيوت مبطنة ! ينبغي لنا أن نقلع بطانة البيت ؛ فدخلا فاقتلعا البطانة ، ثم أغلقاه ؛ وجلس عندها كالزائر ؛ فدخل عليها الأسود فاستخفته غيرة ، وأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم ، فصاح به وأخرجه . وجاءنا بالخبر ؛ فلما أمسينا عملنا في أمرنا ؛ وقد واطأنا أشياعنا ، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين ؛ فنقبنا البيت من خارج ، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة ؛ واتقينا بفيروز ؛ وكان أنجدنا وأشدنا - فقلنا : انظر ماذا ترى ! فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه في مقصورة ؛ فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديداً ، وإذا المرأة جالسة ؛ فلما قام على الباب أجلسه الشيطان فكلمه على لسانه - وإنه ليغط جالساً . وقال أيضاً : مالي ولك يا فيروز ! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة ، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل ؛ فأخذ برأسه فقتله ، فدق عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقه ، ثم قام ليخرج ؛ فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله ، فقالت : أين تدعني ! قال : أخبر أصحابي بمقتله ؛ فأتانا فقمنا معه ؛ فأردنا حز رأسه ؛ فحركه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه ؛ فقلت : اجلسوا على صدره ؛ فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره ، وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة ؛ وأمر الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط ؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ، ما هذا ! فقالت المرأة : النبي يوحى إليه ! فخمد . ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا ، ليس غيرنا ثلاثتنا : فيروز وداذويه وقيس ؛ فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثم ينادى بالأذان ، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمع الحرس فأحاطوا بنا ، ثم ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس ، فناديتهم : أشهد أن محمداً رسول الله ؛ وأن عبهلة كذاب ! وألقينا إليهم رأسه ، فأقام وبر الصلاة ، وشنها القوم غارةً ؛ ونادينا : يا أهل صنعاء ، من دخل عليه داخل فتعلقوا به ، ومن كان عنده منهم أحد فتعلقوا به . ونادينا بمن في الطريق : تعلقوا بمن استطعتم ! فاختطفوا صبياناً كثيرين ؛ وانتهبوا ما انتهبوا ، ثم مضوا خارجين ؛ فلما برزوا فقدوا منهم سبعين فارساً ركبانا ؛ وإذا أهل الدور والطرق وقد وافونا بهم ؛ وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أن يتركوا لنا ما في أيديهم ، ونترك لهم ما في أيدينا ؛ ففعلوا فخرجوا لم يظفروا منا بشيء ؛ فترددوا فيما بين صنعاء ونجران ، وخلصت صنعاء والجند ، وأعز الله الإسلام وأهله ؛ وتنافسنا الإمارة ؛ وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم ؛ فاصطلحنا على معاذ بن جبل ، فكان يصلى بنا ، وكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ؛ وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم . فأتاه الخبر من ليلته ، وقدمت رسلنا ؛ وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة ؛ فأجابنا أبو بكر رحمه الله .

حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - عن أبي القاسم الشنوي ، عن العلاء بن زياد ، عن ابن عمر ، قال : أتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسى ليبشرنا ، فقال : قتل العنسى البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز ! حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرني سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - عن المستنير ، عن عروة ، عن الضحاك ، عن فيروز ، قال : قتلنا الأسود ، وعاد أمرنا كما كان ؛ إلا أنا أرسلنا إلى معاذ ، فتراضينا عليه ؛ فكان يصلى بنا في صنعاء ؛ فو الله ما صلى بنا إلا ثلاثا ونحن راجون مؤملون ، لم يبق شيء نكرهه إلا ما كان من تلك الخيول التي تتردد بيننا وبين نجران ؛ حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتقضت الأمور ؛ وأنكرنا كثيراً مما كنا نعرف ، واضطربت الأرض .

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي القاسم وأبي محمد ، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني ، من جند فلسطين ؛ عن عبد الله بن فيروز الديلمي ؛ أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم رسولاً ، يقال له : وبر بن يحنس الأزدى ؛ وكان منزله على داذويه الفارسي ، وكان الأسود كاهناً معه شيطان وتابع له ، فخرج فنزل على ملك اليمن ؛ فقتل ملكها ونكح امرأته وملك اليمن ؛ وكان باذام هلك قبل ذلك ، فخلف ابنه على أمره ، فقتله وتزوجها ، فاجتمعت أنا وداذويه وقيس بن المكشوح المرادي عند وبر بن يحنس رسول نبي الله صلى الله عليه وسلم نأتمر بقتل الأسود . ثم إن الأسود أمر الناس فاجتمعوا في رحبة من صنعاء ، ثم خرج حتى قام في وسطهم ، ومعه حربة الملك ، ثم دعا بفرس الملك فأوجره الحربة ، ثم أرسل فجعل يجري في المدينة ودماؤه تسيل حتى مات . وقام وسط الرحبة ؛ ثم دعا بجزر من وراء الخط فأقامها ، وأعناقها ورءوسها في الخط ما يجزنه . ثم استقبلهن بحربته فنحرهن فتصدعن عنه ؛ حتى فرغ منهن ، ثم أمسك حربته في يده ، ثم أكب على الأرض ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول - يعني شيطانه الذي معه : إن ابن المكشوح من الطغاة ، يا أسود اقطع قنة رأسه العليا . ثم أكب رأسه أيضاً ينظر ، ثم رفع رأسه ، فقال : إنه يقول : إن ابن الديلمى من الطغاة ؛ يا أسود اقطع يده اليمنى ورجله اليمنى ؛ فلما سمعت قوله قلت : والله ما آمن أن يدعو بي ، فينحرني بحربته كما نحر هذه الجزر ؛ فجعلت أستتر بالناس لئلا يراني ، حتى خرجت ولا أدري من حذرى كيف آخذ ! فلما دنوت من منزلي لقيني رجل من قومه ، فدق في رقبتي ، فقال : إن الملك يدعوك وأنت تروغ ! ارجع ؛ فردني ، فلما رأيت ذلك خشيت أن يقتلني . قال : وكنا لا يكاد يفارق رجلا منا أبداً خنجره ، فأدس يدي في خفي ، فأخذت خنجري ، ثم أقبلت وأنا أريد أن أحمل عليه ، فأطعنه به حتى أقتله ، ثم أقتل من معه ، فلما دنوت منه رأى في وجهي الشر ، فقال : مكانك ! فوقفت ، فقال : إنك أكبر من ها هنا وأعلمهم بأشراف أهلها ، فاقسم هذه الجزر بينهم . وركب فانطلق وعلقت أقسم اللحم بين أهل صنعاء ، فأتاني ذلك الذي دق في رقبتي ، فقال : أعطني منها ، فقلت : لا والله ولا بضعة واحدة ؛ ألست الذي دققت في رقبتي ! فانطلق غضبان حتى أتى الأسود ؛ فأخبره بما لقي مني وقلت له . فلما فرغت أتيت الأسود أمشي إليه ، فسمعت الرجل وهو يشكوني إليه ، فقال له الأسود : أما والله لأذبحنه ذبحاً ! فقت له : إني قد فرغت مما أمرتني به ، وقسمته بين الناس . قال : قد أحسنت فانصرف . فانصرفت ، فبعثنا إلى امرأة الملك : إنا نريد قتل الأسود ؛ فكيف لنا ! فأرسلت إلى : أن هلم . فأتيتها ، وجعلت الجارية على الباب لتؤذننا إذا جاء ؛ ودخلت أنا وهي البيت الآخر ، فحفرنا حتى نقبنا نقباً ، ثم خرجنا إلى البيت ، فأرسلنا الستر ، فقلت : إنا نقتله الليلة ، فقالت : فتعالوا ؛ فما شعرت بشيء حتى إذا الأسود قد دخل البيت ؛ وإذا هو معنا ؛ فأخذته غيرة شديدة ، فجعل يدق في رقبتي ، وكفكفته عني ، وخرجت فأتيت أصحابي بالذي صنعت ، وأيقنت بانقطاع الحيلة عنا فيه ؛ إذ جاءنا رسول المرأة ؛ ألا يكسرن عليكم أمركم ما رأيتم ؛ فإني قد قلت له بعد ما خرجت : ألستم تزعمون أنكم أقوام أحرار لكم أحساب ! قال : بلى ، فقلت : جاءني أخي يسلم على ويكرمني ، فوقعت عليه تدق في رقبته ؛ حتى أخرجته ، فكانت هذه كرامتك إياه ! فم أزل ألومه حتى لام نفسه ، وقال : أهو أخوك ؟ فقلت : نعم ، فقال : ما شعرت ؛ فأقبلوا الليلة لما أردتم .

قال الديلمي : فاطمأنت أنفسنا ، واجتمع لنا أمرنا ؛ فأقبلنا من الليل أنا وداذويه وقيس حتى ندخل البيت الأقصى من النقب الذي نقبنا ، فقلت : يا قيس ، أنت فارس العرب ، ادخل فاقتل الرجل ، قال : إني تأخذني رعدة شديدة عند البأس ، فأخاف أن أضرب الرجل ضربة لا تغنى شيئاً ؛ ولكن ادخل أنت يا فيروز ، فإنك أشبنا وأقوانا ، قال : فوضعت سيفي عند القوم ، ودخلت لأنظر أين رأس الرجل ! فإذا السراج يزهر ؛ وإذا هو راقد على فرش قد غاب فيها لا أدري أين رأسه من رجليه ! وإذا المرأة جالسة عنده كانت تطعمه رماناً حتى رقد ، فأشرت إليها : أين رأسه ؟ فأشارت إليه ، فأقبلت أمشي حتى قمت عند رأسه لأنظر ، فما أدري أنظرت في وجهه أم لا ! فإذا هو قد فتح عينيه ؛ فنظر إلي ، فقلت : إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني ويأخذ عدة يمتنع بها مني ؛ وإذا شيطانه قد أنذره بمكاني وقد أيقظه ، فلما أبطأ كلمني على لسانه ؛ وإنه لينظر ويغط ، فأضرب بيدي إلى رأسه ، فأخذت رأسه بيد ولحيته بيد ؛ ثم ألوي عنقه فدققتها ؛ ثم أقبلت إلى أصحابي ، فأخذت المرأة بثوبي ، فقالت : أختكم نصيحتكم ! قلت : قد والله قتلته وأرحتك منه . قال : فدخلت على صاحبي فأخبرتهما ، قالا : فارجع فاحتز رأسه وائتنا به ، فدخلت فبربر فألجمته فحززت رأسه ، فأتيتهما به ، ثم خرجنا حتى أتينا منزلنا ؛ وعندنا وبر بن يحنس الأزدي ، فقام معنا حتى ارتقينا على حصن مرتفع من تلك الحصون ؛ فأذن وبر بن يحنس بالصلاة ، ثم قلنا : ألا إن الله عز وجل قد قتل الأسود الكذاب ، فاجتمع الناس إلينا فرمينا برأسه ، فلما رأى القوم الذين كانوا معه أسرجوا خيولهم ؛ ثم جعل كل واحد منهم يأخذ غلاماً من أبنائنا معه من أهل البيت الذي كان نازلا فيهم ؛ فأبصرتهم في الغلس مردفي الغلمان ، فناديت أخي وهو أسفل مني مع الناس : أن تعلقوا بمن استطعتم منهم ؛ ألا ترون ما يصنعون بالأبناء ! فتعلقوا بهم ؛ فحبسنا منهم سبعين رجلاً ، وذهبوا منا بثلاثين غلاماً ، فلما برزوا إذا هم يفقدون سبعين رجلا حين تفقدوا أصحابهم ، فأتونا فقالوا : أرسلوا إلينا أصحابنا ، فقلنا لهم : أرسلوا إلينا أبناءنا ، فأرسلوا إلينا الأبناء ، وأرسلنا إليهم أصحابهم.

قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن الله قد قتل الأسود الكذاب العنسي ، قتله بيد رجل من إخوانكم ، وقوم أسلموا وصدقوا ؛ فكنا كأنا على الأمر الذي كان قبل قدوم الأسود علينا وأمن الأمراء وتراجعوا ، واعتذر الناس وكانوا حديثي عهد بالجاهلية .

حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثنى السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف ، عن أبيه ، عن عبيد بن صخر ، قال : كان أول أمره إلى آخره ثلاثة أشهر .

وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف - وحدثنا عبيد الله قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - عن جابر بن يزيد ، عن عروة ابن غزية ، عن الضحاك بن فيروز ، قال : كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحواً من أربعة أشهر ؛ وقد كان قبل ذلك مستسراً بأمره . حتى بادى بعد .

حدثني عمر بن شبة ، قال : حدثنا علي بن محمد ، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء ، عن مشيختهم ، قالوا : أمضي أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول ، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة ؛ وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر وهو بالمدينة .

وقال الواقدي : في هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - قدم وفد النخع في النصف من المحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأسهم زرارة بن عمرو ، وهم آخر من قدم من الوفود .

وفيها : ماتت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الثلاثاء ، لثلاث خلون من شهر رمضان ؛ وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها . وذكر أن أبا بكر بن عبد الله ، حدثه عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبان بن صالح بذلك . وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر ، قال : توفيت فاطمة عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر .

قال : وحدثنا ابن جريج ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : توفيت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر .

قال الواقدي : وهو أثبت عندنا .

قال : وغسلها علي عليه السلام وأسماء بنت عميس .

قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت : صلى عليها العباس بن عبد المطلب .

وحدثنا أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، عن أبي معشر ، قال : دخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس .

قال : وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة ، وكان أصابه بالطائف سهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، رماه أبو محجن ، ودمل الجرح حتى انتقض به في شوال ؛ فمات .

وحدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو معشر ومحمد ابن إسحاق وجويرية بن أسماء بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : في العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزد جرد .

قال أبو جعفر : وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بن حصن الفزارى . حدثني أبو زيد ، قال : حدثنا علي بن محمد بإسناده الذي ذكرت قبل ، قالوا : أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة من أرض الشأم ؛ وهو الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالمسير إليه ؛ لم يحدث شيئاً ، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ، ويمنعون الزكاة . فلم يقبل ذلك منهم وردهم ، وأقام حتى قدم أسامة بن زيد بن حارثة بعد أربعين يوماً من شخوصه - ويقال : بعد سبعين يوماً - فلما قدم أسامة بن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص - ويقال استخلف سناناً الضمري على المدينة - فسار ونزل بذي القصة في جمادى الأولى ؛ ويقال في جمادى الآخرة ؛ وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه خارجة بن حصن بالشربة ؛ فأخذ ما في يديه ؛ فرده على بني فزارة ؛ فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر . فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حرب العنسي ؛ وقد كانت حرب العنسي باليمن ؛ ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور بن زبان بن سيار في غطفان ، والمسلمون غارون ، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها ، ثم هزم الله المشركين .

وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن المجالد ابن سعيد ، قال : لما فضل أسامة كفرت الأرض وتضرمت ، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً .

وحدثني عبيد الله ، قال : حدثنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص ؛ وتوحى مسيلمة وطليحة ، فاستغلظ أمرهما ؛ واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد ، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه ، وقدمت هوازن رجلاً وأخرت رجلاً أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ولفها ؛ فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز ؛ وارتدت خواص من بني سليم ؛ وكذلك سائر الناس بكل مكان .

قال : وقدمت رسل النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب ؛ فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر ، وأخبروه الخبر ، فقال لهم أبو بكر : لا تبرحوا حتى تجئ رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر ؛ وانتقاض الأمور . فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان بانتفاض عامة أو خاصة ، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين ، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربهم بالرسل . فرد رسلهم بأمره ، وأتبع الرسل رسلاً ؛ وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة ؛ وكان أول من صادم عبس وذبيان ، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة .

حدثني عبيد اله ، قال : أخبرنا عمي ، قال : أخبرنا سيف - وحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، قال : حدثنا سيف - عن أبي عمرو ، عن زيد بن أسلم ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على قضاعة ، وعلى كلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله ، وعلى القين عمرو بن الحكم ، وعلى سعد هذيم معاوية بن فلان الوائلي .

وقال السري الوالبي : فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب ، وبقي امرؤ القيس على دينه ، وارتد زميل بن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو ، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم . فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بن فلان - وهو جد سكينة ابنة حسين - فسار لوديعة ، وإلى عمرو فأقام لزميل ، وإلى معاوية العذري . فلما توسط أسامة بلاد قضاعة ، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه ؛ فخرجوا هراباً ؛ حتى أرزوا إلى دومة ، واجتمعوا إلى وديعة ، ورجعت خيول أسامة إليه ؛ فمضى فيها أسامه . حتى أغار على الحمقتين ، فأصاب في بني الضبيب من جذام ، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين ؛ وحازهم من آبل وانكفأ سالماً غانماً .

فحدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة ؛ إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث ؛ فاجتمعت أسد بسميراء ، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة ، وطيئ على حدود أرضهم . واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة ، وتأشب ، إليهم ناس من بني كنانة ؛ فلم تحملهم البلاد ؛ فافترقوا فرقتين ؛ فأقامت فرقة منهم بالأبرق ، وسارت الأخرى إلى ذي القصة ، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج . وكان على مرة بالأبرق عوف بن فلان بن سنان ، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان ؛ أحد بني سبيع ، وقد بعثوا وفوداً فقدموا المدينة ، فنزلوا على وجوه الناس ، فأنزلوهم ما خلا عباساً فتحملوا بهم على أبي بكر ؛ على أن يقيموا الصلاة ؛ وعلى ألا يؤتوا الزكاة ؛ فعزم الله لأبي بكر على الحق ، وقال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه - وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة - فردهم فرجع وفد من يلى المدينة من المرتدة إليهم ، فأخبروا عشائرهم بقلة من أهل المدينة ، وأطمعوهم فيها ؛ وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على أنقاب المدينة نفراً :علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود ؛ وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد ، وقال لهم : إن الأرض كافرة ؛ وقد رأى وفدهم منكم قلة ؛ وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً ! وأدناهم منكم على بريد . وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم ؛ وقد أبينا عليهم ، ونبذنا إليهم عهدهم ، فاستعدوا وأعدوا . فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل ، وخلفوا بعضهم بذي حسي ، ليكونوا لهم ردءاً ، فوافق الغوار ليلا الأنقاب ؛ وعليها المقاتلة ، ودونهم أقوام يدرجون ، فنبهوهم ؛ وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر ، فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ، ففعلوا . وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فانفش العدو ، فاتبعهم المسلمون على إبلهم ؛ حتى بلغوا ذا حسي ؛ فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها ، وجعلوا فيها الحبال ، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل ؛ فتدهده كل نحي في طوله ، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء - فعاجت بهم ما يملكونها ؛ حتى دخلت بهم المدينة ؛ فلم يصرع مسلم ولم يصب ؛ فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة ابن أوس :

فدى لبنى ذبيان رحلى ونـاقـتـي           عشية يحذى بالرماح أبـو بـكـر
ولكن يدهدى بالرجال فـهـبـنـه               إلى قدر مـا إن يزيد ولا يحـرى
ولـلـه أجـنـاد تـذاق مـذاقـه                    لتحسب فيما عد من عجب الدهر !

وأنشده الزهري : ((من حسب الدهر)) .

وقال عبد الله الليثي ؛ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة - وهم بنو ذبيان - في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى :

أطعنا رسول الله ما كان بينـنـا               فيا لعباد الله ما لأبي بـكـر !
أيورثها بكراً إذا مـات بـعـده                   وتلك لعمر الله قاصمة الظهـر
فهلا رددتم وفدنـا بـزمـانـه                    وهلا خشيتم حس راغية البكر !
وإن التي سالوكم فمـنـعـتـم                لكالتمر أو أحلى إلى من التمر

فظن القوم القوم بالمسلمين الوهن ، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر ؛ فقدموا عليهم اعتماداً في الذين أخبروهم ، وهم لا يشعرون لأمر اله عز وجل الذي أراده ، وأحب أن يبلغه فيهم ، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ ، فعبى الناس ، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي ، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب ؛ فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين همساً ولا حساً حتى وضعوا فيهم السيوف ، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم ؛ فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار ، وغلبوهم على عامة ظهرهم ؛ وقتل حبال واتبعهم أبو بكر ؛ حتى نزل بذي القصة - وكان أول الفتح - ووضع بها النعمان ابن مقرن في عدد ، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون ؛ فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين ؛ فقتلوهم كل قتلة ؛ وفعل من وراءهم فعلهم . وعز المسلمون بوقعة أبي بكر ، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة ؛ وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة ، وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي :

غداة سعى أبو بكر إليهم               كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها علياً                 ومج لهن مهجته حبال

وقال أيضاً :

أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا                ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامهـا                    صبيحة يسمو بالرجال أبو بكـر
طرقنا بني عبس بأدنى نباحـهـا                وذبيان نهنهنا بقاصمة الظـهـر

ثم لم يصنع إلا ذلك ؛ حتى ازداد المسلمون لها ثباتاً على دينهم في كل قبيلة ، وازداد لها المشركون انعكاساً من أمرهم في كل قبيلة ؛ وطرقت المدينة صدقات نفر : صفوان ، الزبرقان ، عدي ؛ صفوان ، ثم الزبرقان ، ثم عدي ؛ صفوان في أول الليل ، والثاني في وسطه ، والثالث في آخره . وكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص ، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف ، والذي بشر بعدي عبد الله بن مسعود . وقال غيره : أبو قتادة .

قال : وقال الناس لكلهم حين طلع : نذير ، وقال أبو بكر : هذا بشير ، هذا حام وليس بوان ؛ فإذا نادى بالخير ، قالوا : طالما بشرت بالخير ! وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة . وقدم أسامة بعد ذلك بأيام لشهرين وأيام ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ، وقال له ولجنده : أريحوا وأريحوا ظهركم .

ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر ؛ فقال له المسلمون : ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك ! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ، ومقامك أشد على العدو ؛ فابعث رجلاً ، فإن أصيب أمرت آخر ، فقال : لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ؛ فخرج في تعبيته إلى ذي حسي وذي القصة ، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه ، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق ؛ فاقتتلوا ، فهزم الله الحارث وعوفاً ، وأخذ الحطيئة أسيراً ، فطارت عبس وبنو بكر ؛ وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً ؛ وقد غلب بني ذبيان على البلاد . وقال : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله ! وأجلاها . فلما غلب أهل الردة ؛ ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة ؛ وهي كانت منازلهم لينزلوها ، فمنعوا منها فأتوه في المدينة ، فقالوا : علام نمنع من نزول بلادنا ! فقال : كذبتم ، ليست لكم ببلاد ؛ ولكنها موهبي ونقذي ، ولم يعتبهم ، وحمى الأبرق لخيول المسلمين ، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة ، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين ؛ لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات ، فمنع بذلك بعضهم من بعض .

ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة ، وارتحل عن سميراء إليها ، فأقام عليها ؛ وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة :

ويوم بالأبارق قد شهـدنـا         على ذبيان يلتهب التهابـا
أتيناهم بداهـية نـسـوف          مع الصديق إذ ترك العتابا

حدثني السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع وحرام بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : لما قدم أسامة بن زيد خرج أبو بكر واستخلفه على المدينة ، ومضى حتى انتهى إلى الربذة يلقي بني عبس وذبيان وجماعة من بني عبد مناة ابن كنانة ، فلقيهم بالأبرق ، فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم . ثم رجع إلى المدينة ، فلما جم جند أسامة ، وثاب من حول المدينة خرج إلى ذي القصة فنزل بهم - وهو على بريد من المدينة تلقاء نجد - فقطع فيها الجند ، وعقد الألوية ، عقد أحد عشر لواء على أحد عشر جنداً ، وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أهل القوة ، وتخلف بعض أهل القوة لمنع بلادهم .

حدثنا السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما أراح أسامة وجنده ظهرهم وجموا ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم ، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية ، فعقد أحد عشر لواء : عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد ؛ فإذا فرغ سار إلى إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له ، ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة ، وللمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم ، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت ، ولخالد بن سعيد بن العاص - وكان قدم على تفيئة ذلك من اليمن وترك عمله - وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشأم ، ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث ، ولحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا ولعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة ؛ وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما في عمله على صاحبه ، وبعث شرجبيل بن حسنة في أثر عكرمة ابن أبي جهل ، وقال : إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة ، وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة ، ولطريفة بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن ، ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن ، وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين .