المجلد الثالث - ذكر خبر بني تميم وأمر سجاج بنت الحارث بن سويد

ذكر خبر بني تميم وأمر سجاج بنت الحارث بن سويد

وكان من أمر بني تميم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وقد فرق فيهم عماله ؛ فكان الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء - فيما ذكر السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية بن بلال ، عن أبيه وسهم بن منجاب - وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون ، وصفوان ابن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو ؛ هذا على بهدى وهذا على خضم - قبيلتين من بني تميم - ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بني حنظلة ؛ هذا على بني مالك ، وهذا على بني يربوع . فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات بني عمرو ، وما ولى منها وبما ولى سبرة ، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب القوم ، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع . وكان الزبرقان متعتباً عليه ، وقلما جامله إلا مزقه الزبرقان بحظوته وجده . وقد قال قيس وهو ينتظر لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه : واو يلنا من من ابن العكلية ! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع ! لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فليسودني فيهم ، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده . فعزم قيس على قسمها في المقاعس والبطون ، ففعل . وعزم الزبرقان على الوفاء ، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة ، وهو يقول ويعرض بقيس :

وفيت بأذواد الرسول وقد أبت          سعاة فلم يردد بعيراً مجيرها
وتحلل الأحياء ونشب الشر ، وتشاغلوا وشغل بعضهم بعضاً . ثم ندم قيس بعد ذلك ، فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج صدقتها ؛ فتلقاه بها ؛ ثم خرج معه ، وقال في ذلك :

ألا أبلغا عني قريشاً رسالةً          إذا ما أتتها بينات الودائع

فتشاغلت في تلك الحال عوف والأبناء بالبطون ؛ والرباب بمقاعس ، وتشاغلت خضم بما لك وبهدى بيربوع ؛ وعلى خضم سبرة بن همرو ، وذلك الذي حلفه عن صفوان والحصين بن نيار على بهدي ، والرباب ؛ عبد الله بن صفوان على ضبة ، وعصمة بن أبير على عبد مناة ، وعلى عوف والأبناء عوف بن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي ، وعلى البطون سعر بن خفاف ؛ وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم ؛ فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم ، فأضر ذلك بثمامة بن أثال حتى قدم عليه عكرمة وأنهضه ؛ فلم يصنع شيئاً ؛ فبينا الناس في بلاد تميم على ذلك ، قد شغل بعضهم بعضاً ؛ فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص ، وبإزاء من ارتاب ، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة ، وكانت ورهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة ، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب ، وعقة ابن هلال في النمر ، وتاد بن فلان في إياد ، والسليل بن قيس في شيبان ، فأتاهم أمر دهي ، هو أعظم مما فيه الناس ، لهجوم سجاح عليهم ، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة ، والتشاغل بما بينهم . وقال غفيف بن المنذر في ذلك :

ألم يأتيك والأنباء تـسـرى             بما لاقت سراة بني تـمـيم
تداعى من سراتهـم رجـال           وكانوا في الذوائب والصميم
وألجوهم وكان لهم جـنـاب            إلى أحياء خـالـية وخـيم

وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان - هي وبنو أبيها عقفان - في بني تغلب ، فتنبت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزيرة في بني تغلب ، فاستجاب لها الهذيل ، وترك التنصر ؛ وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر . فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة ، فأجابها ، وفثأها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم ، قال : نعم ، فشأنك بمن رأيت ، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم . فأرسلت إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة ، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هراباً قد كرهوا ما صنع وكيع ، وخرج أشباههم من بني يربوع ؛ حتى نزلوا على الحصين بن نيار في بني مازن ، وقد كرهوا ما صنع مالك ؛ فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة ، أجابها إلى ذلك وكيع ، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح ، وقد وادع بعضهم بعضاً ، واجتمعوا على قتال النس وقالوا : بمن نبدأ ؟ بخضم ، أم ببهدى ، أم بعوف والأبناء ، أم بالرباب ؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه ، فقالت : ((أعدوا الركاب ، واستعدوا للنهاب ؛ ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب)) .

قال : وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها ، وقالت لهم : إن الدهناء حجاز بني تميم ؛ ولن تعدو الرباب ؛ إذا شدها المصاب ، أن تلوذ بالدجاني والدهاني ؛ فلينزلها بعضكم . فتوجه الجفول - يعني مالك بن نويرة - إلى الدجاني فنزلها ؛ وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لها ؛ ضبتها وعبد مناتها ، فولى وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة ، وولى ثعلبة بن سعد بن ضبة عقة ، وولى عبد مناة الهذيل . فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة ، فهزما ، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع ، وقتلت قتلى كثيرة ؛ فقال في ذلك قيس بن عاصم ؛ وذلك أول ما استبان فيه الندم :

كأنك لم تشهد سمـاعة إذ غـزا            وما سر قعقاع وخـاب وكـيع
رأيتك قد صاحبت ضبة كارهـاً               على ندب في الصفحتين وجـيع
ومطلق أسرى كان حمقاً مسيرها         إلى صخرات أمرهن جـمـيع

فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر ، للموادعة التي بينها وبين وكيع - وكان عقة خال بشر - وقالت : اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم ، وتحملون لهم دماءهم ؛ وتحمد غب رأيهم أخراهم . فأطلقت لهم ضبة الأسرى ؛ وودوا القتلى ، وخرجوا عنهم . فقال في ذلك قيس يعيرهم صلح ضبة ، إسعاداً لضبة وتأنيباً لهم . ولم يدخل في أمر سجاح عمري ولا سعدى ولا ربي ؛ ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا في قيس ؛ حتى بدا منه إسعاد ضبة ؛ وظهر منه الندم . ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك ؛ فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا ، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم ؛ وقال أصم التيمي في ذلك :

أتتنا أخت تغلب فاستهدت           جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاهـاً            وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهـم زبـالاً                  وما كانت لتسلم إذ أتينـا
ألا سفهت حلومكم وضلت           عشية تحشدون لها ثبينـا

قال : ثم إن سجاح خرجت في جنود الجزيرة ، حتى بلغت النباح ؛ فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو ، فأسر الهذيل ؛ أسره رجل من بني مازن ثم أحد بني وبر ، يدعى ناشرة . وأسر عقة ؛ أسره عبدة الهجيمي ؛ وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى ، وينصرفوا عنهم ، ولا يجتازوا عليهم ؛ ففعلوا ، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما ؛ أن يرجعوا عنهم ، ولا يتخذوهم طريقاً إلا من ورائهم . فوفوا لهم ؛ ولم يزل في نفس الهذيل على المازني ؛ حتى إذا قتل عثمان بن عفان ، جمع جمعاً فأغار على سفار ، وعليه بنو مازن ؛ فقتلته بنو مازن ورموا به في سفار .

ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لها : ما تأمريننا ؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما ؛ فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز في أرضهم ، وقد عاهدنا هؤلاء القوم . فقالت : اليمامة ؛ فقالوا : إن شوكة أهل اليمامة شديدة ؛ وقد غلظ أمر مسيلمة ؛ فقالت : ((عليكم باليمامة ؛ ودفوا دفيف الحمامة ؛ فإنها غزوة صرامة ؛ لا يلحقكم بعدها ملامة)) . فنهدت لبنى حنيفة ؛ وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ؛ وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بن حسنة ، أو القبائل التي حولهم ، فأهدى لها ؛ ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها . فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وآمنته ؛ فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة - وكانت راسخة في النصرانية ، قد علمت من علم نصاري تغلب - فقال مسيلمة : لنا نصف الأرض ؛ وكان لقريش نصفها لو عدلت ؛ وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش ؛ فحباك به ، وكان لها لو قبلت . فقالت : ((لا يرد النصف إلا من حنف ، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف )) . فقال مسيلمة : ((سمع الله لمن سمع ، وأطمعه بالخير إذا طمع ؛ ولا زال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع . رآكم ربكم فحياكم ، ومن وحشة خلاكم ؛ ويوم دينه أنجاكم . فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشقياء ولا فجار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لربكم الكبار ، رب الغيوم والأمطار)) .

وقال أيضاً : ((لما رأيت وجوههم حسنت ، وأبشارهم صفت ، وأيديهم طفلت ؛ قلت لهم : لا النساء تأتون ، ولا الخمر تشربون ؛ ولكنكم معشر أبرار ، تصومون يوماً ، وتكلفون يوماً ؛ فسبحان الله ! إذا جاءت الحياة كيف تحيون ، وإلى ملك السماء ترقون ! فلو أنها حبة خردلة ؛ لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور ، ولأكثر الناس فيها الثبور)) .

وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولداً واحدا عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد ؛ حتى يصيب ابنا ثم يمسك ؛ فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر .

قال أبو جعفر : وأما غير سيف ومن ذكرنا عنه هذا الخبر ؛ فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت به سجاح ، أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح : انزل ، قال : فنحى عنك أصحابك ، ففعلت . فقال مسيلمة : اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه ؛ ففعلوا ، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال : ليقف ها هنا عشرة ، وها هنا عشرة ؛ ثم دارسها ، فقال : ما أوحى إليك ؟ فقالت : هل تكون النساء يبتدئن ! ولكن أنت قل ما أوحى إليك ؟ قال : ((ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى )) . قالت : وماذا أيضاً ؟ قال : أوحى إلى : ((أن الله خلق النساء أفراجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ؛ فنولج فيهن قعساً إيلاجا ، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا ، فينتجن لنا سخالا إنتاجاً)) . قالت : أشهد أنك نبي ، قال : هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب ! قالت : نعم ، قال :

ألا قومي إلى الـنـيك               فقد هيى لك المضجع
وإن شئت ففي البـيت             وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلـقـنـاك               وإن شئت على أربـع
وإن شئت بـثـلـثـيه                  وإن شئت به أجمـع

قالت : بل به أجمع ، قال بذلك أوحى إلى . فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها ، فقالوا : ما عندك ؟ قالت : كان على الحق فاتبعته فتزوجته ، قالوا : فهل أصدقك شيئاً ؟ قالت : لا ، قالوا : ارجعي إليه ، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ! فرجعت ، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال : مالك ؟ قالت : أصدقني صداقاً ، قال : من مؤذنك ؟ قالت : شبث بن ربعي الرياحي ، قال : على به ، فجاء فقال : ناد في أصحابك أن مسلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد : صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر .

قال : وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم .

وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما - فانصرفت ومعها أصحابها ، فيهم الزبرقان ، وعطارد بن حاجب ، وعمرو بن الأهتم ، وغيلان بن خرشة ، وشبث ابن ربعي ، فقال عطارد بن حاجب :

أمست نبيتنا أنثى نطيف بهـا             وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بن عياش الأعور الكلبي ، وهو يعير مضر بسجاح ، ويذكر ربيعة :

أتـوكـم بـدين قـائم وأتـيتـم          بمنتسخ الآيات في مصحف طب

رجع الحديث إلى حديث سيف . فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة ، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها ؛ فباح لها بذلك ؛ وقال : خلفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام ؛ فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلفت الهذيل وعقة وزياداً لينجز النصف الباقي ؛ فلم يفجأهم إلا دنو خالد بن الوليد منهم ؛ فارفضوا . فلم تزل سجاح في بني تغلب ؛ حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه ؛ وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد علي عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي ، وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشأم وأهل البصرة وأهل الجزيرة ؛ وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار ؛ فأخرج من الكوفة قعقلع بن عمرو بن مالك إلى إيليا بفلسطين ، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان ، وينقلهم إلى بني تميم ، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة ، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه ؛ وجاءت معهم وحسن إسلامها ؛ وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر ، وقالا : اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد ، ففعل وكتب الكتاب . وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله وأشهدوا شهوداً منهم عمر . فلما أنى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد ، ثم قال : لا والله ولا كرامة ! ثم مزق الكتاب ومحاه ، فغضب طلحة ، فأتى أبا بكر ، فقال : أأنت الأمير أم عمر ؟ فقال : عمر ؛ غير أن الطاعة لي . فسكت .

وشهدا مع خالد المشاهد كلها حتى اليمامة ، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة .

ذكر البطاح وخبره كتب إلى السري بن يحيى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الصعب بن عطية بن بلال ، قال : لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة ، ارعوى مالك بن نويرة ، وندم وتحير في أمره ، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا ، فرجعا رجوعاً حسناً ، ولم يتجبرا ، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالداً ؛ فقال خالد : ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم ؟ فقالا : ثأر كنا نطلبه في بني ضبة ؛ وكانت أيام تشاغل وفرص ، وقال وكيع في ذلك :

فلا تحسبا أني رجعت وأنـنـي              منعت وقد تحنى إلى الأصابـع
ولكنني حاميت عن جل مالـك             ولاحظت حتى أكحلتني الأخادع
فلما أتـانـا خـالـد بـلـوائه                      تخطت إليه بالبطـح الـودائع

ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح ؛ فهو على حاله متحير شج .

كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل ، عن القاسم وعمرو بن شعيب ، قالا : لما أراد خالد السير خرج من ظفر ، وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً وهوازن ؛ فسار يريد البطاح دون الحزن ؛ وعليها مالك بن نويرة ، وقد تردد عليه أمره ، وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه ، وقالوا : ما هذا بعهد الخليفة إلينا ! إن الخليفة عهد إلينا . فقال خالد : إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضي ، وأنا الأمير وإلى تنتهي الأخبار . ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ؛ ثم رأيت فرصةً ؛ فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها ؛ كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ، ثم نعمل به . وهذا مالك بن نويرة بحيالنا ، وأنا قاصد إليه ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان ؛ ولست أكرهكم . ومضى خالد ، وندمت الأنصار ، وتذامروا ، وقالوا : إن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه ، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس . فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولا ؛ فأقام عليهم حتى لحقوا به ؛ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد به أحداً .

قال أبو جعفر : فيما كتب به إلى السري بن يحيى ، يذكر عن شعيب ابن إبراهيم أنه حدثه عن سيف بن عمر ، عن خزيمة بن شجرة العقفاني ، عن عثمان بن سويد ، عن سويد بن المثعبة الرياحي ؛ قال : قدم خالد ابن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً ، ووجد مالكاً قد فرقهم في أموالهم ، ونهاهم عن الاجتماع حين تردد عليه أمره ، وقال : يا بني يربوع ؛ إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين ، وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح ، وإني قد نظرت في هذا الأمر ، فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ؛ فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ؛ فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر . فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم ، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله . ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب ، وإن امتنع أن يقتلوه ؛ وكان مما أوصى به أبو بكر : إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا ؛ فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم ؛ وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ؛ ثم اقتلوهم كل قتلة ؛ الحرق فما سواه ؛ وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم ؛ فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم ؛ وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة . فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من نبي ثعلبة بن يربوع ، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر ، فاختلفت السرية فيهم ، وفيهم أبو قتادة ؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا . فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ؛ وجعلت تزداد برداً ، فأمر خالد منادياً فنادى : ((أدفئوا أسراكم)) ، وكانت في لغة كنانة إذا قالوا : دثروا الرجل فأدفئوه ، دفئه قتله وفي لغة غيرهم : أدفه فاقتله ، فظن القوم - وهي في لغتهم القتل - أنه أراد القتل ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً ، وسمع خالد الواعية ؛ فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمراً أصابه .

وقد اختلف القوم فيهم ، فقال أبو قتادة : هذا عملك ، فزبره خالد فغضب ومضى ، حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر ؛ حتى كلمه عمر فيه ، فلم يرض إلا أن يرجع إليه ، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة ، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال ، وتركها لينقضي طهرها ، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره ، وقال عمر لأبي بكر . أن في سيف خالد رهقاً ، فإن لم يكن هذا حقاً حق عليه أن تقيده ؛ وأكثر عليه في ذلك - وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا وزعته - فقال : هيه يا عمر ! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد . وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، فأخبره خبره فعذره وقبل منه ، وعنفه في التزويج الذي كانت تعيب عليه العرب من ذلك وكتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا ، ففعلوا مثل ذلك . وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء ، فقتلوا . وقدم أخوه متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ، ويطلب إليه في سبيهم ؛ فكتب له برد السبي ، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله ، وقال : إن في سيفه رهقاً . فقال : لا يا عمر ؛ لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين .

كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن خزيمة ، عن عثمان ، عن سوبد ، قال : كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعراً ؛ وإن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور ، فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً ، فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ، وقى الشعر البشرة حرها أن يبلغ منه ذلك .

وأنشده متمم ؛ وذكر خمصه ؛ وقد كان عمر رآه مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أكذاك يا متمم كان ! قال : أما ما أعني فنعم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ؛ أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه : أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة ، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا ! وإن لم تسمعوا أذاناً ، فشنوا الغارة ، فاقتلوا ، وحرقوا .

وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله ألا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها ؛ وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح . قال : فقلنا : إنا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا : فما بال السلاح معكم ! قالوا لنا : فما بال السلاح معكم ! قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، قال : فوضعوها ؛ ثم صلينا وصلوا . وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه : ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا . قال : أو ما تعده لك صاحباً ! ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه ، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب ، تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته ! وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهماً ؛ فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : أرئاء ! قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته ! والله لأرجمنك بأحجارك - ولا يكلمه خالد بن الوليد ، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر فيه - حتى دخل على أبي بكر ، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر ، واعتذر إليه فعذره أبو بكر ، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك . قال : فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر ، وعمر جالس في المسجد ، فقال : هلم إلى يا بن أم شملة ! قال : فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه ، ودخل بيته .

وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدى . وقال ابن الكلبي : الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور .