ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : كان أبو بكر حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل عجل عكرمة ، فبادر شرحبيل ليذهب بصوتها فواقعهم ، فنكبوه ، وأقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر ؛ وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره ، قكتب إليه أبو بكر : يا بن أم عكرمة ، لا أرينك ولا تراني على حالها ! لا ترجع فتوهن الناس ؛ امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما أهل عمان ومهرة ، وإن شغلا فامض أنت ، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون من مررتم به ؛ حتى تلقوا أنتم والمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت .وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتى يأتيه أمره ، ثم كتب إليه قبل أن يوجه خالداً بأيام إلى اليمامة : إذا قدم عليك خالد ، ثم فرغتم إن شاء الله فالحق بقضاعة ؛ حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف . فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد ، وسمع عذره وقبل منه وصدقه ورضى عنه ، ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس . وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان ، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد ، وعلى القبائل ؛ على كل قبيلة رجل . وتعجل خالد حتى قدم على أهل العسكر بالبطاح ، وانتظر البعث الذي ضرب بالمدينة ؛ فلما قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن رجال ، قالوا : كان عدد بني حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل ؛ في قراها وحجرها ، فسار خالد حتى إذا أظل عليهم أسند خيولاً لعقة والهذيل وزياد ؛ وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح . وكتب إلى القبائل من تميم فيهم ؛ فنفروهم حتى أخرجوهم من جزيرة العرب ، وعجل شرحبيل بن حسنة ، وفعل فعل عكرمة ، وبادر خالداً بقتال مسيلمة قبل قدوم خالد عليه ؛ فنكب ، فحاجز ؛ فلما قدم عليه خالد لامه ؛ وإنما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه ؛ وكانوا بأفنية اليمامة .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ، عمن حدثه ، عن جابر بن فلان ، قال : وأمد أبو بكر خالداً بسليط ؛ ليكون ردءاً له من أن يأتيه أحد من خلفه ؛ فخرج ؛ فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا ؛ فهربوا ، وكان منهم قريباً ردءاً لهم ؛ وكان أبو بكر يقول : لا أستعمل أهل بدر ؛ أدعهم حتى يلقوا الله بأحسن أعمالهم ؛ فإن الله يدفع بهم وبالصلحاء من الأمم أكثر وأفضل ، مما ينتصر بهم ؛ وكان عمر بن الخطاب يقول : والله لأشركنهم وليواسننى .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن أثال الحنفي - وكان مع ثمامة بن أثال - قال : وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح ؛ وكان معه نهار الرجال بن عنفوة ، وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقرأ القرآن ؛ وفقه في الدين ، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة ، وليشدد من أمر المسلمين ؛ فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ؛ شهد له أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول : إنه قد أشرك معه ؛ فصدقوه واستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه ؛ فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهى إلى أمره ، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويشهد في الأذان أن محمداً رسول الله ؛ وكان الذي يؤذن له عبد الله بن النواحة ، وكان الذي يقيم له حجير بن عمير ، ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة ، قال : صرح حجير ؛ فيزيد في صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه ، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم ؛ فعظم وقاره في أنفسهم .
قال : وضرب حرماً باليمامة ، فنهى عنه ؛ وأخذ الناس به ، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف ؛ أفخاذ من بني أسيد ، كانت دراهم باليمامة ؛ فصار مكان دراهم في الحرم - والأحاليف : سيحان المارة ونمر والحارث بنو جرة - فإن أخصبا أغاروا على ثمار أهل اليمامة ، واتخذوا الحرم دغلا ، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم ؛ وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون . فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم ؛ فقال : أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم . ثم قال لهم : ((والليل الأطحم ، والذئب الأدلم . والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم)) ؛ فقالوا : أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ! ثم عادوا للغارة ، وعادوا للعدوى فقال : أنتظر الذي يأتينى ، فقال : ((والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس)) ؛ فقالوا : أما النخيل مرطبة فقد جدوها ، وأما الجدران يابسة فقد هدموها ؛ فقال : اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم .
وكان فيما يقرأ لهم فيهم : ((إن بني تميم قوم طهر لقاح ، لا مكروه عليهم ولا إتاوة ، نجاورهم ما حيينا بإحسان ، نمنعهم من كل إنسان ؛ فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن)) .
وكان يقول " ((والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها . والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تمجعون !)) .
وكان يقول : ((يا ضفدع ابنة ضفدع ، نقى ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين)) .
وكان يقول : ((والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ؛ واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ؛ ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغى فناوئوه)) .
قال : وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت : إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز ؛ فادع الله لمائنا ولنخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان)) . فقال : يا نهار ما تقول هذه ؟ فقال : إن أهل هزمان أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فشكوا بعد مائهم ؛ - وكانت آبارهم جرزاً - ونخلهم أنها سحق ، فدعا لهم فجاشت آبارهم ، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها ، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقاً ثم قطعت من دون ذلك ، فعادت فسيلا مكمماً ينمى صاعداً . قال : وكيف صنع بالأبار ؟ قال : دعا بسجل ، فدعا لهم فيه ثم تمضمض بفمه منه ، ثم مجه فيه ، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار ، ثم سقوه نخلهم ، ففعل النبي ما حدثتك ، وبقي الآخر إلى انتهائه . فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه ، ثم تمضمض منه ، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم . فغارت مياه تلك الآبار ، وخوى نخلهم ؛ وإنما استبان ذلك بعد مهلكه .
وقال له نهار : برك على مولودى بني حنيفة ، فقال له : وما التبريك ؟ قال : كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً صلى الله عليه وسلم فحنكه ومسح رأسه ؛ فلم يؤت مسيلمة بصبى فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه .
وقالوا : تتبع حيطانهم كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصنع فصل فيها . فدخل حائطاً من حوائط اليمامة ، فتوضأ ، فقال نهار لصاحب الحائط : ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقى به حائطك حتى يروى ويبتل ، كما صنع بنو المهرية ، أهل بيت من بني حنيفة - وكان رجل من المهرية قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره ، ثم نزع وسقى ، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة - ففعل فعادت يباباً لا ينبت مرعاها .
وأتاه رجل فقال : ادع الله لأرضى فإنها مسبخة ؛ كما دعا محمد صلى الله عليه وسلم لسلمى على أرضه . فقال : ما يقول يا نهار ؟ فقال : قدم عليه سلمى ، وكانت أرضه سبخة فدعا له ، وأعطاه سجلا من ماء ومج له فيه ، فأفرغه في بئره ، ثم نزع ، فطابت وعذبت ؛ ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل ، ففعل بالسجل كما فعل سلمى ، فغرقت أرضه ، فما جف ثراها ، ولا أدرك ثمرها .
وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها ، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها ؛ وكانوا قد علموا واستبان لهم ؛ ولكن الشقاء غلب عليهم .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن خليد بن ذفرة النمرى ، عن عمير بن طلحة النمرى ، عن أبيه ، أنه جاء اليمامة ، فقال : أين مسيلمة ؟ قالوا : مه رسول الله ! فقال : لا ، حتى أراه ؛ فلما جاءه ، قال : أنت مسيلمة ؟ قال : نعم ، قال : من يأتيك ؟ قال : رحمن ، قال : أفى نور أو في ظلمة ؟ فقال : في ظلمة ، فقال : أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق ؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ، فقتل معه يوم عقرباء .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الكلبى مثله ؛ إلا أنه قال : كذاب ربيعة أحب إلى من كذاب مضر .
وكتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير ، عن رجل منهم ، قال : لما بلغ مسيلمة دنو خالد ، ضرب عسكره بعقرباء ، واستنفر الناس ، فجعل الناس يخرجون إليه ، وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأراً له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته ، وبادر به الشغل ، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم ، فمنعوه منها ، فاختلجها ؛ وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له . واستقبل خالد شرحبيل بن حسنة ، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بن فلان المخزومى ، وجعل على المجنبتين زيداً وأبا حذيفة ، وجعل مسيلمة على مجنبتيه المحكم والرجال ، فسار خالد ومعه شرحبيل ، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليلة ، هجم على جبيلة هجوم - المقلل يقول : أربعين ، والمكثر يقول : ستين - فإذا هو مجاعة وأصحابه ، وقد غلبهم الكرى ، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر ، قد طووا إليهم ؛ واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهى معهم ، فعرسوا دون أصل الثنية ؛ ثنية اليمامة ، فوجدوهم نياماً وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم ؛ فأنبهوهم ، وقالوا : من أنتم ؟ قالوا : هذا مجاعة وهذه حنيفة ، قالوا : وأنتم فلا حياكم الله ! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بن الوليد ، فأتوه بهم ؛ فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ قالوا : ما شعرنا بك ؛ إنما خرجنا لئأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم ، ولو فطنوا لقالوا : تلقيناك حين سمعنا بك . فأمر بهم أن يقتلوا ، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بن مرارة ، وقالوا : إن كنت تريد بأهل اليمامة غداً خيراً أو شراً فاستبق هذا ولا تقتله ؛ فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة .
كتب إلى السري ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سعيد عن أبي سعيد عن أبي هريرة ، قال : قد كان أبو بكر بعث إلى الرجال فأتاه فأوصاه بوصيته ، ثم أرسله إلى أهل اليمامة ؛ وهو يرى أنه على الصدق حين أجابه . قالا : قال أبو هريرة : جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرجال ابن عنفوة ، فقال : إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من أحد ، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال ، فكنت متخوفاً لها ؛ حتى خرج الرجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوة ؛فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة ، فبعث إليهم أبو بكر خالداً ، فسار حتى إذا بلغ ثنية اليمامة ، استقبل مجاعة ابن مرارة - وكان سيد بني حنيفة - في جبل من قومه ، يريد الغارة على بني عامر ، ويطلب دماً ، وهم ثلاثة وعشرون فارساً ركباناً قد عرسوا . فبيتهم خالد في معرسهم ، فقال : متى سمعتم بنا ؟ فقالوا : ما سمعنا بكم ؛ إنما خرجنا لنثئر بدم لنا في بني عامر . فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم ، واستحيا مجاعة ؛ ثم سار إلى اليمامة ؛ فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد ، فنزلوا بعقرباء ، فحل بها عليهم - وهي طرف اليمامة دون الأموال - وريف اليمامة وراء ظهورهم . وقال شرحبيل بن مسيلمة : يا بنى حنيفة ، اليوم يوم الغيرة ، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فقاتلوا عن أحسابكم ، وامنعوا نساءكم . فاقتتلوا بعقرباء ، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة ، فقالوا : تخشى علينا من نفسك شيئاً ! فقال : بئس حامل القرآن أنا إذاً ! وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت العرب على راياتها ومجاعة أسير مع أم تميم في فسطاطها . فجال المسلمون جولة ، ودخل أناس من بني حنيفة على أم تميم ، فأرادوا قتلها ، فمنعها مجاعة . قال : أنا لها جار ، فنعمت الحرة هى ! فدفعهم عنها ، وتراد المسلمون ، فكروا عليهم ؛ فانهزمت بنو حنيفة ، فقال المحكم بن الطفيل : يا بنى حنيفة ، ادخلوا الحديقة ؛ فإنى سأمنع أدباركم ، فقاتل دونهم ساعة ثم قتله الله ؛ قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ ودخل الكفار الحديقة ، وقتل وحشي مسيلمة ، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه .حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، بنحو حديث سيف هذا ؛ غير أنه قال : دعا خالد بمجاغة ومن أخذ معه حين أصبح ، فقال : يا بنى حنيفة ، ما تقولون ؟ قالوا : نقول : منا نبي ومنكم نبي ؛ فعرضهم على السيف ؛ حتى إذا بقى منهم رجل يقال له سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة ، قال له سارية : أيها الرجل ؛ إن كنت تريد بهذه القرية غداً خيراً أو شراً ، فاستبق هذا الرجل - يعنى مجاعة - فأمر به خالد فأوثقه في الحديد ؛ ثم دفعه إلى أم تميم امرأته ، فقال : استوصى به خيراً ، ثم مضى حتى نزل اليمامة على كثيب مشرف على اليمامة ، فضرب به عسكره ، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة وقد قدم في مقدمته الرحال - قال أبو جعفر ، هكذا قال ابن حميد بالحاء - بن عنفوة بن نهشل ، وكان الرحال رجلاً من بني حنيفة قد كان أسلم ، وقرأ سورة البقرة ، فلما قدم اليمامة شهد لمسيلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أشركه في الأمر ؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من مسيلمة ؛ وكان المسلمون يسألون عن الرحال يرجون أنه يثلم على أهل اليمامة أمرهم بإسلامه ، فلقيهم في أوائل الناس متكتباً ، وقد قال خالد بن الوليد وهو جالس على سريره ، وعنده أشراف الناس والناس على مصافهم ؛ وقد رأى بارقة في بنى حنيفة : أبشروا يا معشر المسلمين ؛ فقد كفاكم الله أمر عدوكم . واختلف القوم إن شاء الله ؛ فنظر مجاعة وهو خلفه موثقاً في الحديد ، فقال : كلا والله ، ولكنها الهندوانية خشوا عليها من تحطمها ، فأبرزوها للشمس لتلين لهم ؛ فكان كما قال . فلما التقى المسلمون كان أول من لقيهم الرحال بن عنفوة ، فقتله الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن شيخ من بنى حنيفة ، عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً - وأبو هريرة ورحال بن عنفوة في مجلس عنده : ((لضرس أحدكم أيها المجلس في النار يوم القيامة أعظم من أحد)) . قال أبو هريرة : فمضى القوم لسبيلهم ، وبقيت أنا ورحال بن عنفوة ، فما زلت لها متخوفاً ؛ حتى سمعت بمخرج رحال ، فأمنت وعرفت أن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حق .
ثم التقى الناس ولم يلقهم حرب قط مثلها من حرب العرب ؛ فاقتتل الناس قتالا شديداً ؛ حتى انهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد ، فزال خالد عن فسطاطه ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة عند أم تميم ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : مه ، أنا لها جار ، فنعمت الحرة ! عليكم بالرجال ، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف . ثم إن المسلمين تداعوا ، فقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! اللهم إنى أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعنى المسلمين - ثم جالد بسيفه حتى قتل . وقال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم : لا تحوز بعد الرحال ، ثم قاتل حتى قتل . ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال ؛ ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله ؛ فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب ، فقال : أين يا معشر المسلمين ! أنا البراء بن مالك ، هلم إلى ! وفاءت فئة من الناس ، فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله ، وخلصوا إلى محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل - فقال حين بلغه القتال : يا معشر بنى حنيفة ، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات ؛ فما عندكم من حسب فأخرجوه . فقاتل قتالا شديداً ؛ ورماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله . ثم زحف المسلمون حتى ألجئوهم إلى الحديقة ؛ حديقة الموت ؛ وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب ، فقال البراء : يا معشر المسلمين ، ألقونى عليهم في الحديقة . فقال الناس : لا تفعل يا براء ، فقال : والله لتطرحنى عليهم فيها ؛ فاحتمل حتى فتحها للمسلمين ، ودخل المسلمون عليهم فيها ؛ فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله ؛ واشترك في قتله وحشى مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار ، كلاهما قد أصابه ؛ أما وحشى فدفع عليه حربته ، وأما الأنصارى فضربه بسيفه ، فكان وحشى يقول : ربك أعلم أينا قتله ! حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : وحدثنى محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رجلاً يومئذ يصرخ يقول ، قتله العبد الأسود ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عبيد بن عمير ، قال : كان الرجال بحيال زيد بن الخطاب ؛ فلما دنا صفاهما ، قال زيد : يا رجال ، الله الله ! فو الله لقد تركت الدين ، وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك ، وأكثر لدنياك . فأبى ، فاجتلدا فقتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة في أمر مسيلمة ، فتذامروا وحمل كل قوم في ناحيتهم ؛ فجال المسلمون حتى بلغوا عسكرهم ، ثم أعروه لهم ، فقطعوا أطناب البيوت ، وهتكوها ، وتشاغلوا بالعسكر ، وعالجوا مجاعة ؛ وهموا بأم تميم ، فأجارها ، وقال : نعم أم المثوى ! وتذامر زيد وخالد وأبو حذيفة ، وتكلم الناس - وكان يوم جنوب له غبار - فقال زيد : لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتى ! عضوا على أضراسكم أيها الناس ، واضربوا في عدوكم ، وامضوا قدماً . ففعلوا ، فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عسكرهم ، وقتل زيد رحمه الله . وتكلم ثابت فقال : يا معشر المسلمين ، أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان ، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه ، أرونى كما أريكم ، ثم جلد فيهم حتى حازهم . وقال أبو حذيفة : يا أهل القرآن ، زينوا القرآن بالفعال . وحمل فحازهم حتى أنفذهم ، واصيب رحمه الله ، وحمل خالد بن الوليد ، وقال لحماته : لا أوتين من خلفى ، حتى كان بحيال مسيلمة يطلب الفرصة ويرقب مسيلمة .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن مبشر بن الفضيل ، عن سالم بن عبد الله ، قال : لما أعطى سالم الراية يومئذ ، قال : ما أعلمنى لأى شئ أعطيتمونيها ! قلتم : صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات ! قالوا : أجل . وقالوا : فانظر كيف تكون ؟ فقال : بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت ! وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص بن غانم .
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت وابن إسحاق : فلما قال مجاعة لبنى حنيفة : ولكن عليكم بالرجال ، إذا فئة من المسلمين قد تذامروا بينهم فتفانوا وتفانى المسلمون كلهم ، وتكلم رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن الخطاب : والله لا أتكلم أو أظفر أو أقتل ، واصنعوا كما أصنع أنا ؛ فحمل وحمل أصحابه . وقال ثابت بن قيس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ! هكذا عنى حتى أريكم الجلاد . وقتل زيد بن الخطاب رحمه الله .
كتب إلى السرى ، قال : حدثنا شعيب ، عن سيف ، عن مبشر ، عن سالم ، قال : قال عمر لعبد الله بن عمر حين رجع : ألا هلكت قبل زيد ! هلك زيد وأنت حي ! فقال : قد حرصت على ذلك أن يكون ، ولكن نفسى تأخرت ، فأكرمه الله بالشهادة . وقال سهل : قال : ما جاء بك وقد هلك زيد ؟ ألا واريت وجهك عنى ! فقال : سأل الله الشهادة فأعطيها ، وجهدت أن تساق إلى فلم أعطها .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة بن الأعلم ، عن عبيد بن عمير : إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادى وجبنهم أهل البوادى ، فقال بعضهم لبعض : امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم ، ونعرف اليوم من أين نؤتى ! ففعلوا . وقال أهل القرى : نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم ، فقال لهم أهل البادية : إن أهل القرى لا يحسنون القتال ، ولا يدرون ما الحرب ! فسترون إذا امتزنا من أين يجئ الخلل ! فامتازوا ، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ ؛ ولم يدر أى الفريقين كان أشد فيهم نكاية ! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية ، وأن البقية أبداً في الشدة . ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب ، فنحره وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، عن رجل من بنى سحيم قد شهدها مع خالد ، قال : لما اشتد القتال - وكانت يومئذ سجالا إنما تكون مرة على المسلمين ومرة على الكافرين - فقال خالد : أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حى ، ولنعلم من أين نؤتى ! فامتاز أهل القرى والبوادى ، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضر ؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم ، فقاتلوا جميعاً ، فقال أهل البوادى يومئذ : الآن يستحر القتل في الأجزع الأضعف ، فاستحر القتل في أهل القرى ، وثبت مسيلمة ، ودارت رحالهم عليه ، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة ؛ ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم . ثم برز خالد ، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى ، وقال : أنا ابن الوليد العود ، أنا ابن عامر وزيد ! ونادى بشعارهم يومئذ ، وكان شعارهم يومئذ : يا محمداه ! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ، وهو يرتجز :
أنا ابن أشياخ وسيفى السخت أعظم شئ حين يأتيك النغت
ولا يبرز له شئ إلا أكله ، ودارت رحا المسلمى وطحنت . ثم نادى خالد حين دنا من مسيلمة - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مع مسيلمة شيطاناً لا يعصيه ، فإذا اعتراه أزبد كأن شدقيه زبيبتان لايهم بخير أبداً إلا صرفه عنه ، فإذا رأيتم منه عورة ؛ فلا تقيلوه العثرة - فلما دنا خالد منه طلب تلك ، ورآه ثابتاً ورحاهم تدور عليه ؛ وعرف أنها لا تزول إلا بزواله ، فدعا مسيلمة طلباً لعورته ، فأجابه ، فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة ، وقال : إن قبلنا النصف ، فأى الأنصاف تعطينا ؟ فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه مستشيراً ، فينهاه شيطانه أن يقبل ، فأعرض بوجهه مرة من ذلك ؛ وركبه خالد فأرهقه فأدبر ، وزالوا فذمر خالد الناس ، وقال : دونكم لا تقيلوهم ! وركبوهم فكانت هزيمتهم ؛ فقال مسيلمة حين قام ، وقد تطاير الناس عنه ، وقال قائلون : فأين ما كنت تعدنا ؟ فقال : قاتلوا عن أحسابكم ، قال : ونادى المحكم : يا بنى حنيفة ؛ الحديقة الحديقة ! ويأتى وحشى على مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ ، فخرط عليه حربته فقتله ، واقتحم الناس عليهم حديقة الموت من حيطانها وأبوابها ، فقتل في المعركة ، وحديقة الموت عشرة آلاف مقاتل .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هارون ، وطلحة ، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا ، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم ؛ حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت ، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها ، فقال قائلون : فيها قتل ، فدخلوها وأغلقوها عليهم ، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بن مالك ، فقال : يا معشر المسلمين ، احملونى على الجدار حتى تطرحونى عليه ؛ ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى : أنزلونى ، ثم قال : احملونى ؛ ففعل ذلك مراراً ثم قال : أف لهذا خشعا ! ثم قال : احملونى ، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم ، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا ؛ فأغلق الباب عليهم ، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار ، فاقتتلوا قتالا شديداً لم يروا مثله ، وأبير من في الحديقة منهم ؛ وقد قتل الله مسيلمة ، وقالت له بنو حنيفة : أين ما كنت تعدنا ! قال : قاتلوا عن أحسابكم ! كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن هاوون وطلحة وابن إسحاق ، قالوا : لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة ؛ خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة ، وأعلام جنده ، فأتى على الرجال فقال : هذا الرجال !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر ، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة ، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل - وكان رجلا جسيماً وسيماً - فلما رآه خالد ، قال : هذا صاحبكم . قال : لا ، هذا والله خير منه وأكرم ، هذا محكم اليمامة . قال : ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة ، فقلب له القتلى ؛ فإذا رويجل أصيفر أخينس . فقال مجاعة : هذا صاحبكم ، قد فرغتم منه ، فقال خالد لمجاعة : هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل ، قال : قد كان ذلك يا خالد ، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ؛ وإن جماهير الناس لفى الحصون . فقال : ويلك ما تقول ! قال : هو والله الحق ؛ فهل لأصالحك على قومي .
كتب إلى أسرى ، عن تشعيب ، عن سيف ، عن الضحاك ، عن أبيه ، قال : كان رجل من بنى عامر بن حنيفة يدعى الأغلب بن عامر بن حنيفة ، وكان أغلظ أهل زمانه عنقاً ؛ فلما انهزم المشركون يومئذ ، وأحاط المسلمون بهم ، تماوت ، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه ، فلما رأوه مخضلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا ، قالوا : يا أبا بصيرة ، إنك تزعم - ولم تزل تزعم - أن سيفك قاطع ، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت ، فإن قطعته فكل شئ كان يبلغنا حق ، فاختره ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتاً ، فلما دنا منه ثار ، فحاضر ، واتبعه أبو بصيرة ، وجعل يقول : أنا أبو بصيرة الأنصاري ! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعداً ؛ فكلما قال ذلك أبو بصيرة ، قال الأغلب : كيف ترى عدو أخيك الكافر ! حتى أفلت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، عن القاسم بن محمد ، قال : لما فرغ خالد من مسيلمة والجند ، قال له عبد الله ابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر : ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون ، فقال : دعانى أبث الخيول فألقط من ليس في الحصون ، ثم أرى رأيى . فبث الخيول فحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان ، فضموا هذا إلى العسكر ، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون ، فقال له مجاعة : إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس ، وإن الحصون لمملوءة رجالاً ، فهلم لك إلى الصلح على ما ورائى ، فصالحه على كل شئ دون النفوس . ثم قال : أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر ؛ ثم أرجع إليك . فدخل مجاعة الحصون ، وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ، ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهن ؛ ثم رجع فأتى خالداً فقال : قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت ، وقد أشرف لك بعضهم نقصاً على وهم منى برآء . فنظر خالد إلى رءوس الحصون وقد اسودت ، وقد نهكت المسلمين الحرب ، وطال اللقاء ؛ وأحبوا أن يرجعوا على الظفر ، ولم يدروا ما كان كائناً لو كان فيها رجال وقتال ، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلثمائة وستون . قال سهل : ومن المهاجرين من غير أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء ؛ ستمائة أو يزيدون . وقتل ثابت بن قيس يومئذ ؛ قتله رجل من المشركين قطعت رجله ، فرمى بها قاتله فقتله ، وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف ، وفي حديقة الموت سبعة آلاف ؛ وفي الطلب نحو منها .
وقال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة :
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت
عشية سالت عقرباء وملـهـم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت
حجارته فيها من القوم بالـدم
عشية لا تغنى الرماح مكانهـا
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغى الكفار غير ملـيمة
جنوب ، فإنى تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غـنـيمة
ولله بالمرء المجاهـد أعـلـم
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال مجاعة لخالد ما قال إذ قال له : فهلم لأصالحك عن قومي لرجل قد نهكته الحرب ، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب ؛ فقد رق وأحب الدعة والصلح . فقال : هلم لأصالحك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي . ثم قال : إني آتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت . قال : فانطلق إليهم ، فقال للنساء : البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون ، ففعلن . ثم رجع إلى خالد ، وقد رأى خالد الرجال فيما يرى على الحصون عليهم الحديد . فلما انتهى إلى خالد ، قال : أبوا ما صالحتك عليه ، ولكن إن شئت صنعت لك شيئاً ، فعزمت على القوم . قال : ما هو ؟ قال : تأخذ منى ربع السبي وتدع ربعاً . قال خالد : قد فعلت ، قال : قد صالحتك ، فلما فرغا فتحت الحصون ، فإذا ليس فيها إلا النساء والصبيان ، فقال خالد لمجاعة : ويحك خدعتني ! قال : قومي ، ولم أستطع إلا ما صنعت .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن سهل بن يوسف ، قال : قال مجاعة يومئذ ثانية : إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك . ففعل خالد ذلك ، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد ، ومزرعة يختارها خالد . فتقاضوا على ذلك ، ثم سرحه ، وقال : أنتم بالخيار ثلاثاً ؛ والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم ، ثم لا أقبل منكم خصلة أبداً إلا القتل . فأتاهم مجاعة فقال : أما الآن فاقبلوا ، فقال سلمة بن عمير الحنفى : لا والله لا نقبل ؛ نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضى خالداً ، فإن الحصون حصينة والطعام كثير ، والشتاء قد حضر . فقال مجاعة : إنك امرؤ مشئوم ، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح ، وهل بقي منكم أحد فيه خير ، أو به دفع ! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا ، فقال : بعد شد مارضوا ؛ اكتب كتابك ، فكتب : هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد بن مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا ؛ قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ؛ ومزرعة ؛ على أن يسلموا . ثم أنتم آمنون بأمان الله ؛ ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على الوفاء .
كتب إلى السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن طلحة ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : لما صالح خالد مجاعة ؛ صالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين . فأبوا ذلك ، فقال خالد : أنت بالخيار ثلاثة أيام ، فقال سلمة بن عمير : يا بني حنيفة ، قاتلوا عن أحسابكم ، ولا تصالحوا على شئ ، فإن الحصن حصين ، والطعام كثير وقد حضر الشتاء . فقال مجاعة : يا بني حنيفة ، أطيعوني واعصوا سلمة ، فإنه رجل مشئوم ، قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ((قبل أن تستردف النساء غير رضيات ، وينكحن غير خطيبات)) . فأطاعوه وعصوا سلمة ، وقبلوا قضيته . وقد بعث أبو بكر رضى الله عنه بكتاب إلى خالد مع سلمة بن سلامة بن وقش ، يأمره إن ظفره الله عز وجل أن يقتل من جرت عليه المواسى من بني حنيفة ، فقدم فوجده قد صالحهم ، فوفى لهم ، وتم على ما كان منه ، وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد ، وخالد في عسكره ؛ فلما اجتمعوا قال سلمة بن عمير لمجاعة : استأذن لي على خالد أكلمه في حاجة له عندي ونصيحة - وقد أجمع أن يفتك به - فكلمه فأذن له ، فأقبل سلمة بن أمير ، مشتملاً على السيف يريد ما يريد ، فقال : من هذا المقبل ؟ قال مجاعة : هذا الذي كلمتك فيه ، وقد أذنت له ، قال : أخرجوه عني ؛ فأخرجوه عنه ، ففتشوه فوجدوا معه السيف ، فلعنوه وشتموه وأوثقوه ، وقالوا : لقد أردت أن تهلك قومك ، وايم الله ما أردت إلا أن تستأصل بنو حنيفة ، وتسبى الذرية والنساء ؛ وايم الله لو أن خالداً علم أنك حملت السلاح لقتلك ، وما نأمنه إن بلغه ذلك أن يقتلك و أن يقتل الرجال ويسبي النساء بما فعلت ؛ ويحسب أن ذلك عن ملإ منا . فأوثقوه وجعلوه في الحصن ؛ وتتابع بنو حنيفة على البراء مما كانوا عليه ، وعلى الإسلام ، وعاهدهم سلمة على ألا يحدث حدثاً ويعفوه ، فأبوا ولم يثقوا بحمقه أن يقبلوا منه عهداً ، فأفلت ليلاً ؛ فعمد إلى عسكر خالد ، فصاح به الحرس ، وفزعت بنو حنيفة ، فاتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط ، فشد عليهم بالسيف ؛ فاكتنفوه بالحجارة ، وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه ، فسقط في بئر فمات .
كتب إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن الضحاك بن يربوع ، عن أبيه ، قال : صالح خالد بني حنيفة جميعاً إلا ما كان بالعرض والقرية فإنهم سبوا عند انبثات الغارة ، فبعث إلى أبي بكر ممن جرى عليه القسم بالعرض والقرية من بني حنيفة أو قيس بن ثعلبة أو يشكر ، خمسمائة رأس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثم إن خالداً قال لمجاعة : زوجني ابنتك ، فقال له مجاعة : مهلاً ، إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك . قال : أيها الرجل ، زوجني ؛ فزوجه ؛ فبلغ ذلك أبا بكر ، فكتب إليه كتاباً يقطر الدم : لعمري يا بن أم خالد ، إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد ! قال : فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسر - يعنى عمر بن الخطاب - وقد بعث خالد بن الوليد وفداً من بني حنيفة إلى أبي بكر ، فقدموا عليه ، فقال لهم أبو بكر : ويحكم ! ما هذا الذي استزل منكم ما استزل ! قالوا : يا خليفة رسول الله ؛ قد كان الذي بلغك مما أصابنا كان أمراً لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه ، قال : على ذلك ، ما الذي دعاكم به ! قالوا : كان يقول : ((يا ضفدع نقي نقي ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ؛ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ؛ ولكن قريشاً قوم يعتدون)) .
قال أبو بكر : سبحان الله ! ويحكم ! إن هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر ، فأين يذهب بكم ! فلما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة - وكان منزله الذي به التقى الناس أباض ؛ واد من أودية اليمامة . ثم تحول إلى واد من أوديتها يقال له الوبر - كان منزله بها .