المجلد الثالث - ذكر خبر حضرموت في ردتهم

ذكر خبر حضرموت في ردتهم

قال أبو جعفر: كتب إلى السرى، عنشعيب، عنسيف، عن سهل بن يوسف، عن الصلت، عن كثير بن الصلت، قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد البياض على حضرموت. وعكاشة بن محض على السكاسك والسكون، والمهاجر على كندة - وكان بالمدينة لم يكن خرج حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثه أبو بكر بعد إلى قتال من باليمن والمضي بعد إلى عمله.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان المخزومي، عن أبيه عن أم سلمة والمهاجرين أبي أمية، أ،ه كان تخلف عن تبوك، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه عاتب ؛ فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كيف ينفعني شئ وأنت عاتب على أخي! فرأت منه رقة ؛ فأومأت إلى خادمها ؛ فدعته، فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه وأمره على كندة. فاشتكى ولم يطق الذهاب ؛ فكتب إلى زياد ليقوم له على عمله: وبرأ بعد، فأتم له أبو بكر إمرته، وأمره بقتال من بين نجران إلى أقصى اليمن ؛ ولذلك أبطأ زياد وعكاشة عن مناجرة كندة انتظاراً له كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد ؛ قال : كان سبب ردة كندة إحابتهم الأسود العنسى حتى لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك الأربعة، وأنهم قبل ردتهم حين أسلموا وأسلم أهل بلاد حضرموت كلهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوضع من الصدقات أن يوضع صدقة بعض حضرموت في السكون والسكون في بعض حضرموت . فقال نفر من بني وليعة: يا رسول الله ، إنا لسنا بأصحاب إبل ؛ فإن رأيت أن يبعثوا إلينا بذلك على ظهر ! فقال: إن أنتكم! قالوا: فإنغ ننظر، وجاء ذلك الإبان، دعا زياد الناس إلى ذلك، فحضروه فقالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن لكم ظهراً، فهملوا فاحتملوا، ولا حوهم ؛ حتى لاحوا زيادا ؛ وقالوا له : أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون، ولج الكنديون، فرجعوا إلى دارهم، وقدموا رجلً وأخروا أخرى، وأمسك عنهم زياد انتظاراً للمهاجر ؛ فلما قدم المهاجر صنعاء، كتب إلى أبي بكر بكل الذي صنع ، وأقام حتى قدم عليه جواب كتابه من قبل أبي بكر ؛ فكتب إليه أبو بكر وإلى عكرمة، أن يسيرا حتى يقدما حضرموت، وأقر زياداً على علمه، وأذن لمن معك من بين مكة واليمن في القفل؛ إلا أن يؤثر قوم الجهاد. وأمده بعبيده ابن سعد. ففعل ؛ فسار المهاجر من صنعاء يريد حضرموت، وسار عكرمة من أبين يريد حضرموت، فاتقيا بمأرب ؛ ثم فوزا من صهيد ؛حتى اقتحما حضرموت، فنزل أحدهما على الأشعث والآخر علة وائل.

كتب إلى السري، عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف، عن سهيل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بن الصلت ؛ قال: وكان زياد بن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بم معاوية بنفسه، فقدك عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم ؛ وهو غلام، يقال له شيطان بن حجر ؛ فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها ؛ فقال العداء: هذه شذرة بإسمها ؛ فقال الشيطان: صدق أخي ؛ فإني لم أعطوكموها إلا وأنا أراها غيرها ؛ فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإ،ها غير متروكة . فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمى وحمى الرجلان، فقال زياد : لا ولا تنعم ؛ ولا هي لك ؛ لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس ؛ فنادى العداء: يا آل عمرو ، بالرياض أضام وأضهد! إن الذليل من أكل في داره!ونادى : يا أبا السميط، فأقبل أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب ؛ فقصد لزياد بن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيراً مكانها، فإ،ما بعير مكان بعير، فقال : مكا إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهودياً!وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها ؛ فبعثها وقام دونها، وهو يقوا:

يمنعها شيخ بخديه الشيب            ملمع كما يلمع الثـوب

فأمر به زياد شباباً من حضرموت والسكون، فمبعثره وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكرة فعقلوها كمات انت؛ وقال زياد ابن لبيد في ذلك:

لم يمنع الشذرة أركوب             والشيخ قد يثنيه أرجوب

وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعاً دونه. وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء؛ لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرئهم شيئاً، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلاً يتعقلون به عليهم ؛ فأرسل إليهم زياد: إما أن تصعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب ؛ فقالوا: لا نضع السلاح أبداً حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة. يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون!فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت ؛ وفي جنوب مواليكم !وقالت له السكون : ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلاً، فقتل منهم، وكاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:

وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالمـاً           فلما أبوا سامحت في حرب حاطب

ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة ؛ ورجع زياد إلى منزله على الظفر. ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين. فأجمعوا وعسكروا جميعاً، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض ؛ وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:

لعمري وما عمري بعرضة جانب              ليجتلبن منها المرار بنو عمـرو
كذبتم وبيت الله لا تمنـعـونـهـا                زياداً، وقد جئنا زياداً على قـدر

فأقاموا بعد ذلك يسيراً. ثم أن بني عمرو بن معاوية خصوصاً خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء ححكوها، فنزل جمد محجراً، ومخوص محجراً، ومشرح محجراً، وأبضعة محجراً، وأختهم العمردة محجراً - وكانت بنو عمرو بن معاوية على هؤلاء الرؤساء - ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجراً، والسمط بن الأسود محجراً وكابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل ؛ إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار ؛ فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى الباطل والقبيح ! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا - يعني يوم البكرة ويوم النفرة - وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بن عابس ؛ حتى أتيا زياداً، فقالا له: بيت القوم، فإن أقواماً من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكونوشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا ؛ وإن أبيت خشينا أن يرفض الناس عنا إليهم ؛ والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي. فقال : شأنكم. فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجودوهم حول نيرانهم جلوساً، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية؛ وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق ، فأصابوا مشرحاً ومخوصاً وجمداً وأبضعة وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبى والأموال، وأخذوا طريقاً يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بن معاوية ؛ فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بن معاوية ببني الحارث وناديته: يا أشعث، يا أشعث! خلاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم - وهذه الثالثة - وقال الأشعث:

منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم           بأمعز من يوم البضيض وأصبرا

وعلم الأشعث أن زياداً وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد ؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هراباً، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:

كنا بـزرقـان إذ يشـردكـم                  بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمـحـجـركـم                حتى ركبتم من خوفنا السببـا
إلى حصار يكون أهـوانـه                  سبى الذرارى وسوقها خببـا

وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش ، فأ،زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر ؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه ؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة ؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض ، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:

صباح سوء لبني قتـيره             وللأمير من بني المغيره

وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:

لا تواعدونا واصبروا حصيرة            نحن خيول ولد المـغـيره

وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:

أطعنهم وأنا على أوفـاز                   طعناً أبوء به على مجاز

ويقول:

أنفذ قولي وله نـفـاذ            وكل من جاورني معاذ

فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.

وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مدداً لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.

وكتب إلى السرى، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا ؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم ؛ فإني أكره أن أقر أقواماً فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.

قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم ؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره ؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون ، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة ؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب ؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه ؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.

وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.

قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلاً إلا قتلوه ؛ ضربوا أعناقهم صبراً، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق ؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.

وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله !قد كنت أشتهي أن يخزيك الله.فشد وثاقاً، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا . وإنه كان رجلاً نسى إسمه أن يكتبه ؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك ! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلاً - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعاً بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال : فإني أرى قتلك . قال : فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضاً.فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيراً فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول صلى الله عليه وسلم وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال : انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.

قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الأشعث لما قدم به على بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك ؛ فإنك قد فعلت ما علمت ! قال : تمن على فتفكني من الحديد وتزوجني أختك ؛ فإني قد راجعت وأسلمت . فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة بالمدينة حتى فتح العراق.

رجع الحديث إلى حديث سيف . فلما ولى عمر رحمه الله، قال : إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً. وقد وسع الله، وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة إلا حنيفة كندة ؛ فإنه خفف عنهم لقتل رجالهم، ومن لا يقدر على فداء لقيامهم وأهل دبا، فتتبعت رجالهم نساءهم بكل مكان. فوجد الأشعث في بني ننهد وبني غطيف امرأتين ؛ وذلك أنه وقف فيها يسأل عن غراب وعقاب ، فقيل: ما تريد إلى ذلك ؟ قال: إن نساءنا يوم النجير خطفهن العقبان والغربان والذئاب والكلام. فقال بنو غطيف: هذا غراب، قال: فما موضعه فيكم؟ قالوا: في الصيانة ، قال: فنعم، وانصرف. وقال عمر : لا ملك على عربي، للذي أجمع عليه المسلمون معه.

قالوا: ونظر المهاجر في أمر المرأة التي كان أبوها النعمان بن الجون أهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فوصفها أنها لم تشتك قط. فردها، وقال: لا حاجة لنا بها، بعد أن أجلسها بين يديه وقال له : لو كان لها عند الله خير لا شتكت. فقال المهاجر لعكرمة: متى تزوجتها؟ قال" وأنتا بعدن، فأهديت إلى بالجند، فسافرت بها إلى مأرب، ثم أوردتها العسكر. فقال بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها. وقال بعضهم: دعها فكتب المهاجر إلى أبي بكر رحمه الله يسأله عن ذلك فكتب إليه أبو بكر: إن أباها النعمان بن الجون أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزينها له حتى أمره أن يجيئه بها، فلما جاءه بها قال : أزيدك أنها لم تيجع شيئاً قط، فقال: لو كان لها عند الله خير لا شتكت، ورغب عنها ؛ فارغبوا عنها. فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أمر عمر في السبي بالفداء عدة منهم بشرى بنت فيس بن أبي الكيسم، عند سعد بن مالك، فولدت له عمر، وزرعة بنت مشرح عند عبد الله بن العباس ولدت له علياً.

كتب أبو بكر إلى المهاجر يخيره اليمن أو حضرموت ؛ فاختار اليمن، فكانت اليمن على أميرين: فيروز والمهاجر، زكانت حضرموت على أميرين: عبيدة بن سعد على كندة والسكاسك، وزياد بن لبيد على حضرموت.

وكتب أبو بكر إلى عمان الردة: أما بعد، فإن أحب من أدخلتم في أموركم إلى من لم يرتد ومن كان ممن لم يرتد، فأجتمعوا على ذلك، فاتخذوا منها صنائع وائذنوا لمن شاء في الأنصراف، ولا تستعينوا بمرتد في جهاد عدو.

وقال الأشعث بن مئناس السكوني يبكي أهل النجير:

لعمري وما عمري على بـهـين             لقد كنت بالقتلى لحق ضـنـين
فلا غزو إلا يوم أقرع بـينـهـم                وما الدهر عندي بعدهم بـأمـين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهـم        ولم تمش أنثى بعدهم لـجـنـين
وكنـت كـذاب الـبـو ريعـت                    فأقبلت على بوها إذ كربت بحنين

كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك بن خليفة، قال: وقع إلى المهاجر امرأتان مغنيتان؛ غنت إحداهما بشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع يدها، ونزع ثنيتها ؛ فكتب إليه أبو بكر رحمه الله: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلو لا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها ؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو يمعاهد فهو محارب.

وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين: أما بعد ؛ فإنه بلغني أنك قطعت يداً امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين، ونزعت تنيتها ؛ فإن كانت ممن تدعى الإسلام فأدب وتقدمه دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ؛ لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهاً ؛ فأقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس ؛ فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.

وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - انصرف معاذ بن جبل من اليمن.

وستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته كلها.

وفيها أمر أبو بكر رحمه الله على الموسم عتاب بن أسيد - فيما ذكره الذين أسند إليهم خبره على بن محمد الذين ذكرت قبل في كتابي هذا أسماءهم.

وقال علي بن محمد: وقال قوم: بل حج بالناس في إحدى عشرة عبد الرحمن بن عوف عن تأمير أبي إياه بذلك .